تيسير
والخلية الإسبانية فوق المجهر
الدكتورة
فيوليت داغر*
ليس
الهدف من هذه السطور مقالة إضافية عن قضية تيسير علوني أكثر مما هي شهادة ومشاهدات
إثر مشاركتي كمراقبة في جلسة 16 مايو/ايار 2005 التي مثل فيها الزميل الكريم أمام
القضاء الإسباني ليرد على التهم والأسئلة التي طرحها عليه المدعي العام الإسباني
وبعض محامي ال23 موقوفا الآخرين في ما سمي بالخلية الإسبانية. هي محاولة عرض للقارئ
العربي لبعض المشاهد والأحاسيس التي تخللت ذلك اليوم الذي ليس للأسف سوى واحدا من
موروثات عولمة حالة الطوارئ، أو لنقل ضرب مبدأ قرينة البراءة بالإدانة المسبقة للأفراد
فيما سمي بالحرب على الإرهاب..
لم
يكن المتهمون الآخرون الذين مثلوا معه بأقل أهمية منه بالنسبة للمدافعين عن حقوق
الإنسان. منذ البداية حرصنا في اللجنة العربية لحقوق الإنسان على متابعة حالاتهم، وبغض
النظر عن كونه عضوا فيها، وعن احتلاله مكانة الرمز للصحفي الذي يدفع غاليا ثمن
قيامه بواجبه المهني في التعريف بأمانة بما يجري على جبهات القتال وفي الأوضاع
الساخنة. لقد تم الاتصال باثني عشر مراقبا دوليا منهم اللاتيني والعربي
والانكلوسكسوني ليتناوبوا في أكبر مراقبة دولية منذ 1982، وذلك حسب ما ورد في خبر لوكالة انباء وليس على
لساننا نحن.
فمع
الاستنتاج بأن العديد من المنظمات الدولية لحقوق الإنسان باتت تتصرف منذ 11 أيلول
2001 كمنظمات غربية بالأحرى، تضاعف شعورنا بالمسؤولية في مقاومة مسألة تحول
"الحرب على الإرهاب" لممارسات استثنائية ضد العربي والمسلم في بلدان
الغرب. أملنا في ذلك أن ينتهي القضاء الإسباني، وبالرغم من الخلل الكبير الذي
اعترى نص التحقيقات الأولية، لإثبات نزاهته وشفافيته. الإقناع بعدم خضوعه لضغوطات
داخلية وخارجية متطرفة بالرغم من المسؤولية المباشرة لأشخاص منه ورطوا بلدهم في
قضية بات على إسبانيا أن تثبت بخروجها منها أنها دولة قانون. دولة ديمقراطية بحق
وكما يريد أن يراها كثيرون من مواطني البلدان العربية الذين يتابعون القضية مشككين
أو غير مصدقين ما يسمعون ويرون على شاشات فضائياتهم. فملف
تيسير فارغ مما يستوجب ما عانى منه هو وعائلته، وما يسمح لنا برفع شكوى أمام المحكمة
الأوربية لحقوق الإنسان استنكارا لذلك واستردادا لحقوقه ولو رمزيا. ملف مليء بالأخطاء
والترجمات غير الدقيقة لمكالمات هاتفية وأحداث واهية لا ترقى لمستوى التهم. ملف
يبدو فيه للأسف العنصر السياسي المبرر الوحيد لهذه المسرحية التي تحاول إدانة
الأفكار والنوايا بغياب اثباتات لأعمال ملموسة على أرض الواقع.
عشرات
آلاف الصفحات التي اعتلت الرفوف في صدر القاعة وراء رئيس المحكمة حوت بين ثناياها
فبركة أكبر محكمة ضد الإرهاب منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر. لقد ضمت من أسامة بن
لادن الذي أعطى مقابلة لتيسير لم تبث، إلى شاب جزائري اتهم بالتطرف الإسلامي في
حين أنه كان يفضل احتساء الخمرة على الوضوء وبيع الحشيشة على بيع سجادات الصلاة. لكن
لسوء حظه كان قد اتصل بشاب ملتزم إسلاميا خبير في الكومبيوتر ليفك له طلاسم كومبيوتر
نقال سرقه من حانوت لتوزيع الآدوات الإلكترونية. ثلاث
سنوات قضاها حتى الآن في السجن ومثله أو أقل أو أكثر رفاق الأيام الصعبة الباقون. لكل
ذلك لم يأبه غارثون ومن خلفه أنها أكثر من كافية لتحطيم ما تبقى من ثقة لدى هؤلاء
بقدرة المجتمع الإسباني على توفير شروط تأقلمهم فيه ومع قوانينه.
لن
أتوقف طويلا عند رجل الأعمال الذي وظّف محبته للحرف اليدوية لينجح في بناء معامل
للسيراميك أو رجل الاعمال الشاب الذي نجح في إسبانيا بعد نجاحه في المملكة العربية
السعودية. أحاول أن لا أتذكر نظرات الألم في عيون هؤلاء الرجال الذين كانوا يقبعون
في قفص زجاجي كأسماك البيوت في الحوض الصناعي، يسمعون أحكاما بحقهم يطالب بها
المدعي العام لم ينص عليها أي قانون جنائي في العالم، منها مثلا 187678 سنة مع
الأشغال الشاقة. ولا كذلك الشعور بالانكسار والمهانة عند
زوجاتهم وعائلاتهم الذين قدموا ليروهم ويستمعوا لملابسات العديد من القضايا التي
لفقت لهم.
اغتيال
الزمان يتعايش مع احتقار شخوصه ومع تدني المستوى في الحبكة الضرورية لكل قصة. قلع
الضرس يصبح إسم علم لشخص مشبوه، والأربعين النووية للإمام النووي تحولت لأسلحة
نووية يحضرها الإرهاب الإسلامي. أما اللون الأبيض فيفسر
تبييضا لأموال الإرهاب، ولفظة "الشباب"، تصبح الاسم الجديد الذي يعطيه قضاء
الإرهاب لمنظمة إرهابية إسلامية..
حذار
من الضحك أو المزاح. نحن أمام الطبعة الأوربية لمحاكم
أمن الدولة العربية في دولة قانون يفترض أنها تحترم نفسها كما تحترمنا كمراقبين
وتسمح لنا بالحضور كلما شئنا من أي بلد كان. لكن الطبعة التي أراد منها أزنار أن
تكون آخر أوراقه الإنتخابية وغارثون آخر تجاربه القضائية لم يعد سرها يفت على أحد.
لذلك كانت ملحة ضرورة التعريف الإعلامي الواسع بواحدة من محاكمات الحرب على
الإرهاب. هذه الحرب التي تحطم يوما بعد يوم مكتسبات
الحضارة الأوربية في القانون الدولي وتضرب نزاهة وشفافية وعلنية وعدالة القضاء
فيها. ثمن ذلك تدفعه أيضاً مصداقية شعب كبير وبلد صديق وحكومة شابة وقضاء يحاول
التحرر من الفرانكية.
لقد
بات الجميع الآن أمام اختبار عسير لاثبات احترام هذا البلد لدستوره ولالتزاماته
الدولية وللخروج من هذه الورطة التي جره إليها أشخاص شغلوا مناصب عالية فيه واعتقدوا
للحظة أن موازين القوى التي يتحكمون بها تسمح لهم بركوب أهوائهم كما يشاؤون. أشخاص
غير عابئين بسمعة اسبانيا وبخاصة في العالم العربي، و"مسؤولين" غير مسؤولين
أو مهتمين بتوازن عائلات زجت في قضايا لا علاقة لها بها وبنمو أطفال ليس من ذنب
لهم ليدفعوا غاليا من صحتهم الجسدية والنفسية غياب آبائهم وراء قضبان السجن. غياب
معيلين لهم في بلد لم يختاروا أن يلدوا أو أن ينشأوا فيه، وعمادهم الأساسي في
تشكيل هويتهم وفي توفير الإطمئنان والشعور بالثقة بالعالم من حولهم.
هل
في حاجة
الانتماء لهوية جماعية مطمئنة واتخاذ مسافة كافية بين النحن والآخر لتخفيف الشعور
بتهديد الأنا في عالم تعصف فيه الأزمات ما يبرر نزع الصفات الإنسانية عن الآخر بغض
النظر عن الوسائل؟ نتمنى أن يثبت الحس النقدي لشعب اسبانيا أنه فاعل عن حق كي يدفع
بعيدا عنه وبجدارة تلك الرؤية النمطية والمغايرة لحقيقة الآخر الذي هو أكثر غنى
وتعقيدا مما نراه فيه ونريده منه.
-----------------------
* رئيسة اللجنة العربية لحقوق الإنسان