مصر :
التمويل
الحكومي وسمعة المنظمات غير الحكومية..
في
مصر ضجة كبيرة هذه الأيام حول موضوع التمويل الأجنبي الحكومي، هذه الضجة افتعلتها
السفارة الأمريكية أولا بتدخلها المباشر بقرارها المساعدة المالية الكبيرة لمن
ترضى عليه من المنظمات غير الحكومية. الأمر الذي أخاف الحكومة من قطب "شلبي" في
المجتمع المدني والسياسي المصري تستخدمه الإدارة الأمريكية كورقة ضغط لابتزاز
متصاعد لحكومات "الثقب الأسود" التي اغتالت المواطن واستباحت في غيابه
بمساوماتها الوطن. ولكن
مصدر الخطر ليس من توظيف الحكومة للموضوع، وإنما في الهجوم العام من قوى اجتماعية
وسياسية دينية وعلمانية ضد هذا التمويل.
إننا
في اللجنة العربية لحقوق الإنسان لا نهادن ولا نقبل بالمساومة في قضية التمويل
الحكومي الخارجي من أي دولة جاء، ونعتبره وسيلة تحطيم وتشويه للخارطة الحقيقية
للمنظمات غير الحكومية التي تكتسب شرعيتها من شعبها ومواقفها وشبكة علاقاتها
العربية والدولية والتعاون في الفضاء غير الحكومي. لا من بالون المساعدات الأمريكية. والمثل
العراقي في هذا التشويه واضح حيث تحولت وزارة حقوق الإنسان إلى ما يسميه الناس
"وزارة حقوق الأمريكان". ولكننا نعتبر الحكومة
المصرية المسئولة الأول عن الجنوح الرخيص لأشباه المناضلين إلى المساعدات الحكومية
الأجنبية. فهي تمنع التبرعات والمساعدات داخل مصر وتحظر العمل الدعاوي والتعبوي
الضروري لنجاح المنظمة غير الحكومية وتحول دون إيجاد موارد مالية محلية، وتفرض
قانونا قرون وسطيا على المجتمع المصري الذي عرف هذه الظاهرة البناءة منذ بداية
القرن التاسع عشر واغتنى بها. وتحاصر كل من يخرج عن بيت التدجين
والطاعة، دافعة بعدد من المنظمات للاستقواء بالخارج.
إن
قمع السلطة للمجتمع المدني لا يعطي المبرر لأحد للاستنجاد بأسوأ إدارة أمريكية منذ
المكارثية، ولا بغيرها. ومن الضروري لنا كأعمدة أساسية
لبناء المجتمع المدني في العالم العربي أن نشجب موقف الحكومة وموقف بعض المنظمات
الباحثة عن المال أكثر منه عن النضال.
ننشر
في هذا الموضوع مداخلة المحامي جمال عبد العزيز عيد حول الموضوع لأهميتها في
النقاش الدائر في مصر
عن
المجتمع المدني والتمويل و سراندو
بقلم
: جمال عبد العزيز عيد
المدير التنفيذي للشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان
في خضم حالة من الحراك السياسي والشعبي تهدف إلى تعديلات حقيقية وإصلاحات
ديمقراطية ، تستعيد جزء من الحريات العامة والمدنية التي أهدر أغلبها في الربع قرن
الأخير .
لم تجد الحكومة المصرية مخرجا لها يجنبها مزيد من الرفض لمناخ الاستبداد الذي فرضه
جهاز البوليس التابع لها ، سوى اللجوء إلى ما تظنه
"عصا موسى " لتشغل الشارع المصري عن استمرار مطالبته ونضاله من أجل
المطالب الديمقراطية ، بافتعال ضجة جديدة حول التمويل ، أبطالها هذه المرة بعض
المؤسسات التي أعلنت قبولها لتمويل قادم من السفارة الأمريكية بالقاهرة .
وعلى الرغم من رفض أغلب المؤسسات الحقوقية في مصر لمبدأ قبول التمويل من أي جهات
حكومية لاسيما من الحكومة الأمريكية التي تتعاطى مع قضية حقوق الإنسان بمعايير مزدوجة ، بل ورغم أن بعض هذه المؤسسات التي قبلت بالتعاون مع
السفارة الأمريكية قد بدأت تراجع موقفها . إلا أن الحملة الجديدة التي يبدو أنها
معدة جيدة هذه المرة ، راحت تستخدم أدوات جديدة وتطرق
ميادين لم يعهدها الجمهور المصري مثل الاتهامات
بالعمالة والتحريض عبر ساحات المساجد ضد مؤسسات المجتمع المدني وفي القلب منه
مؤسسات حقوق الإنسان .
وكعادة الحكومة المصرية في التعامل مع القضايا التي تثير حفيظتها، كان الحل
البوليسي المدعم ببعض وسائل الإعلام الممالئة لها هو الأسهل والعملي بالنسبة لها ، فراحت بعض الأقلام التي ترغب في كسب ود حكومة بوليسية
تكيل الاتهامات وتفسح لها مساحات واسعة جعلت بعض الكتاب من المخلصين لهذا الوطن
يدلون بدلوهم في قضية التمويل ، مما كان يهدد بجعل القضية الكبرى لشعب مصر والخاصة
بالتخلص من الفساد والقهر الحكومي تتواري في الظل ، ليصبح بعض المال القادم من
السفارة الأمريكية هو الخطر الأكبر والعدو الرئيسي لنا.
إلا أن الحملة الزائفة وهي تكاد توشك على التلاشي ، كشفت
أكثر عن الرغبة المستميتة لجهاز بوليسي يحكم مصر في إبقاء الحال على ما هو عليه من
فساد واستبداد ، في عالم ليس من بقاء فيه سوى لمن يقبل بقيم الديمقراطية وقبول
إرادة الشعوب واحترام حقوقه .
وعلى الرغم من أن الموقف الذي يتخذه كاتب هذه السطور ضمن العشرات من المؤسسات
الحقوقية في مصر ، رافض للتمويل الحكومي وبخاصة الحكومة
الأمريكية ، إلا أننا نرى أن الخطر الحقيقي على أمن مصر ، ليس في مبلغ من المال
قادم من هذه الجهة أو تلك ، بل أن الخطر الحقيقي هو في استمرار منهج التعذيب
الوحشي الذي يمارس ضد قطاعات واسعة من الشعب المصري ، سواء في العريش أو سراندو أو أقسام الشرطة وغيرها .
الخطر الحقيقي هو معاقبة المجتمع المدني على كشفه لفظائع البوليس السياسي المسمى
بـ " أمن الدولة " في العريش وتلفيقه القضايا
للنشطاء السياسيين وتعذيبهم بدءا من الصيدلي جمال عبد
الفتاح مرورا بالطالب رامز جهاد ، وصولا للدكتور أيمن
نور .
الخطر الحقيقي هو في استمرار حالة الطوارئ البغيضة عشرات السنين وتزوير الانتخابات
كلها ، بدءا من انتخابات اتحادات الطلبة حتى انتخابات
مجلس الشعب .
نعم التمويل القادم من حكومات خطرا ، لكنه لا يضاهي
التمويل الخفي من حكومات عربية مستبدة سواء من العراق او
ليبيا أو غيرها يستخدم لصناعة رأى عام زائف حول قضايا زائفة ، ويبتعد بالجمهور عن
قضاياه الرئيسية من إصلاحات دستورية حقيقية ومطالب ديمقراطية ، بعيدا عن القمع
والفساد المتفشي في كل ربوع مصر .
المجتمع المدني ليس مجتمعا من الملائكة وليس منزه عن الأخطاء ،
بل أن الكثير من المآخذ تحسب عليه ، لكن هذا المجتمع المدني هو الذي سلط الضوء على
الفظائع التي ترتكب يوميا في مقار مباحث أمن الدولة ، وعلى العقاب الجماعي لمدينة
العريش وعلى تحالف الفساد القمع في سراندو وهو المدافع
عن حقوق العمال المعرضين للتشرد ، المجتمع المدني ليس متورطا في تطبيع خفي أو
مكشوف كبعض الرافعين لشعار الوطن ويروجون لرحلات سياحية إلى تل أبيب ! المجتمع المدني
ليس متورطا في التعذيب ، ثم يدعي الدفاع عن حقوق الإنسان
.
نعم ننتقد بعض ممارسات المجتمع المدني ونحن جزء منه ،
ونقبل النقد والحوار ، لكن أحرى بهذه الحكومة ومؤسساتها أن تقدم النموذج على
احترام إرادة الشعب ، بدلا من قمعه وحرمانه من أبسط حقوقه ، وجعل وزرائها وضباطها
طبقة أعلى من باقي الشعب .
حين يعاقب وزير الداخلية ضباطه الملوثة أيديهم بالتعذيب ولا يحميهم يمكن أن نتفهم
نقده ونحاوره .
حين يحكم مجلس الشعب لصالح الشعب المصري وليس لصالح من زور الانتخابات له ، يمكن أن نتفهم نقده ونحاوره.
حين يتوقف بعض الصحفيين عن التطبيع المستتر وتزييف الحقائق وممالئة الحكم الاستبدادي ، يمكن أن نتفهم نقدهم ونحاورهم .
حين يعلن بعض المتشنجين عن مصادر تمويلهم العربي يمكن أن نقبل ونقدهم وحوارهم .
حين يعلن المجلس القومي استقالته احتجاجا عن استمرار حالة الطوارئ وتعذيب البسطاء
في العريش وسراندو ، يمكن أن نقبل نقده ونحاوره .
حين يكف ترزية القوانين عن تفصيل قوانين لصالح أفراد
بعينهم ن يمكن أن نتفهم نقدهم ونحاورهم .
حتى هذا الحين فليس من حق هؤلاء النقد والحوار ، وإنما
هذا حق للمواطن المصري الذي نحترمه ونعمل معه كتفا بكتف من أجل مصر ، خالية من
التعذيب والفساد والطوارئ وهؤلاء .
فالمواطن المصري هو الأغلبية وهو الأبقى .