بعد المؤتمر القطري وقبل ذكرى مجزرة تدمر: هل تمخّض الجبل؟...

.صبحي حديدي

 

ما كان للمؤتمر القطري العاشر لحزب البعث السوري أن ينعقد في شهر تنطوي تواريخه على دلالات بالغة الخصوصية، مثل شهر حزيران (يونيو): هزيمة 1967 وخسران معظم الجولان في السادس منه، وفاة حافظ الأسد في العاشر سنة 2000، و... تنفيذ مجزرة تدمر في السابع والعشرين قبل ربع قرن. الأنكى أنّ الذكرى الخامسة والعشرين لتلك المجزرة الرهيبة الدموية الوحشية، والتي كانت وتظلّ واحدة من أبشع الجرائم بحقّ الإنسانية، تمرّ على سورية وقد اهتدى بطل المجزرة رفعت الأسد، شقيق الرئيس الراحل وعمّ الرئيس الوريث، إلى فضائل الديمقراطية وأقداس حقوق الإنسان وقِيَم الحرّية والعدالة والتعددية!

لا شيء يمكن أن يفوق هذا بذاءة وقحّة وفجوراً: أن يهين السفاح شهداء المجزرة حين يعلن في الشهر ذاته، بعد ربع قرن كامل، أنّ يده ممدودة إلى الآخرين، بيضاء ناصعة شريفة، وكأنها لم تكن وتظلّ اليوم أيضاً مضرّجة بدماء الآلاف من أبناء سورية. أكثر من هذا، ولكي تكتمل سلسلة مفارقات حزب البعث غير البريء أبداً من إراقة الدماء، كان رفعت الأسد، حتى ما بعد اختتام المؤتمر القطري العاشر، رئيساً للمحكمة الحزبية القومية (تخيّلوا هذه التسمية!) بموجب قرارات المؤتمر القومي الثالث عشر!

ولأنّ 25 سنة ليست بالزمن القصير، وقد يتوفّر بالتالي أبناء جيل كامل لم يعش المجزرة في سورية أو خارجها، فإنّ أبسط حقوق الشهداء تقتضي إعادة التذكير بموجز المجزرة، كما عرضته منظمة العفو الدولية ذاتها، في النسخة الإنكليزية من نشرتها بتاريخ 27/6/2000، أي في الذكرى العشرين للمجزرة:

«وقعت مجزرة تدمر في 27 حزيران 1980، بعد يوم من محاولة الإغتيال التي تعرّض لها الرئيس حافظ الأسد في دمشق. وفي اليوم التالي نُقل بطائرات الهليكوبتر أكثر من 100 من عناصر سرايا الدفاع عن الثورة، التي كانت آنذاك تحت قيادة رفعت الأسد شقيق الرئيس، وعناصر من الكتيبة الأمنية 138، إلى مدينة تدمر التي يزورها آلاف السائحين سنوياً. وقد بقي بعض العناصر في الاحتياط لحراسة الطائرات، وانقسم 80 عنصراً إلى وحدات من عشرة أشخاص، دخلوا السجن لقتل السجناء في زنزاناتهم ومهاجعهم. وعدد القتلى يتراوح بين 500 و1000، معظمهم من الإخوان المسلمين. ودُفنت الجثث في مقبرة جماعية خارج السجن...».

ليس الدكتاتور العراقي صدّام حسين هو السفّاح الوحيد حافر المقابر الجماعية، إذاً، والكثير من «العباقرة» يعرفون هذه الحقيقة، في واشنطن وباريس ولندن ونيويورك وبروكسل. بشار الأسد يعرفها أيضاً، حقّ المعرفة ربما، لأنه من قلب البيت وكان ساعة المجزرة على أعتاب سنّ الرشد. ويعرفها بلا استثناء الرفاق مندوبو المؤتمر العاشر لحزب البعث، أعضاءً وقيادات وأجهزة. لا أحد البتة نبس ببنت شفة حول هذه المجزرة، رغم أنه توفّر بعض الفرسان من حَمَلة السيوف الخشبية، تجاسروا ــ وإنْ بلغة حُسبت ألفاظها بدقّة وأناة وحذر وخسّة ــ على الغمز من قناة العمّ السفّاح حين ألمح إلى احتمال عودته إلى البلاد لنجدة الشعب السوري وإقامة دولة الحقّ والقانون والخير والسعادة!

ردّ المؤتمر على هذه الذكرى الخامسة والعشرين تمثّل في إجرائين: ترقية هشام بختيار، أحد أكثر جنرالات الأمن السوري وحشية، إلى القيادة القطرية للحزب من جهة؛ والتأكيد مجدداً على روحية القانون 94، الذي يحكم على المنتسب إلى جماعة الإخوان المسلمين، أي على سجين الرأي والضمير في نهاية المطاف، بعقوبة الإعدام! وعلى نحو بدا أكثر وفاء لمطحنة البعث التاريخية التي تخلط الصالح بالطالح والقمح بالزؤان، أوصى الرفاق المؤتمرون بإلحاق جماعة الإخوان المسلمين (الفصيل الإسلامي السوري الأهمّ، صاحبة السجلّ السياسي الذي يشمل معظم تاريخ سورية بعد الإستقلال، والتنظيم المقاتل في فلسطين 1948، والمجموعة التي ما انفكت تطوّر خطّها السياسي، وتراجع تاريخها بشجاعة، وتعلن نبذ العنف، وتنفتح على القوى الديمقراطية...)، بأنفار فريد الغادري الذي تمّ استيلاده على غرار العراقي أحمد الجلبي، بعد احتلال بغداد.

لستُ، ويصعب عليّ أن أرى، مََن يراهن على احتمال أن يتوفّر مندوب واحد إلى مؤتمر البعث يرفع عقيرته، بعد أن يقف علي قدمين غير راعشتين بالطبع، فيذكّر بالمجزرة ويدعو الرفاق إلى اعتذار من نوع ما، مادام التجاسر علي رفعت الأسد قد تجاوز مستوى الهمهمة، أو ربما كشف موقع المقبرة الجماعية والسماح لذوي الضحايا بدفنهم كما يليق بإكرام الميت. غير أنّ من الصعب على المرء ذاته أن لا يقيم الرابطة بين سفّاح الماضي والساكت عنه في الحاضر، وبين تاريخ 27/6/1980 وتاريخ 6/6/2005 حين قال بشار الأسد في افتتاح المؤتمر: «إنّ البعث، كما يُفترض أن يكون واضحاً في ذهن كلّ واحد منّا، هو قضية قبل أن يكون تنظيماً سياسياً، ورسالة حضارية قبل أن يكون حزباً في السلطة...».

ليس في طبيعة أية رسالة حضارية أن ترسل الضباط القتلة، على رأس الجنود الأغرار، لارتكاب مجزرة بحقّ سجناء رأي، داخل سجن حكومي رسمي، على مبعدة أمتار من مدينة زنوبيا العابقة بالتاريخ! وإذا كان صاحب «الرسالة الحضارية» هذه، حزب البعث، ليس سيّد القرار وصاحب السلطة آنذاك، وربما اليوم أيضاً، فإنّ أضعف الإيمان أن يعتذر عن مجزرة جرى ارتكابها باسمه، شاء الرفاق أم أبوا. أليسوا، بموجب المادة الثامنة من الدستور، الحزب القائد في الدولة والمجتمع؟ أم أن «سرايا الدفاع» التي كانت فوق الحزب والدولة والمجتمع، ما تزال اليوم أيضاً فوق الحزب والدولة والمجتمع، حتى بعد مرور أكثر من عقدين على حلّها؟

بعد المؤتمر، ولكي تكتمل هذه «الأسلوبية» الرئاسية في إحياء وقائع شهر حزيران، أصدر بشار الأسد سلسلة قرارات أمنية الطابع، وقرارين يخدمان السياسة والإقتصاد أو ربما الإقتصاد السياسي على وجه أدقّ. أبرز ما تضمنته القرارات الأمنية لم يكن ــ كما رسخ في أذهان الكثيرين، على نحو يسهل تبريره ــ إحالة اللواء بهجت سليمان إلى «المقرّ العام»، أي تنحيته من رئاسة القرع 251 ورئاسة جهاز المخابرات العامة بأسره عملياً.

ذلك لأنّ محاق سليمان كان مضطرداً، ومنطقياً في الواقع، خلال السنتين الأخيرتين (وسبق لكاتب هذه السطور أن أشار إلى هذا في أكثر من مناسبة سابقة)، لأسباب تخصّ ضرورات تثبيت سلطات وزير الداخلية غازي كنعان من جهة أولى؛ والتمهيد لتحييد جهاز المخابرات العامة الذي بات منطقة رمادية (مجرّدة من السلاح، كما قد يقول الخبثاء) بين إدارة الأمن السياسي وإدارة المخابرات العسكرية، من جهة ثانية.

في صياغة أوضح: بات بهجت سليمان مركز قوّة عالقاً بين محور غازي كنعان/محمد منصورة، ومحور آصف شوكت وحده لا شريك له، عملياً. وقرار إحالته إلى المقرّ ليس تنحية له في نظرنا، بل هو تسوية رئاسية توافقية، معه وبرضائه على الأرجح، تماماً كما فعل نائب الرئيس عبد الحليم خدّام حين تنحى طائعاً. وإذا كان الأخير قد قرّر، في الوقت المناسب أو القاتل كما ينبغي القول، مغادرة السفينة الموشكة على الغرق، فإنّ اللواء سليمان مشدود الوثاق إلى السفينة على نحو لا يُقارن البتة بخدّام، لاعتبارات شتى لا تخفى على القارىء، وهو أشدّ تورّطاً من أن يكون في وسعه مغادرتها نهائياً. وفي كلّ حال، لعلّنا بعد ابتعاده عن الجهاز سوف نكسبه أكثر في حقل التأليف والكتابة والتنظير، بإسمه العلني هذه المرّة، وليس بذلك الإسم الأدبي المستعار الذي اعتاد استخدامه: ناصر علاء الدين!

أخطر ما في تلك القرارات الأمنية أنها تُحكم سيطرة سليلي جهاز واحد، هو المخابرات العسكرية، على جميع الأجهزة الأمنية في البلاد، بلا استثناء. وكان حافظ الأسد يحرص، بين حقبة وأخرى، على «تطعيم» جهاز الأمن السياسي بضبّاط من وزارة الداخلية وسلك الشرطة، أو يعيّن في إدارة المخابرات العامة ضابطاً قادماً من صفوف الجيش والوحدات العسكرية العاملة، وكانت له في تلك الخيارات حكمة عدم تمكين أبناء جهاز واحد من التحكّم في الآلة الأمنية والاستخباراتية. ليس هذا رأي بشار الأسد كما يبدو من قراراته، ولا يُلام البعض ممّن يواصلون التفاؤل بعهده إذا رأوا في هذه القرارات «انتكاسة» عن عهد الأب؛ وليس مفاجئاً، أيضاً، أن يروا فيها خطوة إلى الأمام!

الجانب الثاني الخطير في هذه القرارات أنها تُسلم قياد جميع الأجهزة الأمنية إلى أبناء طائفة واحدة (بما في ذلك اللواء علي مملوك، رئيس جهاز المخابرات العامة). وكاتب هذه السطور ليس بحاجة إلى التشديد على إيمانه بوطنية الطائفة العلوية، وما قدّمه أبناؤها من تضحيات على امتداد تاريخ سورية الحديث، خصوصاً في العقود الثلاثة الأخيرة وخلال حكم حافظ الأسد تحديداً. لقد كان المعارض السياسي من أبناء الطائفة العلوية يلقى عقاباً مضاعفاً: أوّلاً بسبب معارضته للنظام، وثانياً بسبب ما يصنّفه النظام في باب «الخروج» عن الطائفة.

كذلك لست في حاجة إلى التذكير بموقفي من أنّ السواد الأعظم من أبناء الطائفة يعيشون المعاناة ذاتها التي يعيشها الشعب في سورية على اختلاف طوائفه ومذاهبه، بل لعلّ بعض المناطق في قرى الساحل السوري تعيش مآسٍ مضاعفة لأنها تخضع لاستغلال مباشر وقسري من المافيات التي تمثّل حفنة محدودة للغاية من المنخرطين في آلة النظام. وأن لا تكون الطائفة حاكمة، وأن تكون مساوية لأبناء سورية في الخضوع للإستبداد، أمر لا يغيّر أبداً من مخاطر تسليم جميع الأجهزة الأمنية إلى ضبّاط من أبناء هذه الطائفة.

وأمّا القراران اللذان يخدمان الإقتصاد السياسي فهما تسمية عبد الله الدردري نائباً لرئيس مجلس الوزراء للشؤون الاقتصادية، وإصدار القانون 22 القاضي بإحداث هيئة الأوراق والأسواق المالية. وفي تأويل القرار الأوّل ذهب البعض إلى الحديث عن «انقلاب»، وكأنّ الدردري هبط من مجرّة أخرى حاملاً قدرات سوبرمانية صانعة للمعجزات الفورية، ونسي هؤلاء أنّ الرجل ليس جديداً أبداً على جهاز القرار، أو «ماكينة الإصلاح» حسب رطانة المتفائلين.

إنه يجيء إلي هذا الموقع الجديد من منصب رفيع هو رئاسة هيئة تخطيط الدولة. والدردري كان في عداد ما يُسمّى «مجموعة الـ 81»، أو الـ G-18 حسب تعبير الأمريكي فلنت ليفريت، أو الدائرة المقرّبة من بشار الأسد منذ طور مبكّر من بدء إنطلاق عمليات تدريبه وتوريثه. وكان في عدادها أيضاً ماهر المجتهد، الذي عُيّن، أواخر 3002، أميناً عاماً لرئاسة مجلس الوزراء؛ وعلي كنعان، وشغل، في الفترة ذاتها، منصب المدير العام للمصرف الصناعي؛ والخبراء الإقتصاديون نبيل سكر، سمير سعيفان، ورياض الأبرش؛ وسامي الخيمي، السفير السوري الحالي في بريطانيا؛ وغسان الرفاعي، الوزير السابق للإقتصاد والتجارة الخارجية؛ وعصام الزعيم، وزير التخطيط ووزير الصناعة سابقاً...

الأرجح أنّ أياً من هؤلاء لا يتجاسر اليوم على القول إنّ جلّ ما أسفر عنه نصحهم التكنو ـ اقتصادي ـ سياسي كان تشريع سوق للبورصة السورية! والمرء لا يقول عنهم: «تمخّض الجبل...»، لا لشيء إلا لأنّ هذا التعبير يصلح أكثر للمؤتمر القطري العاشر، بل يقول: رُبّ حثيث مكيث، أي لله درّ ذلك الناصح الذي نامت نصائحه خمس سنوات، نومة أهل الكهف، ثمّ استفاقت لتسير كحاطب ليل!

وفي أطوار النصح المبكرة تلك كان بشار الأسد هو نفسه القائل، في حديث شهير مع صحيفة «إلباييس» الإسبانية: «الإهتمام المباشر الآن للمواطن وللشريحة الأوسع في سورية هو الموضوع المعاشي والإقتصادي (...) هذا ما لمسته قبل أن أصبح رئيساً ومازلت، فإذاً هذا هو أهمّ شيء يجب أن نركّز عليه الآن في سورية». وكان الدردري هو صاحب التصريح الشهير: «إنّ نحو مليوني مواطن سوري يقعون عند ودون خطّ الفقر الأدنى، ومعظمهم يعيش بأقلّ من ثلاثين ليرة سورية فقط [قرابة نصف دولار أمريكي] من هذا الخطّ». هل يعقل أنّ أولى وصفات العلاج التي اقترحها الناصح السوبرمان كانت... سوق الأوراق المالية؟