"انتفاضة لبنان السلمية" ووهم بناء الديمقراطية

عبد الرحيم صابر(*)

 

خسرنا المعركة القومية لأننا خسرنا معركة البناء الاقتصادي الاجتماعي وخسرنا معركة البناء الاقتصادي الاجتماعي لأننا خسرنا معركة الديمقراطية (جورج حاوي)

 

في البداية ظننت أن حالة المخاض تلك التي نتجت عن اغتيال الرئيس اللبناني الأسبق رفيق الحريري، وما سمي بانتفاضة ''الاستقلال'' اللبنانية والتي أدت الى رحيل الجيش والمخابرات السورية، ربما ستعطينا مولود الديمقراطية المفتقد لدى كل شعوب المنطقة بدون استثناء. كما وتوقعت أن نرى  بناء نظام لبناني جديد يلغي الطائفية التي طبعته لعقود، وأن يتوج  نضال شباب "ساحة الشهداء" من أجل الحرية، عهد لبنان ديمقراطي تنعدم فيه الطائفية والعشائرية.

 

كتبت أنذاك على صفحات جريدة الحياة ان "الشعب اللبناني يعي جيدا أنه لا بالسلاح ولا بالجيش ولا بالقنابل المجهولة المصدر فقط تكمن القوة. فللشعب القدرة على مقاومة المحتل والمستبد، وعلى وضع حد للفساد والتمييز وعلى إحلال الديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة." ما تجاهلته في رؤيتي هاته هو تاريخ لبنان الخاص والذي تميز عن غيره بأنظمة سياسية قائمة على أسس طائفية وعشائرية. عندما خرجت سوريا كان الأجدر بساسة لبنان الشروع في بناء لبنان الجديد، لكن يبدو أن لبنان الجديد ما هو إلا استمرارية للبنان القديم. منذ ولادة هذا البلد سنة 1943 ومرورا باتفاقية الطائف سنة 1983 وهو يرسخ الحكم العشائري الطائفي. كنا نظن أن الحرب الأهلية التي عصفت به في 13 أبريل 1975 وذهب ضحيتها عشرات الألاف نتيجة استهتار وقصر نظرالساسة اللبنانيين ربما ستخلق مناخا مغايرا يهتم أكثر بالهوية اللبنانية بدل النزعة الطائفية والعشائرية الضيقة.

 

بعد اغتيال الرئيس الحريري وبدعوة من احدى المنظمات الحقوقية الدولية قمت بزيارة الى بيروت والتقيت ببعض الفعاليات الحزبية المنخرطة تحت غطاء "قرنة شهوان" التي تضم قوات لبنانية من اليمين، والتيار الوطني الحر، والكتائب، وبعض النواب المستقلين، كما التقيت بقيادات شباب "مخيم الحرية"، وتبادلنا الحديث عن مستقبل لبنان وعن ارث الماضي. لا أنكر أنه كان ينتابني بين الحين والأخر شعور بالقلق وعدم الإرتياح لما كان يطلقه بعض الإخوة. فبينما كان معظم الشباب متحمسا  لبناء لبنان جديد قابل لأن يستوعب كل اللبنانيين على مختلف الأطياف، وجدت في خطاب بعض الساسة استمرارية لتلك النبرة الطائفية وعداء لم أكن أتوقعه لسوريا. كان هؤلاء يحملون النظام السوري مسؤولية كل المساوئ  في لبنان.

 

ليس هناك شك في أن النظام السوري يتحمل جزءا في تعثر لبنان من خلال خوضه معركة تحرير الجولان من على الأراضي اللبنانية، وعدم المساهمة في بناء الهوية اللبناية وهذا متوقع من نظام أمني لاديمقراطي يتميز بهيمنة الحزب الواحد على كل الحياة السياسية في سوريا.  لكن ساسة لبنان يتحملون الجزء الأوفر فيما آلت إليه الأوضاع في بلدهم حيث خير دليل على ذلك الإنتخابات الأخيرة والتي تميزت باستمرارية الخطاب الطائفي الضيق. للأسف لم تستوعب القيادات اللبنانية التي كانت مسؤولة عن الحرب الأهلية دروس الماضي القريب. لقد ظنوا أنه يمكن التحايل على مشاعرالكثير من اللبنانيين بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 فبراير والذي حملت جل وسائل الإعلام مسؤوليته للمخابرات السورية. وجاء بعد هذا اغتيال الصحفي قصير والأمين العام السابق للحزب الشيوعي جورج حاوي.  

 

ظننت أن اللبنانيين سيتعلمون من نظرائهم في الثورة الزهرية في جورجيا الذين أجبروا شيفرنادزه على تقديم استقالته إثر تزوير الانتخابات النيابية، وفي الثورة البرتقالية بأوكرانيا التي أدت الى الشروع في ترسيخ العمل والفعل الديمقراطي المبني على سلطة الشعب في حق الإنتخاب والتصويت على ممثل شرعي وممثل لكل الوطن. كنت أتمنى أن لا تقوض حركة الاستقلال الشبابية المنطلقة احتجاجا بعد اغتيال الرئيس الحريري دعائم الحكم السوري فحسب، إنما أن ترسي أسس ديمقراطية ثابتة لشعب متعدد الأديان والطوائف. لكن للأسف ما وجدناه هو استمرارية لنظام وخطاب عشائري تجلى منذ الوهلة الأولى بتسمية "عائلة" الراحل الحريري لإبنه سعد للإشراف على "المسؤولية والزعامة التاريخية في كل القضايا الوطنية والسياسية،" كما جاء في البيان الذي أصدرته "العائلة". لم يسم أي حزب أو منظمة السيد سعد لهذا المنصب وتم الإقتصار على قرار "العائلة". هكذا تتم الأمور في لبنان على ما يبدو. هناك "عائلات" تتحكم في سياسة البلد والعباد وتقرر ماذا وكيف ومتى يتم اتخاذ القرار السياسي.

 

قلت في مقال سابق إن نجاح السلطة الشعبية في لبنان تضمنه أربعة شروط أساسية: أولها التخطيط المحكم، ثانيها وحدة الهدف عبر أهداف سياسية شاملة تمكنه من حشد دعم أغلبية المواطنين له ومشاركتها فيه، ثم التقيد بالتصرف السلمي باعتباره ضرورة أساسية لأنه يؤسس لتحرك طويل الأمد، وأخيرا أن تنشأ هذه الحركات في البلد نفسه حتى يحس كل مواطن أنه يمتلك التغيير وأنه جزء منه. ماأغفلته أو ربما تجاهلته عن قصد هو ماضي لبنان القريب. فلبنان الجديد- القديم ربما لن يتمكن من الوصول إلى "الخلاص" وبناء الدولة الديمقراطية بنفس الزعامات السياسية التي تسببت في ويلات الحرب الأهلية. مأساة لبنان أنه لم يدخل فترة مصالحة وطنية تمكنه من تجاوز ماضيه الأليم. فلا وحدة الهدف، ولا التخطيط المحكم من أجل لبنان واحد وموحد لكل اللبنانيين، ولا الحس والهم الوطني كان موجودا عند الفاعل السياسي. ربما التقت مصالح أمريكا وفرنسا اليوم وأفرزت قرار الأمم المتحدة 1559، لكن هذه المصالح لن تستمر إلى ما لانهاية. فالشعب اللبناني بمختلف أطيافه هو الذي سيستمر في الزمان والمكان. كنت أعتقد أن اغتيال الرئيس وعفوية ردة الفعل اللبنانية من أجل إظهار الحقيقة في موضوع الإغتيال وانسحاب سورية سيساهم في الشروع في بناء نظام ديمقراطي، لكن قليلة تلك الأصوات التي كانت تتكلم عن: "وبعد."

 

 من غير الكافي التجمع عفويا على الطرقات، إن بالمئات أو بالآلاف. فهدف التغيير هو نزع الشرعية عن وجه المضطهد وإضعاف مصادر دعمه وأدوات سيطرته. أي المنظمات والمؤسسات وقطاعات المجتمع المسؤولة عن اتخاذ القرارات وتنفيذ الأوامر، وبناء مجتمع قابل لإستيعاب التعددية التي يمكن أن تكون أداة إثراء بدل تفرقة. لكن لبنان لايزال يعاني من مخلفات الحرب الأهلية، وهذا يجعله ينطوي أكثر تحت طائفية طبعت مسيرته السياسية كملاذ أخير للدفاع عن النفس بدل الإنفتاح على الأخر والعمل لأجل تشييد جسور الثقة وترسيخ الهوية.

 

أزمة لبنان مستمرة لأن المجتمع لم يعش لحظة مصالحة حقيقية، كما أن النظام السوري الأمني عمل على ترسيخ التفرقة بدل بناء وحدة الهوية اللبنانية. حينما كنت ببيروت قال لي أحد الإخوة حينما أبديت دهشتي بجمال بيروت التي عانت دمار الإحتلال الإسرائيلي والحرب الطائفية: "إن من مزايا وخطايا الرئيس الراحل الحريري أنه اهتم كثيرا ببناء الحجارة بدل بناء الإنسان اللبناني."

 

 

* من كوادر اللجنة العربية لحقوق الإنسان

مراقب حقوقي سابق مع المفوضية السامية لحقوق الإنسان

الدار البيضاء 22 يونيو 2005