راضية
النصراوي: لم يبق سوى الموت للدفاع عن الحق
في الحياة والحرية
فيوليت
داغر، منصف المرزوقي، هيثم مناع
تدخل
راضية النصراوي، محامية قضايا حقوق الإنسان
في تونس والوطن العربي منذ ربع قرن، في
الأسبوع الثالث من إضراب جوع انطلق للمطالبة
بإطلاق سراح زوجها حمة الهمامي الناطق باسم
حزب العمال الشيوعي التونسي والمحكوم عليه
بالسجن ثلاث سنوات. فهي صممت العزم على المضي
إلى آخر الشوط رغم كل
الضغوطات التي مورست عليها من قبل الأطباء
وأصدقائها.
لكن
هناك
مؤشرات طبية تدلّ على أنها دخلت مرحلة الخطر
وربما تواجه
مصير سعيدة المنبهي،
أول
امرأة عربية قضت في إضراب جوع (في السجون
المغربية عام 1977).
في
زحمة الآلام والمصائب التي تعيشها الأمة
العربية، قد يرى البعض في هذا الحدث قضية غير
مركزية بالمقارنة مع "سّلم الأولويات"
وقائمة القتلى والمعتقلين التي تردنا
أخبارها من وراء جدران الاحتلال المطبق على
شعب فلسطين. لكن ما هذه الصدفة التي تجعل
أصدقاء شعب فلسطين يعتقلون في سورية ومصر
وتونس وموريتانيا والعربية السعودية وغيرها
ويحرمون من التعبير عن رأيهم في كل البلدان
العربية؟ هل من الممكن، وجيش شارون-بيريز-موفاز
واليعيزر يحطم ما تبقى من البنية الوجودية
للشعب الفلسطيني، أن نفصل قضية الفرد عن
الحقوق الجماعية وكرامة الفرد عن تحرر الوطن
؟ هل يمكن بعد اليوم فصل الاستقلال الأول
للوطن عن الاستقلال الثاني للإنسان؟
في
إضراب راضية النصراوي من المعاني والعظات ما
يتجاوز حجم قضية بهتت ملامحها في زحمة
الأحداث كما يبهت
نور
الشمعة أمام شمس الظهيرة. لو تمعنا في
الأبعاد المختلفة للقضية لاكتشفنا في
البداية غرابة وقوعها في بلد يتشدّق نظامه
بأنه حرّر المرأة وأعطاها كل حقوقها بل وجعل
من ادعائه بالسهر على هذه الحقوق إحدى أهم
تبريرات القمع ضدّ القوى "الظلامية"
التي تهدّدها حسب زعمه.
قد
يكون حقد النظام المتواصل منذ أكثر من عقدين
على راضية ومثقفات مثل سهام بن سدرين ونزيهة
رجيبة –الشهيرة بأم زياد- وخديجة الشريف
وبشرى بلحاج حميدة وهالة عبد الجواد وسعيدة
العكرمي الخ, ناجم عن تجاوزهن المحظور
وتهشيمهن للصورة المنمقة التي يحاول النظام
البوليسي تسويقها عن دوره كالدرع الأمين
والصدر الحنون للمرأة المستهدفة من قبل "البعبع
الإسلامي".
إن
موقف هذا التيار النسوي، الذي تشكل راضية
النصراوي رمزا من أبرز رموزه، بالغ الخطورة
على الدعاية والايديولوجيا للدولة
الاستبدادية، لأنه ينسف من الأساس شرعية
الوصاية التي تريد فرضها على المرأة. ولو
تأملنا مقومات هذا الخطاب النسوي الجديد
لاكتشفنا أنه ينطلق من قناعات ثلاث:
1-المرأة
لا تختزل في جسد وقضايا إرث وأحوال شخصية.
فهي قبل كل شيء مواطنة معنية بهموم الوطن من
استشراء فساد وغياب حريات.
2-
إن التوظيف التسلطي لمنجزات حققتها المرأة
في أي بلد يشكل خطرا على المرأة وحقوقها. لأن
الاستعمال الصوري للشعارات مفرغة من مبناها
ومعناها ومن الروح الديمقراطية التي وحدها
تحمي أي حق في الوعي الجمعي. هذا الاستعمال
يشيع داخل المجتمع روحا عدائية ضد المرأة
وضد التوظيف القمعي لقضيتها.
3-لا
يمكن فصل حرية المرأة عن حرية الرجل لأن هناك
تسلسل طبيعي في الانتهاكات: كأن يذلّ الرجل
رجلا أضعف منه فيردّ الرجل الفعل بإذلال
المرأة التي تردّ الفعل بقمع الطفل الذي يرد
الفعل بشيء آخر وهكذا دواليك. ولا مجال لكسر
سلسلة القمع والإذلال إلا بضرب انطلاق
المفاعلة إي إذلال الرجل الحاكم للرجل
المحكوم، وهذا أمر لا يكون إلا في ظل تمتع
الجميع بالحرية والمساواة. هكذا ينقلب السحر
على الساحر لأن المرأة التي تمثلها راضية
النصراوي ليست في حرب مع الرجل وإنما في حلف
متين معه ضد كل أصناف الدكتاتورية التي
تمتهن كرامة الإنسان ذكرا أو أنثى.
لا
غرابة أن تنوب راضية -المرأة اليسارية
المعروفة عند معظم مساجين الرأي الذين
تتابعوا أمام محاكم الدكتاتورية منذ ربع
قرن، وأغلبهم من الرجال الإسلاميين- وأن
يفضل هؤلاء الالتجاء إليها على الالتجاء إلى
محامين من الرجال. هكذا قلبت راضية الطاولة
على استراتيجية السلطة الخبيثة عندما قلبت
المعادلة القديمة التي كانت تجعل من تمتع
المرأة بهذا الحق الشخصي أو ذاك حدث يجري على
حساب الرجل، وعندما جمعت في ملف واحد قضية
تحرير المرأة مما تتعرض له من اضطهاد كامرأة
بتحرير الإنسان ككل من إذلال الدكتاتورية.
ثمة
دلالة ثانية لهذا الإضراب:
إن
راضية النصراوي مناضلة من النوع الصلب الذي
لا يكسر له شوكة بسهولة وقد عاشت منذ تنصب
الدولة البوليسية اضطهادا متواصلا يندى له
الجبين في أشكاله وانحطاطه. كل ذلك تم في ظلّ
تواصل اعتقال أو اختفاء زوجها.
ثم
أن الإضراب يكتسب صبغة خاصة عندما يأتي من
امرأة لا تلين قناتها أمام الشدائد. إنه يدلّ
على حالة الإحباط العامة أمام قمع متواصل
منذ أكثر من عشر سنوات لا سبب له أو مبرّر سوى
إرهاب الشعب. الإحباط
من رؤية الوطن يختزل إلى مواقف حاقدة من حاكم
يخشى على نفسه من كل روح أبية في المجتمع.
إنه
ليس
أول أو آخر إضراب جوع في تونس. فقد أصبحت هذه
الظاهرة آخر شكل احتجاج سلمي ضد النسيان
والاحتقان والامتهان لأبناء السجون
والمجتمع المدني المسجون في وجه نظام لم
يترك للصلح مجالا مع أحد.
إن
قيام الأنظمة الدكتاتورية وتواصلها كارثة
على كل الشعوب لا لأنها تدمر المؤسسات
والقيم واللغة والاقتصاد فحسب، وإنما
لتكلفتها الباهظة النفسية والاجتماعية.
إن
آلام راضية وبناتها الثلاث نادية واسيمة
وسارة -التي لم تتجاوز سنتها الثالثة- وهن
يشاهدن أمهن تقارع الموت وأبوهن مرمياً في
السجن، جزء من آلام شعب تعرّض مئات الآلاف من
أبنائه وبناته للتعذيب
والترهيب والاضطهاد والإذلال في ظل سلطة
انحسر رأسمالها في الفساد والاستبداد.
دخل
وزير الداخلية السابق القلال إحدى المشافي
الأوربية باعتباره "شخصية هامة جدا"،
وخرج منها فارا من الباب الخلفي خوفا من
المحاكمة.. هذا المشهد لم يكن الأول ولن يكون
الأخير، وفي حلم العدالة كما في يوم الحساب،
ليس هناك من صغير أو كبير أو شخصية هامة فوق
العدالة. فهناك مسؤول عما يمكن أن يصيب راضية
النصراوي وسيقاضى عن مسئوليته عاجلا أو آجلا.