الدكتور هيثم مناع
الحرب على الإصلاح
لم ترض السلطة التنفيذية السياسية والأمنية في المملكة
العربية السعودية إلا أن تضيف لذكرى نكبة فلسطين بقعة سوداء أخرى، بتحويلها يوم
15/5، إلى ذكرى إرهاب رواد الإصلاح في الجزيرة العربية بأحكام قاسية بحق ثلاثة من شخصيات
الإصلاح الدستوري وأعضاء اللجنة العربية لحقوق الإنسان. لم يصب الاحمرار خجلا
وجه أي من قضاة التعليمات وهو يعلن:
نحن القضاة محمد بن خنين و سعود العثمان وعبد اللطيف
العبد اللطيف، وبالإجماع حكمنا على:
1 - عبد
الله بن حامد الحامد بالسجن ( 7 ) سنوات من تاريخ توقيفه.
2 - متروك
بن هايس الفالح = ( 6 ) =
= =
3 - علي غرم
الله الدميني = ( 9 ) =
= =
مطلقا رصاصة الرحمة على محكمة سرية تفتقر لأبسط قواعد احترام إقامة العدل.
هذه المحاكمة سبق وعرفت على نفسها عندما تم رفض
المراقبة الدولية والعربية والإسلامية والتوكيل الحر واعتقال أحد أهم محامي الدفاع
(عبد الرحمن اللاحم) في حيثياتها، ليقبع في سجن الحاير دون محاكمة في شبه عزلة عن
العالم.
كان الحدث جللا، ولكن القضية أكبر من مجرد بقاء ثلاثة أشخاص في
السجن. لقد قررت السلطات السعودية قبض ثمن تنازلاتها السياسية والاقتصادية عينيا وبالجملة،
بوضع حد لأسطوانة الحديث عن الإصلاح في البلاد. فاختتمت
زيارة ولي العهد لفرنسا والولايات المتحدة بأقوى صفعة توجه للحكومتين الفرنسية
والأمريكية منذ زيارة الرئيس التونسي بن علي لواشنطن: هذه هي الديمقراطية التي
يبشرنا بها المحافظون الجدد: فساد وعنف وطائفية في العراق، فساد وقمع ومحاربة
للإصلاح في السعودية.. شراء للمواقف بالعقود النفطية،
وبطاقات حسن سلوك ديمقراطية حسب الطلب لأبعد أنظمة الحكم عن الحريات الأساسية
وحقوق الإنسان.. لم ينصّب الرئيس الفرنسي جاك شيراك نفسه في يوم من الأيام داعية
للديمقراطية، لذا لم ينبث ببنت شفه عن أوضاع السجون والمعتقلات وحقوق الناس في
مملكة الترهيب بدون ترغيب أثناء استقباله الأمير السعودي، مكتفيا بحصة بلاده في
عقود ثروة يحرم منها معظم أبناء بلد نفطي الفقر فيه ظاهرة أصبحت معروفة. أما ساكن
البيت الأبيض، فقد كان يحتفل بميلاد دولة إسرائيل ولا
وقت لديه لسماع الأخبار.
إنه الأمن القومي، الأمن القومي الفرنسي الذي يصاب
بالعمى كلما تعلق الأمر بكرامة مواطني حكومة صديقة أو حليفة، بالأحرى نفطية. الأمن
القومي الأمريكي الذي يعرّف الديمقراطية انطلاقا من مصالح كارتلات النفط والسلاح،
بالأحرى ذات العلاقة بهذا المسئول أو ذاك.
ما أجمل هذا الشرق الأوسط الكبير الذي يبشرنا
بديمقراطية بدون ديمقراطيين ويرقص على جثة المواطنة.
أدارت السلطات الأمنية- السياسية السعودية المعركة
بحنكة قصيرة النظر، فبدأت بوسم رواد الإصلاح الدستوري بالمتواطئين مع الإرهاب،
ففشلت في ذلك، حاولت شراء أشخاص ومسئولين في منظمات غير حكومية وبين حكومية، فلم
يحالفها النجاح إلا قليلا، سعت لتحييد الحكومات الأوربية والأمريكية، وظفت إعلامها
لتشويه سمعة أو مقاطعة كل من يقف مع رموز ربيع السعودية.. ثم أطلقت إشاعات عن
إطلاق سراح الإصلاحيين وعدد من معتقلي سجن الحاير لخلق البلبلة في أوساط حملة تتسع
يوما بعد يوم، فليس بالإمكان شراء كل الضمائر وكل الذمم؟ كما أنه ليس بالإمكان
إخراس أنشودة الحرية في أعماق الشرفاء..
لقد تبنى فريق العمل الخاص بالاعتقال التعسفي في الأمم
المتحدة نشطاء الإصلاح وحقوق الإنسان، وكذلك فعلت أكثر من مئة منظمة غير حكومية،
عدة هيئات منحت جوائز تكريم للمعتقلين، أكثر من عشرين ألف نسخة سحبت على الانترنيت
من كتب الإصلاحيين، طبعت اللجنة العربية لحقوق الإنسان أكثر من نتاج يعرف
بالمعتقلين والملاحقين، 58 محام من ثلاثة قارات الأرض تطوعوا للدفاع عن الرواد..
في حين مازالت غونداليسا رايس تحسب كلماتها عندما تتحدث عن السجون السعودية. أليست
المزاجية والانتقائية من حقوق الأمريكان؟؟
ست وسبع وتسع سنوات يريد
التعسف اقتطاعها من عمر الإصلاح في جزيرة العرب،
ست وسبع وتسع سنوات يظن الغباء الأمني أنها قادرة على الخروج من منطق الحياة
وعجلة التاريخ وحتمية التغيير الفعلي.
لقد انتهى عصر العريضة، أي أبسط وسيلة للتعبير السلمي المحدود عن الرأي، اليوم
الصمت هو الوسيلة الأنجع للتغيير، الصمت هو الذل الأجمل لبناء المستقبل، الصمت
مفتاح الفرج.
لقد حكمت
المحكمة على كل محاولات الاعتدال بالرأي والحكمة في المشورة والنهج العقلاني
للخروج من المستنقع بالسجن ست وسبع وتسع سنوات ليترحم الناس على خمس سنوات لخمس دقائق
على الجزيرة كان ضحيتها الشيخ سعيد بن زعير..
ستكمل محطات التلفزة الممولة سعوديا برامجها دون أي
تغيير، وستتحدث عن مآثر طويلي العمر بتياراتهم المحافظة والليبرالية (كذا)، ستتابع
الإدارة الأمريكية تهديداتها لدول الشر، سيرسل الرئيس الفرنسي برسالة شكر لولي العهد
السعودي على زيارته لفرنسا، ويستمر الرئيس بوش بتقديم الشوكولا الملبسة بعلم إسرائيل
لضيوفه العرب والإسرائيليين. ليس من المنتظر أن يقدّم الدكتور صالح الخثلان
احتجاجا على منعه من دخول المحاكمة، وبالطبع لن يتغير وزير الداخلية الذي يخوض
حربا ضروسا على الإرهاب..
رواد الإصلاح لن يكونوا لوحدهم أيضا، لكن المأساة التي
لا اسم لها، تكمن في سؤال بسيط لا يمكن لمنطق السلطة الأعمى أن يبصره: ما هي الحجج
المنطقية التي يمكن لرواد الإصلاح الدستوري السلمي اليوم تقديمها للرد على من يقول
بأن النظام السعودي لا يَصلُح ولا يُصلَح!!!
-----------------------
هيثم مناع مفكر عربي وناشط
حقوقي، المتحدث باسم اللجنة العربية لحقوق الإنسان، له أكثر من ثلاثين مؤلفا منها
"موسوعة الإمعان في حقوق الإنسان" و"مستقبل حقوق الإنسان".