لبنان القديم
يقاوم التغيير
عرّابين قدامى للبنان جديد
*آلان غريش
Alain GRESH
(قراءة غير لبنانية في المستجدات اللبنانية)
توالت رسائل الدعم من
كل مكان، من صيدا جنوباً، من سهل البقاع شرقاً، من منطقة طرابلس شمالاً ومن مختلف
أحياء بيروت، من الجمعيات العائلية أو الخيرية، من زعماء السنة الروحيين أو من
الصحافيين. وكلها تحيي دون تحفظ المختار الجديد ورغبته
في مواصلة الطريق التي شقها والده، وقدرته على السير بلبنان نحو غدٍ أفضل.
وبالاسلوب السوفياتي الأكثر صفاءاً يمرر التلفزيون على مدى دقائق هذه المدائح، مع
صوت مرافق مغتبط بهذا الدعم الكبير لقرار "العائلة"
في اختيارها الزعيم الجديد. وفي حضور عدد من الوزراء السابقين تعلن مجموعة من
النواب ولاءها للسيد الجديد، الذي يستقبله بعد أيام، ولأكثر من ساعة، الرئيس جاك
شيراك الذي منحه دعمه، ليلتقي بعدها الرئيس جورج دبليو بوش في مزرعته بحضور الأمير
عبد الله ولي العهد السعودي.
فمن هو هذا المنقذ الرفيع الشأن؟ إنه رجل مجهول
تقريباً، قدمته صحيفة "لوريان لوجور" على أنه "اختصاصي
بالاتصالات"، ولا تتعدى سيرة حياته أسطراً عدة. فالسيد سعد الحريري، البالغ
من العمر 35 عاماً، هو الابن الثاني لرئيس الوزراء الذي اغتيل في 14 شباط/فبراير
عام 2005، هو مجاز من جامعة جورجتاون في واشنطن. كان المدير العام لشركة
"سعودي اوجيه" التي يبلغ حجم أعمالها ملياري دولار وتستخدم 000 35
موظفاً. هو مسلم سني تربطه علاقات بالأسرة المالكة في
السعودية، وخصوصاً بالأمير عبد العزيز بن فهد، ابن الملك ووزير الدولة النافذ. اما
مواصفاته السياسية؟ فلا أحد يسأله عنها.
ولم يسمه لمنصبه هذا أحد الأحزاب او المنظمات،
بل هي "العائلة"، وهي الكلمة التي لا يرى فيها أحد هنا أي إيحاء تحقيري،
التي أعلنت في بيان عن قرارها لعامة الشعب. وينص هذا القرار على نقطتين. أولاً
السيدة نازك الحريري أرملة رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري، سوف تتولى
"الاشراف وإدارة كل المؤسسات الخيرية والاجتماعية التي كان يرعاها شهيد
لبنان" وثانياً إن ابنه سعد "سوف يتولى المسؤولية والزعامة التاريخية في
كل القضايا الوطنية والسياسية من أجل مواصلة طريق إعادة الاعمار الوطني على كل
المستويات". وفي الوقت الذي أعلن فيه عن ولادة "لبنان جديد"
ديموقراطي، لم يرتفع أي صوت للتعبير أقله عن مفاجأة ما من هذه الوراثة الاقطاعية
النمط. ولا ليتساءل عن استبعاد شقيقة الرئيس القتيل، السيدة بهية الحريري، النائبة
أساسا؟ً والتي لعبت دوراً بارزاً في أشكال التعبئة
الشعبية التي أعقبت اغتيال شقيقها.
إلا ان السيد سعد الحريري طمأن الصحافيين الذين
جاءوا يشدون أزره: "لن يتغير شيء، فكل ما كان يفعله أبي سوف أستمر فيه وسوف
نواصل طريقه فيما خص المؤسسات الاعلامية والخيرية [1]." وهذا ما اثار ارتياح العديدين، في بلد
تلقت فيه كل الوسائل الاعلامية المهمة والكثير من الصحافيين مساعدات مالية من رفيق
الحريري... والمفارقة غريبة، ففي بلد يقيم فيه 000 20 جندي سوري،كانت
وسائل الاعلام تتمتع بحرية حرم منها سائر العالم العربي، وخصوصاً في الدولتين
اللتين "رعتا" التحول الديموقراطي في لبنان، أي مصر والسعودية. لكن ظل
هناك أمران محرمان هما دور أجهزة المخابرات السرية السورية واللبنانية، وموقع رفيق
الحريري وثروته ومسؤوليته عن المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، وبنوع خاص عن دين
الدولة الهائل. وقد رفع الحظر عن القضية الأولى فقط...
وراح الجميع يعلن جهاراً: لقد قلب لبنان نهائياً صفحة الانقسامات. ففي غضون
أشهر تسارعت الأحداث بشكل بات من المتعذر معه إدراك ما يحدث. ففي أواخر آب/أغسطس
عام 2004، جاء قرار الرئيس بشار الأسد بتمديد ولاية حليفه الرئيسي في لبنان الرئيس
إميل لحود ليسرع في مجرى الأحداث. وقد فاجأ هذا الأمر المفروض حتى أقرب حلفاء دمشق
الذين لم يبلغوا به إلا في الدقائق الأخيرة. وكان إجراء مماثل قد اتخذ في العام
1995 سمح للرئيس السابق السيد الياس الهراوي بالحكم ثلاث سنوات إضافية بدون أن
يتسبب ذلك بأي عدائية لا داخلية ولا دولية. غير أن الظروف الاقليمية والدولية
تغيرت. وقررت فرنسا والولايات المتحدة عدم السماح بالأمر وفي 2 أيلول/سبتمبر عام
2004، صادق مجلس الأمن في الأمم المتحدة، بالغالبية الدنيا المفروضة (9 أصوات
مقابل 15)، على القرار 1559 دعا فيه القوات السورية الى الانسحاب من لبنان كما دعا
الى نزع سلاح الميليشيات (والمقصود ضمنياً حزب الله والمجموعات الفلسطينية
المسلحة).
ويذكر هنا أنه بعد
فترة تردد قدم رئيس الحكومة رفيق الحريري استقالته تعبيراً عن معارضته قرار دمشق.
ثم جاء اغتياله في 14 شباط/فبراير عام 2005، والذي حملت غالبية وسائل الاعلام
مسؤوليته الى أجهزة المخابرات السورية مباشرة، ليفجر فورة شعبية عارمة حول ثلاث
مواضيع: الحقيقة (في موضوع الاغتيال) واستقالة قادة الأجهزة الأمنية اللبنانية
وانسحاب القوات السورية. وبلغت التعبئة أوجها في 14 آذار/مارس في مظاهرة ضخمة في
بيروت نزل فيها الى الشارع مئات آلاف اللبنانيين. فهل شكل هذا بداية المصالحة بين
جميع الطوائف، المارونية والسنية والشيعية والدرزية؟
هذا الصورة عن "ثورة الأرز"، المماثلة
للـ"ثورة البرتقالية" في اوقرانيا أو لـ"ثورة الورود" في
جورجيا، روجتها كثيراً وسائل الاعلام الوطنية والدولية. لكن كالعادة هي تكاد تمحو
التاريخ الخاص بهذا البلد، وعدم فهمه إلا عبر قراءة تبسيطية متمثلة في الحرب بين
الخير والشر، بين الديموقراطية والتوتاليتارية. ولا شك في أن غالبية الشعب كانت قد
ضاقت ذرعاً بوجود القوات السورية وتضاعف تدخلات دمشق. كما أن الأخطاء المتلاحقة
التي ارتكبتها القيادة السورية، والتي اعترف بها الرئيس بشار الأسد في الخطاب الذي
ألقاه في 5 آذار/مارس معلناً سحب قواته، وحجم تدخل أجهزة المخابرات في الحياة
الداخلية قد فاقمت من حالة الاستياء والعدائية، بالرغم من الدور الذي لعبته سوريا
في وضع حد للحرب الأهلية أو من اجل مساعدة مقاومة الاحتلال الاسرائيلي في جنوب
لبنان.
لكن لا بد أن يصدم المراقب بهذا الواقع:
فالزعماء انفسهم المسؤولون عن الحرب الأهلية، ومعظمهم تعاون مع سوريا قبل أن ينقلب
عليها، قد برزوا في واجهة الأحداث. ففي هذه الأشهر الأخيرة لم تبرز أي شخصية
سياسية جديدة، وظل آل الجميل وجنبلاط والحريري وفرنجية وشمعون الخ. يمسكون بخيوط
اللعبة. ولم يتقدم أي منهم بأدنى اقتراح من أجل إصلاح
نظام سياسي قائم على الطائفية والعشائرية والفساد. وشعارهم الوحيد، "سوريا
مسؤولة عن كل المساوئ في لبنان"، يغتذي من شائعات أبعد ما تكون عن التصديق،
مثل القول بأن 000 800 عائلة سورية تعلق على شبكة الكهرباء اللبنانية دون أن تسدد
أبداً بدل استهلاكها... أما الفساد؟ يصرح أحد علماء
الاقتصاد: "نحن نحمل مسؤوليته الى السوريين فقط، كما ألقينا في العام 1983 كل
مآسينا على الفلسطينيين. وبالنتيجة أن أحداً لا يتساءل عن المبالغ التي نهبها
المسؤولون اللبنانيون. فكيف حصلت زيادة الدين العام في ظل حكومة الحريري الاولى
بين 1992 و1998 من 3 الى 18 مليار دولار؟"
فلبنان ينتظم على أساس طائفي، وهو نظام يعود الى
ما بعد الحرب العالمية الأولى عندما انتدبت عصبة الأمم فرنسا في العام 1920 لإدارة
البلاد. والطوائف الرئيسية بين الطوائف السبع عشرة المعترف بها هي من الجانب
المسيحي: الموارنة (كاثوليك) والروم الأورثوذوكس والروم الكاثوليك، ومن الجانب
المسلم: السنة والشيعة، يضاف اليهم الدروز. وينص دستور
العام 1926 الذي فرضته باريس في المادة 95: "بصفة انتقالية ومن أجل تأمين
العدالة والوفاق تتمثل الطوائف بالتساوي في الوظائف العامة وفي تشكيل
الوزارات." وفي الواقع أن هذا النظام، الذي جرى
التأكيد عليه عند الاستقلال في العام 1943، قد ضمن السيطرة السياسية للطائفة
المارونية. حيث تم الاتفاق شفهياً على أن يكون رئيس
الجمهورية مارونياً، ورئيس الوزراء سنياً ورئيس مجلس النواب شيعياً. ووزعت مقاعد
النواب على قاعدة معادلة لهذا التوزيع: 60 في المئة لمختلف الطوائف المسيحية مقابل
40 في المئة للطوائف الاسلامية.
وفي اتفاق الطائف عدلت هذه النسب لتساوي بين
المسيحيين والمسلمين، وقد بات هؤلاء يمثلون غالبية سكانية تقدر بأكثر من 60 في
المئة. هذا الاتفاق الذي تم التوصل اليه في العام 1989 وضع حداً، تحت رعاية سوريا،
للحرب الأهلية التي عصفت بالبلاد منذ 13 نيسان/أبريل عام 1975 وسقط فيها عشرات
آلاف الضحايا. وهو ينص بنوع خاص على "أن إلغاء
الطائفية السياسية هو هدف وطني أساسي يتطلب إنجازه عملاً منهجياً وعلى
مراحل". وكان من المترض، بعد انتخاب مجلس النواب الجديد أن يصار الى
"تشكيل هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية مؤلفة، بالاضافة الى رؤساء مجلس
النواب ومجلس الوزراء، من شخصيات سياسية وفكرية واجتماعية. وتقوم مهمة هذه الهيئة
على دراسة واقتراح الوسائل الكفيلة بالغاء الطائفية، وتقديمها الى البرلمان ومجلس
الوزراء، ومراقبة تنفيذها في المرحلة الانتقالية." كما أن فيه إشارة تتعلق
بالحلول إذ هو يقترح أنه "بعد انتخاب البرلمان الوطني الأول على أساس غير
طائفي، يصار الى تشكيل مجلس شيوخ تتمثل فيه مختلف العائلات الروحية وتنحصر
صلاحياته بالمسائل الجوهرية".
وقد أجريت انتخابات تشريعية جديدة في العام 1992
تولى بعدها رفيق الحريري رئاسة الوزراء، غير أن الاصلاحات السياسية جمدت. فالحرب
الأهلية الطويلة والعنيفة التي كان الهدف الأساسي منها التخلص من الطائفية
السياسية، أفضت الى نتائج معاكسة، فوحشية النزاع أجبرت كل فرد على اللجوء الى جماعته [2]. فالانتماءات العشائرية أو الدينية كانت تحمي
أكثر من الاصطفافات الايديولوجية. يضاف الى ذلك أن العفو الذي منح بعد العام 1989
الى قادة الميليشيات لم يساعد المجتمع في إعادة النظر في تاريخه، وعزز الفكرة
القائلة بأن حرب لبنان كانت "حرب الآخرين"، أي حرب الفلسطينيين أو
الاسرائيليين أو السوريين. وقد تقوقع النظام السياسي في طائفية قاهرة أكثر مما
كانت عليه قبل العام 1975، وبالنسبة الى العديد من الشباب ضمناً. فأحمد، الطالب في
الجامعة الأميركية المشهورة أساساً بطابعها المتعدد الطوائف، يقول معترفاً:
"نحن لا نختلط فيما بيننا، فالأصحاب من الدين ذاته يجتمعون فيما بينهم. ومع أننا تحركنا معاً غداة اغتيال رفيق الحريري فان الحذر قد
يزداد، فالكل يتساءل في نفسه عما يفكر فيه الآخر، وعما ينوي..." ولم ينفذ أي
من الاجراءات التي نص عليها اتفاق الطائف سوى إلغاء ذكر الطائفة على بطاقة الهوية.
وفيما تضعف الأحزاب اليسارية المتعددة الطوائف
(الحزب الشيوعي ومنظمة العمل الشيوعي الخ)، فان معظم الأحزاب الأخرى تنتظم اكثر من
أي وقت مضى على أساس طائفي، فحركة "أمل" و"حزب الله" للطائفة
الشيعية، و"السنة" المحرومون من قائد وطني، اجتمعواحول رفيق الحريري،
والحزب الاشتراكي بزعامة السيد وليد جنبلاط ليس اشتراكياً إلا بالاسم، وهو يتميز
قبل كل شيء بالانضواء الدرزي في صفوفه. اما بالنسبة الى الموارنة فانهم
"توحدوا" منذ العام 2000 ضمن مجموعة عرفت بـ"لقاء قرنة شهوان"
يضم القوات اللبنانية من اليمين المتطرف، والتيار الوطني الحر التابع للجنرال عون
(وقد عاد الى البلاد في أوائل أيار/مايو الماضي بعد نفي دام حوالى15 سنة)، ورئيس
الجمهورية السابق أمين الجميل، وحزب الوطنيين الأحرار التابع لعائلة شمعون، وبعض
النواب المستقلين.
وفي هذا النظام يخلف الأبناء الآباء، وتطغى
العلاقات العشائرية على أشكال التضامن السياسية. فالزعامات المارونية التقليدية
التي همشت وانقسمت بعد اتفاق الطائف وجدت دورها محجوباً بدور البطريرك مار نصر
الله بطرس صفير، الذي استقبل في واشنطن وباريس كممثل للـ"طائفة المارونية".
فهو طرف أساسي في كل المفاوضات الجارية ويعطي رأيه في كل
المواضيع ومن ضمنها قانون الانتخابات. وهو، مع مجلس المطارنة الموارنة، يدين هذا
القانون لأن المسيحيين "ينتخبون 14 نائباً فقط فيما النواب الخمسون الآخرون
ينتخبهم المسلمون بسبب نظام اللوائح [3]". وبذلك يرى البطريرك صفير على الأرجح أنه
يفترض بلبنان أن ينشئ هيئات ناخبة منفصلة، يصوت فيها الموارنة للموارنة، والدروز
للدروز والخ. فهل يجوز الكلام على الديموقراطية؟
وقد شكلت ساحة الشهداء، رمز "ثورة
الأرز" التي هزت البلاد منذ مطلع السنة، نقطة التقاء لمجمل التحركات الداعية
الى انسحاب القوات السورية. وقد ضربت فيها قرية من الخيم، سميت "مخيم
الحرية"، على غرار ما حدث في كييف أو في تبيليسي. لكن مع أن انسحاب القوات
السورية قد انجز في 26 نيسان، لم يعد المكان يجتذب الكثير من الناس. لكن حالياً
تخلى بضع مئات من الشبان، معظمهم من الطلاب، عن العلم اللبناني
ليحملوا علم القوات اللبنانية مطالبين بطلاق سراح "شهيد الحرية"،
السيد سمير جعجع الذي لم يتردد أحد النواب الأميركيين في تشبيهه بالسيد نلسون
مانديلا [4] . وفي الوقت نفسه تقام الاحتفالات في المدن
والقرى المارونية للمطالبة باطلاق سراح القائد السابق للقوات اللبنانية المسجون
منذ أحد عشر عاماً. وتشعل عشرات الآلاف من الشموع عن نية "الشهيد". وقد
صعد عشرات الآلاف من المتظاهرين من بيروت وضواحيها الى بكركي في الجبل، مقر
البطريركية المارونية في شمال شرق بيروت. وقد ختم التحرك بقداس احتفل به النائب
البطريركي العام في الكنيسة المارونية المطران رولان أبو جودة.
وهل من يعرف من هو سمير جعجع؟ نستعين بأسطر
قليلة من صحيفة باللغة الانكليزية [5] للتذكير بأنه مسؤول عن اغتيال رئيس الوزراء
السابق رشيد كرامي والعديد من منافسيه على الساحة المسيحية وخصوصاً داني شمعون،
نجل رئيس الجمهورية السابق كميل شمعون، وطوني فرنجية (نجل رئيس الجمهورية السابق
سليمان فرنجية)، وزوجته وابنته البالغة من العمر ثلاث سنوات. وقد استثنى قانون
العفو الصادر عام 1991 جرائم الحرب المحالة الى المجلس العدلي. وكان السيد جعجع
الاستثناء الوحيد في هذه الناحية ولذلك تشدد القوات اللبنانية على هذه
"الظلامة". أليس ان الكثير من سائر المجرمين ما يزالون احراراً؟ ولو أن
محكمة الجزاء الدولية كانت موجودة في ذلك الوقت، ما من شك في أن العديد من
المسؤولين السياسيين الحاليين، سواء من المعارضة أم من أولئك المسمون موالاة
(مؤيدون لسوريا)، كانوا مثلوا امام محكمة لاهاي.
لكن البلاد تفضل
تناسي تاريخها، ذاك أن المواقف من الماضي متباينة، وخصوصاً من الحرب الأهلية
(1975-1989)، وقد تم التخلي مؤخراً عن وضع كتاب مدرسي موحد في مادة التاريخ. يقر
الطالب أحمد بـ"اننا لا نعرف هذا التاريخ غير المدرج في المنهج. وكل واحد
يتعلمه بحسب رواية طائفته ونحن نتفادى الخوض في الموضوع فيما بيننا." وحتى
الان لم تتم أي تصالح على هذا الموضوع. إلا ان السيد جعجع ليس كغيره من المجرمين
وحسب، فهو قد شجع، مع رئيسه بشير الجميل، القوات الاسرائيلية على اجتياح البلاد في
حزيران/يوينو عام 1982 بقيادة الجنرال أرييل شارون وزير الدفاع آنذاك. وعندما بدأ
جيش الدفاع الاسرائيلي حصاره لبيروت أوضح بشير الجميل
للاسرائيليين أنواع المساعدة التي يقدمها لهم: "لقد بدأنا بقطع المياه
والكهرباء. ونحنمستعدون للذهاب أبعد من هذا بكثير، حتى عسكرياً إذا تطلب الأمر.
وإذا لم يكن لمعركة بيروت أن تقوم بدوننا، فسأقاتل الى جانبكم. لكن سوف أقدم لكم
عوناً أكبر عندما تصبح السلطة بين يدي ." [6]
وفعلاً انتخب بشير الجميل، في ظل الدبابات
الاسرائيلية، رئيساً للبلاد في 23 آب/أغسطس عام 1982، قبل أن يغتال في 14
أيلول/سبتمبر. وقد خلفه شقيقه أمين الذي انتخب في ظل
الظروف نفسها. وفي تلك الحقبة لم يهتم "المجتمع الدولي" أبداً لكون هذين
الانتخابين قد أجريا في حراسة الدبابات الاسرائيلية. وفي هذه الأثناء، ما بين 16
و18 أبلول/سبتمبر ارتكبت مجازر مخيمي صبرا وشاتيلا حيث قتل بكل فظاعة آلاف
الفلسطينيين من نساء واولاد وعجزة. وهذه الجرائم ضد الانسانية التي ارتكبت تحت
الحماية الاسرائيلية، نفذت بقيادة اثنين من مسؤولي القوات اللبنانية هما إيلي
حبيقة، الذي اغتيل في ظروف غامضة في 24 كانون الثاني/يناير عام 2002 [7]، وسمير جعجع. فهل من المستغرب أن يتسبب إطلاق سراحه المرتقب بارتعاد المخيمات الفلسطينية؟
ويوضح السيد مروان عبد الله، أحد المسؤولين في مخيم مار الياس الواقع الى جنوب بيروت: "إن الجيش اللبناني بدا عاجزاً عن حماية
العمال السوريين ضحايا الانتهاكات في الأسابيع الأخيرة، فكيف سيتمكن من حمايتنا
نحن؟"
وفي الواقع أنه منذ 14 شباط/فبراير تكاثرت
الاعتداءات على العمال السوريين، وهم بالآلاف يؤمنون الأعمال الأدنى أجراً في
قطاعي البناء والزراعة، حتى أن عدداً منهم قتل، مما أثار في اوساطهم موجة فرار شلت
العديد من القطاعات الاقتصادية. وقد أطلقت منظمة العفو الدولية نداءاً الى الحكومة
لكي تعاقب المسؤولين عن ذلك . [8]
وإذا بالامكان تلمس خشية الفلسطينيين، فان فرحة
غالبية اللبنانيين بالتخلص من سوريا وبتحقيق المطالبة بإنشاء لجنة دولية للتحقيق
في ظروف اغتيال رفيق الحريري، تخفي وراءها القلق على المستقبل. فجو الحذر يسود بين
الطوائف التي لم تتصالح بعد. ثم ان غياب مشروع واضح لعملية اصلاحية في البلاد قد
طبع التحركات الكبيرة وهو ما يؤكد عليه الانقسام حول قانون الانتخابات، حيث يسعى
كل فريق الى الحفاظ على مصالح "طائفته". وقد
رفضت كل القوى اعتماد النسبية ولو جزئياً من اجل "فتح ثغرة" في النظام،
باستثناء حزبي "أمل" و"حزب الله".
ويقول جوزف سماحة، وهو محرر في صحيفة
"السفير" ومن القلائل الذين لم يغرقوا في رؤية مثالية: "نحن لسنا
إزاء بروز معنى جديد للوحدة الوطنية، بل بالأحرى إزاء مسارات متوازية تسلكها
الطوائفالمختلفةالتي ولدت نظرية الوحدة الواهمة." فما انزل السنة بكثافة الى
الشارع في 14 آذار/مارس كانت رغبتهم في معرفة الحقيقة حول مقتل رفيق الحريري بقدر
ما كان الخوف الذي أثارته فيهم المظاهرة الشيعية الضخمة تحت راية حزب الله في 7
آذار/مارس، وقد ضمت هذه المظاهرة مئات الآلاف، بعضهم من المحرومين المقيمين في
الأحياء الجنوبية للعاصمة، وقد "احتلوا" وسط مدينة خاص بالبورجوازية
السنية أو المسيحية.
في سيارة تاكسي مشتركة ينشد السائق وأحد الركاب
المدائح لفرنسا لكنهما يحذرانني: "لا تذهب الى الأحياء الشيعية، فهم قد
ينحرونك إذا عرفوا أنك فرنسي أو أميركي. فالشيعة ليسوا
من المسلمين، ويمكنك أن تشتريهم بدولار واحد..." وقبل أيام كان حزب الله ينفذ
عملية سرية فينزل الى مقر إحدى الجمعيات الخيرية الشيعية من أجل إتلاف بعض
البيانات التحريضية التي كانت توزعها وهي تتهم فيها السنة بكل الشرور. وتتسع الهوة
بين السنة والشيعة أكثر من أي وقت مضى ومشاهد المساجد الشيعية التي تتعرض
للاعتداءات في العراق تعمق هذه الانقسامات. وسياسة الولايات المتحدة في هذه
البلاد، القائمة على التقسيمات الاتنية الدينية (شيعة-سنة-اكراد
الخ) تذكي في لبنان المخاوف من "مؤامرة" تهدف الى تقسيم المنطقة.
وعن هذه المخاوف يعبر أحد المثقفين: "إن لبنان الطائفي التركيبة يمثل نموذجاً
تريد الولايات المتحدة تطبيقه في المنطقة كلها لتقسيمها وإضعافها".
وهناك استطلاع للرأي توضح خطوط الفصل بين
الطوائف [9] . فمن الأسئلة المهمة المطروحة حول المسنقبل
سؤال يتعلق بنزع سلاح حزب الله. وفيما بدا الموارنة مجمعين على الموافقة على هذا
الطلب، فان 31 في المئة من السنة و79 في المئة من الشيعة يعارضونه. والفريق الأول
يوافق على التدخل الأميركي والفرنسي في الشؤون اللبنانية، بينما غالبية السنة
والشيعة يرفضونه.
ويوضح جوزف سماحة أن الموارنة، وللمفارقة، سوف
يكونون الفريق الخاسر الأكبر في المعطيات الجديدة: "لقد ابتهج المسيحيون
لرؤية الجميع يرفعون العلم اللبناني خلال المظاهرات. لكن الذين نشروا
هذه الأعلام سوف يطالبون بحصتهم في الحكم. وعندما يكون أفق العمل غير قائم على
المواطنية وإنما على نظام مؤسس على التوازن الطائفي، فإنه من الطبيعي أن تطالب
الطوائف الأكثر عدداً، وخصوصاً الشيعة والسنة، بحصة أكبر في الحكم. فانتهاء الصراع الطائفي لا يلوح في الأفق المنظور."
[1] صحيفة
"الحياة"، بيروت، في 22/4/2005
[2] للاطلاع على تاريخ النزاع اقرأ: Elizabeh Picard, Liban, Etat de discorde, Flammarion,
1988.
[3] صحيفة "ذي دايلي ستار"، بيروت،
12/5/2005
[4] صحيفة انلهار، بيروت، 22/4/
[5] "و دايلي ستار"، 21/4/2005
[6] ورد في كتاب: Alain
Ménargues, Les Secrets de la guerre du Liban, Albin
Michel, 2004, p. 305.
[7] . كان يستعد لتقديم شهادته أمام المحكمة
البلجيكية الخاصة بمجازر صبرا وشاتيلا وحول الدور الذي لعبه فيها السيد أرييل
شارون.
[8] راجع إعلان منظمة العفو الدولية الصادر في
21/4/2005: “ Lebanon :
Stop attacks on Syrians workers
and bring perpetrators to justice.
”
[9] في صحيفة "ذو دايلي ستار"، في
21/4/2005
عن الطبعة العربية للموند ديبلوماتيك وموقع مفهوم