استفتاء لاقانوني ولاشرعي

الاستاذ عبد الوهاب معطر

 

ابتداءا من صباح يوم 27 ماي الجاري سيطلع علينا أساطين نظام الحكم في زهو وخيلاء ترافقهم جوقـة الاعلام الرسمي لتملأ الدنيا بطوفان آيات الإكبار والإفتخار بشعب مخلص لقيادته البارة فقال لها في استفتاء شعبي جدا وديمقراطي جدا وشفاف جدا . استفتاء كرس بحق سيادة الشعب ومبادئ الجمهورية . أن "نعم للإصلاح الدستوري الجوهري " . وهو ما يفرض على هؤلاء أصحاب النفوس المريضة المصطادين في الماء العكر أن يخرسوا ويكمموا أفواههم . فالشعب العظيم قال كلمته لصالح القيادة العظيمة . ! !

وستتوالى هذه الأنشودة وستملأ البلاد وستشغل المواطنين لمدة طويلة . فالانجاز عظيم عظيم والكسب منقطع النظير فهو يضاهي بل هو يمثل في حقيقته الفصل الثاني من التحول المبارك ... إنه 7 نوفمبر رقم 2 .

ولأن شعبنا بما فيه حتى هؤلاء النساء والرجال العاديين المنضوين في شعب حزب الحكم ولجان أحيائه وسائر هيئاته القاعدية اصبح لايعير أي اهتمام لطنين الجوقة الاعلامية المكلفة بمهمة مغالطته وتدويخه . فإن هذه الجوقة وأسيادها وكذا أساطين الحكم وكوادره ونخبة الموالين له هم أعجز ما يكونوا عن التملص من المسؤولية التاريخية العالقة بهم بشأن هذا الاستفتاء بوصفه إجراء سياسي من الدرجة الاولى مورس لأول مرة في تونس بالمباغتة والتمويه والمغالطة لتزوير إرادة الشعب والاضرار به فكان بذلك استفتاء يفتقد الى الشرعية السياسية Légitimité politique في مضمونه كافتقاده للمشروعية القانونية légalité في شكله .

أولا : انعدام الشرعية السياسية لإستفتاء 26 ماي 2002 :

الشرعية السياسية هي أن يكون التدبير الذي يقرره الحاكم يتناغم بانسجام ان لم يتطابق مع مقتضيات مصلحة المحكومين وطموحات أوسع الجماهير .

وعليه فسيتصدى لنا من يقول أن خير دليل على توفر الشرعية السياسية لاستفتاء 26 ماي 2002 أنه وقع عرضه على الشعب فوافق على مضمونه بكثافة كبيرة مما يبرهن على تماشيه مع مصلحته اذ لا يعقل أن يوافق شعب ما على امر مخالف لمصلحته .

الا ان مثل هذا الاعتراض يتجاهل أهمية المناخ ودور الملابسات الخاصة في امكانية إفراغ أي استفتاء شعبي من محتواه ليصبح اداة تزوير بل تحويله من تقنية لممارسة الديمقراطية الى رافد إسناد للإستبداد والديكتاتورية ..وهذا هو بالضبط ما وقع في بلادنا بشان اول استفتاء شعبي اقدمت عليه السلطة.

فبقطع النظر عن سير عمليات الاستفتاء وما قد يشوبها من تجاوزات قد تصل الى حد تزوير النتائج فإن عدم شرعية هذا الاستفتاء لا تتأتى من هذا الجانب فقط بل انها تنبع من امرين اثنين آخرين أولهما تعارض مضمون الاصلاح الدستوري موضوع الاستفتاء مع المصالح العليا للبلاد وثانيهما ركون السلطة الى مغالطة الشعب وحجب الحقائق عنه لمنعه من الوقوف على حقيقة ما وقع استفتاؤه فيه .

1- تعارض مضمون الاصلاح الدستوري مع مصلحة البلاد العليا : سبق لنا في مقالين سابقين (1) ان ابرزنا ان جميع ما تضمنه "الاصلاح الدستوري الجوهري" سيء الذكر يعتبر كارثة دستورية ونكوص سياسي على الاعقاب (2) . وبهذا المعنى فهو يقف على طرفي نقيض مع حاجة البلاد في الوقت الراهن الى الإجراءات الكفيلة بإخراجها من عنق الزجاجة الذي أوصلها اليه تدريجيا نظام الحكم النوفمبري .

إلا أن ما نود التشديد عليه هنا هو ان هذا الاصلاح الدستوري الجوهري الفاقد لأية صلة مع مصالح البلاد والعباد هو عمل يستجيب في جميع مفرداته الى رغبات الرئيس الحالي كاستجابته في ذات الوقت الى الطموحات الحزبية الضيقة لحزب الحكم ( التجمع الدستوري الديمقراطي ) وهو بذلك نموذج متخلف لتطويع الدستور للنزوات الظرفية والفردية والفئوية .

ان دستور أي بلاد هو قانونها الاساسي الاعلى وهو المعبر عن ضميرها الجمعي في أعلى تعبيراته السياسية وفي أوسع تركيبته الجماهيرية . ومن ثمة فإن عملية وضعه و تنقيحه وتأويله تكون موسومة بهذا الطابع الجمعي الواسع المتعالي عن مصالح أفراد الحكام والأحزاب وإلا فإن الدستور يفقد صفته تلك وكنهه ذاك وبدل ان يكون أداة لحماية الحرية ومنع الاستبداد يتحول إلى سلاح في يد الطغمة الحاكمة يسهل لها القمع وتشرع به العدوان . وفي هذا الاطار بالتحديد يندرج الاصلاح الدستوري موضوع الاستفتاء .

فلأن الرئيس الحالي قد استنفذ دورات ترشحه ويشتهي البقاء في السلطة فانه لا مندوحة عليه من نكث العهد الذي قطعه على نفسه يوم تربع على السلطة فقام بتغيير الدستور بما يضمن له البقاء في الرئاسة حتى يبلغ الشيخوخة (3) وهو إذ يقدم على ذلك فدون أدنى اكتراث بما سبق ان التاعت منه البلاد جراء الرئاسة مدى الحياة وشيخوخة رئيس الدولة السابق ودون استحضار ما يفرضه عليه واجب الامانة من الوفاء بالعهد (4) .

ولان رئيس الدولة الحالي يخشى غوائل الايام ويريد تأمين نفسه من كوالحها فلا ضير له من تغيير الدستور للإستئثار بحصانة قضائية لخاصة نفسه (5) وهو إذ يفعل ذلك فتكريس منه لما يلهج به دائما من السعي الى الامتياز والتالق .

ولان الرئيس الحالي لا يقر له قرار ولا يطمئن في قرطاج الا إذا كان قادرا على التحكم في كل شاردة والتوقي من شر كل واردة فإنه لا بد له من تغيير الدستور بما يكفل له استجماع الدواليب المفصلية للسلطة بين يديه (6) و بالمقابل اضعاف اجهزة الدولة ذات العلاقة وخصوصا مجلس النواب (7) وهو اذ يتقدم في هذا الاتجاه فبخطى شاسعة لاتلوي علىشيء سوى السعي الى استكمال ادوات الديكتاتورية على الطريقة الأوتوقراطية .

إن الرئيس الحالي إذ يطوع الدستور لأغراضه الخاصة على هذا النحو . وإذ يحول الدستور ويحرفه عن أساس وجوده فانه لم يتساءل لحطة عن مصلحة البلاد والعباد من خلال هذه التنقيحات . وهو لو فعل - وأنى له أن يفعل - لأمكنه تلمس المكامن التي تتموقع فيها رغبات الشعب وطموحاته في هذه المرحلة . وهي بالقطع ليست تلك التي تضمنها "الاصلاح الدستوري " موضوع الاستفتا ء .

ولان تطويع الدستور واعتباره خرقة صالحة لكي تفصل على المقاس غدا في بلادنا قاعدة متاحة وممارسة سهلة فانه لا مانع ايضا من تشريك حزب الحكم في هذه الوليمة الدستورية وتمكينه من نصيبه فيها .

واعمالا لهذه القاعدة وطالما ان التجمع الدستوري الديمقراطي لا يرضى بغير ان يكون في الحكم فإنه لا مجال لعدم الاستجابة لرغباته الخاصة عبر تغيير الدستور وذلك بجعله يتحكم في مآلات الترشح لرئاسة الجمهورية إلى امد بعيد (8) وحتى إذا ما اتيح لأحد اختراق هذا الحاجز فإن حظوظه في الوصول الى المنصب تكاد ان تكون منعدمة جراء انعدام المساواة عند التنافس (9) .

فاين مصلحة البلاد من كل هذا ؟ بالقطع أنه لا وجود لها في مثل هذا التحايل الدستوري الذي لا هدف منه الا خدمة السلطان وغنيمة الحكام على حساب المحكومين.

ولكون الامر كذلك ولان "الاصلاح الدستوري الجوهري " لا شان له بمصلحة الشعب فإنه كان لزاما على السلطة أن تركن في هذا المضمار الى سبل التضليل والمغالطة والتغرير لتمريره.2- الـتغـريـر الـواسـع بـالشـعـب :منذ 07 نوفمبر 2001 تاريخ الاعلان عن "الاصلاح الدستوري الجوهري" تجندت وسائل الاعلام والاجهزة الدعائية والحزبية محتكرة جميع الفضاءات لتقيم الدنيا ولا تقعدها وهي تلهج بمآثر هذا الاصلاح الدستوري "العظيم" الذي سيحقق النقلة النوعية المنشودة لتونس نحو الديمقراطية والتعددية وحقوق الانسان ودولة القانون و الخ...والخ من العبارات الطنانة التي تتعارض بدءا مع ما ركنت اليه السلطة من اساليب وطرائق تشترك فيما بينهما في هدف واحد هو حجب حقيقة عدوانها السافر على الدستور للحيلولة دون تفطن الشعب الى ما دبر له من وراء ستار .

ان الدستور بوصفه القانون الاساسي الناظم للمجتمع السياسي هو شأن عام بامتياز بما يستتبع ذلك من ضرورة التعامل مع أي تنقيح له وفق هذه القاعدة التي تعني افساح المجال لأوسع مكونات المجتمع للمشاركة ليس فقط في رسم ملامحه في مستوى التصور بل وأيضا في مناقشته وتقييمه بعد صياغته .

ولعل السلطة القائمة وشعورا منها بان ما سمته " اصلاح دستوري جوهري" هو شأن خاص بها لايخدم الا مصالحها كما اوضحنا فإنها انفردت به تصورا ووضعا وصياغة وترويجا منعا لتدخل أي كان قد يكشف المستور ويعري العورات ويفسد الأجواء .

وملاحقة لهذه الغاية لجات أجهزة الحكم القائم الى وسائل عديدة نذكر منها :

أ - اعتماد المباغتة والتسرع : ذلك ان "الاصلاح الدستوري الجوهري" لم يتطلب الا ستة أشهر وعشرون يوما فقط ( من 07 نوفمبر 2001 الى 26 ماي 2002 ) من تاريخ وضعه حتىيوم استفتاء الشعب عليه مرورا بمصادقة مجلس النواب . وهذه المدة القصيرة جدا تتناقض كليا مع حجم هذا التنقيح ( نصف فصول الدستور ) وخصوصا مع نوعيته ومجالاته ذات التأثير الكبير على مستقبل البلاد . بل ان هذه المدة تعتبر قياسية من حيث قصرها بالمقارنة مثلا مع التنقيح النوعي السابق للدستور في 08 أفريل 1976 الذي تطلب أكثر من ثلاث سنوات للإستقرار في وضعه النهائي . وإن هذه السرعة القياسية التي مر بها "الاصلاح الدستوري الجوهري" وحرص السلطة القائمة على انهاء النظر فيه بطريقة ماراطونية هو أمر شديد الاتصال بأسلوب المباغتة المتعين انتهاجه ضمانا لتمرير المضامين التي احتواها المشروع.

ب- انعدام الاستشارة الوطنية : فخلافا لجميع التنقيحات النوعية السابقة للدستور لم يحظ "الاصلاح الدستوري الجوهري" على اهميته بأية استشارة وطنية ولم يقع عرضه حتى على الأحزاب الموالية لإبداء الرأي فيه والتعليق عليه وإثرائه كيفما كان الشأن معها في مواضيع أقل أهمية بكثير مثل القانون الانتخابي أو اصلاح التعليم أو المغفور له الميثاق الوطني وغيره . بل ان السلطة القائمة لم تكتف بذلك إذ عمدت الى محاصرة وتكميم جميع الاصوات التي لها بعض التحفظ حول التنقيح او المعارضة له (10) ولا شك ان انتهاج السلطة لهذا المسلك لا غاية منه الا فسح المجال لانفرادها لوحدها للترويج لبضاعتها .

ج - التزوير الاعلامي : إن المتتبع لما أنتجته الجوقة الاعلامية التابعة للسلطة بمناسبة "الاصلاح الدستوري الجوهري" يمكنه الجزم بأنها لم تترك سبيلا الا انتهجته في سبيل تلميع الوجه الملوث لهدا الاصلاح الكادب وستر عوراته وتجميل نتوءاته الملغمة . فاستعملت السلطة المال العام واستغلت جميع وسائل الاعلام . واستثمارا منها لنزاهة العلم وثقة الناس في أهله جندت السلطة ما امكنها من اساتذة الجامعة (الذين لم يتجاوز عددهم اصابع اليد الواحدة) ليقولوا للناس أن "الاصلاح الدستوري الجوهري" هو الخير كله فهو مفتاح الديمقراطية وحقوق الانسان وهو التجسيد الفعلي لسيادة الشعب وهو الضامن للإستقرار والازدهار وانه بدونه سيكون الشر المستطير كله والانحدار والهاوية والمجهول .

ومع الاقرار بانه لا لوم على هؤلاء الدعاة إن تعسفوا على الحقائق وان قلبوا المفاهيم وان وظفوا العلم فان ما يسترعي الانتباه هو سكوت الاعلام وأبواقه وتعمدها اخفاء الجوانب المفصلية "للإصلاح الدستوري الجوهري" على الشعب فهي لم تتعرض مطلقا إلى الحصانة القضائية ولم تنبس بكلمة عن تغيير قواعد التداول ولم تشر الى السلطات المجتمعة بيد رأس السلطة وغيرها من النقاط الكارثية التي تضمنها "الاصلاح الدستوري الجوهري" . وكان هذه المسائل من المحجر الاعلان عنها أو تداولها . وكأن المسموح به فقط هو الحديث عن تلك التنقيحات الثانوية التي يسهل تكييفها وكسر عنقها لإخفاء سلبياتها وإظهارها في حلة زاهية ليست لها أصلا. من شاكلة تعزيز حقوق الانسان وتفعيل ضماناتها ومزيد تجذير الولاء لتونس وتوسيع مجال التمثيل باحداث غرفة ثانية وتطوير العمل الحكومي وتطوير نظام الانتخابات الرئاسية وتوسيع اختصاص المجلس الدستوري الـخ ... (11) .

إن السلطة القائمة بتعمدها صرف أنظار الشعب على المسائل الجوهرية التي تضمنها "الاصلاح الدستوري الجوهري" المزعوم وخصوصا تلك التي كانت الدافع الاول والنهائي له انما تكرس في واقع الحال تزويرا شاملا من شانه الحيلولة دون تمكين أفراد الشعب من معرفة حقيقة ما يجري حوله .

إن الاستفتاء المتعارض مضمونه مع مصالح الشعب المستفتى

إن الاستفتاء الواقع في ظل حجب حقيقته على الشعب .

إن الاستفتاء المجرى في ظل انفراد المستفيد منه بالترويج والدعاية لبضاعته .

إن الاستفتاء المنظم تحت وقع سياط الزمن والمباغتة .

إن مثل هذا الاستفتاء المزمع اجراؤه يوم 26 ماي 2002 بتونس هو استفتاء باطل مسبقا وفاقد أصلا لأية شرعية سياسية بما لايحتاج التوقف على نتائجه طالما كانت نتيجة الاقتراع مجرد اغتصاب للإرادة الشعبية المسلوبة .

إلا أن الأغرب في أمر هذا الاستفتاء هو انه ليس فقط منعدم الشرعية من الناحية السياسية بل انه حتى من الناحية القانونية الشكلية يعتبر باطلا بطلانا مطلقا .

ثانيا : بطلان الاستفتاء من الناحية القانونية :

تمكنت السلطة في زمن قياسي من استكمال جميع الاجراءات السابقة للدعوة الى الاستفتاء فبمجرد مصادقة مجلس نوابها في 02 أفريل 2002 على القانون الدستوري المتعلق بتنقيح بعض احكام من الدستور صدر الامر عـدد 629 لسنة 2002 المؤرخ في 03 أفريل 2002 متعلقا بدعوة الناخبين للاستفتاء في مشروع القانون الدستوري المذكور .

وبالاطلاع على هذا الامر عـدد 629 يتضح انه جاء في مخالفة صريحة وواضحة لاحكام الدستور النافذ حاليا (12) بما يترتب عنه قانونا بطلان الاستفتاء موضوعه تكريسا لمبدأ علوية الدستور وتراتبية القواعد القانونية فقد احتوى هذا الامر على فصول عشرة ثلاثة منها متعلقة بدعوة الناخبين للإستفتاء وتاريخ الاقتراع وتوقيته اما السبعة فصول الاخرى فهي قد خاضت في الحملة التفسيرية وبدايتها ونهايتها ( الفصل 4 ) وفي طريقة مشاركة الاحزاب فيها ( الفصل 5 ) وفي اجراءات الترخيص للأحزاب في التمتع بالحصص الاذاعية والتلفزية ( الفصل 6 ) وفي نوعية الظروف ولون أوراق الاقتراع ( الفصل 7 ) وفي طريقة فرز الاصوات ( الفصل 8 ) وفي مراقبة الاحزاب لعملية الانتخاب ( الفصل 9 ). أي ان هذه الفصول السبعة قد ضبطت جميع اطوار عملية الاستفتاء بدءا من اجراءاته وصولا الى نتائجه كما انها حددت حقوق وواجبات المشاركين فيها كيفما قررتها ورأتها السلطة التقديرية المنفردة لرئيس الجمهورية .

الا انه بالرجوع الى الفصل 47 فقرة ثالثة من الدستور نجدها تنص صراحة حرفيا بما نصه "يضبط القانون الانتخابي صيغ اجراء الاستفتاء والاعلان عن نتائجه" ونفس هذه الاحكام كررتها الفقرة الثالثة من الفصل78 من الدستور وهو ما يدل دلالة صريحة على ان الدستور قد جعل شؤون تنظيم الاستفتاء من مشمولات القانون الانتخابي وحده .

والقانون الانتخابي كما هو حال سائر القواعد القانونية الصادرة في شكل وباسم قانون هو شان من أخص اختصاصات مجلس النواب أي المجلس التشريعي سيما ان الفقرة 7 من الفصل 28 من الدستور أكدت على انه " يتخذ القانون الانتخابي في شكل قانون أساسي " وهو ما يعني أن ضبط صيغ إجراء الاستفتاء والاعلان عن نتائجه هو من الاختصاص المطلق والوحيد لمجلس النواب الذي يتخذه في شكل قانون أساسي وأنه لا شان لأية سلطة أخرى بهذا الموضوع وتحديدا فإن الاوامر الترتيبية العامة التي يصدرها رئيس الجمهورية لا وجه لها ولا اختصاص للخوض في هذه المسألة .

إلا انه على الرغم من صراحة النص الدستوري ووضوحه فإن رئيس الجمهورية قد حل محل مجلس النواب وتولى مكان هذا الأخير ضبط صيغ إجراء استفتاء يوم 26 ماي 2002 والاعلان عن نتائجه وذلك بإصداره للامر عـدد 629 الذي بموجبه سيقع إجراء هذا الاستفتاء .وهو وضع لا يختلف اثنان في مخالفته للدستور وهو ما يجعل الامر عـدد 629 في حكم الباطل من الناحية الدستورية .

وان بطلان الامر عـدد 629 الذي بموجبه وقعت دعوة الناخبين للإستفتاء لا تتأتى فقط من مخالفته للدستور بل انها تتأتى أيضا من خرقه للفصل 135 من المجلة الانتخابية الذي حدد بدقة مناط وموضوع مثل هذه الاوامر قولا بما نصبه : " تقع دعوة الناخبيبن للاستفتاء تطبيقا لأحكام الفصل 2و 47 و 76 من الدستور. ويضبط تاريخ الاستفتاء بالأمر المتعلق بدعوة الناخبين ويتعين ان يلحق بهذا الامر النص أو الموضوع المعروض للإستفتاء " فبموجب الفصل 135 من القانون الانتخابي فان الأمر الترتيبي الذي يصدره رئيس الجمهورية والداعي للإستفتاء تنحصر مهمته في تلكم الدعوة وفي ضبط التاريخ وفي نشر النص والموضوع المعروض على الاستفتاء فقط . مثله في ذلك مثل الاوامر الأخرى المتعلقة بالدعوة الى الإنتخابات التشريعية أو الرئاسية أو البلدية التي لا يجوز لها الدخول في ضبط مدة الحملة الإنتخابية أو في طريقة مشاركة الأحزاب أو اجراءات تمتعها بالحصص التلفزية أو كيفية سير الاقتراع أو فرز الأصوات مثلما انتهجه الأمر عـدد 629 المتعلق باستفتاء 26 ماي 2002 ضرورة أن مثل هذه المسائل ونظرا لأهميتها وتأثيرها على العملية الانتخابية برمتها قد اسندها الدستور الى مجلس النواب بالذكر وحجبها عن السلطة الترتيبية العامة لرئيس الجمهورية . وإعمالا لذلك احتوت المجلة الانتخابية على تفاصيل ضافية في خصوص سير العملية الانتخابية واقتصرت الأوامر الصادرة بمناسبة الانتخابات المختلفة على الدعوى وتحديد التاريخ والتوقيت أي على المسائل العملية لاغير .

والواقع انه بالرجوع الى المجلة الانتخابية نلاحظ أن العنوان الخامس الخاص بالاستفتاء لا يحتوي في فصوله الخمسة على مثل ما احتوته العناوين الاخرى من تفاصيل تتعلق بضبط سير واجراءات وصيغ الانتخابات . اذ بقيت الاحكام المتعلقة بالاستفتاء تشكو من نقص شديد لا يمكن معه عمليا تصور اجراء أي استفتاء دون تجاوز هذا النقص بإضافة فصول جديدة للعنوان الخامس للمجلة الانتخابية .

لكن يظهر ان السلطة القائمة كانت في هذا المجال حبيسة اختياراتها اذ انها ولفرط حرصها على تنفيذ ما انتوته من تعجل ومباغتة في إجراء الاستفتاء تراءى لها القفز على احكام الدستور وعلى أحكام القانون الانتخابي وأصدرت الامر عـدد 629 الذي سيؤرخ له على كونه كان غير دستوري وباطل وأن الاستفتاء المنظم على أساسه هو استفتاء باطل وفاقد للمشروعية القانونية الصرفة فضلا عن افتقاده للشرعية السياسية ومن ثمة فإن كل ما سيترتب عنه يكون باطلا بالضرورة وفاقدا للشرعية .

الاســـتــاذ عــبـــد الـــوهــــاب مـعــطــــر

أستاذ جامعي / مـحام صفاقـس في 08 مـاي 2002