أتيح
لي في زياراتي الأولى إلى تونس أواخر
الثمانينات التعرف على السيدة المحامية
راضية النصراوي، والسيدة النصراوي
كانت قبل ذلك الوقت بسنوات واحدة من سيدات
تونس اللواتي وهبن أنفسهن وحياتهن من أجل
الدفاع عن الحق بمعناه العام، والذي يتضمن
فيما يتضمن الحقوق الأساسية للإنسان، ليس في
بلدها الصغير تونس، وإنما فيما يتصل به من
البلدان العربية، بل وفي كل البلدان التي
تنتهك فيها حقوق الإنسان.
وكان
من الطبيعي في ضوء مهنة
المحاماة
التي اختارتها راضية النصراوي وما نذرت
نفسها للقيام به، إن تخوض مواجهات مع
الأجهزة والمؤسسات التي تنتهك
حقوق الإنسان، وقد اتخذت هذه المواجهات
أشكالا مختلفة، بينها مواجهات قانونية جرت
أمام المحاكم التي تحاكم معتقلي وسجناء
الرأي في تونس، حيث دافعت راضية النصراوي عن
معتقلين وسجناء من كل الاتجاهات الفكرية
والسياسية بمن فيهم معتقلي الاتجاه
الإسلامي، كما كان في
عداد المواجهات التي خاضتها النصراوي
مواجهات سياسية أساسها انتسابها إلى التيار
الديمقراطي التغييري في بلادها، والعمل في
إطار منظماته السياسية والاجتماعية.
والحق
فان راضية النصراوي لم تكن سيدة وحيدة في هذا
النشاط وفي تلك المواجهات، بل تشاركت مع
نساء أخريات من المثقفات ونشيطات المجتمع
ممن شغلتهن قضية الحق في بلادهن وخارجها
بينهن سهام بن سدرين ونزيهة رجيبة وخديجة
الشريف وبشرى بلحاج حميدة وهالة عبد الجواد
وسعيدة العكرمي، شغلهن ما تعانيه تونس وبلاد
العرب الآخرين من انتهاكات فاضحة لحقوق
الإنسان، فدخلن معركة الدفاع عن الحق،
وتشاركن في خوض المواجهات على تنوعها،
وعانين من نتائج هذه المواجهات على نحو ما
كان الاعتقال الذي تعرضت
له
الصحافية سهام بن سدرين قبل عامين بسبب
تعبيرها عن رأيها بصورة علنية.
ومعركة
النساء التونسيات التي تشارك فيها راضية
النصراوي ورفيقاتها من اجل حقوق الإنسان، هي
جزء من معركة التوانسة والعرب برجالهم
ونسائهم من أجل المستقبل، والتي تشمل معالجة
قضايا التنمية الاقتصادية والاجتماعية
مترافقة مع ضرورات القيام بإصلاحات سياسية
تؤدي إلى كسر نهج الاستبداد والهيمنة
والاستئثار بالسلطة من جانب زعيم أو حزب أو
أقلية طبقية أو جهوية أو طائفية، وتضع حداً
لأنظمة الحرمان السياسي العربية الجاري
تطبيقها ضد اتجاهات إيديولوجية وسياسية، لا
يقبلها المستأثرون بالسلطة، وتتطلب الإصلاحات
السياسية إقرار مبدأ التداول على السلطة
وفتح الباب أمام المشاركة العامة في السلطات
المختلفة، وإطلاق حريات سياسية واجتماعية
وإعلامية، تكرس العلنية والشفافية في
الحياة العامة العربية، وتعيد إحياء وإطلاق
طاقات وإمكانات أوسع الفئات الشعبية للخروج
من إسار ما خلفته عقلية وممارسة حكام مرحلة
ما بعد الاستقلال، ومواجهة تحديات المستقبل.
وحيث
أن معركة المستقبل في تونس - وفي محيطها
العربي - بمثل هذا الاتساع وتنوع المجالات
والشمولية، فقد بدا من الطبيعي، أن تشارك
النساء فيها إلى جانب الرجال، وأن تنهض
الجماعات السياسية والهيئات الاجتماعية
ومنظمات المجتمع المدني للمشاركة في هذه
المعركة، حتى وأن اختلفت وتعددت وجهات نظرها
في القضايا والموضوعات المطروحة، وهي أمور
دفعت إلى تنوع أشكال العمل، وكان في عدادها
عمل الأحزاب والجماعات السياسية، التي
اختارت أغلبيتها العمل العلني بما فيها
أحزاب عملت في السر سنوات طويلة، وجددت
منظمات اجتماعية هياكلها ونشاطاتها
الجماهيرية، وتقدمت الرابطة التونسية لحقوق
الإنسان للمساهمة بدورها لمعالجة
الانتهاكات والخروقات الواقعة على حقوق
الإنسان، وكانت تلك مناسبات لبروز أسماء
لمثقفين ونشطاء المجتمع أمثال منصف
المرزوقي وسهام بن سدرين وراضية النصراوي.
وبدل
أن تدرس السلطات طبيعة التطورات
والاحتياجات، وتأخذها بعين الاعتبار وتعيد
بناء سياساتها الوطنية على أسس جديدة، أعادت
تأكيد نهجها الثابت في تكريس مسؤولية أجهزة
ومؤسسات الدولة الأمنية بمتابعة عمل
الجماعات السياسية والهيئات الاجتماعية
ومنظمات المجتمع المدني باعتبارها قضايا
أمنية، لا نشاطات سياسة وطنية، مما ساهم في
استمرار سياسة الاستبداد من خلال
الاعتقالات والملاحقات والأحكام الجائرة
التي تصدرها المحاكم، وهي سياسة تكشف
التناقض القائم بين الشعارات المعلنة
والسياسات المعمول بها.
ويؤدي
هذا التناقض الفاضح بين الشعارات المعلنة
والسياسات المعمول بها إلى استمرار الصراع بأشكال
مختلفة بين
المجتمع بقواه السياسية والاجتماعية من جهة
والسلطة الحاكمة من جهة أخرى، كما يؤدي إلى
أنماط من الاحتجاج السلمي، مثل حالات
الإضراب عن الطعام على نحو ما ذهبت إليه
السيدة النصراوي في اعتراضها على استمرار
حبس زوجها حمه الهمامي المناضل السياسي
والناطق بلسان حزب العمال الشيوعي التونسي
المعارض الذي صدر بحقه
حكم قضائي بالاعتقال لمدة ثلاث سنوات بعد أن
قرر الخروج من إطار السرية إلى العلنية، وهي
في إضرابها تطالب بالإفراج عنه بعد أن فشلت
الأساليب الأخرى بما فيها الأسلوب القانوني
في الإفراج عنه.
ورغم
أن إضراب راضية النصراوي عن الطعام من اجل
الإفراج عن زوجها، يبدو في ظاهره "قضية
شخصية" إلا انه بالمعنى الدقيق
والموضوعي، يمثل قضية عامة، بما عرف عن
السيدة النصراوي من مواقف وممارسات،
وباعتبار أن حمه الهمامي شخصية سياسية
معروفة بنشاطها ومواقفها لأكثر من ربع قرن
مضى.
لقد
دخلت السيدة النصراوي أسبوعاً رابعاً من
الإضراب عن الطعام وسط تصميم على الاستمرار
حتى الاستجابة لمطلبها في إطلاق سراح زوجها
رغم ضغوط الأطباء والأصدقاء، وحاجة أطفالها
الثلاثة إليها والى أب يمنعه عنهم الاعتقال
السياسي، وهي في ذلك تواجه خطر الموت الذي
مضت على طريقه سعيدة المنبهي في أحد السجون
المغربية،
أول سيدة عربية قضت
في إضراب عن الطعام في سعيها من أجل الحق.
-----------------
بضغط
من الأصدقاء قبلت راضية مبدأ الوقف المؤقت
لإضرابها حرصا على صحتها وباعتبار أن
إضرابها قد نجح في التعريف بقضية زوجها وملف
الاعتقال التعسفي في تونس بشكل أفضل.
بقي
واجبنا أن نتابع التعبئة من أجل خروج حمه
الهمامي والمعتقلين السياسيين في تونس
والعالم العربي.