الاستقلال الثاني

نحو الدولة العربية الديمقراطية الحديثة

 

منصف المرزوقي

 

 

الاهداء

 

إلى روح نبيل البركاتي وفيصل بركات شهيدي الحرية ونبراسنا في المعركة ضد التعذيب

 


تقديم

                                          د. هيثم مناع

            هل يمكن الحديث عن "الاستقلال الثاني" في عالم تمزقت حدوده بالأقمار الصناعية وألغى أخطبوط  الشركات المتعددة الجنسيات فيه أي معنى جدي للحماية الاقتصادية وأصبحت التشريعات المحلية فيه موضوع مناقشات عامة أو شبه عامة في لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة ، بل أكثر من ذلك، عن الاستقلال الثاني

هذا هو السؤال المشروع الذي يطرحه القارئ على نفسه قبل أني يفتح دفتي الكتاب . ولن تتأخر الإجابة ، فالصديق منصف المروزوقي ينطلق من تشخيص النكبات التي عاشتها الدولة العربية "المستقلة" ووضع هذه الدولة العياني ، أي التبعي ، في الخارطة العالمية اليوم ليحدد بالضبط ما آل إليه مفهوم الاستقلال ضمن معطيات وضعها الداخلي ، أي تركيب سلطات قامت بدون وعلى حساب مجتمعاتـ (ها).

ولكن من المساخر الحديث عن مفهوم قديم للاستقلال أو عن أشكال تقليدية للتحرر الوطني ، فقد انتهى الزمن الذي تعتبر الدولة فيه نفسها الوصي الأوحد على وسائل المعرفة والإعلام في المجتمع الوسائل التقنية الحديثة لمفهوم الرقابة الداخلية ، ولم تعد شرور الاستقلال حبيسة المكان والزمان وقد تجاوزت الكوارث  البيئية أشباه حدود لأشباه دويلات .

إنّ العولمة  Mondialisation تحمل معها كل مآسي  اللبرلة البرية La libéralisation sauvage للاقتصاد ، بكلمة أخرى ، أمركة الاقتصاد  على الصعيد العالمي مع تنصب دكتاتورية الإمبراطوريات الإعلامية والاتساع الهائل للفجوة بين عالم التخمة وعالم الجوع .

وبنفس الوقت ، تسمح الاكتشافات التقنية بإمكانية دمقرطة عالية للمعرفة وضرورة النضال على الصعيد العالمي لإنقاذ البشر ، أفرادا وشعوبا وجماعات  من أشكال الاستعباد الجديدة , إلاّ أن هذا النضال العالمي الضروري ، ويعكس أسواق البورصة المتنصبة من فوق ، لا يمكن أن يكون مجديا إلا إذا انطلق من تحت ، أي من التكوينات الاجتماعية الأصغر. من هنا تنتصب حقوق الإنسان، نظريا على الأقل، بوصفها التعبير الأول للدفاع الذاتي في مواجهة الاستعباد الدولي العالم والاستبداد المحلي الخاص .

لقد كان للاختزال الوطن في الدولة آثاره الكارثية المعروفة ، وأصبحت إعادة الاعتبار للمواطنة ، أي للحق الفردي  والجماعة في المشاركة الكاملة في بناء الحاضر والمستقبل مسرب لا بد للخروج من المستنقع . وما "الاستقلال  الثاني " في تحليل منصف إلا في هذه الصلة الجدلية بين الحقوق والديمقراطية باعتبارها وفق تعريفه ، جزءا من هذه الحقوق، أي في الصلة الجدلية بين الحقوق والحريات السياسية من جهة والحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والمدنية التي تقرها الشرعية الدولية لحقوق الإنسان كضمانة ضرورة للديمقراطية بعلاتها ونقاط ضعفها

فالأسس الديمقراطية للمؤلف تنطلق من تفكيك وإشهار عيوب الأنموذج  المعروف وخصائصه في طموح  الاكتشاف الجماعي لممارسات أرقى. ولكن هل بالإمكان الحديث عن الديمقراطية دون إجراء  عملية تشريح للاستبداد ؟ لقد أصبح من الضروري استكمال محاولة الكواكبي  في نهاية القرن الماضي بدراسات نقدية للتجارب  الاستبدادية في القرن العشرين، الأمر الذي يتطلب تناول أمثلة عيانية . فإن كان فقه استقلال القضاء يشكل المرجع  الأول لدمقرطة السلطة القضائية ، فإن أوجاع الاستبداد تعتبر أول مؤشر لما يجب  شجبه أو على الأقل تجنب فعله واستعراض منصف للتجربة التي عاشها وعانى من مثالبها لا ينقص من عمق وشمولية ملاحظاته، فلا يسعنا إلا أن نقول للقارئ العربي: "حسبك فقط أن تغير الاسم ، أو ليست هذه قصتك أنت

يشكل الانتقال إلى الديمقراطية ، مقوماتها وسياج حمايتها المتجسد في "أول وفاق عالمي على الشروط الدنيا التي لا بد من تواجدها حتى لا تنتهك كرامة الإنسان ، أي حقوق الإنسان " (ص 59 ) ، موضوع السجال النظري والسياسي الرئيسي في الكتاب ، فإن كان من الصعب العثور على شاعر واحد يتغنى بالاستبداد ، فليس من الغريب بتاتا وجود أكثر من عشرين كتاب للنيل من هذه  البدعة الغريبة المسماة بالديمقراطية . وأكثر من ذلك ليس هناك في التصور والتعريف والطريق لهذه الكلمة التي يرفض الشاعر المصري جورج حنين أن تنتج عن أي نص مكتوب ، باعتبارها " أنها لم تكن قد أضحت قبل دخولها  في القوانين المكتوبة أسلوبا وإرادة وجود ، شكلا للأخلاق العامة متجسدة في المسلك الجماعي، فإنّها لا تمثل أكثر من عملية خداع من قبل السلطة " . فللأسف ، تحولت هذه الكلمة إلى مرتع للشعبية السريعة وستارة تغطي التاريخ التسلطي للأفراد والأحزاب والحكومات.

إلا أن هذه الكلمة بكل ما تحمل أو حملت تبقى بالنسبة لمنصف الطبيب كالدواء الذي يحمل العلاج مع التأثيرات الجانبية غير المرغوب فيها. ويعكس عشاق العموميات ، يدخل الكاتب في التعاريف الإجرائية والمؤسساتية بمنهج يذكرنا بالكتابات التي سبقت الثورة الفرنسية ، وشكلت بشكل أو بآخر، منهلها الثقافي ويخاطر بتفاصيل متعددة في استنطاق إيجابي نقدي للنموذج الغربي دون أن ينسى تذكير القارئ  بأن  "لا نبي في العلم يكون خاتم العلماء، ولا فرض لحقيقة ما بمحاكم التنفتيش ولا  تكفير لمن خالف الرأي وشذ عن الجماعة " (ص 23).

وعبر النص ، يكتشف القارئ العربي المؤمن بحقوق الأقليات القومية والديمقراطي المبصر للبعد الاجتماعي للكلمة والمجدد المصرّ على الأهمية الحيوية للممارسة.

ويتركنا الكتاب عطشى عبر تساؤلات عديدة يستحثها فينا ، ولنكتفي هنا بتناول اثنين منها :

الأول ، على صعيد التناول البنيوي لأركان النظام الديمقراطي  الغربي ، وهنا نتوقف عند مفهوم السلطة المضادة  contre pouvoir باعتباره أحد الضمانات الهامة للحريات الأساسية وحقوق الإنسان. فمهما كانت طبيعة الدولة والحكومة ، فان الفضاء غير الحكومي الكامل الاستقلال عن المؤسسات الدولانية شرط واجب الوجوب لضبط ومراقبة هذه المؤسسات تركيبا ووظيفة. فالسلطة بطبيعتها مفسدة ( بفتح وكسر السين كلاهما) ، ولذا صادرت باستمرار ومنذ التجربتين اليونانية والفينيقية  القديمتين  للأنموذج  التمثيلي كلمتي المدنية والشعبية. ومن هنا حرمت قبل اقتراحه مفهوم "المنظمات المدنية الشعبية " من حق الوجود . لقد تلقينا أولى ضربات العصى من بوليس  ينزل من سيارة كتب عليها "الشرطة في خدمة الشعب " وشهدنا أحكام إعدام تصدر عن مجالس "الشعب " والإصرار  على تسمية المنظمات غير الحكومية برأينا موضوع لا يقبل النقاش ، لكي يمنع الاسم نفسه من أي مجال للخلط عند القاصي والداني وهو يملك دلالة تعبيرية وزمانية إضافية خاصة في عصر يخنقنا فيه أخطبوط الدولة الاستبدادية الحديثة ويلوح في آفاقه سيف النموذج التوتاليتاري (الشمولي).

ثاني هذه التساؤلات في العلاقة البنيوية بين المحلي والدولي ، بين القومي والعالمي ، بالمعنيين الإيجابي والسلبي . فقد خلق التضامن بين الديمقراطيين ونشطاء حقوق الإنسان هامشا جديدا للنضال المحلي يتصدى للاستبداد ويعزز الثقة بالتغيير في ظروف محدودية الدينامية الداخلية للمجتمعات ، الأمر الذي أعطى نتائج هامة في انهيار أكثر من أنموذج تسلطي وجمل بالإمكان محاكمة كل تشريع استبدادي محلي من فوق عالم الحدود. ولكن النظام المالي العالمي قائم على السيطرة والمركزة التي توجه رؤوس الأموال تجاه القواعد الاقتصادية الأقوى في عملية دائمة لانتاج التفاوت الاقتصادي  الهائل بين مكونات المجتمع نفسه والمجتمعات البشرية المختلفة. الأمر الذي يتطلب إصلاح النظام النقدي الدولي وفرملة عالمية اللبرلة البرية للاقتصاد. هذا من جهة، ومن جهة ثانية، لم تعط هيمنة الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية وحسب  ميثاق الأمم المتحدة ومواثيق الشرعة الدولية لحقوق الإنسان (ويشكل أساسي  الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد  الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والعهد الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية) وإنّما أيضا المواقف الانتقائية  للدول الكبرى والأشكال المختلفة لمنهجية القوة وعنتريات المسيطر ، فيما يضع مصداقية الأمم  المتحدة على المحك ويضع أيضا وللأسف ، أرقى منتجاتها في قفص مجلس الأمن المصاب بمرض الهيمنة . إن الصراع بين القوة والعدالة على الصعيد الدولي لا يتجزأ عن معركة دمقرطة  المجتمعات ووعي هذه الدمقرطة. وإلا فسنجد أنفسنا ، وفي أحسن الأحوال، أمام جموع راغبة بمبادئ  حقوق الإنسان متعطشة للديمقراطية تفرض عليها ثقافة العنف من هوليود ونهج المعيارين والكيلين من واشنطن وينخفض مستوى معيشتها من بورصة نيويورك وتلقي بها على قمامة السوق العالمية .

حتى اليوم ، حرم غالبية جمهور القراءة في المشرق من إنتاج قلم صريح ونهج ناقد وباحث نزيه نشر معظم إنتاجه في تونس .

إن الرغبة الكامنة عند منصف المرزوقي في نقل حلبة الصراع والحوار الفكريين إلى عالم الحريات والحقوق ، لا يمكن تقديرها إلا بوضع هذا الكتاب على مشرحة التقييم باعتباره مرجعا هاما من مراجع هاجسنا المشترك في وقف عملية تدنيس الوعي .

                       باريس في 16 ماي 1996

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مقدمة

كيف يمكن أن نعيش استقلالنا في زمن عولمة الاقتصاد ؟ كيف يمكن أن تحافظ الدول على استقلالها وهي تقمع مواطنيها  ؟ وإلى أي مدى يمكن لهذا الاستقلال أن يحافظ على فعاليته وحيويته في مواجهة إكراهات عالم اليوم المتزايدة ؟ ثم هل يحمل الاستقلال المعنى نفسه الذي سخر له آباؤنا حياتهم ؟ إنّها أسئلة قلما تطرح لأننا اعتبرنا أن الاستقلال أمر بديهي  ومن تحصيل الحاصل .

إنه لإخفاق مريع بالنسبة لآبائنا  وأجدادنا الذين كان الاستقلال الهدف الرئيسي لنضالاتهم ومنتهى آمالهم في التحرر والكرامة، لقد استطاعوا بفضل تضحياتهم أن يفرضوا تحقيقه ، ليتضح بعد عشرية واحدة من سيادة النخب الوطنية أنه ما زال للنضال بقية ، ,أننا حققنا الجزء الضروري من  معادلة التحرر ، وبقي أن نحقق الجزء الكافي.

لنعرّف الاستقلال  بأنه : قدرة اتخاذ القرار الوطني وتنفيذه ، دون ضغط أو إكراه من قبل أي قوة خارجية. وذلك لتحقيق جملة من المنافع المشروعة للمجموعة الوطنية التي تحتل رقعة معينة من الأرض .

واليوم ، تطرح جملة من الأسئلة الخطيرة حول هذا الاستقلال :

فهل تحققت حقا أحلام أبناء الوطن في التحكم في كل القضايا التي تهمهم ؟ وهل حقا نأخذ قراراتنا دون ضغط  أو إكراه من الخارج ؟ بل وهل لمفهوم الاستقلال من معنى ؟ وهل الاستقلال مشروع قابل أصلا للتحقق ؟

لنتوقف الآن عند وضعية الدولة المعاصرة أيا كان نظامها وموقعها ، وأيا كانت قوتها الداخلية والخارجية .

هي مبدئيا مستقلة ، أي قادرة على اتخاذ قراراتها دون ضغط أو إكراه وفي كل الميادين ، لذلك يكون من العبث الحديث عن السيادة والاستقلال بدون هذه الخاصية .

ماذا الآن عن الواقع المعاش ؟

تشهد اليوم كل دولة " مستقلة" ضغطا متصاعدا على كل صلاحياتها من قبل قوى خارجية لم يعد لأحد قدرة التصدي لها ، لأنها افرازة  الثورة التكنولوجية التي غيرت كل المعطيات القديمة ، وقلبت الأوضاع رأسا على عقب .

لقد قيّدت قدرة الدولة المستقلة بصفة لم يسبق لها مثيل في خمسة مبادين أساسية :

1 ـ أصبح الاحتكار الإعلامي والأيدلوجي للدولة أثرا بعد عين . ولم يعد لها أي قدرة على فرض مصالح ثقافتها ، ولا أيضا ثقافة مصالحها ، يستوي في هذا الفقراء والأغنياء والضعفاء والأقوياء ، ولو بنسب مختلفة. فأمريكا تعاني من الغزو الثقافي كما تعاني منه فرنسا أو زائير .

2 ـ حدّت قوانين التبادل التجاري ، بصفة مهولة ، من قدرة الدولة على اتخاذ القرارات "المستقلة" . وأصبحت الحركة الهوجاء لرساميل ضخمة لا يتحكم فيها أي مركز معلوم ولا منطق عادل ، باستثناء منطق الربح الآني الذي أصبح عاملا من عوامل تهديد اقتصاديات أقوى الدول واستقرارها.

3 ـ قيدت المعاهدات الدولية في كل الميادين قدرة الدول على القرار التشريعي المستقل . وأصبحت ، على سبيل المثال ، منظمات حقوق الإنسان الدولية تتدخل بصفة طبيعية ومتزايدة في تشاريع الدول ، وفي كيفية تطبيقها للمعاهدات ، فارضة على الجميع فكرة ثورية تتمثل في أن المواطن في هذا البلد أو ذاك ليس "ملكا" للدولة تتصرف فيه كما تشاء باسم "السيادة الوطنية" وإنّما هو إنسان عهد إليها بالسهر على حقوقه ، وعليها أن تتحمل مسؤولياتها كاملة في اتجاهه أمام المجموعة الدولية، وأن تحاسب على كل خروقاتها باسم مفهوم أعلى من مفهوم السيادة الوطنية، إنه "التضامن الإنساني " (الذي يتعارض في الحقيقة مع مفهوم السيادة ، كما هو معمول به اليوم ، والمتمثل في : السيادة الحكومية ، أي السيادة الحزبية ، أي السيادة الفردية ).

4 ـ يمكن للدولة "المستقلة " أن تحرس حدودها من دخول المتسللين . لكن من أين لها أن تحرس سماءها من تسلل السحب النووية القادمة من تشرنوبيل ، أو أن تحرس بحرها من التسمم والنفايات الكيماوية وقد ألقيت في البحر.

إن الإشكالية البيئية هي اليوم ن أهم التحديات التي يواجهها استقلال لم تعد تعترف به تماما منظمة كالسلام الأخضر . وبهذا انتفت عن الدولة ليس فقط شرعية التحكم في مواطنيها إلا بشروط ، وإن‍ّما انتفت عنها قدرة التحكم في الأرض نفسها . فحريتها هنا مقيّدة أيضا بجملة من القوانين والقيم التي تستمد شرعيتها من فوق القيم القديمة ومن خارجها.

5 ـ لم يعد اليوم بإمكان أي دولة أن تعتبر أمنها قضية داخلية، فهي إشكالية مشتركة تتداخل فيها العديد من العوامل الخارجية . ومن ثمة ترى الدولة المعاصرة مضطرة للتخلي عن جزء هام من سيادتها في إطار تحالفات ومعاهدات لا قبل لها بتجاوزها أو العيش بدونها.

الثابت اليوم أن "النزيف " الذي تعرفه الدولة في مستوى طاقتها على القرار المستقل وفي هذه الميادين الخمسة هو بصدد التزايد . وأنه من الممكن أن نصل قريبا إلى درجة الصفر فيه بالنسبة لعدد كبير من الدول التي ستقل من جديد  تحت الحماية المقنّعة لأخطبوط اقتصادي ـ سياسي متعدد الوجوه والمراكز.

ما الذي تقدر عليه الدولة المعاصرة في مثل هذه الحال التي يصعب التكهن بانتهائها لأنّها وليدة التطور وليست ظرفا عابرا ؟

إن أقصى ما يمكن تأمينه اليوم ، في إطار عالم وحّدته التكنولوجيا وجزأته الإيديولوجيا ، وبالنسبة لهيكل هو نفسه في تطور دائم وقد يكون إلى زوال ، هو المشاركة في عملية صنع القوانين والمؤسسات والسياسات التي تخلق وتوزع الثروات والتي تتعامل مع المشاكل الهيكلية والظرفية للشعوب والتجمعات القارية والبشرية ككل ، وكذلك القدرة على الوقوف في وجه كل ما ينتج عن هذه السياسات المشتركة من إضرار بالحقوق المشروعة للشعب .

معنى هذا أن استقلال الدولة لم يعد يتمثل في قدرة الاستقلال بالقرار الخاص لفرض المنافع ، وإنّما بقدرة استغلال القرار العام للحصول على أقصى قدر ممكن من المصالح أي القدرة على التفاعل مع الضغط العام المتبادل من موقع : أؤثّر بقدر ما أتأثر ، وآخذ بقدر ما أعطي.

من البديهي أن الدولة القوية وحدها هي القادرة اليوم على مثل هذا التأقلم، وأن درجة استقلالها هي درجة تأثيرها، ومن ثم نفهم أن الاستقلال بالنسبة للدول الضعيفة هو بصفة متزايدة صدفة فارغة.

لا نستغرب أن تكون السلطة الحقيقية لبعض الحكومات العربية والإفريقية في تقرير مصير الشعوب التي تحكمها ، لا تتجاوز سلطة صغار رؤساء البلديات داخل دولها في حل مشاكل منظوريها .

لكن ، من أين تأتي قوة التأثير ، أو درجة الاستقلال .

هي بداهة متعددة الأسباب والشروط ، لكن من أهمها دون جدال : حيوية المجتمعات التي تمثلها، وسخاء عطائها من المادة والقيم والتنظيم والعلوم .

كل هذه الأمور مرتبطة أوثق الارتباط بنظامها السياسي أي بدرجة فعالية النظام وحيويته  وقدرته على إطلاق العنان للقوة الخلاّقة، أي مرتبطة بالنظام الديمقراطي وحده لا غير.

والقاعدة في هذا، أنه بقدر ما ينجح شعب ما في وضع نظام سياسي ناجع ، بقدر ما يوفر قواه التي تضيع هدرا في الصراعات الدموية ، وبقدر ما يستطيع إطلاق العنان للطاقات الخلاقة في كل الميادين ، بقدر ما يكون مستقلا.

لا غرابة أن تكون هذه القاعدة أهم ركائز  أقوى المجتمعات الديمقراطية ، حتى وإن لم تكن كل المجتمعات الديمقراطية  قوية . لأن الديمقراطية هي شرط ضروري ، لكن غير كاف وحده ليستطيع هذا الشعب أو ذاك أن يؤثر بقدر ما يتأثر، أو يعطي بقدر ما يأخذ ، أو تكون له القوة الكافية للتصدي لأي  مظلمة تلحق به.

في المقابل ، تجد دولا تعمق تبعيتها يوما بعد يوم، بسبب غرقها في حرب أهلية صامتة أو صارخة، وعجزها عن استنفار كل قواها الاجتماعية للدخول في شبكة العلاقات الإنسانية العامة بأقصى قدر ممكن من المساواة مع الشعوب الأخرى.

يتماشى هذا العجز الخارجي مع تكبيل هائل لطاقاتها الداخلية ، ومع دفع ثمن رهيب للعنف من أجل إبقاء وضعية تجاوزها الزمان .

أليس من سخرية بالأقدار أن يكون آباؤنا قد ناضلوا من أجل دولة هي اليوم بصدد تعميق تبعيتنا، وإهدار طاقاتنا باعتماد  التنظيم الهرمي الولائي وعجزها عن الدخول في تنظيمات وحدوية هي اليوم إحدى ضروريات الاستقلال الثاني ؟

إن انتظار الوحدة العربية من الأنظمة العربية الحالية كانتظار المطر من سماء لا سحب فيها. فالنظام  المتمحور حول الشخص الواحد والحزب الواحد لا يتصور الوحدة إلا كامتداد لنفوذ هذا الشخص أو الحزب. وهو الأمر الذي يواجهه طموح شبيه وفي اتجاه معاكس . وهكذا تشلّ طبيعة النظام الاستبدادي كل إمكانية للتجمعات الإقليمية الواسعة التي لا تفرضها اللغة والثقافة والتاريخ فحسب ، وإن‍ما أيضا ضرورات المستقبل .

إن أوروبا لم تدخل عملية التوحيد إلا بعد انهيار الأنظمة الفاشية والنازية  واستتباب الديمقراطية ، مما سمح بالتقارب والتوحيد التدريجي بين مختلف دولها. ذلك لأن تداول الأشخاص يلغي عامل الشخصانية، كما أن التنافس السياسي حول شتى البرامج يمكّن المشروع الوحدوي من الظهور وفرض نفسه ، لما يحتوي من منافع بديهية.

لكن ، يتضح اليوم للجميع أن الاستقلال الأول كان استقلال الدولة ولم يكن استقلال الشعب ، وأن استقلال الشعب هو الضامن الأوحد لدخولنا سوق الشبكة العلاقاتية كأطراف مسؤولين ، لا كمتسولين .

            وللاستقلال الثاني طريق واحد لا غير : الديمقراطية .

                                                                 * * *

لا يسع المرء أمام ما يلحق الديمقراطية من أذى في كل قطر عربي ، وما تعرضت له في الجزائر من فضيحة تسبّبت في حمام الدم الحالي ، وما يتهددها من أخطار ، إلا أن يتساءل :

هل حكم علينا نحن العرب ألا نعرف من الديمقراطية إلا ما عرفه الجائع المفلس من لذيذ الشواء ، أي شيئا من العبير الذي يحمله الهواء القريب ، فلا يزيده ذلك إلا جوعا ونقمة على إفلاسه ؟

نحن نتابع ، بفضل التكنولوجيا الحديثة وفي عقر ديارنا على شاشات تلفزات البلدان الغربية، كل تفاصيل صراعاتهم السياسية السلمية والعلنية ، ونعيش معهم انتخاباتهم التشريعية والرئاسية لحظة بلحظة، لعنصر التشويق والإثارة في كل انتخابات فعلية ، وكأننا نتابع مباراة رياضية . كما نقرأ ، عندما يسمح لنا قراءة ما يكتبون ، عن سطوة قضائهم  وهو يتابع أخطبوط الرشوة ويستأصله من كل مكان سلطت عليه صحافة حرة أضواءها الكاشفة. نعيش هذا "التعبير" اللا شعوري مقارنة بواقعنا  المزري ، وبعقلية : العين بصيرة واليد قصيرة.

إن أزمة الديمقراطية في الوطن العربي اليوم لا تتعلق بغيابها المأساوي ، بقدر ما تتعلق بالتزييف والتشويه والتحريف  الذي لحقها وهي لم توجد بعد.

لقد أدت السياسة "الماهرة" لمدعي الديمقراطية إلى خلط الأوراق وتعميم البلبلة وإشاعة الفوضى في المفاهيم . وعمقت احترازات شباب غير متعود على ألاعيب السياسة وحيل السياسيين تجاه منظومة  فكرية وسياسية، تدعي سلطة لا ديمقراطية امتلاكها والدفاع عنها.

ومما زاد الطين بلة ذلك الدور المدمر الذي لعبته حرب الخليج عندما رسخت في أذهان شبابنا صورة الديمقراطية وحقوق الإنسان مقرونة بسياسة الحرب والقوة والمكاييل المتفاوتة والعجرفة الغربية.

يصبح التوضيح ضروريا لبديهيات أصابها التشويش المتعمد أحيانا ، وغير المقصود حينا آخر، وذلك بقصد ترسيخ الدعائم الفكرية للاستقلال الثاني. كما يكون هذا التوضيح ضروريا أيضا في إطار ما تعرفه الأمة من تصاعد المد الديني: فكرا وسياسة. إذ لا بد من نقاش معمق حول طبيعة البديل الذي سيخلف في القرن المقبل هذه الأنظمة الاستبدادية القديمة ، والتي لا  خيار أمامها إلا أن تصبح أنظمة إسلامية أو أنظمة ديمقراطية.

لقد استطاعت الديمقراطية طيلة هذا القرن أن تضع حدّا لحياة أنظمة النازية  والفاشية في أوروبا الغربية والجنوبية ، وأن تدكّ قلاع الاستبداد الشيوعي في روسيا وأوروبا الشرقية ، وأن تتغلغل بعمق في آسيا وفي إفريقيا . لكن بقي العرب مرة أخرى خارج هذه الحركة التاريخية، لا يدخلون تجربة في بلد من بلدانهم إلا لتنتهي بكارثة أو بتخريب أو بردّة ترجعهم إلى عادات مستأصلة ، قديمة ومهيكلة.

وتأتي ضرورة التفسير فلا تزيد الطين إلا بلة. فمن متحدث عن عدم نضج العرب للديمقراطية، أو عن عدم جدارتهم بها ، إلى القائل بوجود تنافر بيولوجي ـ ثقافي يجعلهم غير مؤهلين "بطبيعتهم " لممارسة الديمقراطية ... الخ.

إن قيمة هذا التفسير الشائع لا تكمن في موضوعيته أو في ذاتيته، بقدر ما تكمن في دلالته على عمق الأزمة النفسية التي ولّدها  الاستبداد .

إذا كان من الواضح أن الديمقراطية ليست قدرا محتوما بالنسبة للعرب ولغيرهم ، فإنه من الثابت أيضا أن القول بعدم جدارة الأمة وعدم قدرتها على تحقيقها، موقف ساذج وسطحي ، لا  وظيفة له إلا تبرير ما لا مبرر له. أي إضفاء شرعية مزيفة على تكبيل أمة بأكملها .

من المقولات التي يجب دوما التذكير بها ما كتبه الفين توفلر : "إن الديمقراطية ليست فقط ضرورة أخلاقية ، وإن‍ما بالأساس ضرورة تقنية " فلا جدال أنه توجد اليوم علاقة بين الفاعلية في إنتاج المادة والمعرفة والقيم ، وبالتالي في إنتاج القوة ، وبين طبيعة  التنظيم السياسي. ومن هذا المنظار ، فإن الشعوب العربية تتسابق مع الشعوب الديمقراطية ، وفي الرجل قد اسمه : "التنظيم الاستبدادي " . هذا القيد الذي  سيعيق كل أشكال تقدمها ورقيها إن لم يرفع .

إن دور المثقف الديمقراطي اليوم ، وأمام أزمة الأنظمة العربية ليس في الانتصار لهذه الأيديولوجيا أو تلك ، وإنما في التنبيه الدائم إلى أن إشكالية الأنظمة والبدائل ليست في كونها تعتمد هذه المرجعية دون غيرها، بل لأنها أنظمة أو بدائل مبنية على قواعد غير فعالة وتتعارض اليوم مع متطلبات تسيير المجتمعات العصرية، وهي متطلبات تنبع ، بشكل أو بآخر ، من الديمقراطية .

إن أكبر خطر يتهددنا اليوم هو استبدال نظم استبدادية ذا مرجعية علمانية ، أو قومية ، أو اشتراكية ، بنظم استبدادية  ذا مرجعية دينية ، لأنك لن تغير شيئا إذا ألبست نفس الإنسان ثوبا زاهيا أو ثوبا أسود ، ما دامت التصرفات الأساسية متشابهة.

يبدو اليوم أنه قدّر لهذه الأمة أن تراوح مكانها أو أن تتقهقر ،  لأن التقدم لم يعد ذلك القدر الحتمي الذي آمنا به في الستينات ، طالما لم يتضح للجميع بأن أصل الداء ليس في المرجعية أو الإيديولوجيا  ولا يمكن أن يكون في مطلب العدل الذي تنطلق منه كل إيديولوجيا ، وإنما هو في الآليات التي توضع لمحاولة تحقيقه.

وقد يكون من الضروري ومنذ البداية أن نركز على أن للديمقراطية العديد من السلبيات ، وأنها ليست الوصفة السحرية التي ستمكننا من حل كل مشاكل الأمة.

يكفي أن نذكّر هنا بالمهرجان الانتخابي في أمريكا ، وبالعلاقة الوطيدة التي ربطتها مع المافيا التي ترعرعت في كنفها في روسيا ، وبعجزها عن إحلال متطلبات العدالة الاجتماعية في بريطانيا وأمريكا ، وبضعف التمثيلية حتى في أعرق البرلمانات ، وبعزوف الناخبين المتصاعد عن المشاركة في لعبة سياسية يتّضح يوما بعد يوم أنها مغشوشة ، الخ... ولا نتكلم عن التحريف والتزييف والاستعمال المجحف الذي تعرفه الديمقراطية في عالمنا العربي .

إن الديمقراطية نفسها في أزمة إلا أن هذه الأزمة  ليست بحجم الاستبداد فالديمقراطية تستطيع أن تبرأ من مساوئ الديمقراطية بمزيد من الديمقراطية ، إلا أن الاستبداد لا يستطيع إلا أن ينتحر بمزيد من الاستبداد .

تبقى الديمقراطية ، على علاتها ومساوئها ، أخف الضررين . وكما يقول رجل لا نحبه نحن العرب ، وهو تشرشل، إنها  " أسوأ نظام باستثناء كل الأنظمة الأخرى" . ففي الديمقراطية آليات مختلفة وعلى رأسها حرية الرأي وحق التنظم ، اللذين يضمنهما القانون الديمقراطي من أجل إفساح المجال لتصحيح المسار وإعادة النظر باستمرار في مدى صلاحية البرامج المعتمدة ، ونجاح تنفيذها .

من الخطأ الفادح ، كما أسفلت ، أن نتصور أنها ليست قدرنا. كما نرتكب خطأ مماثلا إن بقينا ننتظر القدر المحتوم أو يجود بها علينا. فهي حالة للنظام السياسي نخلقها وتخلقنا ، ندافع عنها أو لا ندافع ، نطورها أو نقتلها .

هناك حقا العديد من العوامل الإيجابية التي تجعلنا في انسجام مع تيار الدمقرطة القوي. ونحن لا ننساق وراء هذا التيار بفعل العدوي والتقليد والمنافسة التي يفرضها علينا الغرب الديمقراطي ، وإنما نريد  الاستفادة أساسا من تطور الوسائل التقنية التي في غيابها تكون دولة الاستبداد عاجزة عن مواكبة تطور الآراء والأفكار والتغييرات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي تحمل قطاعات مختلفة ومتزايدة من المجتمع نحو مزيد من الوعي والقوة والمطالبة بجزء من السلطة.

إلا أن هذه القوى على أهميتها لا يمكن إلا أن تتفاعل مع قوى مضادة أساسها استماتة الحالة الاستبدادية من أجل الدفاع عن موقعها ، خاصة مع ظهور البدائل الدينية المغرية ، التي يبدو أنها لم تستوعب أن ما تحاربه اليوم هو أفرازة حتمية للمرجعية التي لا تناقش ، أي الحزب الواحد والشخص الواحد والرأي الواحد.

تفرض علينا خطورة النكبة التي تمر بها الأمة أن نتوجه للبّ الإشكالية ، وهي قديمة قدم عجزنا عن وضع آليات متطورة وقابلة للتطوير أيضا . ونحن بطبيعة الحال ، في إطار صيرورة مترنحة ، قد نصل أو لا نصل إلى ما نرتجيه.

هذا الصراع الطويل المرير الذي عاشه جيلنا ممثل في بناء النظام الديمقراطي وفي تحسين الأصناف الموجودة ، وهو ما أسميه بالاستقلال الثاني . فشتّان بين استقلال الدولة الذي حققه آباؤنا وأجدادنا ، فاستولى على منافعه شخص وجهاز، وبين الاستقلال الثاني ، استقلال الإنسان الذي سينقل الكرامة من الخطاب المهترىء المتآكل إلى الواقع والممارسة.

الاستقلال الثاني إذن هو مشروع هذا الجيل ومن سيليه.

وللاستقلال الثاني بالضرورة مؤسسات تخدمه.

وللاستقلال الثاني بالضرورة فكر يبلور مفاهيمه ويرسم لخطواته الطريق الصعب الطويل .

يقول "التوسر " إن الصراعات الفكرية هي صراعات سياسية في النظرية ، والمعارك السياسية تربح أو تخسر أولا وقبل كل شيء داخل الأدمغة "، ومن ثم تأتي ضرورة احتلال المواقع الفكرية عبر إيجاد وإيصال فكر ديمقراطي ، حتى يأتي النظام الديمقراطي فيما بعد لا كنبتة غربية مزروعة في أرض قاحلة وإنّما كشجرة باسقة متجذرة.

إن أمرا كهذا لن يكون سهلا ، فالديمقراطية اليوم شعار مبتذل يعاني في وطننا العربي من أصوله الغربية وصداقاته  المشبوهة واستعماله المجحف من قبل كل الأنظمة الاستبدادية ، ومن استخفاف اغلب الاتجاهات الإيديولوجية ، ومن تصاعد الخطاب الديني ، ومن الاهتراء الذي يلحق كل مصطلح يساء استعماله بكثرة. لا بد إذن من فكر يحاول إخراج المفهوم من الضبابيات والعموميات للتركيز على خصائصه  وجزئياته العملية ، لا بد من إظهار تباينه مع الليبرالية التي تلصق به ظلما وعدوانا ، هذه الليبرالية التي تهدد اليوم طبقات الجنوب وشعوبه بالتفقير والتهميش.

يجب كذلك التصدي للموقف الرخيص الذي يرفض الديمقراطية لمصدرها الغربي ، وهو موقف لا يقل غباء عن رفض الأنسولين لأنها غربية الصنع .

كما علينا ، في هذا الصدد ، ألا نتغاضى عن استراتيجية بعض الدول الغربية التي ترى أن تصدير الديمقراطية هو تصدير الليبرالية ، وأن الديمقراطية ليست إلا  التغطية  الايديولوجية لضرورة فتح الأسواق للتحكّم في العالم .

إنه على العكس من هذا ، يجب أن ينبني الوعي على ضرورة التفريق بينهما ، وعلى حقنا في اختيار ما تراه مناسبا لمصالحنا بغض النظر عن المصدر .

من الضروري أيضا تجذير وتعريب هذا المفهوم وربطه بنضالاتنا التاريخية ، وما أكثرها، وذلك لإعطاء مفهوم "الشورى" كل حظوظه ، ولينتصر في هذا العصر بعد أن هزم طوال تاريخنا .

لقد جعلت الأنظمة العربية من الانتخابات الشكل العصري للبيعة القديمة، والحال أنه يجب أن نجعل منها الوجه الحديث لمطلب الشورى الذي هو مطلب الأمة منذ سقيفة بني ساعدة .

والأهم من هذا كله أنه يتحتم علينا أن نوضح وأن نقنع كل أصحاب هذه الأيديولوجيات أو تلك أنهم مقدمون على تكرار  نفس المهازل ونفس المآسي  إن لم يقتنعوا بأن المشروع التحرري يجب أن يركز  على الآليات قبل أن يركز على المرجعية والأشخاص ، وأن هذه الآليات لن تكون في هذا العصر إلا آليات الديمقراطية . إن هذا الفكر هو إحدى أهم دعائم دولة الاستقلال الثاني وأولى ضرورياتها .

هذه بعض آراء " الاستقلال الثاني " نناضل من أجل تحقيقها . ونحن أعلم الناس بأن رحلة الألف ميل تبدأ دائما بخطوة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الفصل الأ و ل

فاتورة الاستبداد

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

                                   إنما العاجز من يستبدّ

 

لأننا قمعنا طاقاتنا الإنسانية الجبّارة ومنعنا التأطير القانوني لنشاطنا ، انهار عطاؤنا في الفكر والقيم والمادة والتنظيم ... فوقعنا ، في القرن الماضي ، في براثن استعمار الأمم الخلاقة ، المبدعة والحرة .

وكان هذا الاستعمار تتويج تخلّفنا وثمن سوء تنظيمنا ولم يكن سببا فيه . بل يمكن القول إن هذا الاستعمار كان بداية انطلاق تجددتا لأنه شكّل التحدي الأكبر الذي كان علينا أن نواجهه أو أن نندثر تماما ، أمّة وأفرادا .

قاوم هذا الاستعمار آباؤنا وأجدادنا وقدموا ما قدموا من التضحيات، واعتقدوا بنوع من السذاجة أن الاستقلال  سيكون مرادفا لـ "الحرية للجميع " والكرامة للجميع " والتقدم للجميع " . ولم يخطر ببالهم لحظة ، وهم يبذلون الغالي والنفيس ، أنهم سيوصفون بأنهم "غبار من الأفراد " وأن بطولاتهم ذهبت مع الريح ، وأن تضحياتهم الجسيمة ستقبر ،أو تاريخهم سيزيف ، وأن الدولة الاستبدادية التي تولدت من دمهم ستستولي بسرعة على آمالهم وآلامهم، وأن منطق المنّ والتبجح  والتهكّم هو الذي سيسود. إنه لن يطلب منهم سوى أن يوكلوا إلى البعض بمهمة التفكير والقرار والتقييم بدلا عنهم ، وأن يقتصر دورهم في إطار دولة الاستقلال على دور الرعية ، وأن يقنعوا بديكور الإعلام العصري وديكور الصحافة العصرية وديكور الانتخابات العصرية وديكور المؤسسات العصرية ، والحال أن كل دواليب دولة الاستقلال هي دواليب الطغيان الشرقي التي ولّدت أسباب الانهيار فأسباب الاستعمار.

إذا كان  الاستبداد في جوهره هو ذلك الذي عرّفه الكواكبي وأدانه، فقد اكتسى بالنسبة لعرب هذا القرن ، خاصة بعد إعلان الاستقلال وولادة الدولة الوطنية ، شكلا جديدا تجسد في ثلاث "مؤسسات " هي عماد وجوده وبقائه، وهي تخص : عبادة الشخصية ، وسيطرة البطانة  ( الحزبية أو العقائدية و/أو العشائرية) ، وفرض الرأي الواحد بالعنف الساخن أو البارد .

إن هذه المؤسسات الثلاث هي آليات كل الأنظمة الاستبدادية ، سواء أكانت فاشية أو شيوعية أو قومية أو دينية. وهي تكوّن الهيكل العظمي الذي لا يختلف من نظام على آخر ، والتي تجعل الاختلافات الإيديولوجية أمورا ثانوية وأحيانا مجرّد مظاهر ، القصد منها التضليل والتمويه .

فهذا ما يجعلنا نركّز على أنّ الخلاف الجوهري الحقيقي لا يمكن أن ينبني على طبيعة الإيديولوجية أو الأشخاص وإنّما على طبيعة الآليات التي من أهمها : الشكل المعاصر لوثنية موغلة في القدم ، أو بعبارة أخرى : تأليه الزعيم.

إنّ هذا التأليه ـ رغم كلّ تطوّر الأقنعة التي يتّخذها ـ هو في آن واحد علامة على المراوحة في مكان مختلف من تطوّر  السلطة ، ودليل على فساد العلاقة بين الحاكم والمحكوم. فالدولة في هذا الإطار ضعيفة إلى أقصى حدّ ، لأنها مجرّدة إفرازة لإرادة الزعيم . أمّا المواطنة العصرية فهي فكرة لم تتبلور بعد.

وفي عبادة الشخصية، يقول إيليا أبو ماضي :

            من المرمر السنون صاغوا مثاله                      وطافوا به من كل ناحية زمر

            وقالوا : صنعناه لتخليد رسمـه                    فقلت ألا يفنى كما فنى الأثر

            وقالوا : نصبّناه اعترافا بفضلـه                 فقلت : إذن من يعرف الفضل للحجر

            وقالوا : غنيّ كان يسخو بمـاله                فقلت لهم : هل كان أسخى من المطـر

            وقلت : غنّيا أم قوّيا فإنّـــه                  بمالكم استغنى وقوّتكم ظفــر

            قلم يتعشّقكم ولا همتــم بـه               كما خلتم ، لكنه النفع والضـــرر

            ولم ترفعوا التمثال للبأس والنــدى             ولكن لضعف في نفوسكم استتــر

            فلستم تحبّون الغنـيّ إذا افتقـــر            ولستم تحبون القوي إذا اندحـــر

            رأيتكم لا تعرجــون بروضـــة            إذا  لم يكن في الروض فيء  ولا ثمـر

            ولا تعلقون الشاة إلا لتسمنـــوا            ولا تقتنون الخيل إلا  علـى سفــر

            إذا كان حب الفضل للفضل شأنكم             ولم تخطئوا في الحس والسمع والبصـر

            فما بالكم لم تكرموا الليل والضحـى          ولم تنصبوا التمثال للشمس والقمــر

لا جدال أن هذه العبادة الحقيرة  هي من بقايا الذهنية القديمة ومن تجدد صورها. وهي أيضا من مخلفات الصبغة البدائية العميقة الملازمة لدولة الاستبداد ، لأن الإنسان يمكن أن يعبر التاريخ بنفس الفكر والروح ، فيقدر على تغيير  الظروف من حوله ، دون أن يستجيب هو نفسه لأي تغيّر ذاتي .

لا تكمن إشكالية عبادة الشخصية في شرعية أو جدية إرضاء نرجسية شخص وضعته الصدفة أو الضرورة على رأس المجموعة الوطنية ، لأن النرجسية مطلب ونقطة الضعف في كل واحد منا.

الخطر في هذا أن إشباعها ( كإشباع حريق شعاره : هل من مزيد؟ ) لا يكون إلا على حسبا كل فرد من أفراد الشعب . إن وجودنا موزعة بصفة عادلة على الجميع تنفي عنه حقه هو لا غير في الزعامة وتفرّده بها ، أما وجودها عند البعض فإنه يعني تهديدا مباشرا لصدارته وتميزه .

توزّع الأفضلية إذن بصفة إجبارية هرميا كما توزّع الثروة والسلطة ، فهي في أوجها في مستوى القمة ، ثم تتضاءل نحو القاعدة ، فلا يصل منها إلا النزر القليل للرّعاع والسوقة التي يجب أن تسهم في عبوديتها بالاعتقاد بأن ما تنعم به هو فضل ومنّة من الزعيم الفذ الذي جادت به السماء.

إن التعظيم الضمني وحتى التأليه المقنّع والملازم لعبادة الشخصية هو إذن بصفة آلية تحقير وتصغير الناس الذين يستمد منهم القائد الفذ شرعيته ، بل هي مبنية بالأساس على هذا التحقير الضمني .

تعكس مقولة عدم نضجنا للديمقراطية ، التي طالما برر بها الاستبداديون دوام الحالة الاستبدادية ، التصور الدوني للمواطن وللشعب الذي حكم عليه أن يبقى دوما في مرحلة طفولية.

لقد لعبت صورة عمر بن الخطاب (أو بنسبة أقل ، صورة عمر بن عبد العزيز) دورا هامّا في تشويش الخيال الجماعي العربي ، حيث شكلت مقياسا مستبطنا عند الحاكم والمحكوم ساهم في إشاعة فكرة "المستبد العادل ".

يمكن خطر الصورة في ملاقاتها لحاجة عميقة متجذرة عند الإنسان ـ الطفل : خذ حريتي ومسئوليتي وأعطني عدلا، واحمني من المستبد الظالم .

من هنا ، يتأتى التجدد الدوري للمأساة.

يتتابع الممثلون على خشبة مسرح  التاريخ باسم الاستبداد العادل ، أشخاصا وأحزابا  وعقائد ، بحسن نية وبسوء نية، يتعجلون  التاريخ ، يريدون كسر المواقع الموضوعية بالعنف ، يبحثون على أقصر الطرق على المدينة الفاضلة بالاستبداد، فيتباعد العدل تباعد السراب.

لقد كان عمر صارما حازما شديدا ، لكنه لم يكن مستبدا إذ لم يتوفر فيه أي شرط من شروط الاستبداد الثلاثة : فقد حكم بالقانون الجماعي وطبّقه على نفسه وأهله بنفس الصرامة التي كان يطبقها على الغير، ولم يجعل من الثناء عليه وحمده ركنا من أركان الخلاقة.

إن تلطيف الاستبداد رهين طبع الشخص ، ولا يمكن للشعوب خاصة في هذا العصر أن تسلم قيادها لرهان خطير على خصائص الشخص نفسه، في حين أن القاعدة تقول : إن المستبدّ لا يكون عادلا. كما أن العدل لا يمر إلا عبر الاستبداد.

لننتبه إلى توفر عنصرين هامين في الفكر الاستبدادي على حد الآن ، ولما يمكن تسميته بالعقل البدائي، أي : عبادة الشخصية ورفض الواقع .

لاكتشاف العنصر الثاني ، يكفي أن نفتح أي جريدة عربية ، إذ هي المعرض الدائم والمتكرر لأقدم خصائص هذا الفكر. إن العناوين الضخمة والتحاليل الضحلة واللهجة العنترية لهذه الصحافة، تبدو من أبرز مظاهر فكر يخلط دوما بين الواقع والخيال ، فكر يثب مباشرة من الرغبة إلى تحقيقه في الخيال، منكرا الواقع بتعقيده وحركيته واستعصائه على التطويع.

إنه فكر في آخر المطاف بغير حاجة إلى هذا الواقع ، فهو يستطيع أن يحقق ما طاب له من لذة في عالمه الوهمي. وهو بالطبع ليس كذبا وإنّما شيء أخطر من هذا بكثير ، إنه نكوص وتقهقر إلى عالم طفولي سحري تتحقق فيه الأحلام ، وتكون في الكلمة بديلة عن الفعل .

نفهم عنف ردة الفعل عندما يأتي الفكر الناضج ليزعج مدخّني الأفيون ، قاطعا عليهم لذتهم ، متسبّبا لهم في آلام الإيقاظ وآلام اليقظة.

لا شك أن أطروحات عدة ستكتب في المستقبل عندما سنخرج من  العالم السحري إلى العالم الواقعي ، وأن قوانين الصحافة السحرية ومواضيعها وأساليبها ستقيّم بدقة.

الثابت من الآن أن الاستبداد هو الفكر البدائي في ميدان السياسة، بثوابته وأهدافه وآلياته المعروفة.

إن الشرط الثاني لوجود الاستبداد هو سيطرة هيكل أقلية يقوم بطقوس العبادة ، ويحكم وصاية الشخص المؤلّه على الأطفال غير الناضجين الذين كلف نفسه حمايتهم من أعدائهم ومن أنفسهم .

لا شك أن أسباب فشل أنظمة التحرر النسبي أو الكلي في العالم الثالث والاشتراكي معقدة ومتشابكة، لكن من الثابت أن دكتاتورية الحزب الواحد على المجتمع كانت من أهمها، لأن الحزب الواحد يفرق ما يدعي توحيده، ويحبط ما يدعي تجنيده، ويستنزف ما يدعي خدمته ويستعبد ما يدعي تحريره.

إن الحزب اللينيني هو النموذج الواضح أو المبهم للحزب الواحد ، يمنيا كان أو يساريا. وهو ذلك التنظيم الذي ينصّب نفسه وصيا على الجماهير، كما تقول روزا لوكسمبورج: لتنصّب اللّجنة المركزية نفسها وصية على الحزب ، إلى أن ينصّب الأخ الأمين العام نفسه وصيا على الجميع. وبهذا تكتمل عملية النصب على الجماهير التي تصبح آنذاك وقود التاريخ لا قائده ، كما تدعي النظرية المعصومة والعصماء.

يكتمل الهيكل الاستبدادي بآليات فرض الرأي الواحد. فالدولة لا تحاول فقط إفراغ الشخص والمجتمع من الكرامة وإنّما تصادر الذكاء وتحاصر المخيلة وتمنع التفكير المستقل.

إن السبب الظاهر لهذا التوجه الغريزي هو تحقيق الانسجام داخل المجموعة المتباينة وتفادي اللجاج والخصام وما ينجّر عنهما، إلا أن الدافع الحقيقي له يكمن في منع ظهور أخطر سؤال حول : ما هي حالة الحسابات  ؟

فالرأي الحر هو ، بداهة ، تقييم ومحاسبة.

تضع الدولة الاستبدادية نفسها من البداية خارج إطار كل محاسبة . وسوف تكون هذه الإرادة سر قوتها، أي مصدر عنفوانيتها وفي نفس الوقت المقتل والمهلك . ذلك لأنها بمنع حرية الرأي ، تمنع عن نفسها كل آليات تصحيح الخطأ. والدول ، ككل الكائنات الحية، تموت من تكاثر الأخطاء والعجز عن الإصلاح في الوقت المناسب.

إن لبّ الاستبداد هو مصادرة كل الفضيلة لصالح فرد ، وفرض وصاية الجزء على الكل، وتحريم المحاسبة. ومن ثمة فهو خيار يتصدى بكل قوة لحاجيات فردية وجماعية، كحاجة كل الناس إلى أن يعترف لهم بنرجسيتهم وخاصة حاجة كل المجموعات للمشاركة في حياة المجتمع على قدم المساواة، والحاجة أيضا إلى تقييم سلمي ومقبول لمن يحكمهم .

لا غرابة أن يتطلب إبقاء وضع شاذ كهذا، قدرا كبيرا ومتواصلا من كل أشكال العنف .

لقد دفعت الشعوب العربية مثل كل الشعوب التي ابتليت  بمصيبة دولة الاستبداد ثمنا باهظا ، سواء أكان ذلك إبان عملية التنمية أو طوال فترة الشباب والشيخوخة، أو خاصة وهي تعالج سكرات الموت .

تبدو المساوئ والعيوب غير قابلة للاحتمال ، ولا يفلح في إخفائها ما تدّعيه هذه الدولة من إنجازات وهمية كالسلام والإجماع والوحدة الوطنية المليئة شروخا مخيفة.

يأتي العنف والعنف المضاد، طال الزمان أو قصر.

كتب سولجنتسين الكثير عن عنف دولة الاستبداد الشيوعي. وكتبت هانا أرندت عن فظاعة العنف النازي في المحتشدات . ولمنظمة العفو الدولية مجلدات تتحدث عن العنف الاستبدادي الممارس في كل بلدان الجنوب .

كما وصف عبد الرحمن منيف  في كتابه "شرق المتوسط " بعضا عن عنف الدولة الاستبدادية العربية، والشهادات بالمئات .

ذلك المساء والشمس على وشك الاختفاء وراء جبال الشمال الغربي ، تقدم الأطفال الثلاثة بباقة الزهور يضعونها على قبر متواضع في مقبرة ريفية متواضعة ، ثم انطلقوا يلعبون تاركين الكهول يتجمعون بخشوع حول القبر. إنهم يصرون منذ سنوات، رغم تناقص عددهم من سنة إلى أخرى، على المجيء في كل يوم ثامن من شهر مايو إلى هذا المكان للترحم على روح الشاب الذي قضى نحبه في مثل هذا اليوم تحت التعذيب . وخطر ببالي يومئذ أنه واحد من المئات من كل الأحزاب والمرجعيات ، ذهبوا ضحايا أخطر ما في الاستبداد ، وقلت يومها إن دور جيلنا : القضاء النهائي على هذه الفظاعة ، وإن مثل هذا اليوم يجب أن يكون مستقبلا : "اليوم الوطني ضد التعذيب " بغض النظر عن أي استعمال حزبي ضيق لروح الشهيد نبيل بركات .

تتحدث كل الشهادات عن "مجازر الروح" أو زنزانات التعذيب التي تقبر فيها أرواح الضحايا وأرواح الجلادين على حدّ  سواء.

إن هذه الآلام ليست إلا النقطة القصوى للعذاب العادي ، اليومي المألوف ، الذي يتخبّط فيه الناس إناء الليل وأطراف النهار.

هي الراية الحمراء الملطخة بدم الأبرياء والثوار ، والتي ترفرف على كل قلاع الاستبداد.

من الصعب جدّا أن نقيّم ثمن الاستبداد ، إلا أننا نعلم بالسليقة أن له تكلفة إنسانية باهظة ، سواء أتعلق الأمر بالاعدامات أو التعذيب أو المحاكمات الصورية أو الاعتقالات أو شتى أصناف "العنف اللّين "من تعنيف وإرهاب وعجرفة وإذلال للأغلبية الساحقة التي أخرسها الخوف .

الثابت أن هذا العنف كان ضروريا للدولة لأنها بصدد مقاومة مطامح عميقة للمجتمع ، لكنه لم يكن أبدا ضروريا لا للضحايا ولا للشعب ، هذا الذي تدّعي الدولة الاستبدادية أنها تمثّله وتحميه

والثابت أيضا أن فاتورة الدم والدموع هذه هي نقطة التمفصل الجذري بين الاستبداد والديمقراطية.

إن الطبيعة البدائية العنفوانية لدولة الاستبداد لا تكمن في شراسة العنف وفظاعته ، بقدر ما تكمن في إفساد وتعفين كل القيم والمؤسسات الضرورية لأي مجتمع إنساني ، خاصة في هذا العصر.

والآن ، لنتوقف قليلا عند أهم الضحايا .

                                             ***

 

 

 

 

1 ـ تمزيق الذات

 

نحن  اليوم ضحية ظاهرة مخيفة تتمثل في التمييز العنصري الذاتي الذي لا تدينه اللوائح ولا تنزل ضده المظاهرات.

إن احتقار الإنسان العربي لنفسه هو اليوم خاصية تطبع علاقاتنا في كثير من المجالات. فالعمل والانضباط والمهارة والشجاعة والوفاء والرجولة والكرم والأريحية والنبل ... قيم وخصائص لا  نلصقها ببضعنا البعض إلا للتندر والسخرية فالعربي يجدها عند كل الناس باستثناء بني جلدته .

لكن ، هل صحيح أننا بالبشاعة التي يصورنا بها التمييز العنصري الذاتي ؟ هل نحن فعلا جبناء، منافقون ، انتهازيون ، لا كلمة لنا ولا شرف ، نغش في كل عمل نقدمه.. إلى آخر المعزوفة ؟

إننا لا ننتبه بما فيه الكفاية للعلاقة الموجودة بين النظام الاستبدادي واستشراء تصرفات معينة تنخر المجتمع العربي، كالجبن والخوف والتملق والرياء والكذب والنفاق والمحسوبية واحتقار الذات والحساسية المفرطة والغضب المكتوم المؤهل للانفجار العنيف إذا ما توفرت الظروف .

من البديهي أن الإنسان لم يخلق شيطانا ولا ملاكا، وإنما خلق بجملة من المواقف والتصرفات الممكنة والمحتلمة التي تمكنه من مواجهة واقع صعب ومعقد. ولو استطعنا جرد كل المواقف والتصرفات الممكنة لملأنا كتابا بحجم دليل الهاتف يكون عنوانه " الطبيعة البشرية ".

فنحن ننتقي من هذا الدليل جملة محددة من المواقف والتصرفات ـ سواء  أصنّفت كأخلاقية أم  غير أخلاقية ـ وذلك قصد التفاعل مع التحديات التي نواجهها.

في الواقع ، نحن لا ننتقيها بقدر ما تنتقي الأغلبية الحالة الموضوعية المتقدمة على وجود الأفراد. وهي حالة لم يشاركوا في صنعها وإنما ورثوها عن تاريخ آبائهم وأجدادهم ، أو خلقت لهم بتخطيط وإرادة.

نعرّف  "الحالة " بأنها جملة القواعد والتصرفات والمواقف التي أوجدتها مصالح وظروف وخيارات سابقة متقدمة على دخول الشخص ساحة اللعبة. نقل عن أحد وزراء بورقيبة السابقين قوله  : في أول اجتماع لمجلس الوزراء بعد الحصول على الاستقلال ، كان أول موضوع طرح  للبحث : هيكلة جهاز الأمن ، وأدلى كل واحد منا بدلوه.

''دافعت عن تصوّري لرجل أمن على طريقة الشرطي البريطاني الذي يحبه الناس ويحترمونه، لما يقدمه من عون في كل لحظة.

كشّر الرجل عن أنيابه وشرب الطاولة بقبضته :

ماذا ؟ محبة ؟  احترام ؟ هاها ... رجل الأمن المثالي هو الذي يخشاه الشعب ويرهبه.''

ولأن وزيرنا الهمام خلّط بين دولتين ، فقد استقال بسرعة وهاجر ونمى فينا خيار الدولة البورقيبية  : الخوف والشعور بالذنب.

هكذا خلق بورقيبة حالة اصطفت تصرفات ومواقف ، وألغت أخرى.

إن دولة الاستقلال الأوّل مبنية بالأساس على فرضية أو الجزء لأظلم في الإنسان هو الجزء الرئيسي منه ، ثم تأتي تقنيات التعامل معه بالتخويف والصرامة حتى لا تهدم صرح الدولة  ب "الفوضوية البربرية ".

من هذا المنظار يعتبر الإنسان أساسا شحنة متفجرة من الغرائز التي يجب احتواؤها ومراقبتها.

إن هذه الفكرة ليست بالضرورة خاطئة ، لأن في الإنسان ما توجده وما تخلقه حالة الاستبداد ، ولكنها أيضا ليست بالضرورة مصيبة لأن الإنسان غير هذا ، وإنما هو أكثر من هذا بكثير.

تأتي الديمقراطية للمراهنة على النصف النيّر من الإنسان . وتأتي أيضا لتدفع بهذا التفاؤل المتواضع قدما إلى الأمام،  أي أنها تخلق بالضرورة حالة أخرى ترفع من مستوى تصرفات معينة ، وتخفض بالضرورة من الالتجاء إلى تصرفات معهودة.

تلعب هذه "الخالة " (أي أساسا طبيعة النظام السياسي) دور المصفّاة لتبلور عند الأشخاص هذه الخصائص وتقمع أخرى ، لتشجع هنا وتحبط هناك ، وبالتالي فإن تغيير "الحالة " هو العامل الأكثر خطورة عند تغيير التصرفات والمواقف لدى الأشخاص .

من البديهي أن حالة النظام الاستبدادي لا تفرز ، بل لا تشجع ولا تبلور نفس المواقف والتصرفات التي تفرزها وتشجعها وتبلورها حالة النظام الديمقراطي . ففي هذا النظام تبرر الطاعة والاستكانة والرياء والإيمان بعدم نضجنا للديمقراطية كتقنيات فعالة لطمس حقوق الأغلبية ، وذلك قصد البقاء على قيد الحياة وتحقيق ما يمكن تحقيقه من الغايات. كما تحارب هذه الحالة الشجاعة والصراحة والتحرر الفكري كقيم غير مرغوب فيها بل وخطيرة على تواصلها . وخلافا لهذا ، فهي ترى أن الديمقراطية عنصر أساسي في بروز وتطور وانتشار قيم النقد والتفكير والتقييم والمشاركة والتألق والمنافسة الخلاقة بين الأشخاص والتنظيمات .

إن النضال من أجل الأخلاق لا يكمن في حشو الأشخاص بالكلام الأجوف عن الأخلاق في ظل حالة لا تسمح لهم بالعيش أخلاقيا، وإنما في خلق الحالة التي تمكّن من جعل الأخلاق عنصرا طبيعيا في معركة الحياة.

ومعلوم أن هذه الحالة هي عمل جماعي واع ومبرمج ، لخلق ظروف موضوعية أساسية لتطور أحسن ما في الإنسان.

إن أكبر كارثة يولدها النظام الاستبدادي هو اصطفاؤه لأتعس الناس ، ولأسوأ ما في الإنسان . وهو ما تسبب في ذلك الخلل الاجتماعي الدائم والمهيكل الذي ولّد طوال تاريخنا هذه الثورات المتتابعة والتي لن تنتهي إن لم نضع حدّا لنظام كلّف الأمة الكثير ، وهو من أهم الأسباب في تردي وضعها الحالي نحو التخلف والتبعية.

إن أهم ما طبع البورقيبية ( أي الشكل التونسي لدولة الاستبداد العربية) هو الغش والتزييف في كلّ شيء . ف "الأمّة التونسية " مفهوم مزيف، اصطنع اصطناعا لمناهضة مفهوم "الأمة العربية " أو الأمة الإسلامية" . والوحدة الوطنية " مفهوم مغشوش لأنه كان يغطّي أبشع مظاهر الجهوية التي عرفتها تونس و"التاريخ الوطني " سلسلة من المسخ والتشويه والتزييف . و"الإعلام الرسمي " ضرب من ضروب الخداع الوقع والفج . و"الاحتفالات الرسمية " مبنية على جلب الناس رغم أنفهم . والاجتماعات بالأطر والمناضلين مكتظة بأعوان البلدية الجالسين في صبر أيوب بانتظار انتهاء الخطاب التوجيهي المزيف .

وفي الأخير ، تأتي الطامّة الكبرى ، أي تزييف إرادة الشعب كل خمس سنوات ، في منتهى الصلافة والوقاحة والتحدي.

لا غرابة أن تؤدّي البورقيبية إلى ردود أفعال مختلفة ، وإلى ظهور مشاعر عنفوانية عدوانية مكبوتة  نتيجة اعتمادها عقلية : "حلال علينا ، حرام عليكم ".

ومما يزيد الطين بلة أن هذا القرف يتغذى برافد الإحباط . فطيلة أكثر من ثلاثين سنة والشعب عاجز ، رغم تعدد الانتفاضات ، عن فرض إعلام نزيه وانتخابات حرة وإدارة فعالة وقضاء مستقل الخ ... أي فرض الصراحة والإخلاص كقيم معترف بها قولا وعملا .

إن هذه الانتخابات في الواقع ليست إلا إخراجا عصريا لعملية استلال البيعة وفرضها ، كما كان يحدث ذلك على الدوام .

فالمواطن يعي أنها في شكلها  استخفاف بذكائه ، وفي مضمونها  استخفاف بحقوقه، لكنه لا يستطيع المواجهة ، وأحيانا تحرّم عليه حتى المقاطعة ، فينمّي هذا ازدراءه لنفسه ونقمته على السلطة التي تستخف به إلى هذا الحد.

إن هذه السلسلة من الانتخابات المزورة كانت بمثابة صفات تهين الإنسان في كرامته وتؤجج  كل مرة احتقاره لنفسه ، وهو احتقار لا يجد منه البعض مخرجا إلا بالعنف الدوري الذي عرفته شوارعنا طيلة الثمانينات .

لا شك أن أزمة الصورة التي يحملها العربي عن نفسه أعقد من هذا وأنها ليست أحادية السبب . فهي تتغذى من المقارنة الدائمة مع شعوب روضت دولها. وهي تتغذى أيضا من النرجسية المرضية للزعيم الملهم الذي استولى على كل الصفات ولم يترك فضلا ل "غبار الأفراد ".

كما أنها تتغذى من وهم الماضي الذي جعلنا منه واحة خيالية سادت في كل الفضائل . وإنني لأتساءل : كم واحد منا يقبل المجازفة بحقوقه الحالية ، على هشاشتها لو أعطي الخيار ليعيش في ذلك الماضي السعيد ؟

إنه  الدمار الذي يلحق الصورة والذي يكون عنف الدولة البارد أو الساخن أهم سبب فيه ، ويعتبر من أهم ترتبات الاستبداد وآثاره بالغة الخطورة .

كما تؤدي هذه الحالة إلى ضرب آله الإنتاج في صميم مصداقيتها . فالثورة التي تصدّر ليست بالضرورة فائض الثروة المنتجّة ، وهذه الأخيرة لا يخلقها إلا الطلب الداخلي المدعوم بالثقة في الإنتاج الوطني. وأين نحن من هذا ، ونحن لا نستهلك الإنتاج المحلي إلا من باب : مكره أخاك لا بطل ؟ أضف إلى هذا غياب أفق الحلم الجماعي الذي يصهر الشعب والأمة في بوتقة واحدة. وهكذا ، يتفشى شعور الإحباط الجماعي، فيكون الحاصل : ذاتا جماعية مهشمة ، ذاتا هشمها الاستبداد .

                                           ***

 

 


2 ـ دولة القانونين

 

بما أن القانون هو الخيط الخفي الذي ينظّم علاقات الأشخاص والمؤسسات، وبما أن العلاقات مريضة ومرضية ، فلا غرابة أن يكون القانون ، هو الآخر ، إحدى ضحايا الدولة الاستبدادية.

إن المظاهر الدالّة على المكانة اللاطبيعية للقانون في إطار دولة الاستبداد لا تحصى.

ومن ترتّبات هذه الحالة ما يعرف في كل المجتمعات العربية من تردي العلاقات الاجتماعية ، نظرا للتفاضل الذي تحدثه "الواسطة " ، وهي مؤسسي ضرورية وقاهرة في المجتمع الاستبدادي تعمل على تطويق القانون والحصول إما على الامتياز وإما على الحق الذي لا يؤخذ إلا بها.

بداهة ، لا جدوى للحكم المعياري ، بأن نستنكر أو نندد أو نفسر هذه الحالة بخاصية ورائية بيولوجية فينا تجعلنا وإلى الأبد مجموعة  متخلفة ، فهذا طرح يجب استنكاره والتنديد به لأنه يغطي الحقيقة بتعلاّت واهية.

فهذا العربي الذي يبدأ تعامله " المتخلف " مع القانون منذ انطلاقه من مطار "أورلي" إلى بلده ، هو نفسه العربي "المنضبط "  مع قانون المجتمع الفرنسي .

نتجاوز هذا إذن ، لنلقي السؤال التالي :

ما هو مغزى هذا التصرف الذي يكون عليه الإنسان العربي تجاه القانون ؟ وما هي الظروف الموضوعية التي تدفع الناس إلى مثل هذه التصرفات ، والتي نتحمل جميعا مسئوليتها ؟

إن علاقة بهذه الأهمية والتعقيد لا يمكن أن تكون أحادية المصدر ، بل هي نتيجة تفاعل العديد من الأسباب والتراكمات التاريخية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية. إلا أنه من الضروري التركيز على محاور ثلاثة قد تكون مدخلا لفهم هذه الظاهرة وتغييرها ، إنها تتمثل في : الموروث والندرة والدولة ـ الطرف .

إن ظاهرة  " الواسطة " أي تطويق القانون للحصول على امتيازات من طرف حفظة القانون أنفسهم ـ ليست خاصة بالوطن العربي دائما ، بل هي ظاهرة اجتماعية وإنسانية عامة ، لا يفيد فيه احتجاج أخلاقي ، كما لم تلغ نهائيا في أكثر المجتمعات تقدما ، ناهيك عن المجتمعات الاشتراكية سابقا التي قننتها في إطار ظاهرة النومكلاتورا .

وهكذا ، كلما تزايدت ندرة الخيرات المادية في مجتمع ما، لعجز أو قصور نهائي في آلة الإنتاج ، احتدت الصراعات داخل المجتمع من أجل الحصول على هذا النـزر القليل من المنتوج الجماعي  واستعملت مختلف الوسائل الشرعية واللا شرعية للفوز بالقدر الأقصى منه ، والغلبة في هذا التنافس تكون عادة للأقوى.

تنظر إلى الفرنسيين وهم يصعدون بكامل النظام حافلة النقل العمومي، وتعجب وتتعجب ، لكن لا ننسى أن كل واحد منهم يعرف في قرارة نفسه أنه سيجد له مكانا ، ولو وقوفا ، وأنه سيصل في الوقت إلى عمله.

خذ هؤلاء الفرنسيين "المؤد‍ّبين " وضعهم مثلا في "الوردية" ينتظرون ساعات طويلة حافلة مكتظة  فسوف يتدافعون بالمناكب بنفس الفوضى والغلطة التي نتسابق بها إلى احتلال مكان في الحافلة.

وبمرور الوقت يصبح هذا التصرف لا شعوريا ، لذلك ترى المغاربة عموما يتدافعون بالمناكب عند ركون الطائرات ذات الأماكن المحجوزة !

قس على نفس المنوال كل مجالات الحياة الأخرى التي تجعل "تطويق القانون " تقنية من تقنيات الحياة ومن أجل البقاء على قيدها.

لا شك أيضا أننا اليوم في مرحلة غدت فيها القوانين التي حكمتنا قرونا طويلة ، إما لاغية وإما في تناقض موضوعي مع المعطيات الجديدة التي أصبحت تكتسب وزنا وثباتا يمكّنانها من فرض قوانين أخرى .

فمثلا نحن لا زلنا نعاني من مظاهر العلاقة الولائية التي ظننا أنها انقرضت ، لكنها في الحقيقة لا تزال سارية المفعول ، في الوقت الذي لم تكتسب فيه الديمقراطية امتدادا تاريخيا وقوة تجعل قوانينها متأصلة ومتجذرة.

معنى هذا أن علاقة الإنسان العربي بالقانون تعكس أيضا تمزقه بين الثابت والمتحول ، وهي حيرة ستتواصل إلى أن يصبح المتحول ثابتا .

تاريخيا ، لم تنجح أي دولة في توزيع ثمار التنمية بصفة عادلة ، لأن الدولة كانت ، على امتداد  تاريخها الطويل ، الجهاز الذي يمكّن من توزيع الندرة لصالح شخص أو جهة أو عرق إلخ ...

ولأن الدولة الاستبدادية هي دولة بدائية في جوهرها وإن أحاطت نفسها بكل مظاهر المعاصرة وبريقها. فقد رضيت أن  تكون في هذه المرحلة من تاريخها حارسة لقوانين مطعون فيها : سياسيا (وذلك بمنع المعارضة) ، اقتصاديا (بالاستقلال)، وثقافيا (بترسيخ إيديولوجية تحمي مصالحها ) ، لذلك فهي تخرق القوانين العادلة التي تسنها هي بنفسها .

إننا لم نعرف أي دولة تدّعي ، من جهة ، حماية القانون ، ثم تعطي للمواطن المثل في تطاولها عليه. والسيد ليس الذي يعطي الأوامر ، وإنّما الذي يعطي المثل .

يشاهد المواطن المقموع الدولة وهي تخرق الدستور وقانون الانتخابات وقانون المساواة بين المواطنين (بمحاباة أبناء العم وأعضاء الحزب ومتساكني الجهة ...) وشعارها : افعلوا ما أقول ، ولا تفعلوا ما أفعل .

ومن البديهي أن دولة كهذه لا يمكن أن ترسخ القانون ، وإنما تفصمه إلى قسمين : المكتوب منه والمعمول به. وفي إطار تحول حضاري سريع ، لا غرابة أن يصل المواطن ـ الذي يعاني مرارة الندرة ـ إلى درجة  الاستخفاف بالقانون الذي تكون الدولة هي أول من تخرقه ، رغم ادعائها السهر على احترامه. كما لا غرابة أيضا أن يواجهنا سيل من التصرفات والمواقف الغربية من طرف بعض المواطنين ، كأن يتصور بعضهم إمكانية التدخل لإطلاق سراح سجين حق عام أو تعطيل حكم قضائي إنها الذروة في الاستهزاء  بقداسة القانون وانهيار صورته  وانتهاء دوره

                                         ***

--------------------------------------------------

 

ماذا الآن عن السلاح المستعمل؟

هو أساسا الكلمة ، أي الرأي المخالف .

تتضح طبيعة الكلمة ، كبديل عن السلاح ، في قدرتها على إلحاق الأذى بالخصم ، أي جرحه في معتقداته وادعاءاته ، وفي النيل منه والتعويض به . فمن الكلمات ما تصفع ، ومنها ما تصيب الإنسان في الصميم . فلا غرابة إذن ألا يقبل الاستبداد بأن يكون الرأي المخالف سلاحا بديلا ، وأن يضيق الكثيرون به ذرعا حتى داخل النظام الديمقراطي نفسه . إلا أن أفضلية الكلمة بالنسبة لشفرة السكين لا نناقش لأن المبارزة باللغة لا تريق الدم ، خلافا للتراشق بالقنابل .

تمثل عملية التداول على السلطة التي لا تحدث في النظام الاستبدادي إلا بإراقة لدم ، ذروة هذه الحرب السلمية الدائمة والتي تشكل لبها . فالتداول هنا حرب ضروس يقع بين فرق وقبائل متناحرة يقودها طموحون .

تصطفّ القبائل المتحاربة لفض الخلافات المستحكمة بينها، فتستهدف أن يحرز فريق منها أو أكثر النصر الذي يتمثل هنا في القتل الرمزي للسلطان وزمرته ، وأخرجهم من السلطة لا بحد السيف وإنما نجد ورقة الاقتراع .

إن انتقال المجتمع من الفعل الجسدي إلى الرمز ، ومن حرب الدم إلى حرب الكلمة عبر الديمقراطية، هو الطريق الوحيد لكي يوفر المجتمع على نفسه الحرب الأهلية الدموية . معنى هذا أن الديمقراطية هي بديل عن العنف وأن العنف هو بديل الديمقراطية.

إن ما حدث في الجزائر هو أصدق دليل على أن رفض اللعبة الرزية لا يؤدي إلا إلى فتح المجال للحرب ، وأن فترات الهدوء النسبية التي يفرضها الاستبداد ليست إلا هدنة بين معركتين .

ومما لا شك فيه أن الديمقراطية وحدها لا تكفي لحل إشكالية العنف المدني طالما لم تتوفر العدالة الاجتماعية بصفة موازية، فتساهم بدورها الأساسي في العملية الديمقراطية . فبقدر ما يتعمق الظلم الاجتماعي ويتوسع ، بقدر ما يخلق بؤر تولد جرائم الحق العام ، وتمهد لشتى أشكال التمرد السياسي .إن إقناع كل الأطرف بدخول الحرب الرمزية ليس أمرا سهلا. وقد تدخل فيها بعض القوى المتصارعة في الوقت الذي تخرج منها أخرى ، لقناعتها بأن تلك الحرب غير مجدية، وأن الحرب الفعلية أقصر الطرق لحل مشاكلها. وبالتالي فإن الديمقراطية لا تحيا إلا بقدر ما تستطيع إدماج  أكبر عدد ممكن من الأطراف الاجتماعية حول هدف حقن الدم ، والبحث عن وسائل رمزية لتصريف العنف وحل المشاكل التي تثيرها اللامساواة. لكنها لا تنجح في هذه المهمة إلا بقدر ما تحد من انتشار بؤر الرفض واليأس التي يزرعها الظلم في جسم المجتمع .

***

2 ـ قبول  التعددية .

 

من ترتّبات تسارع حركة التاريخ أن المرء أصبح يعايش في حياته صعود الإيديولوجيات ثم أفولها وتتابعها. وهو أمر لم يكن معهودا في السابق، حيث كانت الأجيال تعيش مدة قرون في ظل إيديولوجية قارّة (أي في الواقع : بالغة البطء في التغيير )، لكن قانون الكون لا يعرف شيئا اسمه الجمود لأي من مكوناته سواء أكانت من عالم الفكر أو من عالم المادة.

وقد عايش جيلي صعود نجم الماركسية في الستينات. وأذكر أنه لم يكن بإمكان أحد أن يأخذ أدنى موقف فكري أو سياسي بدون التموقع إما مع الماركسية أو ضدها. ثم أسلمت اللحى في الجامعة بعد طول التمركس. وعشنا في السبعينات نفس الظاهرة، فكان محورها هذه المرة : التوجه الإسلامي الأصولي .

وفي بداية الثمانينات ظهرت " حقوق الإنسان" ، فكان لي شرف معايشة تطورها في بلادنا  وفي العالم .

إلا أننا كثيرا ما نسمع حديثا عن الديمقراطية وحقوق الإنسان يقع فيه خلط بينهما في غير محله. فالديمقراطية جزء من حقوق الإنسان . وهي على وجه التحديد ، جملة الحقوق السياسية التي ضمنتها الفصول  21,20,19,18  من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان .

فما يشكل جوهر الديمقراطية الذي بدونه لا يتحقق الانتقال من الفعل الجسدي إلى الرمزي ، هو الاعتراف للآخر بجملة من الحقوق الإنسانية ، والتي منها الحقوق السياسية.

معنى هذا أن الديمقراطية لا يمكن إلا أن تعترف بالآخر، وأن له جملة من الحقوق غير قابلة للتصرف. وهي لا تستطيع أن توقف اعترافها بالآخر في هذا الميدان السياسي فحسب ، وإنما يجب أن يشمل الاعتراف كل الحقوق ، سواء منها الفردية أو الاقتصادية / الاجتماعية. لذلك يجوز الشك في مدى ديمقراطية الأنظمة التي لا تكترث بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية ، بل قد يصح أن نسميها بالأنظمة الليبرالية أكثر من اعتبارها أنظمة ديمقراطية .

وحيث أن الديمقراطية هي الجزء التنظيمي والسياسي من "الاعتراف الكبير " الذي لا يتحقق بدونه سلم ولا أمان ، فإنه لا بد من التوقف عند حقوق الإنسان ، تلك المرجعية الضرورية لفهم الروح الديمقراطية .

إن القراءة المتشبّعة للإعلان  تظهر أن الحقوق السياسية ـ التي تصلح أن تكون معيارا في منتهى الإيجاز والدقة عن مدى ديمقراطية أي جهة ـ لها في الواقع نفس قيمة الحقوق الإنسانية الأخرى. وهذه صياغة جديدة في ميدان السياسة لمطلب قديم قدم الإنسانية ، أو وهو مطلب الكرامة والعدالة .

إن أصعب شيء في هذه القضية هو كيفية إقناع كثير من العقائديين أن حقوق الإنسان ليست نقضا لما آمنوا به في سعيهم الدؤوب لتحقيق كرامة الإنسان والمجموعة البشرية، وإنما هي حركة جاءت لتعميق النضال وتوسيع قاعدته في مواجهة تعدد الإخفاقات . كما أنها حلقة من سلسلة ستتواصل بعدها. إنها الشكل الحديث لمشروع قديم، ولسوف تظهر حركات أخرى لترجمة هذه الإرادة الأزلية إذا فشلت حركة " حقوق الإنسان" وأصبحت هي نفسها غطاءا جديدا للاستبداد المتجدد .

ومن بعض حوار الصم مع أناس هم أنفسهم ضحايا الاستبداد ، وهم في الآن نفسه ضمان تواصله وتشبيبه ، قال أحدهم : " نحن لا نؤمن بحقوق الإنسان، لأنه بدعة غربية تتنافى في أصولها وفروعها مع شريعتنا السمحاء، أضف إلى هذا (لاحظ التناقض الأول) أننا بغير حاجة إليها ، لأن ديننا وتراثنا ما يغنينا عن هذه الأفكار المستوردة، ففقيه كل الحقوق الإنسانية التي يمكن أن تخطر على البال ، مع الحفاظ على حقوق المجموعة. فنكون قد ضربنا عصفورين بحجر.

أما ما يدعيه الإعلان من "عالمية" فمحض افتراء، وإنما هي " المركزية الغربية" توهمنا بعالميتها، لما تتوفر عليه من قوة المال والسلاح. وقديما وصف ابن خلدون "ولع المنهزمين بتقليد المنتصرين وتقمص عاداتهم...".

وصفّق جزء كبير من القاعة المكتظة ذلك اليوم في كلية الحقوق بسوسة للطالب الهمام ، الذي عاد إلى قواعده الأصولية سالما ...

إنّ التحدي الأول الذي يواجهه الخطاب الأصولي الديني هو أن يبقى في ميدان حقوق الإنسان دونيا، ناقصا، مبتورا، يتخبّط في قيم لم تتجدد بعد ، لم تثوّر ، ولم تعصرن، لم تواكب أطور متطلبات الإنسان والإنسانية.

والتحدّي الثاني " أن ينعزل ، أو بالأحرى أن يحاول عزل نفسه عن هذا الخضم الهائل من الأحداث والثورات التكنولوجية التي تعرك الشعوب والثقافات ، وتمزجها رغم أنفها لتستخرج منها أنماطا وأشكالا جديدة.

والعزلة بطبيعة الحال مستحيلة ، والمحافظة على خصوصية دونية مسؤولية جسيمة. والتحدي الحقيقي تمثل ، وسيبقى، في قدرتنا على أن نؤثر بقدر ما نتأثر ، وفي أن نحقن العالمية بأكبر قدر ممكن من عطائنا المتميز. لأن العالمية التي تفرض نفسها يوما بعد يوم ستصيغها الخصوصيات المتطورة ، والغازيّة الخلاقة ، سواء أكانت غربية أو آسيوية. أما الخصوصية المغلقة المحافظة على جوهرها ، وعلى قيم دنيا فإنها ستتأثر حتما ، لكن دون أن تؤثر في شيء هام.

وقال الآخر : "نحن لا نؤمن إلا بحقوق الأمة : حقها في الوحدة ، في الأمن العسكري، في سلامة أرضها، في بناء دولتها الواحدة ، وما عدا هذا تعتيم وتمويه.فما موقفك يا ترى من الخونة الذين يتعاملون مع سلطات الاحتلال الصهيوني، ألا يجوز تعذيبهم لإرغامهم على الإدلاء بمعلومات عن تعاملهم مع العدو ؟ وما موقفك من هؤلاء الأعداء أنفسهم ؟ ألهم حقوق فوق أرضنا السليبة ؟ وماذا عن جنوب إفريقيا ؟ هل يجور باسم حقوق الإنسان تركهم يمتصون عرق ملايين السود وصفّق جزء كبير من القاعة المكتظة ذلك اليوم في كلية الحقوق بسوسة للطالب الهمام ، الذي عاد إلى قواعده القومية سالما.

قلت : "سميناها مرحلة استقلال الشعوب تجاوزا ، لأنها كانت في الواقع مرحلة استقلال الدول . ونحن نؤمن بضرورة تمكن كل شعب من تقرير مصيره ، دون ضغط أو إكراه من طرف أي شعب آخر ، وإن تطلب ذلك الدفاع عن النفس بالسلام. لذلك نحن بالضرورة وطنيون ، ناضل آباؤنا وأجدادنا من أجل حرمة الوطن واستقلاله. كما نؤمن أيضا بأن هذه الأوطان الصغيرة مطالبة بالانصهار في تجمعات بشرية تتجاوزها ، لأن قدر الإنسانية في التوحد ، وبالتالي فإننا نعتبر أن الدولة الإقليمية شكل مؤقت وزائل من أشكال التنظيم.

لكننا نلفت انتباهكم على أمر غفلتم عنه : ذلك أن الحرية الوطنية كل لا يتجزأ ، لا نطلبها لأنفسنا ونرفضها للآخرين . لذلك أطالب بصفتي عربي وعروبي بحق تقرير المصير ، بل وبحق الانفصال للأقليات الدينية والعرقية والقومية التي تطلب ذلك بمحض إرادتها ، وفي إطار حرية التعبير عن آمالها ...".

وكم شعرت بالخزي والعار، يوم جلست وسط عاصفة رملية تصطك لها الأسنان ، على أرض الضفة اليسرى لنهر السنغال ، وسط عشرات اللاجئين الموريتانيين الذين أطردوا من بلادهم لا لشيء إلا لأنهم زنوج ، لا عرب .

وأضفت  : "أما التضارب المفتعل بين حرية الشعب وحرية الإنسان ، فكلمة حق أريد بها باطل... لأن الشعب كما نعلم مكون من عدد من الناس ، فأي حرية لشعب يمنع عنه حق التعبير ، وحق التنظيم السلمي، وحق محاسبة حكّامه! ؟ وأي حرية لشعب لا خيار له إلا التمرد أو الاستقالة الجماعية تحت راية كرباج ، القائد الملهم ؟

إن الاستقلال الأول كان حقا عملية مربحة للدول، للأنظمة ، للزعامات ، للبيروقراطيات الحاكمة. وكان الشعب الحجة والذريعة ، المبرّر والغطاء . ثم اكتشف الناس ـ خاصة في بعض  الدول العربية المستقلة ـ أنهم يخضعون إلى دكتاتوريات دموية رهيبة ، أين منها القمع الاستعماري الذي لم يصل ـ حتى في أوج هيمنته ـ إلى بعض ما حققته هذه الأنظمة ، التي تصف نفسها بالوطنية والتقدمية والوحدوية ...! ؟

كفى خلطا ، فقد تفتحت أعيننا . لذلك نريد متابعة مسيرة التحرر التي افتتحها الأجداد ضد الطغاة الأجانب. نريد أن نواصلها نحن ، لنجعل من الاستقلال الثاني تتمة لكل هذه النضالات .

وقال آخر : "نحن لا نؤمن بحقوق الإنسان لأنها بدعة بورجوازية ، تتنافى في أصولها وفروعها مع دكتاتورية البروليتاريا. هذه العقيدة تنادي بها البورجوازية الصغرى ، المتمسحة بأعتاب الإمبريالية  الكمبرادورية . فالعمال والفلاحون الذين يعانون أبشع أنواع الاستغلال المادي ، بحاجة إلى الحريات الحقيقية التي تضمنها الاشتراكية العلمية، بما توفر لهم من عمل ومسكن وحقوق صحية...".

وصفّق جزء كبير من القاعة المكتظة ذلك اليوم في كلية الحقوق بسوسة للطالب الهمام الذي عاد إلى قواعده سالما.

قلت : "تتكلم سحريا، وكأن الشيوعية لم تنهار بعد ، وكأن ألمانيا الشرقية وبولونيا والمجر وتشيكوسلوفاكيا لم تحل على التقاعد الأحزاب الشيوعية في أولى انتخابات حرة . وكأن الاتحاد السوفياتي لم ينفجر بعد ، ولم يتضح عمق فشل النموذج الألباني في تحقيق كرامة الشعوب الصغيرة، ولم تقمع مظاهرات الشباب في بيكين الذي شيد تمثالا  للشيوعية فحطمته الدبابات الرجعية !".

تشعر وأنت تحاور بعضهم إلى أي درجة هم ناقمون على الشعوب، على الواقع ، على البشر عامة ، لأنهم كذبوا وسفهوا الآمال والأحلام التي أتت بها "النظرية المقدسة" . هؤلاء الناس كتب عنهم "قاليلي" منذ قرون قائلا : إنهم يفضلون تغيير ما بسماء الطبيعة، حتى لا يضطروا إلى تغيير حرف من حروف أرسطو". يداوون آلامهم بجمل من نوع : "ما أجمل الماركسية وما أقبح الماركسيين ".

للمخلصين منهم نقول : غلّفتم الحاجة القصوى للكرامة بمطالب هي في الحقيقة شرعية وعملية ، كالحق في العمل والتعليم والغذاء والصحة والثقافة والترفيه ، لكن كان ذلك برداء الدكتاتورية، فجاءت النتيجة كما رأيتم : شعوب بأكملها وبكل طبقاتها تلفظكم لفظا .

فما السبب ؟

-لأن الدكتاتورية إن عدلت ، وقلما تعدل ، لن تقوم إلا بتوزيع مزيد من الفقر الجماعي . والشعوب،هذه الكائنات الأنانية ، تريد أن تحقق الثروة والرخاء ، ولو بثمن التفاوت .

-لأن الحقوق كأصابع اليد الواحدة، والمرء لا يقبل أن يضحي بالسبابة من أجل الإبهام.. ولقد قلتم : نضحي يالحريات الفردية والجماعية ليتمتع الناس بالحريات الحقيقية التي تقيهم استبداد الجوع والعرى والجهل والمرض. لكن اتضح بالكاشف أن هذا الخيار أدى إلى استبداد الحزب الواحد والشرطة السرية وصغار الكتبة وكبار الطغاة. فاستحالت حتى اللقمة نفسها من جراء هذا النظام الذي نما ، كسرطان جماعي ، التواكل والكسل وشتى مظاهر الاستقالة الجماعية

فإن أردتم أن تكونوا نزهاء مع أنفسكم، فقد آن الأوان لاستخلاص العبر : إن الحريات ، كما ورد في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ، وحدة  لا تتجزأ . وبالحركات الفردية والسياسية تكون الحريات الاقتصادية  والاجتماعية ، التي بها تتعمق الحريات الفردية ، وتدعم  تبعا للحريات السياسية.. وهكذا.

أما وقد دفعتم الشعوب معكم ثمنا باهظا لنظرية ترى بأن "نضحي بالحقوق لضمان لقمة العيش "  والحال أن الحقوق هي التي تضمن هذه اللقمة، فلم ببق لكم إلا إعادة صياغة كل الشعارات . فهل لكم في شعار كهذا، من الآن فصاعدا ؟

المدخل إلى المدينة الفاضلة.. لا يكون إلا عبر " ديمقراطية" البروليتاريا .

ويبقى على خطاب حقوق الإنسان أن يواجه تحديات أخرى . إذ تمحور هذا الخطاب لعدة سنوات وعقود ، حول الحقوق الفردية والسياسية ، وذلك لسببين  :

1 ـ الانتهاكات الصارخة لهذه الحقوق ، من طرف الأنظمة الاستبدادية، سواء منها الماركسية أو التي تعتمد نظريات أخرى .

2 ـ يرجع العامل الثاني إلى طبيعة تلك الشرائح الاجتماعية التي واجهت هذا الاستبداد ، معتمدة على مبادئ حقوق الإنسان. هي نخب مثقفة استطاعت تحقيق قدر معقول من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية لنفسها ، ثم توجهت  بعد ذلك إلى المطالبة بالحقوق الفردية  والسياسية ، متناسية أحيانا أن "الإعلان العالمي " لا بفضل بين المجالات الثلاثة للحريات ، بل يعتبرها مترابطة بينها .

إن حقوق الإنسان  هي ، في جوهرها ، أول وفاق عالمي من نوعه على الشروط الدنيا ، التي لا بد من تواجدها حتى لا تنتهك كرامة الإنسان . مع العلم أن هذه "الكرامة" ليست حصيلة "الحقوق" ، وإنما الحقوق هي حصيلة الكرامة. فهي سابقة ومتقدمة على كل الحقوق ، كما أنها موجودة ، بقطع النظر هل تواجدت الحقوق أم لا ، مثلها في ذلك كاستمرار وجود الشمس ، سواء أحجبتها السحب أم لا .

وهذا يعني أن الحقوق السياسية التي نسميها ديمقراطية ، تمثل التصور المعاصر والأكثر نضجا وتقدما ، لنوعية الآليات السياسية التي تمكّن أحسن من غيرها من بلورة خاصية الكرامة الفردية والجماعية.

إن مأساة الاستبداد أنه يتعرض للقيمة الإنسانية الأولى (الكرامة) ، وللحاجة الأولى (السّلم) وللخاصية الأولى (إرادة المشاركة) ، حتى وإن ادّعى كعادته خدمة كل الأهداف.

تكذّب الملاحظة الموضوعية لوضعية الفرد والجماعة هذا الإدعاء ، وتظهر كيف تصطفى الحالة الاستبدادية الذل كتصرف ، والذل كموقف ، والذل كوسيلة للعيش والتمعش ، وحتى الذل كقيمة.

وهو ما لا يعني بالطبع أن الإيديولوجيات والعقائد لا تبحث عن الكرامة، لكن اعترافها بـ "بالآخر" محدود ومنقوص ، خاصة وأنها تحتوي على بذور  واستعدادات للتهيكل في أشكال استبدادية ، تقلب المشروع إلى نقيضه.

إن الديمقراطية في شكلها المعاصر ليست نظاما سياسيا بقدر ما هي الجزء السياسي من أشمل وأعمق اعتراف بكرامة الإنسان ، هذا الاعتراف الذي تخطّى حواجز العرق والدين والجنس واللغة والطبقة.

إنها ثورة قيمية ترتكز على ثورة أخرى لا تقلّ عنها خطورة، بدونها تكون سطحية أو ناقصة.

                                                 ***


3 ـ العقليـة العلمية

 

قد يبدو من التجني على الحقيقة والألفاظ أن نقول إن العلم " بطبيعته" ديمقراطي ، وأن الديمقراطية لا تترعرع إلا وسط تربة أخصبتها عقلية علمية ، ومع ذلك فإن لهذا الرأي ما يدعمه ويعززه.

نحن ندور في حلقة مفرغة منذ أربعة عشر قرنا ، لأننا نملك عقلا معقولا (من عقل الشيء أي منعه عن الحركة) . وهو معقول أساسا بالمانع الديني السياسي، والثاني هو الوجه الآخر للأول.

وإذا اعتبرنا أن العلم ليس التقنية وأنه : شتى أصناف المعرفة المرتكزة على استعمال العقل ، فمن البديهي أن شرعية التفكير ، سواء أوافق المعهود أم خالفه، هي المحرك الخفي الذي يمكّن من استكشاف ميدان ما بقدر ما تقلّ قدرة المجتمع على إنتاج المعرفة.

لنذهب إلى أبعد من هذه الفكرة البديهية.

رأينا أن الحرب الرمزية هي حرب لغة بالأساس، إنها تبادل صارخ متشنج وأحيانا عدواني وعنفواني للكلام . وله أن يكون ذلك طالما لم يتجاوز  الخط الأحمر ، أي المرور إلى العنف الجسدي.

وعلى الديمقراطي أني كون ، بداهة ، قادرا على الاستماع إلى رأي الخصم أي إلى نقده الذي يحتمل أن يكون جارحا أو حتى ظالما، كما يمكن أن يكون بنّاء أيضا. وقدرة الديمقراطي تكمن هنا في مواجهته بالحجة لا بالعنف. فلا يحق له أن يفرض صوته ويسكت الأصوات الأخرى ، وإن اعتبرها نشازا .

أليس هذا ما يقع بالضبط في "التفكير العلمي " ؟

لا  شيء أشق ، عند المبتدئ في ميدان البحث العلمي، من ضرورة بلورة الفرضية ، نظرا لأهميتها  فالعلم ليس وصفا للأشياء بقدر ما هو تفسير لها. ومن ثم فهو مطالب بالرد على سؤال محدد. أما الفرق بين الفكر العلمي واللا علمي فهو أن الأول يقبل أن يكون ردّه معارضا لتصور عام، أو لمصالح معينة أو لأفكار قديمة... في حين أن الثاني يرفض ذلك رفضا كليا .

وفي الفكر العلمي ، يمكن أن يكون الرد على السؤال بـ : ( أ ) أو ( ب).

أما في الفكر اللا علمي، الرد على السؤال بـ (ب) غير وارد، وقد يترتب عنه ما لا يحمد عقباه

إن الفرضية في الفكر العلمي هي إجابة مسبقة على سؤال مطروح ، لكنها إجابة مؤقتة يقع قبولها أو رفضها بعد التثبت من صحتها. والأهم من هذا أن قبولها أو رفضها لا يخضع لمنطق سلطوي .

فلا نبي في العلم ، يكون خاتم العلماء ولا فرض   لحقيقة ما بمحاكم التفتيش كما لا تكفير لمن خالف الرأي العام وشذ عن الجماعة.

فأنا أستطيع أن أختلق ما شئت من التفاسير ، لكن عليّ أن أثبت أو أبرهن صلاح فرضيتي . أما في الفكر اللا علمي فلا مجال لتقديم التفاسير المقنعة، بل "الإلزام " هو كل ما يستطيع أن يفرض به الفكر اللا علمي ، أي الفكر الاستبدادي ، "حقائقه" هذه .

كيف يمكن البت في صحة الفرضية ؟

وفي العلم ، تستعمل عدة وسائل حسب الإشكالية وموضوعها : فالتجريب في العلوم الطبيعية، والقياس والمقارنة بين مجموعتين في الطب، والتحليل والاستجواب والإحصاء في العلوم الإنسانية الخ ... أي هي دوما مقارعة الرأي بالرأي، والرأي يحكم الواقع .

إن المتتبع لتطور أي مفهوم علمي يواجه بالتغير الدائم إن لم يكن بالتناقض والتضارب والتكذيب الذاتي. لهذا السبب ، تعتبر الحقائق المتطورة "علمية" ، إذ أن الإنسان العالم هو ذلك الجاهل الواعي بجهله، أما الجاهل فهو ذلك العالم المغتر بعلمه.

والغريب إذن ، هو ذلك الخلط الذي يقع فيه الناس بين العلم والحقيقة المكتملة. ويرجع السبب في ذلك  إلى ما لا يلاحظونه من فاعلية، غير واعين أنها فاعلية متطورة ، لأنها تراجع نفسها دوما من الحسن إلى الحسن . فهذه المرونة هي التي نقلتنا من الطائرات المروحية الخشبية في بداية القرن  إلى قاذفات الصواريخ نحو المريخ .

إن تطور معارفنا في مجالات التقنية والمنهجية ، وتزايد عدد الباحثين ، وتعقّد الإشكاليات وتغييرها، هي نفسها التي تجعل النتيجة العلمية عكس ما يظنه المتعلمنون ، فهي ، خلافا للتصور الجاهل ، ليست مرادفة للثبات والدوام والدقة ، وليست مرادفة للحقيقة ، بل هي على عكسها  ناقصة ن مبتورة ، متطورة ، متناقضة ، متضاربة.

إن الاستبداد السياسي هو لا ريب أهمّ إفرازات الفكر الاستبدادي الذي يرفض الرأي الآخر ويحاول إخماد صوته ويرتكز على مفهوم كلياني للحقيقة كمعطى ثابت مكتمل خصّ به دون غيره. والعكس بالعكس ، إذ لا يمكن أن يكون المرء ديمقراطيا ما لم يضف إلى قناعاته خصائص الفكر العلمي وأساسا خاصية "النسبية" وما لم يتعلم قبول الرأي المخالف والتفاعل معه من منطلق بعيد تماما عن استعمال وسائل القوة وأساليبها.

وقد يحتج البعض على هذا الرأي بأن دولا استبدادية رعت العلم وطورته . والحقيقة أن التحرر كل لا يتجزأ. ومن ثم ، تجد الدولة الاستبدادية نفسها ، إن عاجلا أو آجلا ، في مواجهة مع طرق تفكير خطيرة ودخيلة عليها .

هذا ما حدث مثلا في الاتحاد السوفياتي سابقا عندما حاول النظام أن يتعرض للبيولوجيا  وأن يخلق علما خاصا به، الأمر الذي تسبب في ظهور فضيحة مشهورة عرفت بقضية ليسنكو، وتسبب بصفة خاصة في انهيار هذا الحقل من العلوم لمدة طويلة . هذا بالإضافة على أن انتشار الفكر العلمي ، أي فكر التحرر والنقد والمراجعة ، هو الذي ضرب الفكر الإيديولوجي للسلطة في الصميم وعرّاه كفكر بدائي سحري لا يفرض نفسه إلا بالقوّة .

لقد كان ساخاروف عدوا للاستبداد ، لا لأنه كان مناضلا من أجل حقوق الإنسان فحسب ، ولكن لأنه كان أيضا رجل علم .

إن العقل المطلق من عقاله هو إذن دعامة الاستقلال الثاني. لكن لماذا ؟

لأن الوظيفة الأولى للعقل هي التقييم .

أما إذا حرّم التقييم الفكري ـ أي تحرر العقل ـ لسبب أو آخر ، فستكون خاتمة السلسلة : استبداد الزعيم واستبداد الموظف واستبداد الشرطي والسياسي...

وكما رأينا، الاستبداد هو عمل الفكر البدائي في ميدان السياسة، نرى أيضا أن "الفكر العلمي" هو سياسة التحرر الفكري في ميدان المعرفة.

يتضح إذن أن الديمقراطية هي في الوقع إحدى شروط التحقق، ونتاج عملية التحرر في الفكر قبل أن تتبلور هذه الأخيرة في آلياتها المتحررة في ميدان السياسة.

تحضرنا هنا ضرورة التفريق بين الحرية والتحرر.

فممّا لا شك فيه أن الحرية مفهوم غير جدي، فهو لا يصف شيئا موجودا ولا يدعم طموحا شرعيا ولا ينبئ بمشروع قابل للتحقق,

كما أنه لا يصف شيئا موجودا ، لأنه لا يعرف في الكون شيئا يتحرك خارج حدود الزمان والمكان وضوابط مختلف القوانين ، وعراقيل لا عد لها ولا حصر . أما تخلّص روسو بقوله : إن الحرية هي الخضوع للقانون ـ أي لما يحد من الحرية ـ فإنه لا ينقذ المفهوم وإنما يعمق مشاكله. فأنت إن خضعت للقانون أو تمردت عليه، تعترف بأن الحرية يجب أن تعرّف  بنقيضها ، وأنها لا توجد إلا محدودة أي غير حرة. كذلك لا يدعم المفهوم أي طموح شرعي ، لأن الحرية هي في الواقع حلم مطلق السلطة. ومطلق السلطة هو مطلق الخطر على الذات والعالم.

وأخيرا لا معنى للحرية كمشروع قابل للتحقيق ، لا لأنها غير ممكنة وغير مرغوب فيها، وإنما لن تستطيع المحافظة على ذاتها طويلا بموجب قانون هيرقليط/ لاوتسه الذي يسن أن الشيء لا يوجد إلا بنقيضه، وأنه متحرك متغير لا يثبت على شكل أو حالة.

إن الفكرة المنطقية الوحيدة التي يمكن أن تنقذ المصطلح إذا أصبحت مرادفة له هي : "قدرة الاختيار " . مع العلم أن هذه الأخيرة ليست خاصية يمتاز بها الإنسان وحده. فخلافا للجماد، نلاحظ أن كل كائن حي حر ، لا يشعر أنه مدفوع أو مجذوب أو متحرك أو خامد أو ساكن بفعل قوي فيزيائية عمياء لا مرد لها . بل يشعر أنه يستطيع أن يذهب يمينا أو يسارا في البحث عن غذائه وأن له أن يجرب فيخطئ أو ينجح ، كثمن يستحقه لاختياره هذا الطريق أو ذاك.

والاختلاف الوحيد بين الأحياء في هذه القضية يكمن في اتساع هامش الاختيار أو ضيقه. لكنه لا يمثل "حالة" نعيشها ، وإنما "فعلا" تفرضه الحياة. وهو ما سيمكننا من الانتقال إلى تصور أكثر فاعلية " للحرية".

وفي مواجهة هذا المفهوم غير الجدي للحرية، نكتشف خصوبة مفهوم التحرر وأهميته. إذ نحن هنا نتعامل مع الواقع والموجود والديناميكي والممكن والضروري والشرعي.

إننا لسنا في مواجهة "حالة"  وإنّما نحن أمام حركة مبنية على الخيار الدائم وتحمل ترتّباته . تهدّم وتتجاوز العوائق الذاتية (الخوف) والعوائق الموضوعية (الجهل ) والقوالب الفكرية الجامدة والقوانين الظالمة والأشكال الحياتية القديمة، والسلطات اللاشرعية، لتبني على الأنقاض أشكالا وحالات وقوانين أكثر تلاؤما مع حاجيات الإنسان. وهي، نظرا لتجدد  العوائق والحدود ، حركة لا نهاية لها ولا أمل في أن تحملنا إلى محطة نهائية أسمها : الحرية.

إن التحرر في الحقيقة ليس إلا ظاهرة تجدد الحياة. وقوة التحرر تعكس حيوية الحياة وقدرتها على التواصل ، عبر التجدد والتأقلم والتطور والتحسن والبرء من كل الأمراض التي تلحقنا.

وهذا يعني أن محرك الديمقراطية هو ذلك الاستعداد الذهبي الذي يبتلور أساسا في العلم ، أي في قدرة الانعتاق من كلّ الأشكال المتحجرة المتكلسة لبناء أنماطا أرقى على أنقاضها. وأن الديمقراطية لن تكون إلا حيث وجد هذا التحرر الفكري، الذي سيجد له أكثر من ميدان يثبت فيه فاعليته في مواجهة فكر الاستبداد.

                                                  ***

 

 

 

الفصل  الثالث

الآليــات

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 


الدعامات

يقول ادجار موران : "لا بد من الاعتراف بفشل ثورة القرن العشرين ، لكن تاريخ الإنسانية متواصل".

كيف لا نشاطر موران هذا التشخيص القاسي ، ومظاهر فشل الثورة واضح للعيان، وتتجلى كأحسن ما يكون التجلي في ثلاث :

لقد تنبأت في القرن الماضي نظريات التحرر بانهيار الرأسمالية العالمية، إلا أن هذه الأخيرة لا تزال على اليوم في أوج سيطرتها ، رغم ما تعانيه الإنسانية من نتائج سلبية خطيرة، كتفّشي البطالة ، والفوارق بين الطبقات والشعوب... إلخ .

تمخضت حركات التحرر في العالم الاشتراكي (سابقا) والثالث (دائما) عن بناء دول عسكرية أو بيروقراطية، حققت للشعوب المقموعة من طرف الاستعمار والرأسمالية بعض الإنجازات السياسية، لكنها سجنتها داخل أنظمة تخطيء لكن لا يحاسب فيها إلا من ندد بالخطأ .

وهكذا رأينا رومانيا تزداد فقرا في ظل آل شاوشسكو، وانتصاب الحكم الوراثي عند آل كيم ايل سونج في كوريا ، وتظاهر العمال الكاثوليك ضد حزب شيوعي يقوده العسكر. كما رأينا أمة كاملة في أفغانستان تتوحد باسم     " أفيون الشعب " لتقاوم حزبا عميلا مدعوما من الخارج يريد أن يقودها إلى الجنة بالسلاسل. هذا ، بالإضافة إلى نجاح ثورة دينية في اقتلاع شاه إيران الذي فشلت في مواجهته كل حركات اليسار.

تهاوى خطاب الحداثة في البلدان العربية والإسلامية، فظهر قصور النظرية وسطحيتها وتكذيب الواقع لها. وأصبح جملة من المبتذلات التي يرددها تلميذ الثانوي المبتدئ والسياسي المتخلف والإيديولوجي المتعصب وهو في حالة انفصام متقدمة . وبانهيار مصداقية خطاب الحداثة ، برز  إلى الوجود الخطاب السلفي واحتل الساحة، فأصبح خطابا للتحرر التقدمي، واتخذ له موقع الدفاع عن النفس أمام فكر فرضت عليه العودة إلى إشكاليات الثلاثينات .

إن انتشار الخطاب السلفي ، بمختلف أشكاله، ظاهرة عالمية. فهناك الأصولية الإسلامية والأصولية الهندوسية... وكلها تتعامل بنفس العقلية وتقترح نفس الحلول لنفس المشاكل .

تتعلق هذه المشاكل التي تمس كل شعوب العالم ، بالأخطار التي تهدد الهوية، وباتساع الهوة بين الطبقات والشعوب، وبانتشار العنف المدني والسياسي، وبفشل كل الإيديولوجيات . مما تسبب في "ردة الفعل " التي نشهدها اليوم لدى الخطاب الديني في تعامله مع الواقع . وهي ردة فعل ساعدت على بلورة ما نسميه بـ "فكر الردة" الذي توهم بأن التقوقع على الدين والعرق والوطن سيشكل المخرج والمهرب .

 وفي المقابل هل يمكن أن تكون الديمقراطية وهما جديدا وسرابا خادعا تتعلق به بكل أهدابنا وجوارحنا ، لنكتشف في يوم ما، كما اكتشف الروس ، أنها هدية  مسمومة، وأنها قد تكون جزءا من الحل ولكنها ليست بالضرورة الحل المرجو ؟

إن القاعدة التي يخضع لها كل الكون ، وقد سميتها قانون هيرقليط/لاوتسه ، هي أيضا أن الشيء لا يوجد إلا بنقضيه . وأن من طبيعة هذا الشيء، سواء أكان من المادة الحية أو المعدنية، أم من الفكر أو التنظيم ، أن يمر في البدء بمرحلة النشأة، ثم يتطور ، ثم يهرم ، لينتهي به الأمر في الأخير إلى الموت والفناء. ومن ثم ، يتضح لكل من يؤمن بإيديولوجية وتنظيم ، ولكل من يسعفه الحظ يوما ا بوضع نظام سياسي ، أن يكلف نفسه ، قبل أي مبادرة ، بالرد على سؤال بسيط :

بماذا يموت هذا الفكر ، أو هذه الإيديولوجية ، أو هذا النظام ؟

إن موت الأنظمة والإيديولوجيات والدول أمر حتمي حتمية موت الكائنات البيولوجية ، وحتمية موت الكواكب والنجوم . ولكن يكمن الفرق فقط في المدة الزمنية التي تتطلبها العملية. فلا غرابة إذن أن يكون الموت قدر النظام الديمقراطي حتى في البلدان التي نظنّها اليوم راسخة القدم في تقاليده .

من منا كان قادرا في الثلاثينات على تصور انقلاب روسيا إلى دولة رأسمالية تنخر فيها المافيا في نهاية هذا القرن ؟ وهل يكون هذا أكثر استحالة من احتمال تفكك الولايات المتحدة إلى دول عنصرية، في القرن المقبل ؟

حقا يصعب التنبؤ بأمر كهذا ، بل وربما كان مستحيلا نظرا لتعدد وتعقد الظواهر ذات الصلة بهذه القضية، ونظرا للظهور المفاجئ أو الاختفاء غير المتوقع لألف معطى ومعطى. لكننا نستطيع القول بأن أول بلد مهدد اليوم بالعودة إلى شكل أو آخر من الاستبداد هو نفس البلد الذي يريد تصدير قيم الديمقراطية ، وبسط حمايته على أنظمتها ومناضلتها خارج حدوده .

ويكمن أصل الخطر بالأساس في تعايش آليتين متناقضتين داخل المجتمع  : فمن جهة ، يوجد الجهاز السياسي الذي ينظم الحرب الرمزية ، ومن جهة أخرى هناك الجهاز الاقتصادي الذي يعمق  الفوارق الاجتماعية ، ويهمش ويفقّر قطاعات متزايدة من الشعب . وهكذا يساهم من حيث يدري أو لا ، في إمكانية العودة إلى الحرب الدموية. وهنا، يحق لنا أن نتساءل : هب حقّا لم تبدأ بعد هذه الحرب ، إذا اعتبرنا أن جزءا كبيرا من العنف هو عنف له جذوره الاقتصادية والسياسية.

إن انتشار ظاهرة الميليشيات العسكرية (وكان ظهورها في لبنان أولى بوادر الخروج من الحرب الرمزية إلى الحرب  الدموية) ، مع انتشار السلاح والاهتراء  المتزايد للأجهزة السياسية نفسها ، لهي علامات خطر متعاظم.

وفي هذا الإطار الذي تشكّل فيه المفاجأة العنصر الدائم للتاريخ ، هل ستتمكن الشعوب العربية ، أو بعضها على الأقل ، من بناء ديمقراطيات راقية وطويلة العمر، إما مباشرة بعد الانهيار الحتمي لأنظمة الاستقلال الأول ، أو بعد جولة استبدادية دينية ربما تطور  أو تقصر ؟

وهل من حسن حظنا أو من سوءه أننا لم نبن إلى حد الآن ولا دولة ديمقراطية واحدة ، وأن هناك تجربة ضخمة لشعوب الجوار تحت التصرف والطلب ، مما يوفر إمكانية بناء ديمقراطية متقدمة وطويلة العمر ؟

من البديهي أنه لا يمكن إلغاء قانون "هيرقليط/لاوتسه" ، ولكن من الثابت أننا نستطيع أن نبني مؤسسات كما نبني بيوتا تدوم أطول وقت ممكن إذا اعتبرنا تطور تقنيات البناء وتجارب الأخرى.

وقد يبدو من العبث طرح السؤال التالي : كيف تموت الديمقراطية قبل أن ترى النور في بلادنا ؟ إلا أن هذا السؤال ـ على غرابته ـ يمكّن من فهم أعمق للديمقراطية ومشاكلها ، ناهيك عن صبغته التي ستظهر عاجلا أو آجلا.

لنتعامل إذن مع الموضوع بذهاب وإياب دائمتين من النظرية إلى الواقع ، ومن التجربة إلى السلبيات ، ومن الموجود إلى المنشود ، لنستخرج الخطوط العريضة لديمقراطية طويلة العمر ، يجب أن نزرعها من اليوم في أوطاننا إن أردنا أن يكون لنا نصيب من المستقبل .

يمكن للديمقراطية بطبيعة الحال أن تجهض أو أن تولد ميتة أو توأد وهي في خطواتها الأولى. وهذا يحدث إذا لم تتوفر العقلية الديمقراطية وروحها ،  أو إذا كان ضغط المشاكل يجعل الممثلين الاجتماعيين يفضلون الحرب الدموية على الحرب الرمزية لاعتقاد ساذج بأنها تختصر الطريق على العالم الأفضل ، والحال أنها لا تسبب إلا إراقة الدماء وإضاعة الوقت والفرص .

أما إذا توفرت شروط بناء آليات الديمقراطية (المتمثلة في : العقلية الديمقراطية وروحها ، والإجماع على الهدف)، فلا يمكن أن يأتي الموت إلا نتيجة دبيب الهرم والعجز داخل هذه الآليات ، مثلما يأتي الموت إلى الحي بسبب عطب في القلب أو بروز سرطان في المثانة ، أو نتيجة الوهن المتزايد والمتناسق للرئتين والكبد والكليتين ، بقطع النظر عن إرادة الحياة واتباع كل قواعد الحمية .

فلو تمعنا في عمل آليات الديمقراطية الغربية التي تبدو اليوم أكثر الآليات تقدما ، لتمكنا من تشخيص جملة من الأمراض  التي يمكن أن تكون السبب المباشر أو غير المباشر في عودة الاستبداد إلى أعرق الديمقراطيات .

إن النظام الديمقراطي بناء محمول على أربعة أركان ، إن انهار ركن تصدع البناء ، وإن أصاب الوهن أكثر من ركن انهار كل النظام ، هذه الأركان هي : القضاء المستقل ، والصراع الإعلامي ، والمشاركة ، والتجدد السلمي للسلطة.

                                   ***

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 


1 ـ تنظيم الحرب السلميـة

 

كانت الأوامر التي  تنطلق من قمة دولة الاستقلال الأول إلى قاعدته من نوع  : "اعملوا، فسيرى الزعيم أعمالكم ..."

وقد انهار الهرم على رأس صاحبه، من أوروبا الشرقية إلى جل بلدان العالم الثالث ، لأنه كان موضوعا على ذبابته لا على قاعدته . والقانون هو القانون : فأي دولة تبنى على هذا الأساس ، تكون معدة للتلف لما يفرزه الأمر  من استقالة جماعية ومن تمرد . والاستقالة الجماعية لا حل لها إلا بالتجنّد الجماعي داخل التنظيمات التي تبلور إرادة التطوع والمشاركة في الحياة العامة .

لم يعد من الضروري اليوم أن نؤكد على أهمية هذه التنظيمات التي تشهد تطورا انفجاريا في كل المجتمعات الديمقراطية أو التي ترزح تحت الاستبداد . وهو تطور تحاول الدولة ـ عبثا ـ الحد منه أو توجهه وعرقلته.

إن هذه التنظيمات المدنية هي التعبير الأكثر دلالة ووضوحا على التغييرات الاجتماعية العميقة التي يستطيع الاستبداد تعطيلها ، لكنه لا يستطع إلغاءها . وإنه لمن المفارقات أن تسمى هذه التنظيمات : "المنظمات غير الحكومية" فهو كتعريف المرأة بأنها الكائن غير الذكري . وهكذا تعكس التسمية آخر مظاهر سيطرة الدولة . فتكون أولى بوادر التحرر أن نرفض هذه التسمية ، ونعتبر أن الدولة نفسها هي : "المنظمة المدنية الحكومية " أما غيرها من التنظيمات فيه : "المنظمات المدنية الشعبية".

إنها تعبير عن إرادة الأشخاص وحاجتهم الماسة للتحرر من وضعية القاصر والمحكوم والعاجز والسلبي والمحدود ، وتوقهم للمشاركة في نحت المصير الجماعي ولو على مستوى متواضع وفي ميدان معين . وهي دلالة على إرادة المجتمع لتجنيد كل طاقاته المجمدة  لمواجهة تعدد المشاكل وتعقدها . كما أنها إقرار الجميع بعجز الدولة عن حل كل المشاكل ومواجهة كل الجبهات .

ولأن هذه التنظيمات المدنية والشعبية شهادة على قصور الدولة ومحدوديتها ، إذ تنتزع منها بعض السلطة ، نرى أن ادعاءات الدولة الاستبدادية منافية  لذلك ، وبعيدة كل البعد عن عقليتها ومفاهيمها .

فلا غرابة إذن أن تحاول الدولة الاستبدادية فرض وصايتها على تلك الظاهرة المدنية بالاحتواء والتعطيل وسن القوانين المضيّقة .

ولأن هذه الحركة تمثل ترجمة لتغييرات "جيولوجية" تمس في العمق تركيبة المجتمع ، فإن التعرض لها بالمنع والتضييق  يكون كمحاولة التعرض لانتشار الإعلام مثلا . وهذا يعني ، بصفة أشمل الدخول في معركة خطوط خلفية .

إن دور الدولة الديمقراطية هو استعمال هذا التيار لا التعرض له ، أي وضع كل إمكانياتها لتسهيل خلق وإحياء المنظمات السياسية  والاقتصادية والثقافية والتآزرية والرياضية ... إلخ ، وحمايتها وتعهدها بالرعاية والتشجيع .

ومن نافلة القول أن ليس للقانون أي يقيّد حقّا ضمّن بكلّ وضوح في الفصل العشرين للإعلان . وأن كل التراتيب  الإدارية الموضوعية يجب ألا يكون لها هدف آخر غير تمكين الأغلبية من ترجمة هذا الحق إلى واقع .

إن من أهم الصعوبات النظرية والعملية التي تواجهها الديمقراطية أن يكون كل حق من حقوق الإنسان هو الاسم  الآخر من واجبات الإنسان ، وأن ممارسة هذا الحق /الواجب لا يمكن أن تكون مطلقة ، منفلتة من كل الضوابط. لكن وضع أي ضابط يمكن أن ينزلق بسرعة ـ خاصة في عالمنا العربي ـ على شكل مقنّع من التقييد اللا شرعي للحق لصالح شكل مقنّع من الاستبداد .

إن الخروج من هذه المفارقة لا يكون إلا باعتماد مبدأ يحمي من الطوباوية من جهة ، ومن أي انزلاق من جهة أخرى. يتمثل هذا المبدأ في أن ممارسة الحق /الواجب ينبغي أن تتوقف عند حدود إما نقضها للحق /الواجب نفسه أو نقضها بحق/واجب آخر من حقوق وواجبات الإنسان .

لا جدال أن الديمقراطية عندما تكون سياسية محضة ، وتعمل دون الانتباه إلى أديم الأرض ، فستصبح مجرد عملية توسيع للمنافع والمصالح لفائدة النخب، وبالتالي فهي لا تفعل سوى تعميق الهوة بين طبقات الشعب . فهذه طبقة تتمتع بالثلاجة والصحة ثم بحرية الرأي ... إلخ ، وهذه لا تعرف إلا المرض والحرمان والجهل واستبداد صغار الموظفين ... الخ .

ولا جدال أيضا  أن الديمقراطية قبل أن تكون تقنيات للحكم ، هي تمكين كل فرد داخل المجتمع من المساهمة من موقع المسؤولية في تطوير مجتمعه .

فلا معنى للديمقراطية إذا انعدمت الحقوق الاقتصادية والاجتماعية التي تخدم مصالح الأغلبية. وهو ما جعل المشرّع العالمي يصر على الربط بين الثلاثي : الحقوق الفردية ، الحقوق السياسية ، الحقوق الاقتصادية ، وعلى اعتبارها وحدة لا تتجزأ. وهو ذات السبب الذي يدفعنا للكتابة حتى يكف أصحاب التفكير الأولوي عن إضاعة وقت الشعب بقولهم إن الحقوق هي دوما "اقتصادية- سياسية-فردية ".

إن هذا الموقف ينطلق من الاعتراف بأن إنسانية الإنسان لا تتحقق إلا بالحريات الثلاث :

ـ تتلخص الأولى في التحرر من الفقر والمرض . وهو ما لا يكون إلا بالإنتاج المادي والتنعم بثماره .

ـ أما الثانية فتتمثل في التحرر من ظلم الهياكل القمعية والطفولية. وهذا لا يكون إلا بالإنتاج القيمي والتنظيمي، والتنعم بتسهيلاته.

ـ وتعني الثالثة : التحرر من الجهل والاعتراف ، وهو ما لا يكون إلا بالمشاركة في الخلق والإبداع الفني والفلسفي والعلمي .

صحيح أن هناك علاقة بديهية بين الديمقراطية (كحرية رأي وتعبير وتنظّم وصراع وتنافس سلمي بين قوى الإنتاج القيمي والتنظيمي ) ، وبين السوق (كحرية إنتاج المادة وتنافس على بيعها للمواطن المستهلك ).

وصحيح أيضا أ ن الدكتاتورية التي أجدبت الإنتاج الفكري والتنظيمي والقيمي ، أجدبت كذلك الإنتاج المادي ، فكانت سببا في انتشار الفقر الجماعي.. إذ يرجع ذلك إلى الأسباب البديهية الآتية :

إن دولة الاستقلال الأول تجعل الثروة جزءا من أوراق الضغط السياسية ، تمنحها وتمنعها وفق مصالحها ، لا وفق مصالح الاقتصاد ومتطلباته. فيتربى الناس على عقلية التواكل والغش ، وتغيب فيهم الفاعلية والقدرة على الإنتاج.

يبذّر  النظام  الاستبدادي ثروات المجتمع ، سواء أكان ذلك مقابل تكلفة قوى السهر على حمايته، أو عبر الدعم المادي لبرامجه الدعائية. لكن لا يستطيع أي مواطن تقييم الجدوى الاقتصادية لهذه النفقات ، أو تحويلها لخدمة المصالح العمومية للمجتمع ، كقطاعات الصحة والتعليم والسكن ..

تتعامل بيروقراطية الدولة مع وسائل الإنتاج وكأنها البقرة الحلوب التي يجب امتصاصها. فتملأ دواليبها بأبناء الخال والعم ، فإذا بالعامل الاقتصادي يتراجع أمام العامل السياسي، وتفقد النجاعة

ولأن الأمور مترابطة بين بعضها البعض ، فإنه من الطبيعي أن تغيب المنافسة الشريفة في مستوى السوق ، مثلما غابت في مستوى البنية السياسية.

لقد انتشرت البضاعة المادية المغشوشة ، التي يعسر أن تغزو سوقا خارجية ، مثلما انتشرت البضاعة المعنوية المغشوشة التي يفرضها النظام الاستبدادي .

وهكذا نرى أن كل هذه الآليات تتداخل فيما بينها لتعطّل قوى الإنتاج ، فيتزايد الفقر والتخلف وبؤس البائسين .

لكن لا أحد يستطيع اليوم أن ينكر وجود هذه الظاهرة ، خاصة وأننا أصبحنا نرى القوة العظمى وقلعة الاشتراكية (سابقا) تستجدي غذاءها من البلدان الإمبريالية ، بعد أن كانت مدنها مهددة بالمجاعة . وهذا راجع لا محالة إلى العمل التخريبي الذي تسببت فيه هذه الآليات الرهيبة بعد أن دمرت اقتصاديات شعوب بأكملها .

إن أكبر خطأ ارتكب في حق هذه الأمة بعد الاستقلال الأول هو أننا أممنا الاقتصاد ( أي أننا أسلمنا قيادة  المجتمع وخيراته للبيروقراطية ) وخوصصنا الدولة (أي أسلمنا قيادها لرجل وبطانة) بينما كان الحل ولا يزال أن نخوصص الاقتصاد وأن نحاصر عيوب هذه الخوصصة بتأميم الدولة ، أي بجعلها ملك الجميع وفي خدمة الجميع .

تحضرنا هنا ضرورة التفريق الواعي بين "الليبرالية" كفلسفة وممارسة مبنية على حق المبادرة الفردية في الميدان الاقتصادي ، وبين "الديمقراطية" كفلسفة وممارسة لحقوق أوسع وأشمل.. فالخلط بين المفهومين شائع ومقصود، والحذر منه اليوم من أوكد الضروريات لتطور الديمقراطية ، بل ولبقائها أيضا .

صحيح أن الديمقراطية لا تبنى ابتداء من السطوح وإنما انطلاقا من سطح الأرض . فعلى سبيل المثال ، أدت عملية بسيطة ـ كتسريح النقل في تونس  سنة 1986 ـ إلى تغيير المجتمع التونسي في اتجاه الديمقراطية، أكثر مما غيرته التعددية السياسية الشكلية ، وصحافة  لا يقرأها إلا 3  % من المواطنين .وفجأة انفجر عدد الشاحنات الصغيرة ، حتى أصبحت علامة مميزة لخصوصية واقعنا اليومي . فهي تحتل الأرصفة والطرقات ، وتجدها في أفقر القرى وأبعد الأماكن . وصاحب هذه العملية ارتفاع هائل في تبادل السلع والمنتوجات وسيولتها .

لقد أصبح آلاف الناس في وضع يمكنهم من تبادل العمل والمشاركة فيه. فالقاعدة  تقول : إنه بقدر ما تتحرر المبادرة في الميدان الاقتصادي والاجتماعي ، بقدر ما تزداد الثروة الجماعية.. لكن يتسبّب ذلك ، للأسف ، في تناقص العدالة الاجتماعية.

وفي المقابل ، بقيت الجزائر باحتكارها الصامد لـ "ممتلكات الشعب "، عاجزة عن توفير أبسط السلع في نقط  مجاورة للعاصمة. وذلك لتعلقها وأيمانها بالجهاز البيروقراطي ، ثقيل التوزيع .

لقد أظهرت تجربة قرن من الزمان ، وما لا يقل عن خمسين دولة في العالم، أن ما يسمى بالملكية العامة لوسائل الإنتاج لا تعني في الحقيقة إلا :

-أن لا أحد يملكن هذه الوسائل ، من حيث "الشعور " بملكيتها ، ومن ثم " بمسؤولية" تعهد هذه الملكية .

-أن بيروقراطية الدولة الاستبدادية تتصرف في وسائل الإنتاج كملك حبس راجع لمصلحتها الخاصة. ومن ثم ، كان شعار الجهاز الحاكم في الجزائر أو الاتحاد السوفياتي : لا أحد يملك ، لا أحد يسأل ، والبيروقراطية تنتفع .

تبدأ إذن عملية "تأميم أملاك الشعب " بتسوية الفقر ، إلى أن تشيع البيروقراطية الساهرة على الوقف الاشتراكي . فتظهر طبقة النومنكلاتورا ويبقى الشعب يعلك شعارات : "عملية الاشتراكية" وحتمية انتصار البيروليتاريا " ومسؤولية أعداء حكم العمال والفلاحين في انعدام الخبر " ... الخ .

ولما تصل الأنظمة إلى هاوية الإفلاس يخرج أحدها بالدبابات لسحق الشباب ، ويسارع آخر إلى إعلان  البيرويستريكا ، ويبقى آخرون مشدوهين أمام تكذيب الواقع لأحلامهم ، يسبّون الكون لأنه لم يحترم النظرية كما سنها المعلم الأول أو تلميذه النجيب .

يتضح اليوم أن من أهم أسس الديمقراطية  المبادرة الاقتصادية الاجتماعية .

وبما أن الإنسان وحدة إنتاج وخلق ، والإنتاج يمكن أن يكون ماديا ، قيميا ، معلوماتيا ، تنظيميا وجماليا ، تأتي الدولة الاستبدادية فتقول : أنا أفكر بدلكم، لأني أعرف ما هو الفكر الذي يجب تداوله في السوق ، والفكر الذي يجب أن نحرّمه .. أنا أختار لكم القيم لأني أعرفكم بالقيم والأخلاق، وما عليكم إلا أن تفعلوا ما أقول ، ولا تفعلوا ما أفعل ... أنا أنتج عوضا عنكم ، لأني أعرف ما هو الإنتاج الصالح لي ولكم ...

أما دور الديمقراطية فهو تسهيل إنتاج المادة والقيم والمعلومات ، ثم تنظيم هذا الإنتاج ، حتى لا تعم الفوضى فتصبح النعمة نقمة.

ويتخذ التنظيم عدة أشكال بحسب أهدافه : فشكل خاص إذا كانت الغاية الاحتواء والتحكم ، وآخر إذا كان الهدف الإدماج والتناغم ، عبر تظافر الجهود تظافر جوقة الموسيقى تحت إمرة قائد أوركسترا بارع .

لكن ، علينا أن ننتبه إلى بعض ترتّبات هذا الموقف إذ يجب أن لا نقف عند (ويل للمصلين ).

ولنذكّر دوما بترابط كل حقوق الإنسان واستعصائها على الفصل . وببديهية أخرى : فإن حرية المبادرة لا تعني البتة حرية الاستغلال .

وإذا كانت آليات الديمقراطية السياسية نفسها خطرا على الإنسان ـ إن لم تقيّم ببعضها البعض ، وإن لم تكن عين الثقافة ساهرة حذرة لا تنام ـ فما بالك بالليبرالية المتحررة من كل قيد ، ونحن نعني هنا آليات السوق العمياء ؟

فهل يعقل أن تسلّع الصحة ، أو أن يجعل من التعليم بضاعة لا يستهلكها إلا القادر على اشترائها

وهل يعقل في مجتمع ديمقراطي أن توجد أصناف مختلفة للصحة ، وأصناف مختلفة للتعليم ... ولكل حسب إمكاناته ؟

طبعا لا ، لأنه سيكون منافيا تماما للحقوق الاقتصادية والاجتماعية التي نص الإعلان أنها : حق أي إنسان . ولم يشر في "أي " من هذه النصوص على نوع من التفاضل والتمييز.

إن ترك آليات السوق العمياء تتحكم في المجتمع لن يعني شيئا آخر غير خلق مجتمعين متفاوتين  : أحدهما ينعم بمطلق الثراء ، وآخر يقتات من فتات المائدة ، أملا في أنه كلما تزايدت وتراكمت الأطباق على هذه المائدة ، كلما تزايد نصيبه من الفتات .

إن الانتباه واجب ، والحذر ضروري .

فإيديولوجية  السوق لم ولن تكون المرهم السحري لمشاكلنا الاقتصادية .

ويمكن القول إنه إذا كانت الشيوعية في الماضي ألد أعداء الديمقراطية ، فإن ألد أعدائها اليوم هي الليبرالية.

تتغذى الحرب الدموية أساسا بترتبات الظلم  الاجتماعي ، لكن لا يمكن للديمقراطية أن تنجح في أداء مهمتها إلا بقدر ما تستطيع تجفيف منابع هذا الظلم .

إنه من عجيب المفارقات أن نرى أعرق ديمقراطية في العالم  تحكم  بريطانيا . ذلك البلد الأوروبي الأكثر تفاوتا من الناحية الطبقية . أما الديمقراطية الأمريكية فتسيّرها طبقة سياسية ، نسبة المليونيرات بالدولار فيها خمسون مرة نسبتها في العموم . وهي تسود أمة تعد أربعين مليون نسمة  لا يتمتعون بالضمان الاجتماعي .

إن الاستنتاج  المنطقي لهذا هو أن النظامين البريطاني والأمريكي الذين يقدّمان على أنهما الشكل المكتمل للديمقراطية ، هما في الواقع شكلان ناقصان مبتوران للديمقراطية . لأنهما حققا شرطا واحدا فقط من شرطي إخماد الحرب المدنية.

فلا نستغرب إذن أن تكوم بريطانيا وخاصة امريكا  من أعنف الديمقراطيات في العالم الغربي بالمقارنة ببلدان أوروبا الشمالية التي نجحت في التحكم في الليبرالية ، وفي فرض توزيع أعدل للثروة الجماعية.

لقد أظهرت تجربة البلدان الغربية بما فيه الكفاية أن حرية الرأي والتنظّم والانتخاب لا توصل بالضرورة ممثلي الأغلبية المقهورة إلى سدّة الحكم ، لأن للأرستقراطيات المالية والعلمية والعائلية قدرة فائقة على استعمال آليات الديمقراطية وأجهزتها من أجل مواصلة هيمنتها . وهذا ما يدعونا إلى ضرورة مراجعة الآليات نفسها حتى لا  تكون التمثيلية الصورية قناعا وغلافا لأشكال أذكى وأرقى من الاستبداد .

لذلك ن يتأكد أن العدالة الاجتماعية هي شرط رئيسي  لمتابعة الحرب الرمزية والتخلي عن شهوة العنف . وبالتالي فإن كل ما من شأنه أن يغذي الفروقات الطبقية  ـ مثل الليبرالية الهوجاء ـ إنما يعدّ لعودة الشهوة إلى الدم .

لكن كيف ننتقل من المفهوم الفضفاض للعدالة الاجتماعية ، التي لا يجادل في شرعيتها أحد ، إلى السياسات الكفيلة بترجمتها ولو جزئيا في حيز الواقع ؟

إن العدالة الاجتماعية ليست هي تلك "الصدفة " الاجتماعية ، وبما هي إشكالية تتعلق بكيفية توزيع الثروة  الجماعية وتصرف الدولة في الأموال العامة ، أي في كيفية جمعها وإنفاقها .

لقد بذّرت الدولة الاستبدادية العربية أموالا طائلة في تسلح عديم الجدوى، وفي الإنفاق على مؤسساتها القمعية، وفي تسيير دواليبها  البيروقراطية الثقيلة ، وفي إرضاء نرجسية السلطة .

أما الأموال غير  العائدة من ثروة لم تساهم في خلقها كالبترول ، فتأتي أساسا من جيوب الطبقة المتوسطة ،في شكل ضرائب لا تدفعها الطبقات الموسرة التي هربت أموالا طائلة إلى الخارج . وهكذا  تطالب طبقة اجتماعية ضئيلة نسبيا ، بدفع النفقات العامة لأفقر القطاعات وأغناها .

لا جدال أيضا أن العدالة الاجتماعية تعني إعادة النظر جذريا في كل هذه النفط ، حتى لا تهرّ ب الأموال ، ولكي ينقص العبء الضرائبي على الطبقة المتوسطة فتتحمل الطبقة الموسرة نصيبها العادل منه. ويساهم الحد من المصاريف المخصصة للجهاز البوليسي ،  في توظيف هذه الأموال لمصلحة العامل الرئيسي الذي يجهل المجتمع في أمان حقيقي .

وهو ما يعني أيضا أن المقولة الشائعة ، والخاصة بعدم التدخل في دواليب الاقتصاد لحماية ضعفاء الدخل من المضاربة والسمسرة والطرد التعسفي ، إن هذه الـمقولة مردودة على أصحابها . لأن دور الدولة الديمقراطية ليس تسهيل الربح وفائض القيمة في إطار اقتصادوية وقحة  أصبحت هدفا في حد ذاتها ، وإنما دورها هو تحقيق شرطي الهدف الذي وجدت من أجله لوضع حد للحرب المزمنة .

لقد انهار الخطاب الثوري الماركسي بانهيار كل الأنظمة التي انبتت  عليه ، ولم يبق من هذا الخطاب إلا فشل مريع وأيتام يتشدقون بمقولة : "ماركس لم يكن ماركسيا " ، أو "لقد أساء الناس فهمه وتطبيقه " ... الخ .

لكن أنصار إيديولوجيا السوق ينسون بسرعة أن الخطاب الماركسي جاء نتيجة الظلم والحيف ، وأن الظلم الأكبر الذي يمكن أن تولده آليات السوق سيفرز بالضرورة خطابا ثوريا احتجاجيا آخر طال الزمان أو قصر ، سواء أكان ذلك على صعيد العالم أو القارات ، أو داخل الأوطان الصغيرة .

أخطأت الماركسية اللينينية لا في بحثها عن العدل ، وإنما في اعتقادها بأن دكتاتورية البروليتاريا طريقه .

أما القاعدة التي ندعو  إليها لتفادي هذا الخطر ، فتتخلص فيما يلي : نعم  لإطلاق حريات الخلق والإبداع لكل المنتجين وخاصة للصغار منهم والضعفاء.

نعم لترك الآليات الاقتصادية تتحرك وفق قوانينها ، لكن لا لانسحاب الدولة وتلاشي دورها الذي لا يبقى منه في آخر المطاف سوى : سحب الصحة والتعليم والخدمات الاجتماعية من ميدان السوق ومنطقه .

وحتى يسود السلام الاجتماعي ، لا بد للديمقراطية من متابعة أهداف الحركة الاقتصادية بمتهى اليقظة حتى لا يصبح  السوق حجة للإثراء السريع واللامشروع ، ولكي تجعل  حدّا للفروقات والجهوية الهائلة التي يمكن أن تشكل منطلق مغامرات استبدادية بائسة لن تزيد الطين إلا بلة . وعلاج ذلك لا يكون إلا بفرض سياسية جبائية عادلة وفعالة .

 الديمقراطية ضد نفسها

تطرح هنا مجدّدا الإشكالية الضخمة المتعلقة بحق بعض التنظيمات السياسية الخطيرة على الديمقراطية في العمل القانوني . وهي إشكالية نظرية وجدت منذ القدم ، ودارت حول المعضلة المعروفة ب : "إعطاء الحرية لأعداء الحرية " ، إذ لا زلنا نتذكر حتى اليوم كيف وقع تسليم الديمقراطية الألمانية لدولة برمتها يقودها حزب استبدادي ، كلف العالم حربا رهيبة مدمرة .

فنحن نعايش في كل البلدان العربية هذه الإشكالية التي اتخذت لها أحد الأشكال وأفضعها في الجزائر. فمن جهة،  تقدمت حركة الجبهة الإسلامية  بخطاب مزدوج ، كانت تتعالى منه أحيانا نبرة مطلبية وحقوقية صادقة ، وأحيانا كانت تلعن  الديمقراطية وتتهكم عليها . ومن جهة أخرى قبل الديمقراطيون ، باسم الديمقراطية ، إجهاض أول تجربة ديمقراطية ، والاحتماء بالنظام الاستبدادي الذي جر البلاد إلى أخطر أزمة عرفتها في تاريخها الحديث .

فما وقع في ألمانيا في الثلاثينات من هذا العقد ، وما يمكن أن يقع في كل مكان في المستقبل ، من استعمال الاستبداديين للديمقراطيين  من أجل الوصول على الحكم ثم الانقلاب عليها ، كل ذلك يطرح نوعين من الإشكاليات : تتعلق الأولى بالخيار الديمقراطي نفسه ، والثانية بطبيعة الآليات التي توصل إلى سدة الحكم .

من نافلة القول إن الديمقراطية لا يمكن أن تقبل بتسليم عنقها إلى جلاديها عن طواعية واختيار ، فهم كل حي سواء أكان من عالم البيولوجيا أم من عالم الفكر ، مواصلة الحياة. وهو لا يرضى القتل عن طيب خاطر ، ولا  ينتحر إلا اضطرابا  إذا انسدت كل الآفاق .

لكن من البديهي أيضا أنها لا تستطيع أن تتنكر لمقوماتها الأساسية وأن تنفي نفسها بنفسها ، وإلا كان ذلك نوعا آخر من الانتحار .

وحتى تكون الديمقراطية انتقالا حقيقيا من العنف إلى الرمز ، لا بد أن تقع الحرب بين "أعداء " حقيقيين ، وإلا بقيت أطراف هامة خارج قواعد اللعبة ، أي تحت راية الدم.

إن حيلة بعض الأنظمة في اختيار الأصدقاء وشبه الأعداء لمنحهم حف التنظم ، وإخراج الأعداء الحقيقيين من ساحة اللعبة ، لهو في الواقع ضرب للهدف الأساس من الديمقراطية .

تشبه اللعبة السياسية في مثل هذه الحالات مباراة كرة القدم ، التي تكون نتائجها  معروفة مسبقا  ويكون التسابق فيها مجرد افتعال لمعركة اتّفق من البداية على أنها لن تقع .

لذلك ، فلا تكون الديمقراطية إلا بتنظيم الأعداء الحقيقيين الذين تفصلهم خيارات وقناعات عميقة . وذلك لأنهم وحدهم القادرون على الاختبار الحقيقي بين إراقة الدم والدموع ، أو إراقة  الحبر والريق .

في هذا المستوى من الطرح ن وبعد الإقرار بهذه البديهية، نرى أن لا بد من حسم التناقض الموجود بين : ضرورة الدفاع عن النفس ن وضرورة الوفاء للمهمة الديمقراطية . ونظرا لأن الحق لا وجود  له في المطلق ، وأن الحرية نفسها تحدّ بحدود ، وأن هناك ضوابط قانونية للقانون نفسه ، فلا غرابة إذن أن يضبط حق التنظم ككل الحقوق . ولا مجال لضبطه في الديمقراطية إلا بعامل واحد هو قبول أو عدم قبول قواعد اللعبة من قبل الفرقاء السياسيين .

تشبه اللعبة الديمقراطية مباراة رياضية بين فريقين من اللاعبين . فمن قواعدها أنه لا يحق لأحد الفريقين أن يفرض من سيزاحمه على الفوز ، وأن ليس له أيضا الحق في اختيار الحكم ، لكن له أن يرفض اللعب  والانسحاب من المباراة إذا لم يحترم الفريق المنافس قواعد اللعبة. ومن المعروف أيضا أن منظمي كأس البطولة لا يقبلون على ساحة الملعب إلا من رضي الالتزام بقواعد اللعبة .. فكذلك أيضا بالنسبة للعملية الديمقراطية التي لا تقبل إلا من رضي أن يلعب المباراة الاجتماعية والسياسية باحترام القواعد الأربعة للديمقراطية التي هي : الحق في الرأي المخالف ، وفي التنظم ، والتجدد السلمي للسلطة ، واستقلال القضاء.

لكن ، هناك من يعترض على هذا التصور بأنه يحتمل إقصاء جزء من القبائل المتحاربة التي لا تلعب إلا بالدم ، إما لعجزها عن الانتقال إلى مستوى الرمز ، أو لأنها لا تثق بفاعلية هذا الانتقال . ونحن نرى بأن هذا صحيح ، وهو في ذات الوقت أمر طبيعي .

لنتذكر أن قانون هيراقليط/لاوتسه بنص على أن الأشياء لا توجد إلا بنقيضها ، ومن ثمن فإن اختيار مجتمع  ما للحرب الرمزية لا يلغي أبدا احتمال وجود الحرب الدموية . بل أقصى ما يمكن فعله هو تهميشها وتقليصها وتحجيمها والرمي بها على تخوم الساحة الرئيسية من الملعب . لقد عرفت كل المجتمعات الديمقراطية أو ربما سنعرف حركات عنيفة تواصل العمل بقواعد اللعبة البدائية.

تدافع الديمقراطية عن نفسها من جهة بجلب أكبر عدد ممكن من الفرقاء الاجتماعيين للحرب الرمزية ، وجعلهم يتظافرون للدفاع عن خيار يحقق النعمة الأولى ، أي : الأمان الجماعي. ومن جهة أخرى ، تراها مضطربة لمواجهة الحرب الدموية إن رقعت على أرضها ، بالعنف المفروض عليها. مع العمل أنها لن تنجح في تهميش الفعل الدموي إلا بالاقتصاد الشديد في رد الفعل ، واحترام مبادئها ، ومراقبة تعامل أجهزتها الأمنية مع الأخطار التي تهددها ، وأيضا ببذل الجهد المتواصل للقضاء على أسباب رفض الحرب الرمزية ، والتي من أهمها : وجود بؤر ظلم طبقي وجهوي لم تستطع أو لم تحسن معالجتها ، ووجود حالة من اليأس والبؤس العميقين  اللذين يفسران تمرد المتمردين ، إذ نادرا ما يكون هذا التمرد نتيجة حمق وجنون وحب حقيقي للعنف والمغامرة.

لذلك  فإن الفيصل الحاسم في الاعتراف بحق التنظم لا يمكن أن يتوقف على الخيارات الإيديولوجية أو المرجعية الفكرية لهذا الفريق أو ذاك ، ولا على مقدار قرب أي طرف من الأطراف  أو ولائه للسلطة الحاكمة ـ كما هو معمول به اليوم ـ وإنما يتوقف على مبدأ قبول أو عدم قبول اللعبة الديمقراطية . أما القانون فيجب أن يكون صريحا في الاعتراف  بحق الوجود والعمل الشرعي لكل التنظيمات التي تقبل العمل وفق أهداف الديمقراطية وآلياتها. كما يحق له أن يزيح كل التنظيمات الأخرى ، وذلك بمواجهتها فكريا وسياسيا ، وأمنيا إن تطلب الأمر ذلك .

بصريح العبارة ، لا بد للديمقراطية العربية أن تقبل قانونيا بوجود تنظيمات سياسية إسلامية إذا قبلت قواعد اللعبة الديمقراطية . وأن ترفض كل التنظيمات اللا ديمقراطية سواء أكانت إسلامية أو غير إسلامية ، خاصة بعد اتضاح الصفة الاستبدادية التي تنطوي عليها الإيديولوجيات والأحزاب القومية واليسارية .

يتواصل النقاش ويتفرع إلى إشكاليات تقنية ، إذ كيف يمكن أن نتأكد أن هذا التنظيم الذي يدعي قبول الديمقراطية لن يكون السبب في اغتيالها إذا وصل إلى سدة الحكم ؟ ومثالنا على ذلك دوما : الحزب النازي في السابق ، والخطر الأصولي في الحاضر والمستقبل ، سواء أكان ذلك في الجزائر أو في غيرها . وحيث أن المثالية ليست بالضرورة ضربا من ضروب السذاجة ، فإنه من الطبيعي أن تطالب الديمقراطية بأكبر قدر ممكن من الضمانات . مع العلم أنه ليس من السهل أن نحكم على النوايا المصرح بها ، ولا من العدل أن نحكم على النوايا التي يتهم بها هذا الفريق أو ذاك .

إن أولى الضمانات التي يجب أن تكون واضحة صريحة في الدستور هي أن يلزم كل تنظيم سياسي بالاعتراف بالأركان الأربعة للديمقراطية ، وأن يدوّن هذا الاعتراف في وثيقته التأسيسية. كما لا يجوز لأحد الاحتجاج بمرجعيته الخاصة أو بمقدسات لرفض  حرية الرأي وحرية التنظيم واستقلال القضاء والتداول السلمي على السلطة .

إلا أن هناك ضمانة  أهم من هذا التقرير ، تتمثل في ضرورة فرض قانون الديمقراطية داخل التنظيم نفسه. فكل حزب استبدادي التنظيم في داخله ، مؤهل لاغتيال الديمقراطية عاجلا أو آجلا إن استلم السلطة ، ولو ادعى غير ذلك . من ثم، فإن إحدى مهام المحكمة الدستورية أن تراقب التنظيمات السياسية. ومن حق الدولة الديمقراطية  كأي مؤسسة اجتماعية أخرى ، رفع شكوى ضد كل تنظيم سياسي ينحرف باتجاه عبادة الشخصية داخله ن ويطرد المخالفين في الرأي،  أو  يدعم أي شكل من أشكال العنف الدموي ويدعو له ، أو لا يقوم في داخله بالانتخابات النزيهة الشفافة الدورية التي تمكّن من التداول السلمي على المسؤولية. فمن البديهي أن فاقد الشيء لا يعطيه ، وأن الديمقراطية لا تتحقق بالأشكال الاستبدادية ، وأن ما يقع داخل الحزب هو نذير بما سيقع داخل الدولة إذا وصل هذا الحزب إلى السلطة.

لكننا لا نستطيع بالطبع إعادة كتابة التاريخ ، فلو كان هذا المبدأ معمولا به في الثلاثينات في ألمانيا لكان أمام الحزب النازي خيار آخر غير الاستيلاء على السلطة بالانقلاب ، أو بالبقاء على هامش الديمقراطية يحاربها وتحاربه. وهو وضع أشرف في كلتى الحالتين وأقل فظاعة من تسليم الديمقراطية عنقها للعدو ، أو تسليم مقاليد أمة بكاملها إلى دكتاتورية مجنونة.

إن دور الدولة إذن هو تمكين كل الفرقاء من التنظّم . أما دور المحكمة الدستورية ، فهو متابعة حالة الديمقراطية داخلها .

                                           * * *

تطرح فيما بعد إشكالية أخرى ، تتمثل بالأساس في رفع مردود كل القوى الاجتماعية ، لتساهم في عملية أنسنة المجتمع .

لذلك ، يمكن للدولة الديمقراطية أن تخلق مثلا جهازا تنسيقيا بين كبرى المنظّمات لتصبح مصدرا للاقتراحات ، خاصة المتعلقة منها بالقوانين المنظمة للحياة الاجتماعية. فأهل مكة أدرى بشعابها ، ومثل هذه المنظمات التي تتعامل مع المشاكل اليومية للمجتمع ، تكون أقدر من غيرها على معرفة القوانين المعيقة لتطور المجتمع ، والقوانين الأنجع لتفادي المشاكل .

لنذكّر هنا بأن التطور الانفجاري لمنظمات المجتمع المدني ، قد قلب رأسا على عقب مفهوم العمل السياسي . فقد نقله من العام إلى الجزئي ، أي من ضبابيات "تحقيق العدالة الاجتماعية " إلى واقع آلاف التنظيمات الصغيرة المختصة التي تعمل على تحقيق هذا الهدف ونقله من النظري إلى العملي  ومن القمة إلى القاعدة، ومن الحكومي إلى الاجتماعي ومن الآجل إلى العاجل .

لا جدال أن المجتمع سيبقى دوما بحاجة إلى منظمات سياسية عامة مختصة في الخيارات الكبرى وفي المرجعية الإيديولوجية .. لكنه لن يستطيع الاكتفاء بها وحدها ، كما لا يمكن أن تعوّض المنظمات المدنية المختصة الأخرى، أو أن تحتويها ، لأن حاجيات المجتمع هي التي أفرزتها ، وبما أن كل هذه المنظمات سياسية الصبغة بالأساس ، أي أن لها دورا في نحت معالم المجتمع ، فمن الطبيعي أن تمولها الدولة الديمقراطية .

فمثلا ، من الضروري أن يكون المبلغ المرصود لتمويلها جزءا من ميزانية الدولة ، يقره البرلمان سنويا . ولا بد أن يدير هذا الصندوق مجلس المنظمات المدنية وليس الحكومية . كما لا بد أن يكون التمويل جزئيا حتى لا ينمي عقلية الاتكال والتواكل وأن يعطى لدعم برامج مضبوطة، ولا يسمح باستعماله في دعم بيروقراطية المؤسسة عامة أو مختصة على عدم المساواة ، وأن لا يعتبر أبدا في منح المساعدة عامل الولاء للحكومة.

إن الفضائح المتكررة في الغرب نتيجة استشراء الفساد ، خاصة في المؤسسات السياسية ، تفرض العمل بشعار مشابه  لما قيل عن الصحة من أنه : إذا لم يكن للديمقراطية ثمن ، فإن لها تكلفة.

فلا بدّ إذن للمجتمع بصفة عامة وللدولة بصفة خاصة أن تدفع تكلفة الديمقراطية في شكل تمويل كلي أو جزئي لعمل المؤسسات ، على أن يعتبر هذا التمويل حقا شرعيا وقانونيا لا يهدف إلى تقييد استقلالية تلك المنظمات ، وإنما يهدف إلى دعمها .

ولا بد أيضا من تسهيل التعامل بين المنظمات المدنية المختصة ، وذلك مثلا بإحالة جزء من البيروقراطية الموروثة عن النظام السابق إلى هذه المنظمات التي أثبتت أنها تستطيع توظيف طاقات وكفاءات كانت في السابق شبه ميتة .

إن إشكالية التمويل في البلدان الغربية مطروحة بالأساس في حق الأحزاب السياسية ( أي المنظمات المدنية المتخصصة في توجيه السياسة العامة للبلاد ) . وذلك مثلا بإحالة جزء من البيروقراطية الموروثة عن النظام السابق إلى هذه المنظمات التي أثبتت أنها تستطيع توظيف طاقات وكفاءات كانت في السابق شبه ميتة.

إن إشكالية التمويل في البلدان الغربية مطروحة بالأساس في حق الأحزاب السياسية ( أي المنظمات المدنية المتخصصة في توجيه السياسية العامة للبلاد ) . وذلك حتى لا تصبح مخلب القط بين أيدي الأرستقراطيات الاقتصادية ذات المصالح الضخمة ، والتي تشتري نفوذا  مقبلا أو حاضرا ، مقابل ما تغدقه من نعم على منظمات محتاجة ، لكن الأمر يتجاوز هذه القضية بالذات .

إن إحداث هيكل كـ "مجلس المنظمات المختصة " ، تعطي له صلاحية عرض مقترحات القوانين على البرلمان ، لمن شأنه أن يدعم العمل التشريعي ويعطيه نجاعة هائلة ، ناهيك عن قدرة هذا المجلس في تقييم المؤسسات الأخرى للديمقراطية .

في هذا الصدد ، نذكر بأهمية العقلية التقيمية .

فحتى في إطار الديمقراطيات المتقدمة يقع التقييم بصفة هوجاء تكشف عن وجود الروح العنفوانية  وتساهم  في التنفيس عنها لكن بكثير من السلبيات . فمما لا شك فيه أن النقاش الحاد المتبادل بين مختلف الفرقاء ، والذي يصل حد السباب والتجني إبان المعارك الانتخابية ، هو نوع من التقييم المتوحش . في حين أنه بإمكان المنظمات المدنية المختصة أن تكون أداة الدولة الديمقراطية للتقييم الهادئ  العقلاني والمتواصل . فهي أدرى من الفرقاء السياسيين بالنتائج الملموسة للسياسات المتبعة. ولا يعني هذا أن ليس للدولة أن تقيّم دوما أجهزتها وبرامجها ، وكذلك الأمر بالنسبة للقضاء والإعلام ، وإنما أن يكون تقييم المجلس التقييم الخارجي المصاحب والمكمل للتقييم الداخلي لكل هذه المؤسسات . وذلك حتى تصبح النجاعة هي الهاجس الأول لكل من يعمل .

إن التقييم هو مصطلح المصطلحات في دولة الاستقلال الثاني ، وشعاره قوله تعالى : (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ) .

لقد أصبحت تقنية التقييم معروفة بما فيه الكفاية ، وشائعة الاستعمال في ميادين فنية  عديدة كالصحة والاقتصاد. لذلك يمكننا الاستفادة من مبادئها ومنهجيتها في كل المؤسسات والميادين ، على النحو التالي :

-أن تحدّد الأهداف جماعيا بين القاعدة العريضة للمؤسسين ، وأجهزة أخذ القرار وتنفيذه .

-أن توضع لكل فرد حقوقه وواجباته في إطار الشفافية المطلقة .

-أن تحدد مؤشرات التقييم ، وهي تتعلق أساسا بالنتائج ووسائل العمل ، ثم بدور الساهرين على تنفيذ البرامج.

-تعطي المؤسسة لنفسها حق تغيير وسائل عملها ، إضافة إلى حقها في تداول المسؤولين عليها.

-تطلب المؤسسة تقييما خارجا عن هياكلها ، فيحق لهيكل القضاء أن يقيّم المؤسسة الصحفية ، والعكس بالعكس.

-تستعمل نتائج التقييم الدوري لإجراء إصلاحات متواصلة وتعديل مسار المؤسسة ، سواء أكانت سياسية أم اقتصادية أم تعليمية.وكل هذه العمليات تستوجب ، بداهة ، الشفافية والوضوح ، أي إعلاما فعالا .

                                         ***

 

 

 

 


2 ـ الصراع الإعلامي

 

الإعلام هو الطاقة التي تتحرك داخل شرايين كل الأجهزة. وهو السلاح الوحيد المسموح به داخل الحرب الرمزية ، ومن هنا تكمن خطورته .

لذلك يجب أني كون لكل الفرقاء السياسيين منابر هي ساحات المعركة الرمزية التي تفرّغ فيها العنفوانية ، وتتلاقح فيها الأفكار ، وتتم المحاسبة ، وتستعرض فيها العضلات والبدائل

فبقدر ما تكون اللعبة واضحة والقواعد محترمة ، بقدر ما يتمكن المجتمع من الابتعاد عن العنف الجسدي ، والعكس صحيح أيضا .

وبالنسبة للعرب ، يطرح موضوع الإعلام على مستويات ثلاثة :

فنحن نعايش الإعلام الاستبدادي ونعرف فلسفته ، أي فكره البدائي وطرقه التي تصب كلها في خانة واحدة وتخدم هدفا واحدا ، وهو بالأساس أمن السلطة. ومن ثم ، يمكن وصفه ب ـ "الأمن الإعلامي " أو "الإعلام الأمني ".

كما أنه مجعول ، ككل الأجهزة الأخرى ، لإحكام الغطاء على فوهة البركان حتى لا تبرز الخلافات والصراعات على السطح ، وحتى يوحي الجو باستتباب الاستقرار والسلم .

إن ثلاثين سنة  من التطبيل لشخص بورقيبة ونظامه إلى صبيحة الإطاحة به ، لم تجعل تونسيا واحدا يحرك ساكنا للدفاع عنه ، وانقلبت في نفس اليوم وفي نفس الجرائد نفس الأقلام لتلهج بمدح النظام الجديد وهجاء ما كانت تدعي عبادته البارحة.

وهو واقع يعايشه جل العرب ، ضمن مفارقة غريبة : فهناك أزمة دائمة في الإعلام الاستبدادي المحلي نتيجة لا فاعليته ولا شعبيته، بل ونتيجة دوره في تسميم أصحابه الذين هم أهم ضحاياه لأنه يعمي فيهم البصر والبصيرة . لكن وفي المقابل ، لا نقرأ  أدنى أزمة يشكو منها الإعلام نفسه حتى في أحلك ظروف الاستبداد .

وتجتهد الدولة الاستبدادية لخنق المعلومة والرأي المخالف ، في حين يتواجد الإعلام في كل مكان بفضل الهوائيات والصحون المقعّرة التي تحاول منعها عبثا ، أو بفضل جهاز بسيط لا مجال لمصادرته كالراديو ، أو بفضل أقوى الإذاعات العربية وهي إذاعة "يقال " أو " بيني وبينك " ، وهي إذاعات تبث على كل الموجات ولا يخفى عنها خبر .

لقد وضع تطور التكنولوجيا الدولة الاستبدادية في ورطة ، كورطة من يحاول مصادرة البطاطس لفرض اشتراء بضاعة رديئة من متجر هو ملكه ، والبطاطس تغمر السوق ، ومزارع البطاطس تحيط بالمتجر المراقب بالدبابات ، لكن لا مجال لمنع الناس من التزود بما يحتاجونه من الأصناف الجيدة.

إلا أن العرب لا يتعاملون فقط مع الإعلام الاستبدادي ، وإنّما هو أيضا كبقية الشعوب مواجه  بما يجوز تسميته باستبداد الإعلام . والاستبداد هنا لا يتعلق بالضرورة بعبادة الشخصية أو بقمع الرأي المخالف ، وإنّما يترتب عن عمل آليات أخرى.

فـ "الجريمة الإعلامية" حسب دولة الاستبداد ، تكمن في مجرد الاصداع برأي ، أي في تقييم لم يتأتّ من جهة السلطة، وهوي "جريمة" متأتية من منع حق المحاسبة. ولكن داخل الدولة الديمقراطية أيضا هناك جرائم إعلامية متعددة، إلا أن القانون لا يعاقب عليها ، لأنها صعبة التشخيص  والإثبات .

قلنا إن الكلمة هي السلاح الشرعي الوحيد للمتبارزين السلميين ، ومن ثم لا يتحقق الهدف الديمقراطي إلا إذا تجاوز الحصول على المعلومة ونشرها ( أي نشر مختلف وجهات النظر ) مرحلة الحق النظري ، ليصبح حقا ممارسا .

لقد أصبحت الإمبراطوريات الإعلامية في الغرب  ـ سواء على مستوى الصحافة أو التلفزة ـ مهيمنة على سوق الرأي ، مثلما تسيطر إمبراطوريات "الإعلامية" على سوق الحاسوب .

ويتزايد اليوم ، أكثر من أي وقت مضى ، تجمّع مصادر الخبر وتوزيعه بين أيد قليلة، برغم الانهيار المتواصل لقيمة البضاعة المعروضة. بما يشكل خطرا عظيما على العمل الديمقراطي . إذ أن أسهل ما يمكن بيعه في هذا المجال هو أردأ أصناف البضاعة ، خلافا للميادين الاقتصادية الأخرى . هذا ، بالإضافة إلى المخاطر التي يمكن أن تنجرّ عن توليد مشاعر القهر والغبن بين الشعوب ، والتي تحتمل أن تكون أولى بوادر العودة إلى شهوة العنف ، كما ذكرنا آنفا .

لقد عشنا نحن العرب ، خلال حرب الخليج هذه السيطرة الإعلامية بصفة كاريكاتورية ، حيث اتضح للجميع أن الإعلام الغربي هو أيضا إعلام موجه وفي خدمة سياسة الأنظمة ، وأنه أحادي المصدر والرؤية ، ومتشبع بقيم شوفينية وطبقية مطمورة . لكن الشعوب الغربية نفسها تعرف كيفية توجيه الرأي ، وفرض النموذج الفكري الواحد بأساليب ملتوية وأكثر خبثا .

ومن حسن حظ هذه الشعوب، فإن فيها قوى سياسية عديدة تفرض التعددية، كأهم سلاح فعال ضد احتكار الفكرة وتبليغها . إلا أن هذه التعددية نفسها تبقى حلا منقوصا ، إذ تتمكن كثير من الأحزاب السياسية على تبليغ صوتها وفكرها إلى مئات الملايين من المشاهدين والمستمعين .. بينما لا تقدر نماذج سياسية أخرى مخالفة على إيصال مواقفها إلا إلى قلة قليلة منهم.

إن سياسة الدولة الديمقراطية في هذا الميدان الحساس لا تكمن في الدفاع عن سياسة الحكومة الديمقراطية، وإنما في تتبع "الجنحة  الإعلامية" ، شريطة أن لا ينزلق هذا المفهوم إلى سياسة الحد من الكلمة ، تحت أي ذريعة.

فكل ما يتعارض مع تحرير نقل الرأي ، ومع المساواة بين كل الفئات السياسية والفكرية في نقل مختلف آرائها ، لهو أمر مخالف تماما للديمقراطية .

أما تطور الإمبراطوريات الصحفية والتلفزية في الغرب ، فقد جاء استجابة لمطالب السوق الإعلامية ، أكثر من كونها نتيجة عمل الديمقراطية وحدها . بل غالبا ما كانت عدوا لدودا للديمقراطية نفسها .

تشمل "الجنحة الإعلامية " أيضا معطى أصعب تحديدا ، وذا صلة مباشرة ب "النوعية".

فبمجرد أن تفتح أغلب  قنوات التلفزة أو الراديو أو أغلب الجرائد حتى تغرق في طوفان من المعلومات المجزأة والمفككة والمتناثرة والمتدافعة .

يقرأ المذيع خبرا عن كارثة رواندا ، فتداهمك صور القتل والجوع والعري والاغتصاب، ثم يمر المذيع إلى انتصار فريق كرة القدم مثلا بنفس النبرة وكأن للخبرين نفس الأهمية ، بل ومن الممكن أن يبدأ بانتصار فريق كرة القدم قبل أن يمر مرور الكرام إلى تهاطل القنابل على مدينة شهيدة . وتتابع بعدها الألعاب السقيمة ،  والمسلسلات الهابطة الرخيصة للعنف والجنس ، وديماغوجية آخر سياسي معروف وهو يموّه حتى يكذب بمنتهى الصفاقة

وتحاول الصحافة المكتوبة مناقشة الإعلام المرئي بنفس عقلية التغطية قصيرة  المدى . فلا تجد ما يغذي الفكر والشعور إلا في بعض البرامج الثقافية تبث في آخر هزيع من الليل ، أو في كتب ومجلات لا يقرأها إلا عدد قليل من الناس.

وهكذا يخلق الإعلام صورة مهمشة ومزيفة عن الواقع ، فيزيد من صعوبة العيش ، بدل أن يكون هو ذلك الخيط الرفيع الذي يربط بين القلوب والعقول ، والذي تتسرب عبره تجارب البشرية في إطار سياسة تبادل متساو تنمي الثروة الفكرية لكل المواطنين .

إن من صلاحيات الدولة أنها تحدد مقاييس الجودة في كل بضاعة للاستهلاك ، وتتشدد خاصة في تلك التي تستهلك على نطاق واسع ، إلا أن الإعلام لا يخضع لمثل هذه المراقبة ، برغم حيوية مادته.

يكمن الخطر هنا في الانزلاق من مستوى المطلب الشرعي الذي يحق لنا المناداة به ، إلى مستوى مصادرة الرأي المخالف . لكن هذا المنزلق الذي يمكن احتواؤه، ليس أخطر من ترك إعلام أهوج محكوم بهاجس الربح يدمر الثقافة واللغة والقيم ، ويشيع  عن العالم صورة مشوهة ممسوخة ، ويعمق التغرب والجهل الجديد.

وقد تبدو العملية ميؤوسا منها لتعدد مصادر الإعلام المعاصر واستحالة التحكم فيه كما ونوعا ، ولكن الديمقراطية ، عبر مؤسساتها المدنية ونظام دولتها ، قادرة على تحريك طاقات بشرية هامة نحو فرض قواعد دنيا لمثل هذه الجودة... وإلا فإن النعمة ستصبح نقمة.

إن الإعلام الغربي الحالي عنصر من عناصر هدم الديمقراطية ، لا في تركيبته الاحتكارية فحسب ، وإنّما في محتواه أيضا.

فهو يعرض خطابا سياسيا مطعونا في مصداقيته ، حيث يعطي عن الطبقة السياسية صورة سلبية للغاية... كما أنه يجري وراء أخبار العنف ويتمعّش من مسلسلات العنف أيضا ، وبالتالي فهو عنصر مباشر وغير مباشر لعودة الشهوة إلى الدم .

يجب أن تدفعنا تجربة الإعلام الغربي ، إلى التفكير في البدائل ، وهي على ثلاثة أنواع :

ـ ضرورة تدخل الدولة الدائم في هذا القطاع لوقف احتكاره ، ووضع إمكانياتها المادية حتى تصل كل الأفكار والمواقف والآراء بكيفية عادلة ومتساوية إلى كل الناس .

ـ تربية الناشئة بصفة خاصة والمواطنين بصفة عامة على التعامل النقدي مع الطوفان المعلوماتي ، فمن السذاجة مثلا الاكتفاء بمحاولة منع مسلسلا ت العنف والجنس على القناة الوطنية للتلفزة، وهي تهاجمنا من كل مكان . أما منع الهوائيات العصرية فمعركة خطوط خلفية لا قيمة لها ولا جدوى. بل يمكن أن يكون التعامل الصحيح عبر تكثيف البرامج النقدية والتحليلية حول هذه المسلسلات ، وحول نقد الدمغجة في الخطاب السياسي ، وحول الإيديولوجية المبهمة للثقافة السائدة ، وحول القوى الحقيقية التي تملك في الخارج الإعلام وكيفية استعماله ... إلخ .

إن دور الدولة هنا هو تربية المستهلك الإعلامي كما تربى مستعمل السيارة على قانون الطرقات في الوقت الذي تراقب فيه نوعية السيارات المستعملة وصلاحياتها لاستعمال الطريق .

ـ أخيرا وليس آخرا ، يجب على الدولة أن تستنجد بخير ما في المهنة الإعلامية ، انطلاقا من مبدأ "أهل مكة أدرى بشعابها " وذلك لوضع مقاييس الجودة في نوع المعلومة ، وطريقة تصريفها ، والاستعمال الأجدى للوسائل المختلفة حتى تساهم في بلورة أحسن ما في الإنسان ، بدل المراهنة على أخس ما فيه .

إن الطرف الأساسي والمسؤول عن إيجاد حل لإشكالية إعلام ديمقراطي هو المجتمع المدني نفسه ، وذلك عبر مختلف مؤسساته ومسؤولياته التي من أهمها المشاركة في التفاعل مع المشاكل الجماعية  وتوفير ذلك لأكبر عدد ممكن من المواطنين .

وعلى سلامة هذا الطرف الهام ، يتوقف جزء كبير من نجاح الركن الثالث الأكثر هشاشة وضعفا في النظام الديمقراطي .

                                         ***

 

 

 

 


3 ـ التجدّد السلمي للسلطات

 

تخطر ببالك ، وأنت تتابع الانتخابات على شاشة التلفزات الغربية ، مقولة تشرشل حول "أتعس الأنظمة بغض النظر عن كل ما عداها ". فهذه المهرجانات الانتخابية نفسها تشكل كاريكاتور لأفكار جميلة ونحن لسنا في حاجة إلى أن نزيد الطين بلّة بتقديمها بصفة كاريكاتورية.

لكنها في الحقيقة ضرورية لأنها تمثل الفصل الختامي في الحرب الرمزية ، واللحظة الفاصلة التي يقع فيها تصفيف المحاربين ودخولهم ساحة الوغى وقتل "السلطان " القديم واستبداله ب "السلطان " الجديد لجولة أخرى . وهي كذلك المرحلة التي تصفى فيها الحسابات والأحقاد ، وتتهاطل خلالها الراجمات البلاغية والصواريخ اللفظية وقنابل الإيحاء والتعريض ، في إطار استراتيجيات الكر والفرّ ، والمحاصرة والإجهاز على العدو وإذاقته مرارة الهزيمة النكراء.

إنها  المرحلة الضرورية لإفراغ شحنات العنف الجماعي عبر القنوات الرمزية التي توفر تمديد فترة السلام لمدة جديدة قد تطول أو قد تقصر .

إلا أن سيناريو المعركة لا زال يتطلب إعادة نظر عميقة في كثير من التفاصيل ، وإلا طغت السلبيات على المنافع.

وهذه السلبيات لا يمكن أن تنسينا أبدا أن للانتخابات وظائف متعددة. فبالإضافة إلى وظيفتها الرئيسية، تعتبر مناسبة ثمينة للاحتفاء بالسلم الاجتماعية ، وبعلوية القانون وكرامة المواطن الناخب . كما أنها مناسبة أخرى لممارسة التحرر عبر تقييم ما مضى والإعداد لدفع جديد للمطامح الجماعية.

فالهدف إذن من الانتخابات هو تنظيم أهم فصول الحرب الرمزية ، من أجل استثبات الأمان .أما أهم ترتّبات العملية فهو تجدد السلط التشريعية والتنفيذية والجمعياتية ، أي تشبيبها وتطهيرها وعلاجها .

والمجتمع بحاجة إلى تجدد الثقافة، وتجدد الأجيال ، وتجدد آلة الإنتاج ، كأهم ضمان للفاعلية والنجاعة في تسيير شؤون  المجموعة .

لكن ، هل تتمكن آلية الانتخابات ، حتى في أرقى الديمقراطيات الغربية ، من تحقيق هذه الوظائف المعقدة والمتداخلة ، جزئيا أو كلّيا ؟

إن العملية الانتخابية في صبغتها التقنية هي اختيار الرجل أو المرأة المناسبين لتمثيل الشعب وأخذ القرار  باسمه ومتابعة تنفيذه ، وذلك عبر تفويض واع من ناخب حر مسؤول وقادر على التفريق الصائب بين خيارات متعددة ومتناقضة.

وترتكز العملية الانتخابية على جملة من المسلمات ، أظهرت تجربة العديد من الديمقراطيات طوال هذا القرن أنها ليست بديهية في شيء . ولنبدأ تقييمها من القمة إلى القاعدة .

أما الناخب فمقسم بين قرف مستديم وجهل لا دواء له بما يخبئ له المستقبل . ويغذي قرفه هذا الفشل الوعود القديمة . أما جهله فيتغذى من عدم معرفته بمدى مصداقيته الوعود التي تعرض عليه باستمرار . وهكذا ، يجد الناخب نفسه  أمام السياسة كالمريض أمام الطب .

إن التوجه إلى هذا الطبيب دون غيره ، والأخذ بهذا العلاج لا بآخر ، ودفع هذه التكلفة المطلوبة دون احتجاج، لهي سفرة في ضباب بالنسبة لكل مريض ، توجهها بعض الإشارات المبهمة هنا وهناك .فالمريض ، إن لم يكن طبيبا محنكا وأيا كانت ثقافته ، عاجز عن تقييم فعلي لخبرة الطبيب التقنية ونزاهته الأخلاقية ، وهو مضطر إلى تصديق ما يقال عنه وعن العلاج.

لكن ما هي الفاعلية الحقيقية لهذا العلاج ؟ وما هي آثاره السلبية ؟ وهل أن التكلفة مبالغ فيها أم أنها الثمن العادل مقابل خدمات جيدة ؟

إنها أسئلة قلما يستطيع الأطباء أنفسهم الرد عليها ، ومع ذلك يفتعل طل الفرقاء الإيمان بأن الطبيب فعلا طبيب، والعلاج حقّا علاج ، والتكلفة عادلة . ثم تأتي التجربة المرة لتفضح عدم بديهية البديهيان .

إن خيار الناخب أعقد بكثير من خيار المريض ، لأنّه مطالب بالبت في علاج الإدارة وعلاج الاقتصاد وعلاج الظلم الاجتماعي، في حين أن زاده المعرفي الحقيقي مقتصر على المشاكل التقنية التي يعرفها بحكم عمله أو وضعيته ، والمشاكل العامة لمحيطه الضيق . أما المستويات الأعلى فإن عمله لا يفي حتى بحاجة التشخيص  الصحيح للمشاكل ، فما بالك باختيار أنجع الحلول لها ، وثقافته هنا كثقافة طالب الطب أمام عارضي الأدوية وممثلي الشركات الصيدلية. أي أنه يختار أساسا تحت تأثير شكل أو آخر من الإشهار .

ماذا الآن عن هذه العملية بالذات ، إذ هي مظهر مثير جدا خلال المعركة ، وهي كذلك نقطة الضعف الأساسية فيها ؟

تتقدم القوائم الانتخابية أمام الناخب بمقترحاتها لحل المشاكل . وتتغلب يوما بعد يوم عقلية البائع ومصالحه وفلسفته وتقنياته على كل اعتبار . وهكذا رأينا الإشهار يتسلل بخبث متزايد على ميدان السياسة، مما جعل القضايا الرئيسية للمجتمع تباع للناخب مقابل صوته، كما تباع السيارات وصابون الشعر مقابل المال . وأصبح المترشح أحيانا أهم من برنامجه . وهو ما حدا بمؤلف  في العلوم السياسية، يدعي : "داونس" لأن يعتبر الديمقراطية "مقايضة اقتصادية" تكون الحكومة بموجبها مجرد مقابل خدمات ، يبيع سياسات ثمنها المطلوب ما يجمع من الأصوات لمواصلة تسيير المؤسسة التي يمكن أن تكون : فرنسا أو أمريكا أو اليابان ...

إن هذا التوجه نحو الإشهار ، في إطار  منظمة اقتصادوية ، لهو من أكبر الأخطار التي تتهدد الديمقراطية. فهي تخلق حالة تصطفي أردأ المواقف والتصرفات ، كالغش والخديعة والكذب والديماغوجيا وشتى ضروب النصب والاحتيال والطعن في حلول الآخر ، لا لشيء  إلا لأنها بضاعة الخصم. والحال أن المجتمع بأمس الحاجة لتظافر كل الأدمغة لحل المشاكل المعقدة باستمرار  وللبت في كل الحلول المقترحة ، باعتبارها تعكس ، عادة، جزءا من التعقيد المريع .

إنها لمفارقة غريبة أن تتصور إمكانية بناء نظام فاضل بمثل هذه المواقف والتصرفات التي تفرضها الحالة ، فإذا بالناخب يصبح ضحيتها مثلما هو ضحيتها رجل السياسة المسكين الذي يفرض عليه بائع مشبوه، ويعاب عليه قيامه المهمة على أحسن وجه.

قد تحمل تقنيات الإشهار الناخب على اختيار أسوأ الحلول عن حسن نية أو من طفرة  الغضب أو انجرارا إلى مواقف ساحر خبير في الدمغجة، مثلما حدث ذلك أكثر من مرة وليس في ألمانيا الثلاثينات فقط.

هذا علاوة عن دور المال في تضخيم  أصوات أو تحجيم أخرى . فهذا مليونير أمريكي يستطيع أن يشق له طريقا إلى القمة، لا لشيء إلا لأنه قادر على دفع ملايين الدولارات لاشتراء ساعات في وسائل الإعلام. ولا يستغرب أحد أو يعتبر الأمر تحريفا خطيرا للديمقراطية،  التي يفترض فيها توفير نفس الفرص لكل الناس في عرض أفكارهم والدفاع عنها .

ومن مظاهر الدور السلبي للإعلام المستبد، وأثره في إنهاك الديمقراطية، ما نشهده من انتشار عمليات سبر الآراء، التي أصبحت تشكل ضغطا معنويا متواصلا على المترشح والناخب على حد سواء. فتتعدل الأقوال والأفعال حسب آخر تقلبات وشطحات رأي عام مسيّر. ومن ثم ، تنزلق الأهداف من اختيار أفضل مرشح وأفضل برنامج.. على هدف اختيار أفضل استراتيجية للتجاوب مع الأهواء المتقلبة للمترشحين ، وأحسن رهان على أفضل حصان ، بالنسبة للناخبين .

ومما يفرض التوجه التجاري ـ الإشهاري للحملات الانتخابية ، التزايد المطرد في تكاليفها المستمدة غالبا من "تبرعات" كبرى المؤسسات الاقتصادية ذات المرامي المعروفة.

فلا غرابة إذن أن يكون مردود هذه العملية في اختيار الرجل المناسب أو المرأة المناسبة للمكان المناسب ، كمردود اختيار الأطباء والجراحين على مقاييس "حلاوة " اللسان والمظهر، والشهادات المشبوهة ، والوعود الجميلة باكتشاف دواء السيدا مثلا أو السرطان ..

وهكذا نرى أن آلية الانتخاب بهذا الشكل أبعد ما تكون عن تحقيق هدف التجدد وضخ النجاعة والفاعلية في شرايين الدولة .

إن من يعتقد بأن في هذه المقارنة شيء من الإجحاف ، نطالبه بأن يفكر في ما يتطلبه اليوم توجيه الاقتصاد والفلاحة والتعليم من خبرة وتجربة ، ناهيك عما يتطلبه توجيه دولة برمتها من معرفة بالعموميات والجزئيات ، بالإيديولوجية  والتاريخ والاقتصاد  إلخ ... ثم عليه بعد ذلك أن يتصور ترتّبات الخيارات الهوجاء ، والأخطاء التقنية وثمنها الهائل إنسانيا واجتماعيا ، أو دورها في تعطيل مسار شعب بأكمله ، أو دفعه في اتجاه  يتناقض مع مصالحه  الحقيقية.

إلا أنه  لا يمكننا ، رغم كل شيء ، مقارنة هذا المردود بترتبات تكلس النظام الاستبدادي وتحجره ، ورفضه التطور والتجدد ، واستماتته في محاولة وقف عجلة الزمان ، إلى أن يلفظه المجتمع كمن يتخلص من ورم .إنه مردود ضعيف ولكن هناك إمكانات كبيرة لتحسينه ، وبالتالي لإطالة عمر  الديمقراطية .

لقائل أن يقول إننا نخلط بين السياسي والتقني ، لكن هذا الاعتراض نراه غير مصيب ، لأن التقني إن ترك بلا توجيه سيفرض سياسة لا تصل إلى السطح ولا يمكن تقييمها . ولأن السياسي الذي لم يكتسب ثقافة عامة وخبرة تقنية واسعة في ميدان ما ، يكون غير مؤهل لتأطير  التقني وحل مشاكل مجتمع معاصر ومتزايد التعقيد.

يتزايد إذن قرف الناخب بتزايد وعيه بعمق جهله، وضعف تأثيره على الأحداث ، وتصاعد شكه في طبقة سياسية فقدت كل هيبة نتيجة تظافر عوامل الدعاية ، وسطوة قضاء متصاعد الصرامة وباحث عن توسيع رقعة سلطانه على حسابهما ، وإعلام خبيث جعل من فساد بعض رجال السياسة مادة دسمة وبضاعة لا تنفق ، حتى وإن كان أغلب رجال السياسة في منتهى النزاهة والتفاني .

لا شيء في الأفق يبشر بحل هذه الأزمة الخطيرة ، فالحالة التي خلقت هذه الوضعية  صعبة التغيير لأنها ارتبطت بعادات مستحكمة ومصالح عميقة ومتشابكة . بل من الممكن أن تتفاقم انتخابا بعد انتخاب ، فلا تزيد الديمقراطية إلا اهتراء علىاهتراء.

إن الانسحاب المتزايد من لعبة مطعون فيها ، من شأنه أن يغذي الاستقالة الجماعية وتذرّر  المجتمع ، والبحث عن الحلول العاجلة والصغيرة والقريبة من الناس وهمومهم ، مفسحا المجال أكثر فأكثر داخل مؤسسات الديمقراطية للمحترفين والمنتفعين والمتمعشين ، وخارجها لعدو متمرس لا همّ له إلا العودة إلى نشوة العنف المباشر بالتعريض والتحريض الدائمين ضد الحرب الرمزية وآلياتها .

إلا أن الركن الثالث بقي يعاني من مرض أخطر وأعمق ، يتعلق بخلطه بين الوظائف ، ومحاولة تأدية وظيفة مستحيلة.

ومما يشاع عن الديمقراطية أنها حكم الأغلبية ، وأن مؤسسات أخذ القرار وتنفيذه بيد مممثلي هذه الأغلبية. وهي فكرة لا أساس لها من الصحة منذ قديم الزمان ، فقد كانت الديمقراطية الأثينية حكم أقلية. وكانت الديمقراطية الفرنسية على خمسين سنة خلت لا تمنح حق التصويت لنصف المجتمع ، أي للنساء. ومن المفارقات العجيبة،  تلك الأحداث التي رسخت آليات التمثيلية والتداول . لكن الانتخابات ، حتى في البلدان التي يمنح فيها حق التصويت للمجتمع ، لا تعكس إرادة  الشعب وإنما إرادة القوائم الانتخابية . وقد تكون هذه القوائم مرآة للشعب وقد لا تكون وغالبا ما لا تكون. لأن التنظيمات الإيديولوجية الحركية والتي تمثل الاقلية، تستطيع بالتجنّد الذي تحسنه أن تتواجد بكثافة نسبية، مقارنة بإمكانيات عموم الشعب الذي تمنعه هموم الحياة ، أو مستواه العلمي، أو قرفه من السياسة والسياسيين ، من المشاركة في الانتخابات .

وهكذا ، ترى رئيس  جمهورية فرنسا منتخبا (في أحسن الأحوال ) من 52 % من القوائم الانتخابية ، ومعلنا تمثيل من لم يمنحوه ثقتهم . وكذلك ترى رئيس الولايات المتحدة منتخبا من طرف ثلثي المواطنين ممن له حق الانتخاب ، لكنه يكون ممثلا للثلث الباقي ، وهكذا ...

والأمر كذلك بالنسبة للانتخابات التشريعية التي تلغي النظام الأغلبي ، فينجح بموجبه من تحصل على 50,5%  من الأصوات ، ويسقط من تحصل على 49,5  %. أما ممثلو قطاعات كبيرة من الناس في البرلمان ، فلا تجد من يمثلهم . في حين يتسبب النظام النسبي الذي يعطي لكل الأحزاب مقاعد بعدد الأصوات التي تحصلت عليه ، في جعل  القرار صعبا، وأحيانا في دكتاتورية الأقلية.

إن الأمر معهود جدا في ألمانيا التي تعتمد التمثيلية النسبية ، إذ تلعب الأحزاب الصغيرة دورا هاما في التحالفات وفي ترجيح الكفة لصالح هذا القطب أو ذاك ، خلال مواجهة سياسة تكون فيها القوى شبه متساوية ، فتبتز الطرف الذي تتحالف معه .

في إطار هذا النظام إذن ، تفرض تمثيلية مبالغ فيها لصالح الأقلية ، حيث تمنحها سلاحا هاما يساعد على تعطيل قرارات الأغلبية أو ممارسة الضغط والابتزاز. وهي بهذا تعطي الأولوية للسياسوية على السياسة، أي تغلّب التكتيك على الإستراتيجية ، والتحليل على الذكاء ، والاحتراف على النضال ، والواقعية على المبادئ .

إن هذا المشهد الذي يضخمه إعلام لا يرحم ، لا يزيد الناخب إلا شكّا في عمليات يتضح له أنها فقدت سبب وجودها ، لأن همها الحقيقي ليس تمثيل الشعب وحل مشاكله ، وإنما تمثيل الأحزاب وحل مشاكلها .

يجب أن ننتهي من هذه الأكذوبة الكبرى ، فالديمقراطية لم تكن أبدا تمثيلا للأغلبية بمفهومها العددي البسيط ، وليس هذا هدفها الرئيسي .

إن أحسن وسيلة لتحقيق هذه التمثيلية بالنسبة لمن يعتبرها جوهر الديمقراطية هو الالتجاء إلى تقنيات الإحصاء وليس إلى الانتخابات . فأحسن  برلمان ممثّل فعليا للشعب هو ذلك الذي ينتقي له علماء الإحصاء عينة إحصائية تختار من قوائم الحالة المدنية ، حسب تقنيات معروفة يلعب فيها الحظ دورا هاما لاختيار الأفراد كأفراد. لكنه يعطي في آخر المطاف صورة دقيقة وصحيحة عن التركيبة العامة للجمهرة الوطنية.

وهكذا سنجد في البرلمان الرجال والنساء بنسبة متعادلة ـ وهو أمر إيجابي ـ ومن مختلف الأعمار والمهن والجهات والمستويات الثقافية بنفس النسبة الموجودة في المجتمع . لكن سيعني هذا بالنسبة لنا كعرب ، أن يكون نصف البرلمانيين أميين ، وأن الأغلبية الساحقة ستكون بدون أدنى خبرة سياسية أو جمعياتية . وبهذا تتم المفارقة التي تضعنا أمام برلمان ممثل أحسن تمثيل ، لكن لا جدوى له ولا فاعلية.

يتضح أن القضية في الواقع ليست تمثيل الأشخاص ، وإنما تمثيل المشاكل والمصالح والخيارات الجماعية. وهذه الأخيرة لا يمكن أن تمثل لا بالعينة الإحصائية ولا بالنظام الانتخابي المعمول به اليوم .

لنذهب أبعد من هذا ، ولنفترض أن الهياكل المنتخبة تمثل فعلا الشعب لا القوائم الانتخابية، فستترجم بالضرورة إرادة الأغلبية، التي هي إرادة تخضع ، كالطقس ، لتقلبات شتى.

فهل يمكن أن تكون هذه الإرادة هي حجر الزاوية لأي سياسة ديمقراطية ؟ وهل يمكن مثلا أن توضع إرادة الإسرائيليين فوق حق الفلسطينيين في دولة ووطن ؟ وهل يمكن أن تقبل بتنفيذ حكم الإعدام في أمريكا لأنه إرادة الشعب؟   وهل يجب أن نقبل بالعمل بالتعذيب لو كانت تلك إرادة أغلب الناس ؟

بداهة ، هناك حد حتى لإرادة الأغلبية وهذا الحد هو مجددا " حقوق الإنسان ".

إن الخطر في مثل هذا الموقف يكمن في الانزلاق نحو النخبوية والتعالي على الشعب . أما الخطر في الموقف المعاكس فيتمثل في الديماغوجية الهابطة التي تتملق  أتعس ما في الشعب لتستبد به عاجلا أو آجلا ، وهي تقنية كل الأحزاب الشعبوية.

ونحن لا نتفادى هذين الخطرين إلا باعتبار أن الديمقراطية أداة لخدمة الإنسان وتحقيق حاجاته في الأمان والكرامة والتحرر والعيش الكريم . معنى هذا أنه في إطار ما قلناه عن انعدام الحرية المطلقة لأي هيكل أو كائن أو فكرة ، فإن سيادة الأغلبية يجب أن تبقى رهينة تحركها في إطار الحقوق/الواجبات التي ضمنها الإعلان ، وإلا أصبحت الديمقراطية أداة لنحر الديمقراطية والاستبداد بالإنسان .

وتكمن مأساة كل المشاريع التحررية في صعوبة الانتقال من الرغبة إلى تحقيقها ومن النظري إلى العملي ومن الإيديولوجي إلى السياسي . ويبقى المشروع مهددا من داخله أكثر مما هو مهدد من خارجه ،وكذلك الأمر بالنسبة  للديمقراطية.

لذلك تعرض كل هذه العيوب إدخال إصلاحات جذرية في هذا المجال ، وإلا أدت إلى التقصير في عمر نظام راق لكنه هش. فالمشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي تنتظرنا ، أصبحت بصدد تفاقم مخيف قد يجعلها غير قابلة للحل لا بالديمقراطية ولا بالاستبداد .

ونحن إذا لم نطوقها من البداية بوضع نظام سياسي عادل وفعال ، فإن العلاج قد يصل متأخرا ، وقد يكون مفعوله أكثر من متواضع إذا كان هو بنفسه محتاجا إلى علاج.

إن العرض الموالي ليس مجرد تمرين خيالي كالذي يعشقه المثقف المنطوي على نفسه في برجه العاجي والحالم بالمدينة الفاضلة والإيديولوجية الحق والآليات الكاملة ، إنما هو على العكس من هذا : مواصلة للنضال .

فإذا كان صحيحا أن كل الأحلام لا تتحقق ، فإنه من الثابت أيضا أن كل ما تحقق إلى حد الآن كان نتيجة أحلام ، ومن ثم فالحلم هو ضرورة المرحلة التي تسبق كل تغييرات هامة ، وهو أيضا منطلق الحركة التي ستخلق الحالة الجديدة.

يجب إذن أن ''نحلم ''بآليات تطور التجارب الديمقراطية ، نظمتها دفّات الكتب لتنقل في يوم ما وفي مكان ما إلى دنيا التجريب الفعلي في عالم السياسة .

يتلخص دور الآليات المتطورة التي تعنى بوظيفة التجدد والتداول على السلطة ، في إقحام أكبر عدد ممكن من الفرقاء في الحرب الرمزية، وفي تنظيم هذه الحرب بصفة تتبلور من خلالها الخصال وليس العيوب ، وفي جعلها تؤدي إلى وضع الإنسان المناسب في المكان المناسب، أي تحقيق أقصى قدر ممكن من النجاعة في إدارة دواليب أخذ القرار وتنفيذه.

            عودة إلى المنطلقات  :

يقول الفصل الواحد والعشرين من الإعلان : " لكل إنسان الحق في الاشتراك في إدارة الشؤون العامة لبلاده، إما مباشرة أو بواسطة ممثلين يختارون اختيارا حرّا ، ولكل إنسان الحق الذي لغيره في تقلّد الوظائف العامة لبلاده . إن إرادة الشعب هي مصدر سلطة الحكومة ، ويعبّر عن هذه الإرادة بانتخابات نزيهة دورية على أساس الاقتراع وعلى قدم المساواة بين الجميع أو حسب أي إجراء مماثل يضمن حرية التصويت ".

لنركز هنا على أن رفض التمثيلية المزيفة أو المنقوصة يجب أن لا يعني لحظة نفي ضرورة أن ينبع النظام الديمقراطي من كل الناس في إطار مساواة كاملة لا تفرق بين رجل وامرأة وفقير وغني وجاهل ومتعلم ، وليس أخطر على الديمقراطية من ديمقراطية نخبوية تكون الشكل المقنع للأرستقراطية الجديدة.

لننتبه أيضا إلى أن كل حق لا يصحبه واجب، كما يقال ، وإنما هو الواجب نفسه. فالحق والواجب هما وجهان لقطعة نقد واحدة هي " المسؤولية " ، فلا مجال للفصل بينهما .

عندما أقول : من حقي التمتع بحرية الرأي المخالف ، لا أعني طبعا أنني أطالب بمزية أخصّ بها نفسي دون الآخر، إنما يعني هذا التذكير بأنّني أنتظر من كل من يواجهني احترام هذا الحق ، وذلك بالاضطلاع بواجبه في احترام حقي في الرأي المخالف بنفس الكيفية. وأنا مطالب بعدم التعرض  للآخر عندما يبدي رأيا مخالفا ، ومن ثم فواجبي احترام هذا الحق الذي أطالب به لنفسي  لذلك يمكن كتابة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان كالإعلان العالمي لواجبات الإنسان ، دون أن ننقص منه أو نزيد حرفا .

وعندما نقول " لكل إنسان حق المشاركة في الحياة العامة، فإننا نعني آليا أن من واجبه المشاركة في هذه الحياة العامة .

تتطلب حياة المجتمع أن نبعث بأطفالنا إلى المدارس شئنا أم أبينا ، وتتطلب أن ندفع الضرائب للتمتع بالخدمات العام’ ، أحببنا أم كرهنا. والمشاركة في الحياة العامة  ضرورة هي الأخرى ، وعلينا أن نتعامل مع الديمقراطية وأن نموّلها كما نتعامل مع المدرسة ، أي أن نشارك فيها لأنها أول وأهم ضمانة لأمننا الجسدي الذي بدونه لا معنى لأي حق آخر .

نحن لا نتصور بالطبع إمكانية فرض عقوبات على من لا يشارك في الحياة الديمقراطية ، لكن من وظيفة الدولة الديمقراطية ـ في إطار الدفاع عن نفسها وإطالة عمرها ـ تشجيع المشاركة بكل ما يمكن من الوسائل ، كتبسيط الترسيم على القوائم الانتخابية ، واعتبار بطاقة التعريف هي بطاقة الناخب ، وتخصيص جزء من البرامج الإعلامية للتربية المدنية الحقيقية ... الخ.

كم عدد الناخبين  المضربين في الديمقراطيات القديمة ، والمستعدين للعودة على صناديق الاقتراع ، لو تغيرت قواعد اللعبة ، وما هي شروطهم للعودة إلى الاقتراع ؟ وكم منهم آثر توظيف طاقاته في العمل الجمعياتي ، وهو تعويض هام يقلل من خسارة الإضراب لكنه غير مقنع ؟

إنها أسئلة هامة لم تلق حظها من الدراسة والاهتمام من قبل رجال السياسة الذين أنهكهم الركض  وعرّاهم القضاء، وأفقدهم الإشهار الحياء والأنفة، وأنشبت السلطة فيهم مخالبها كما تنشب المخدرات مخالبها في المدمنين .

لنتقدم بهذه الفرضية على أمل أن تثبتها الأحداث ، وهي أن أحسن حافز يجعل الإضراب عن المساهمة في الحياة العامة شاذّا وليس القاعدة ، هو أن نضع على قدم المساواة المشاركة في الحياة الجمعياتية ، مساهمة وترشحا وانتخابا ، مع المشاركة في الحياة العامة ، وذلك بإحداث التغييرات الضرورية وتقديم كل التسهيلات الممكنة.

إن من أهم الوسائل لمحاربة الإضراب السياسي هي إعادة مركز الثقل في المعارك السلمية على القاعدة . وذلك بأن تكون الانتخابات المحلية هي أهم المعارك السياسية ، وأن تفرز هيئات لها أوسع الصلاحيات في الميدان الاقتصادي والاجتماعي محليا، وأن تنطلق من هذه القاعدة كل قوى التجدد.

يقترب في هذا المستوى الناخب من المترشح ، ومن المشاكل التي عليه أن يعالجها . لكن دون أن يعني هذا فهما كاملا أو إدراكا تاما لكل الخفايا والمعطيات. ومن المنطقي أن نراهن على أن لأعضاء "جمعية حقوق الإنسان " فهما لإشكاليات حقوق الإنسان ووضعها في البلاد ، أعمق من فهمهم لإشكاليات عامة معقدة ومترابطة ، ومعرفة بالمناضلين في إطارها أدق من معرفتهم بأناس لم يسمعوا أحيانا حتى أسمائهم قبل المهرجان الانتخابي .

ولا شكل أيضا في أن فرص الخطأ لا تنعدم في مستوى الانتخاب المحلي، لكنها تقلّ أكثر نظرا لمعرفة الناس بمشاكلهم الخاصة ، ومعرفتهم بالناس الذين يتقدمون باقتراحات لحلها .

ومن المنطقي أيضا أن تكون الانتخابات الجمعياتية والحكومية والمحلية مباشرة ومبنية على الترشح الفردي وعلى القوائم الحزبية أو المستقلّة، وأن ترعاها الدولة الديمقراطية وتشجعها ، وأن تراقب المحكمة الدستورية سيرها في أحسن الظروف .

يقول الفصل الواحد والعشرين للإعلان إنه يمكن التعبير عن إرادة الشعب التي هي مصدر كل سلطة ، بالانتخاب أو حسب أي إجراء مماثل ، شريطة أن يكون نزيها ، دوريا ، عادلا ، سريا وحرّا .

فلم يوقف إذن المشرع العالمي التعبير عن إرادة الشعب على الاقتراع المباشر بالأغلبية أو النسبية  وإنما ترك لنا الباب مفتوحا لنتصور إجراءات مماثلة. ونحن بأمس الحاجة إلى تصور مثل هذه الإجراءات ، لكي لا نستورد استقالة الناخب، وسطوة الإشهار، وانهيار صورة  السياسي والسياسة، ووصول الأغنياء والمحترفين والجهازين إلى سدة السلطة.

إن القاعدة التي يجب أن لا تغيب عن أذهاننا دوما ونحن نتخيل النماذج المثالية أن المكر الإنساني قادر على التلاعب بكل الضوابط.

إن المهم بالنسبة لنا هو توفير الحالة التي تضع أقصى قدر ممكن من العراقيل في وجه المكر وتقلل منه ما أمكن . لأن قدر كل الآليات أن تفرز عيوبها، وأن تسقط  عاجلا أو آجلا.

ومن الإجراءات الممكنة ـ وهذه تصورات نريد بها فتح باب النقاش لا إغلاقه ـ نظام الترشيح/التصعيد.

فلا يجوز أن يرشح المرء نفسه لأي مسؤولية ، في مستويات الأجهزة الوطنية  العليا من برلمان ومحكمة دستورية ورئاسة الشعب ، وإنما أن يقع ترشيحه من قبل دعامتي الركن الثالث أي التنظيمات الحكومية المحلية.

إن التصور الممكن للعملية هو أن يضبط القانون الأساسي بعد عرضه على الاستفتاء ، صلاحيات برلمان يخصص نصف المقاعد فيه للأحزاب السياسية حسب ما تحصلت عليه من أصوات في الانتخابات البلدية ، ونصف المقاعد فيه للتنظيمات المجتمعية المستقلة فعلا عن الأحزاب السياسية ، (بتواجد كل الحساسيّات داخلها دون هيمنة لطرف ) . كما يراعي في توزيع المقاعد عنصر التوازن بين النساء والرجال ، والتمثيل الجهوي والمهني .

إن أمرا كهذا من شأنه أن يجبر المؤسسات السياسية العامة أو الأحزاب على إظهار جدارتها وقدرتها على تسيير البلاد تقنيا وأخلاقيا ، لا بالوعود والدمغجة  وإنما عبر أصعب الامتحانات التي تتمثل في حل المشاكل اليومية على أرض الواقع وعلى مستوى الأحياء والقرى والمدن .

إن على القانون الأساسي أن يكون دقيقا مفصلا ، لأننا نعلم خطر المبادئ الفضفاضة التي تترك لاجتهاد الدولة. فلا بد له من تحديد المواصفات المطلوبة لدخول هذا البرلمان ، وهي ، بداهة ، مواصفات سياسة عامة وأخلاقية سلوكية وتقنية ، وذلك حتى تمتلئ  مراكز  القرار بنخبة البلاد.

لنتصور الآن أن عمليات البيع والشراء التي صاحبت ولادة الدستور الجديد قد أقرب منظمة حقوق الإنسان بمعقد واحد في البرلمان . عندئذ تتم عملية الترشيح  ـ التصعيد في جلسة عادية بمنتهى البساطة. فيطالب مثلا كل عضو في المؤتمر بكتابة اسم من يراه جديرا بتمثيله في البرلمان ، ومن يتوفر على شروط واضحة ومحددة مسبقا كالأقدمية في النضال وقبول المهمة والنشاط ... ، وتوضع القائمة الأولى للذين تحصلوا على أكبر عدد من الأصوات . ولنفرض أن القائمة احتوت على اثنين وثلاثين اسما. تعاد  إذن القائمة إلى القاعة لشطب نصف الأسماء وذلك دون صخب أو ضوضاء أو حملة انتخابية ، ثم تعاد قائمة الفائزين مرة ثانية إلى القاعة لشطب النصف ، وهكذا على أن يبقى فائزان فيعهد إليهما المؤتمر بإعداد برنامج عمل ومقترحات والرد على الأسئلة. ويحرّم عليهما في هذه الفترة كل حملة إشهارية ، بل تعتبر عنصرا من العناصر التي يجب أن يؤاخذ عليها كل مخالف ماكر ، وأن تكون سببا قانونيا في سقوط المترشح ، سواء أمارسها مباشرة أم عهد بها في الخفاء إلى أصدقائه الأعزاء لشراء الضمائر أو للبحث عن الضمانات .

وفي هذه الفترة التي تخصص عادة للهرج الانتخابي ، يعكف المترشح وشيعته على الملفات والبرامج ليتقدم على آخر امتحان أمام القاعة التي تختار أخيرا في اقتراع ري ممثلها.

لا جدال أن برلمان مشكّل  بهذه الكيفية سيتكون ضرورة من خيرة ما في المجتمع من رجال ونساء وأنه سيكون جاهزا من أول لحظة للعمل ، ناهيك عن استحالة قبوله أو إفرازه للاستبداد ، لأنه ليس حلبة صراع بين أحزاب تبحث  عن السيطرة . فلا يستطيع أي حزب سياسي داخله أن يفرض هيمنته ، وإنما هو ساحة صراع بين كل مكونات المجتمع الحقيقية التي تبحث عن حل للمشاكل.

إن هذا البرلمان لا يلغي الحرب الرمزية ، بل بالعكس  إذ لا مجال في تشكيله لأكذوبة كبرى وخديعة يعرف من جرب آلياتها خبثها وخفاياها ، ألا وهي الوفاق المصطنع . لا بد ضرورة من حصول خلافات حادة حول كل المواضيع تقريبا ، وهي خلافات لا يمكن الحسم فيها إلا بالاحتكام إلى صندوق الاقتراع .

إن الترشيح في أي مستوى من مستويات أخذ القرار يمكن أن يشمل أشخاصا مستقلين من خارج المؤسسة حتى لا تضيع أي فرصة لاستغلال الطاقات التي يزخر بها المجتمع .

ويبقى الآن اختيار ذلك الإنسان ، ذكرا أو أنثى ، الذي يجب أن يسهر على حقوق الشعب بأكمله.

فلطالما تصور الكتّاب والفلاسفة ، من أفلاطون على اليوم ، نماذج عدة للأمير العادل ، للملك الفيلسوف ، للزعيم  الطلائعي ... فابتلينا ولا نزال بكل أصناف الفشل .

ترى الناس خلال سطوة الاستبداد يطبّلون لقادتهم  المتتابعين ، ويضربون لهم الدفوف ، ويولّعون  ويولّعون الشموع وهم على قمة الهرم ، ليدوسوهم بالأقدام يوم يسقطون من ظهر الأسد ... وهو يوم لا مفر منه .

ها هي كل الشعوب ، حتى في أعرق الديمقراطيات ، تتخبط في نفس المعضلة . مما يعني أنه لا يزال أمامنا مجال للتجريب قد يستغرق قرونا ، وقد ينجح أو لا ينجح . فمن أمة ترتضي لنفسها ملكا بدون سلطة ، إلى شعب لا يقبل برئيس لأكثر من أربع سنوات تجدد مرة واحدة ، إلى ثالث غارق إلى أذنيه في فضائح سياسية لا تنتهي ... إلخ .

ولأن إشكالية السلطة وممارستها تبدو إشكالية تاريخية ليست على وشك الحل ، ولأن التجارب ما زالت متواصلة ، والحل المثالي لا زال أمامنا ، فمن الضروري بالنسبة لنا نحن العرب أن نغتنم هذه المرحلة الانتقالية من تاريخنا لبلورة تصور آخر للشخص الذي سنضع لسنوات معدودة كبرى المسؤوليات بين يديه.

وحتى لا نقع في فخ الطوباوية ، فلا بد من التركيز من جديد على الوظيفة وتحديدها وتقنينها ، ثم نتخيل أحسن الوسائل لشغلها بأفضل الناس . مع العلم أنه لا أمل يرجى في أن يكون الاختيار دوما هو الأسلم ، والقانون دوما هو الأضمن ، والتقنية دوما هي الأحسن .

إن المثال العكسي كان وسيبقى هو ذلك النرجسي الأكبر ، والقائد الملهم الذي نسميه حاليا رئيس الدولة، لأنه فعلا رئيس الدولة أي قائد الحزب الذي استولى على مقاليد الإدارة في محاولتها تطويع الشعب والتحكم فيه.

ونحن نريد أن تكون دولة الاستقلال الثاني ، دولة مؤسسة، تحترم استقلال المؤسسات الأخرى الممثّلة  لحيوية المجتمع بجنسيه ، وجهاته وطبقاته وتياراته الفكرية والسياسية المختلفة.

فرئيس الدولة لا يكون قائدا لحزب أي لفريق . بل يجب فصل أي حزب عن الدولة ، إذ هي ملك للجميع . كما يجب فصل الدولة عن المؤسسات المدنية، وفصل وظيفة القيادة عن رئاسة الحكومة ، أي الإدارة.

إن أخطر وظيفة في أي نظام هي الرئاسة ، فلا بد إذن من نقاس معمق لكي تعطى للشعب أقوى الضمانات بخصوص ممارستها.

إن اختيار الرئيس انطلاقا من عملية الترشيح والتصعيد من قبل البرلمان أو اختياره مباشرة من قبل الشعب ، تبقى قضية قابلة للنقاش وثانوية نسبيا إذا حددت الوظائف بمنتهى الوضوح في مستوى الدستور نفسه . مع العلم أن اختياره من قبل البرلمان لا ينفي سيادة الشعب ولا يشكل تحقيرا لها حيث أن البرلمان المفرز هو ضمير الشعب وصوته وعينه الساهرة، وبالتالي يفترض فيه أن يكون اختياره موضوعيا ودقيقا .

إن مزايا الترشيح / التصعيد ، في هذا المستوى العالي من المسؤولية، التركيز على البرنامج لا على الشخص . إعطاء نفر قليل من الناس سلطة كبرى قد لا يحسنون استعمالها إذا أصبح  الهاجس عندهم هو التحالفات السياسوية والدعاية المبطنة والحملات الدعائية الخفية ... إلخ .

قد يكون الحل أن يعهد بعملية اختيار الرئيس للبرلمان ، على أن تقيّم كل القوى العملية. فإن اتضح أنها حادت عن مرماها يمكن التراجع فيها عن طريق حق الاستفتاء الشعبي الذي يجب أن يضمنه الدستور.

يمكن أيضا اختيار صيغة وسط ، وذلك كأن ترشح القوى السياسية ـ الاجتماعية الكبرى عددا من حملة مشعل برامجها ، من داخل البرلمان وخارجه ، وهذه القوى السياسية تتكون عادة في بلداننا من أربع : العائلة الإسلامية والعائلة القومية والعائلة الليبرالية والعائلة الاشتراكية.

وقد يكون دور البرلمان الفرز الأولى ، وذلك يدخل الانتخاب الرئاسي خيرة الناس وخيرة البرامج  ثم يعطي للشعب حق الخيار بعد حملة انتخابية هدفها التعريف وليس الإشهار .

            تكون وظائف الناطق باسم  الشعب بالإضافة إلى الكلاسيكية منها ، كتمثيل البلاد والسهر على أمنها ومكانتها بين الشعوب ، السهر على الأنظمة التالية

-النظام القيمي  :

تتمثل مهمته  في متابعة حالة القيم داخل المجتمع ، وذلك بالتشخيص الدائم لحالة الحقوق الإنسانية الواردة في الإعلان ، وأن يكون لكل حق من هذه الحقوق مؤشرات تقيس مدى تحقيقه، وتكون مهمتها البحث في الأسباب الهيكلية التنظيمية ـ السياسية لكل تردّ قيمي ، فتتداركها بالوسائل التربوية والإعلامية والسياسية ، وبإعطاء المثال وتعقب كل المتسببين في القدرة السيئة داخل جهاز الدولة .

وحتى لا تقع هذه الوظيفة في الماكرثية ، وحتى لا تنقلب نقمة على الناس ، يكون التعامل معها بعيدا عن الدمغجة  والإثارة. بل يتوخى منتهى الحذر ، ويجيّد علماء الاجتماع للتشخيص والمتابعة  ويقع إشراك كل قطاعات المجتمع ، وتجعل التنمية القيمية على شكل برامج سياسية لا تقل أهمية عن التنمية الاقتصادية (كالتعاضد والاعتماد على النفس والإتقان والمثابرة ... إالخ ).

-النظام الاداري  :

وتتمثل المهمة  في مراجعة القوانين للتأكد من تلاؤمها مع المواثيق الدولية لحقوق الإنسان وتشجيع ولادة أكبر عدد ممكن من المؤسسات المدنية، وتمويلها والسهر على تطورها في كنف الشفافية، سواء أكانت أحزابا سياسية أم صحفا أم جمعيات خيرية... إلخ ، وتتمثل مهمة رئيس الشعب أيضا في تتبع كل العقد التنظيمية داخل جهاز الإدارة ، وذلك لحلها وخلق لجان خاصة للتوفيق بين الإدارة والمواطن ، ومدها بكل ما تحتاجه من دعم أدبي ومادي في إطار استقلاليتها، وتركيز خط الدفاع الأول في ميدان العدالة . كما من مهمته أيضا التأكد من تقديم كل المؤسسات لأهدافها السنوية بعيدة المدى، ووجود آليات التقييم داخلها ، وعمل هذه الآليات في كنف القانون والاستقلال الحقيقي .

وللناطق باسم  الشعب حق اقتراح أسماء الوزراء على مؤسسة البرلمان ، على أن يترك لهذا المجلس مطلق الحرية في تقييمهم ومنحهم الثقة قبل انتهاء المهمة وأثناءها وبعدها. علما بأن مهمته ليست في تفضيل هذا على ذاك، بقدر ما أنها في السهر على العمل السليم لشتى آليات التقييم .

-النظام المعلوماتي  :

إن قيمة المعلومات بالنسبة لكل المجتمع هي بمثابة الدم الذي يجري في شرايين الجسم. لذلك تكون مهمة الناطق باسم  الشعب السهر على فاعلية مؤسسات خلق المعلومات (ومنها : الجامعة) ونشرها (عبر الصحافة) وتلقينها (في المدرسة). ويكون ذلك بالسهر على صحة المؤسسات المعنية بالأمر ، وتشخيص الأمراض التي قد تنخرها إن تركت لحالها ، والبحث عن سبل الوقاية والعلاج.

-النظام الانتاجي  :

كما على الناطق باسم  الشعب أن يشخص دوما قدرات آلة الإنتاج ، وأن يفهم حدودها وعيوبها ، وأن يبحث عن الحلول الهيكلية لزيادة فاعليتها. إلا أنه مطالب ـ كممثل لشعب أغلب قطاعاته تنوء تحت ثقل الفقر والحرمان ـ بأن يكون العين الساهرة التي لا تنام في ما يخص توزيع الخيرات، وذلك عبر : الجباية العادلة، وحماية المناطق الفقيرة التي لم يوفر لها الحظ عددا كافيا من أبنائها الذين يتواجدون في مراكز القرار للدفاع عن مصالحها .

ما عدا هذا لا يدخل في اختصاص الناطق باسم الشعب ، وإنما هو من مشمولات حكومة تتحرك داخل ضوابط الدستور ، ولتنفيذ برامج تعاقدية تبرم  بينها وبين اممثل الشعب  تحت إشراف المجلس .

بعبارة أخرى ، إنه الضامن للتوزيع العادل للإنتاج ، والضامن لتوفير أحسن الظروف التنظيمية الممكنة لكل آلات الإنتاج سواء أكان معنويا أو ماديا ، وهو الضامن أيضا لاستقلال المؤسسات وفاعليتها ، والضامن للحريات الفردية والجماعية . فهو إذن رجل ، أو امرأة ، تجاوز الانتماء الجهوي والحزبي والعقائدي ، وارتفع إلى أعلى مستوى ممكن من الشعور بالمسؤولية.

ومن نافل القول أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يسترجع باليمني ما فقد باليسرى فيكون دكتاتورا وللفصل بينه وبين الدكتاتور يجب أن تحدد صلاحياته وأن لا يكون له أي قرار في موضوع القضاء وأن لا يتعرض في شيء للحريات وأن يقبل بالنقد العلني والمسؤولية وخاصة أن لا يبقى في السلطة اكثر من فترتين نيابيتين لأي سبب كان وأن يكون التداول على الوظيفة قاعدة يعتبر مراجعتها خيانة عظمى تستأهل تنحيته بمجرد التفكير فيها بأي تعلة كانت .

إن رفع مستوى فاعلية الحكومة التي سيعهد إليها تنفيذ البرنامج الذي اختير على أساسه رئيس الشعب من قبل البرلمان ، والذي سيحاسب عليه أعسر حساب ، إن هذا يتطلب تغيير طريقة اختيار المسؤولين بصفة جذرية.

ومن المعروف أن الوزراء الذين تعهد إليهم إدارة قطاعات خطيرة في الدولة يختارون أساسا على ولائهم وعادة لا نعرف لهم برنامجا مسبقا. هذا ، بالإضافة إلى أن معدل تواجدهم في المناصب يعد أقل بكثير مما يتطلبه أحيانا حتى الوقت الضروري لفهم ملفات متصاعدة التعقيد .

فالمطلوب منهم ـ تقنيا ـ هو المعرفة الدقيقة للملفات قبل مباشرة مهامهم ـ وإعطاء الخطوط العريضة لبرامجهم ، من أجل حل مشاكل القطاع الذي يطمحون لتسييره. مقابل هذا ، تحدّد لهم المهلة الزمنية ، فتعطى لهم الإمكانات القصوى وتناقش معهم مؤشرات النجاح التي يتعهدون بها وذلك ليتم في الفترة الموكلة لهم تقييم أعمالهم إما بتجديد الثقة وإما بالإحالة السريعة على المهنة أو الوظيفة السابقة.

بهذا يستطيع المجتمع أن يوكل بشيء من الاطمئنان مصير مؤسساته التربوية والصحية والاقتصادية إلى خيرة ما في المجتمع من رجال ونساء. لا كما يحدث الآن ، حيث يمكن أن توكل هذه الآليات الضخمة التي تتوقف عليها صحة أو تعليم أو اقتصاد شعب بأكمله ، إلى من توفرت فيه بعض الشروط ، وإلى من لم تتوفر فيه أي منها .

وحتى تكون الضمانات بحجم الأخطار، لا بد من تصور طريقة معينة لاختيار المسؤولين . فمثلا ، تخوّل الطريقة الأمريكية لرئيس الشعب اقتراح اسم المكلّف وأن يكون للبرلمان الحق في القرار النهائي بعد الاستماع إلى البرامج التفصيلية من جوانبها السياسية والتقنية ، والتعرف عن كثب على الأشخاص الذين ستوكل إليهم الملفات الضخمة.

إن أمرا كهذا كفيل بأن يدفع ممثل  الشعب إلى اختيار أحسن الناس وأحسن البرامج حتى لا يحابه بالرفض .

لكن ، لا جدال أن آليات كهذه لا يمكن أن تلغي تماما أمراض هذا المجال ، إلا أنها تستطيع التنقيص منها بصفة ملحوظة . كما علينا أن نأخذ  دوما بعين الاعتبار تلك العوامل البشرية التي تفرض نفسها على الحياة السياسية، وذلك كانعدام الحل المثالي ، وقدرة المكر الإنساني على التحايل حتى على أصدق القوانين وأنجع الآليات .

ولا ننسى أيضا أن لكل سيناريو ثمنا وعيوبا ، وأننا نواجه عادة بصعوبات كبرى عند توزيع عدد المقاعد والبت في إشكالية تمثيلية منظمات متعددة تتناحر على تمثيل نفس القطاع . كما نواجه أيضا عامل الزمن ، لأن إعداد البرامج ومناقشتها في كل المستويات يمكن أن يصبح بدوره عاملا هاما في إضاعة الوقت والجهد ، مما يجعل من العودة إلى القرار الفردي ، على علاته ، إغراء لا يقاوم.

إن دور الذكاء الجماعي يتمثل في وضع جدول مفصل لكل المضاعفات السلبية التي يمكن أن يولّدها أي خيار صائب أو مبدأ مثالي. فلا بد من ترجمة الخيارات إلى قرارات تأخذ بعين الاعتبار السلبيات التابعة لتلك الخيارات ، حتى تقلّص  ما أمكن منها ولو على حساب المثالية .

فمثلا يجب أن تحدّد مهلة زمنية لا تتجاوز ثلاثة شهور ، وتجدد كل خمس سنوات ، للنظر في عمليات للترشيح والتصعيد واختيار البرامج والأشخاص . ولا يمكن مطلقا ، بتعلّة الديمقراطية المثالية أو التثبت من المترشحين وبرامجهم ، أن تترك قطاعات بدون مسؤولين ، أو أن يكون المحور الانتخابي عملا مسترسلا.

إن الهدف مما سبق ليس في إيجاد  حل "نهائي " لأمراض الركن الثالث ، وإنما التذكير بأن إشكال الحكم كإشكال الزراعة ، حيث تحتاج إلى التطوير وتكون مهيأة للاستفادة منه . فكذلك الديمقراطية ، هي في الحقيقة هدف قارّ أزلي، وتقنيات متحولة  تكورها التجربة . أما النموذج الغربي فليس إلا تجربة . أما النموذج الغربي فليس إلا تجربة ، علينا التعلم من أخطائها لتجاوزها ، وليس لتقليدها والمزايدة عليها .

لقد آن الأوان لنعيد للمخيلة وللجسارة الفكرية دورها في تقليب كل هذه الأنماط السائدة للحكم ، كما تقلب البطاطا للتيقن من جودة البضاعة وانعدام الغش  ولاستنباط أصناف جديدة فإذا قبلنا أن تكون للديمقراطية اهدافا قارة فإن كل آلياتها قابلة للتحسين وخاصة آلية التمثيل التي تشكو من ضعق اساسي خطره الأساسي هو أنه الحجة الكبرى للاستبداد ومحاولة استرجاع المواقع المخسورة في حرب ستبقى قائمة طالما تنظم الآدميون في مجتمع  وهم كما قال المتننبي في طبيعتهم

 والظلم في شيم النفوس      فإن تجد ذا عفة فلعلّة لا يظلم

                                      ***

.

.

           

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

4 ـ القضاء العادل

إن استقلال القضاء بقدر ما هو هدف من أهداف النظام الاستبدادي، بقدر ما يعتبر حجر الزاوية في النظام الديمقراطي. إنه اليوم الآلية الأولى لحماية الديمقراطية ، وتنظيفها دوريا مما يلحق بها من أدران . فمن البديهي أن القضاء بقدر ما يكون عادلا، أي فعالا، أي مستقلا عن كل المصالح والضغوطات الفئوية، بقدر ما تضعف الحاجة إلى التمرد العنيف .

إن القاعدة الأساسية التي يجب أن نتعامل بها دوما مع كل نظام سياسي ـ والديمقراطي لا يشذ عن القاعدة ـ هي أن الحالة التي يخلقها هذا النموذج من الأنظمة مهما كانت إيجابيتها لا تلغي النصف المظلم من الإنسان ، وأن الفساد سيجد له يوما منفذا لا محالة.

لذلك ، يجب أن نتخلى عن ذلك الوهم الذي يفترض إمكانية إيجاد حالة مقنعة ونهائية تكتمل فيها الأخلاق ، فهي لم توجد في بداية التاريخ ، ولن توجد أيضا إلى نهايته.

إن النضال من أجل العدالة والسلم هو قضية كل زمان وكل مكان . وهو قضية كل لحظة ، لأن الحياة هدم وبناء لا يفترقان .

فلا غرابة إذن أن يوجد الفساد في النظام الديمقراطي كما يوجد في النظام الاستبدادي طالما أن الإنسان هو الإنسان . لذلك يصبح تعقبه ، كأهم عنصر من عناصر العودة إلى الحرب الدموية ، من أوكد مهام الديمقراطية بكل مؤسساتها.

ومع ذلك ، تكمن أفضلية الديمقراطية في قدرتها على فضح الفساد بواسطة الرأي الحر والتنظيم الحر ، وأساسا بوجود العدالة المستقلة. كما تبرز أكثر هذه الأفضلية في قدرتها على تتبع الفساد ولو استجار بقمة الدولة . وبديهي أن هذا الفساد هو أخطر الأنواع لأنه سريع الهدم والعدوى.

إن ما يحدث اليوم في إيطاليا وفرنسا واليابان من ملاحقة صارمة للمفسدين في أهم أجهزة الدولة ليس حجة على الديمقراطية ، بل هو على عكس ذلك دليل على فاعليتها، لأن غايتها غير غاية الدين .

فهي لا تهدف إلى تغيير طبيعة البشر والقضاء المبرم على سلبياتهم ، وإنما يتمثل دورها في سن التشريعات وخلق الآليات الكفيلة بتطويق سلبيات طبيعتهم ، وبلورة إيجابيات هذه الطبيعة لحظة وأزمة بأزمة .

إن المؤسسة القضائية في البلدان الديمقراطية هي أنجع المؤسسات وأقواها ، ولها وضعية "صحية " تحسد عليها بالمقارنة مع الأركان الأخرى .

لقد طرحت الفضائح المتعددة لرجال السياسة في الغرب واليابان ومثولهم أمام القضاء ، إشكالية جديدة سميت بـ "خطر سلطان القضاء ". وتعبّر هذه الإشكالية عن تخوف رجال السياسة من أن يصبح القضاء السلطة الأولى طويلة اليد ، ومن أن يصبح التنفيذي السلطة المراقبة المشكوك في نزاهتها والمطعون في مصداقيتها آليا .

فهم يحاولون إخفاء مخاوفهم من عدالة مستقلة لا نفوذ لهم عليها ، بتعلّة أن سلطان القضاء لا يخضع للتقييم الدوري بالانتخابات كما يخضع له رجال السياسة.

يدّعون أيضا أنه سلطان مطلق لا يستقي شرعيته من الإرادة المتغيرة المتطورة للشعب وإنما يستقيها من ذاته لا غير، وبالتالي فهو غير ديمقراطي .

إن تعلة كهذه مرفوضة جملة وتفصيلا لأن استقلالية القضاء هي ركيزة من ركائز الديمقراطية ، وبالتالي فإن كل ترتباتها ديمقراطية. أما الخوف من استبداد قضائي فهو الخوف من استبداد القضاء بالمفسدين الذين وضعوا أنفسهم فوق القانون ، اعتمادا على "علو" مناصبهم. صحيح أنه يمكن أن تحصل تجاوزات، فالقضاء بشر. لكن الضوابط موجودة والقانون مكتوب وعلني. هذا، بالإضافة إلى قدرة تجنّد بقية المؤسسات الديمقراطية التي يمكن أن تعيد الأمور إلى نصابها إذا تجاوز القضاء دوره. وتلك هي أهم منافع ومزايا الفصل الصارم بين السلطات ، الذي يفرضه النظام الديمقراطي .

ورغم النجاح الباهر الذي حققه استقلال القضاء في الغرب، فإن هناك إمكانيات نظرية للمضي فيه قدما، خاصة في مستوى جهاز  سريع التعرض للفساد، غالبا ما ننسى أنه جزء من الجهاز العدلي ، إنه  جهاز المحاماة .

وهناك تساؤل يفرض نفسه من بين الإشكاليات المطروحة : هل يجب فك كل ارتباط بين السياسي والعدلي، بإلغاء وزارة العدل برمتها مثلا ، بهدف جعل القضاء خارج أي ضغط ، خاصة من قبل التنفيذي ؟

أما الرد فيكون بالإيجاب، لأن وزارة العدل يجب ألا تكون أكثر من جهاز إداري موضوع تحت ذمة القضاء لتسهيل مهامه. وليس للدولة في النظام الديمقراطي أي امتياز خاص، ويمكنها أن تلتجئ إليه كبقية المؤسسات وفقا لأحكام الدستور والقانون ، لتتبع شخص أو هيئة.

إن هذا الفصل بين السلطتين التنفيذية والقضائية، هو الذي من شأنه أن يعزز قدرة القضاء على التعامل مع الدولة ودواليبها ومسيّريها أيا كان مستواهم ، كمتقاضين عاديين لهم نفس حقوق وواجبات كل الناس وكل الهيئات .

إن شروط استقلالية القضاء معروفة ومجربة بكيفية مرضية في العديد من الدول الديمقراطية. من أهمها : وجود محكمة دستورية للفصل في دستورية القوانين ، ويتم اختيار أعضائها بمنتهى العناية. ومن الممكن توسيع صلاحيات هذه المحكمة ، من ذلك مثلا : التقييم الخارجي لفاعلية القضاء نفسه، وخاصة لجهاز المحاماة الذي قد يلعب دورا لا يستهان به في "تسليع" العدالة وانتشار الفساد. والأمثلة على ذلك بليغة ومتعددة، سواء في بلدان العالم الثالث أو في أمريكا خاصة، إذ لا يمكن أن توجد سلطة لا تقوم بالتقييم الذاتي ، ولو كانت السلطة القضائية. كذلك ، فلا بد من توسيع صلاحيات مجلس القضاء المنتخب ليكون العنصر الفاعل للتقييم الداخلي للجهاز وصاحب القرار الوحيد في النقل والترقيات والمحاسبة والعقاب .

إن هذا الإشكال الرئيسي ، وخاصة بتوفير كل الشروط الممكنة لاستقلال فعلي وتام للقضاء ، لا يمكن أن يخفي عنا أهمية الإشكاليات الأخرى . فالمؤسسة القضائية في مجتمع ديمقراطي زاخر بالخلافات والصراعات الصغيرة والكبيرة العارية والمكشوفة، لا يمكن إلا أن تنوء بالحمل الهائل للقضايا والمشاكل .

فهي لا تستطيع أن تتطور بصفة موازية للتطور السريع للملفات ، وإلا أصبحت بعبعا بيروقراطيا يلتهم جل موارد المجتمع .

كما لا يمكن للمجتمع أن يتركها تتعرض لحالة الاختناق التي نعرفها في كل بلدان العالم .

إنه لنوع جديد من الظلم ، أن ينتظر متّهم المحاكمة أشهرا وراء القضبان وقد يكون بريئا . وأن تتراكم الملفات ولا يجد القضاء الوقت الضروري لتمحيص مدقق للمشاكل.

لا حل هنا أمام نظام قضائي فعال إلا الاحتماء وراء خط دفاع أول يكسّر الموج المتلاطم من الملفات المتراكمة على عتبات المحاكم .

إن دور خط الدفاع الأول في ميدان الصحة هو الوقاية والتعامل مع الحالات الخفيفة، مما يمكّن المستشفيات المحلية والجامعية من التفرغ للتكوين والبحث والتعامل مع الإشكاليات الصعبة التي تجاوزت خط الدفاع الأول .

إن تخصيص جزء صغير من الموازنة العدلية لمثل هذه الاستراتيجية قادر على إحداث تغييرات هامة في مستوى الخدمات العدلية.

إذ يمكن مثلا للدولة أن تتعاقد مع مكاتب للنصح والاستشارة القانونية، يستطيع أن يلتجئ إليها الناس مجانا قبل الالتجاء إلى المحامين والقضاة.

كذلك يمكنها أن تدعم أو حتى أن تفرض قانونا على كل المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والنقابية والسياسية.. وأن يكون بداخلها جهاز خاص لفض الخلافات بالحسنى ، وأن يوكل إليها حق اتخاذ بعض العقوبات المهنية، كما هو الحال بالنسبة لعمادة الأطباء . فلا بد إذن من توسيع وتعميم ما هو موجود بصفة محتشمة وجزئية في بلداننا .

أما بخصوص النزاعات المدنية، فإنه بإمكان الدولة أن تشجع ماديا ومعنويا على وجود هيئات في أحياء المدن والقرى ، شريطة أن تكون هذه التنظيمات مستقلة فعليا، وأن لا يعهد لها بأي دور سياسي أو أمني .

وهكذا ، يمكن للقانون أن يضبط ممولاتها التي من أهمها : تقديم المشورة القانونية والاجتماعية، والتدخل الحسنى لفض الخلافات بين الناس ، وذلك بتدريب كل من يرى في نفسه  القدرة للعب هذا الدور، كالمتقاعدين والأعيان والمربين ، أو من ترشحهم المجموعة نظرا لسنهم أو لخبرتهم بهذه المهمة .

فقد يكون من المجدي أن لا نقبل الالتجاء للقضاء إلا بعد المرور الإجباري أمام هذه الهيئات، مع تثقيل المصاريف ضد من يرفض الحكم المدني ، ومن تحكم عليه المحكمة بأنه ظالم .

إن خلق هذه المؤسسات وتشجيعها ماديا ومعنويا وقانونيا على فض الخلافات بالحسنى وعدم اللجوء إلى القضاء إلا كآخر حل ، لمن شأنه أن يساهم في رفع مستوى المسؤولية والنضج داخل المجتمع ، ومن ثم ترسيخ اعتقاد الجميع في صحة الخيار الديمقراطي لمواجهة اختلاف الآراء والمصالح .

إن التحديد المفرط  الذي يقوم به النظام الاستبدادي للأسباب المؤدية إلى الوقوف أمام المحاكم (كالخلاف في الرأي أو الإصرار على التنظّم السلمي) أو التشدد في خصوص  تعريف بعض الجنايات البسيطة ، لهو من أهم أسباب الاكتظاظ  الرهيب الذي يعرفه النظام القضائي العربي عامة.إن شرعية حقنا في أن نحلم ، بل وحاجتنا الأكيدة لذلك ، لا تتناقض أبدا مع أقصى قدر ممكن من الواقعية. خاصة إذا اتفقنا على أن هذه الأخيرة ليست في الاستسلام إلى الجزء الأظلم من الواقع  (وهو عادة مفهوم "الواقعيين لتبرير استسلامهم لفظاعة الواقع وتعقيده)، وإنما هو في التعامل بصبر إيجابي مع جزئه المظلم ، وبحذق مع جزئه النيّر .

***

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الفصـل  الرابــع

الآفاق

 


1 ـ الخطر  المتجدد

"إن مستقبلنا ليس مكتوبا في أي وصية

الشاعر الفرنسي روني شار

 

إن أكبر خطر يتهدد العرب اليوم ليس دوام الدولة الاستبدادية القديمة ـ   وهو أمر مستحيل ـ وإنما طول انهيارها من جهة ، ومن جهة أخرى استبدالها بدولة استبدادية شابة ، وذلك لاختلاف وحيد : كونها دينية المرجع . وهو ما يدفعنا إلى التوقف طويلا عند هذا الأفق الأظلم .

لنتفق من الآن على أن ليس للديمقراطية ولا يمكن أن يكون لها أي خلاف مع الدين بصفة عامة والإسلام بصفة خاصة.

تحضرنا هنا ذكرى تلك المنهجية التعيسة التي انتشرت في الستينات ، والرامية إلى إثبات توافق وهمي بين الإسلام والاشتراكية ، عندما كانت الاشتراكية قطب اهتمام المفكرين.

وحتى لا نكرر هذا الخطأ ، علينا أن ندرك أننا لا نخدم الديمقراطية بالتقريب القسري والمقارنات المجحفة والخلط بين مختلف مستويات الأمور، وإنما يكون ذلك برفع كل الالتباسات واحترام اختلاف زوايا النظر ، وفي البحث الواعي عن نقط الالتقاء كلما أمكن ذلك لبناء السلم المدني .

كما يكون من الخطأ أيضا أن نتعامل مع الإسلام ككل غامض مبهم عدواني ، مثلما يفعل بعض الديمقراطيين العرب الذين  أصبحوا اليوم جزءا من النظام الاستبدادي ، يناصرونه جهرا وسرا بتعلة قدرته على حمايتهم من المد الديني. وهم بهذا كالمستجير بالنار من الرمضاء.

ويكون من الخطأ كذلك عدم الانتباه إلى الطاقة الاستبدادية المخزونة في المد الديني ، وخطرها الكبير على أمل انعتاقنا وتحررنا من الدولة الاستبدادية أيا كانت مرجعيتها .

وحتى ننتبه من السقوط في الخلط المتعمد أو اللاشعوري بين مختلف الإشكاليات ، لا بد من التفريق الجذري بين عدة مستويات :

-الإسلام كمسلمين

إننا سنجد داخل هذه الجمهرة الواسعة من الناس كل الواقف والتصرفات الممكنة والمعروفة لدى عامة المسلمين. ولا شك أننا لو أخذنا جمهرة بوذية وأخرى مسيحية، واستطعنا قياس المؤشرات النفسية، لاكتشفنا فوارق هامة بين كل هذه الجمهرات. أي أننا سنجد نفس نسب الغباء والذكاء، الجهل والعلم، التفتح والانغلاق، الإيمان الفعلي والإيمان الثقافي، التقوى والتصنع ... إلخ .

إن من ترتبات مقولة بديهية مثل : "الإسلام هو المسلمون" أننا سنجد بالضرورة داخل الجمهرة المسلمة اختلافات عميقة وصراعات حادة وقراءات متعددة ومواقف متباينة لنفس الدين ، وأننا سنتعامل بالضرورة مع بشر لهم كل عيوب البشر وكل فضائلهم بنسب مختلفة حسب الظروف والمكان .

سنجد المتزمت والديمقراطي، مثلما نجد المنغلق والمتفتح ، وصديق العقل وصاحب النقل.. إلخ. في هذا المستوى، يفرض المنطق أن لا نخلط ، كما تفعل وسائل إعلام لا مسؤولية في الغرب ، بين الجمهرة الإسلامية ككل بتعقيدها وثرائها، وبين جزء لا يمثل إلا إحدى حالاتها وأشكالها ومكوناتها الطبيعية والقارّة ، وهو من يطلق عنهم : "الإسلاميون".

الإسلام كثقافة

إذا كان الجلد هو وعاء الجسم ، فإن الثقافة هي وعاء الروح. نتفق هنا على أننا لا نعني بالثقافة "الزخرف الفكري للنخبة"، وإنما العادات والتقاليد والأخلاق والفكرة المبهمة التي نحملها عن العالم والتي تكوّن دعامة الشخصية الوطنية .

في هذا المجال أيضا ليس للديمقراطية إشكاليات مستعصية على الحل مع الإسلام ، لأنها ليست ثقافة بديلة ولا مطمح لها في تنظيم عادات الناس وتقاليدهم ومراسم ولادتهم وزواجهم ودفنهم وطريقة أكلهم وأخلاقياتهم الاجتماعية وتصور مصيرهم بعد الموت ... إلخ .

لا يعني هذا أن ليس هناك نقط اختلاف بينهما ، لأن الديمقراطية تمثل في الحقيقة نوعا من الخلفيات الفكرية التي قد تدخل في تناقض مع جزء من الثقافة السائدة ، سواء تعلق الأمر مثلا بإطلاقية المساواة بين المرأة والرجل، أو تحرر الفكر الإنساني من كل الموانع ... إلخ.

فكيف يمكن إذن أن نتناول هذه الإشكالية من وجهة نظر الديمقراطية باعتبارها دوما خيار السلم  والخيار الأسلم ضد العنف ؟

لا بد من المطالبة هنا بنوع من وقف إطلاق النار ، الذي حققه الغربيون بعد معارك مضنية كلّفتهم أحيانا أكثر مما كلفتنا.

فأنت لن تجد اليوم في الغرب مفكرا محترما واحدا يهتم بإثبات الدين بالعلم، أو عالما يهتم بمهاجمة الدين باسم العلم . كما لن تجد رجل دين واحد على استعداد لإثارة أي قضية على شاكلة ما أثاره العالم الغربي " غاليلي" فبعد صراع دام أربعة قرون ، انتهى الجدل باتفاق الجميع على مبدأ ملخصه: "لكم علمكم ولي ديني ، لكم عقلكم ولي نقلي". واتفق على أن العلم علم والدين دين ولا مجال للخلط  بينهما أو لمحاولة استيعاب ميدان لصالح آخر ، كما بالنسبة للمرحلة التي لا نزال نعيشها اليوم .

ولتقدير عمق هذا الخلط الذي نمارسه ، انظر إلى بعض برامج "التثقيف العلمي" للشعب في التلفزيون ، مثل حصص مصطفى محمود الذي يحاول من خلالها، بصفة متعسفة ومضحكة، إثبات وجود الله وإعجاز القرآن بكل الحجج والأدلة والبراهين المستقاة من بيولوجيا الضفادع أو علم الفلك .

في تونس أثار انتباهي جولات ومحاضرات (بدون نقاش ) لأحدهم وكلها تحوم حول إثبات نفس الشيء بنفس التفويض والتسخير. وكنت أقرأ للرجل بعض ما كتب ، فهالني أن لا أجد ذرة علم عند كاتب يقول عن نفسه إنه عالم ذرّة.

لقد حصل في القرب وقف إطلاق النار بعد أن اتضح للفريقين استعصاء تجاوز أمرين .

 إن استعمال نتائج العلم لرفض الدين أي لرفض عمق الحاجة الدينية وضرورتها عند الإنسان ، أمر لا معنى له. فإن أنت منعت المتدين عن الإيمان بهذا الإله بدّله بصنم ، وإن لم يجد ما يعبد عبد العلم أو البروليتاريا أو أي شيء آخر، والإحتجاج على الإنجيل بأن العالم لي يخلق في ستة أيام لكن في لحظة واحدة منذ 15 مليار سنة كالاحتجاج على العاشق بأن عشقه في غير محله لأن الحبيبة لا تعجب الشخص المحتج .

 وفي المقابل ، تعلّم رجال الدين أن التعرض للعلم باسم نقضه لبعض الحقائق والوقائع المستقاة من قراءة حرفية للنصوص، عملية خطيرة لأن العلم لا يحارب على هذا الصعيد ولا يهزم في ميدان الحوادث. والعملية بغير شأن ، لأن مهمة الدين ليست في أن يقوم محل الفيزياء أو علم الفلك. كما أنه لا معنى لمحاولة تدعيم الإيمان بمنهج قوامه الشك والتناقض والتحوير الدائم ، فهذا بمثابة إدخال الذئب إلى المدجنة .

 لكن هناك إشكاليات حقيقية وخصبة مثلا : كيف يمكن للدين أن يتعامل مع العلم ؟

والجواب : بالاهتمام بجوانبه السلبية، وما يمكن أن ينجرّ عنها من تهديد لحرية الإنسان وكرامته.. فالعلم ، ككل عمل إنساني ، فيه الخير والشر، ومهمة الدين أن يكون دوما العين الساهرة على القيم.

وكيف يمكن أيضا للعلم أن يتعامل مع الدين ؟

والجواب : بأن يجعل منه مادة لتساؤلاته الأزلية ، حتى تكون معرفتنا بالدين أقل سطحية وضحالة من التفسير الإيديولوجي أو الاستحسان الذاتي. فمثلا يمكن الاستفادة من العلم في عمليات تصنيف الأديان ومقارنتها، وفي دراسة الحاجة العقائدية عند الإنسان، وفهم دورها في تسهيل الحياة والموت ...وهكذا يمكن إعطاء صورة عن الدين والأديان تكون أقرب إلى الحقيقة والواقع ، مع التقرير بأن لا دخل له البتة في محاولة نقض معتقدات الناس أو تأييدها.

يجرنا هذا إلى طرح المستوى الثالث :

الإسلام كروحانيات

لا جدال أن الحاجة الدينية في الإنسان متأصلة تأصل الحاجة الجنسية. ومما لا جدال فيه أيضا أنه ليس للديمقراطية أي دور في إرضاء هذه الحاجة ، وليس لها أن تعترض عليها أو أن تختار بين مختلف الأشكال . فهي لا تستطيع إلا أن تدعم وأن تحمي حق كل الناس وكل الحضارات في التعبير عن الحاجات القدسية.

ومما لا شك فيه كذلك أن المسلم الذي وصل إلى الدرجات العليا من الزهد والتجرد والتصوف غير معني تماما بإشكاليات لا يطرحها إلا من بقي في أولى درجات السلّم، مثل : رفض الآخر والتصدي لحقه في التعبير عن حاجياته بلغة وطقوس وآراء غير التي يعتنقها عامة المسلمين .

فقلّما يندرج هذا الرفض في إطار روحاني حق ، نظرا لالتقاء جل الديانات على نفس المواقف في النهاية، بل لا ينم هذا عادة إلا على موقف عقائدي وسياسي متخلف .

الإسلام كسياسية

لا يمكن لأحد أن ينكر أن  الإسلام هو  منذ أربعة عشر قرنا الراية التي ترفعها  الثورة في وجه الظلم، وهو  أيضا وبصفة مسترسلة دعامة الدولة الاستبدادية العربية .

إن قول البعض بأن الإسلام هو أساسا تحرر وثورة ، ومطلب عدل ... إلخ ، لا ولن يلغي الاستعمال الاستبدادي الذي بدأ مع ظهور الدولة الأموية. كما لا ننتظر ممن نصبوا أنفسهم حماة الإسلام الرسمي أن يلغوا تجدد استنجاد المظلومين براية الإسلام للمطالبة بحقوقهم ، وخاصة بعد انهيار أشكال المطالبة الأخرى وأساسا الخطاب الماركسي ـ اللينيني ـ الستاليني .

إن تيار الثورة وتيار الاستبداد موجودان بصفة دائمة ومتوازية لطبيعة تكوين المجتمع والظروف العسيرة التي يحيا تحت ظلها . ومن السذاجة تصور إمكانية قضاء تيار على الآخر، إذ يتولد الواحد من نقيض الآخر . فكم في تاريخنا من ثورة ولّدت الاستبداد عندما وصلت إلى الحكم ، وكم من استبداد ولّد ثورة أطاحت به .في هذا المستوى ، يقع التصادم بين المشروع الديمقراطي ، والإسلام السياسي بشقيه : الحاكم ، والثائر على حد سواء.

من نافلة القول إن الديمقراطية في تناقض تام مع الأنظمة الاستبدادية الحاكمة باسم الدين ، تناقضها مع سائر الأنظمة الاستبدادية ذات المرجعية العلمانية . أما عن تفاعلها مع الإسلام السياسي الثائر ، فهو حقّا ، خلافا للماركسية، ليست لها قضية ضد الدين ، لكن رفضها التام يتجه نحو الآليات التي يمكن أن توضع إذا استلم الإسلام السياسي الثائر السلطة .

إن أخشى ما يمكن أن تخشاه الديمقراطية ليس استبدال مرجعية بأخرى، وإنما الاحتفاظ بنفس الآليات والمؤسسات بل وإعطاءها نفسا جديدا. حيث أن الصراع ليس مع المرجعية وإنما مع الآليات ، فإن الديمقراطية  ستجد نفسها غالبا  في تناقض  جذري مع الإسلام السياسي الثائر، لأنه يخلط بين المرجعية والآليات ، ولا ينتبه إلى دور هذه الأخيرة وخطورتها .

إن من أتعس مظاهر سخرية الأقدار بنا أن تنطلق ثورة من مضاعفات مصائب الرأي الواحد والحزب الواحد والشخص الواحد ، لتركز بعد ذلك نفس الأسباب التي ولّدتها ، جاهلة ومتجاهلة أن نفس الأسباب تؤدي دوما إلى نفس النتائج. فهل تمنع المرجعية الإسلامية النظام السياسي من الانزلاق شيئا فشيئا إلى الممارسات التي كانت سبب التمرد، رغم شدة الحماس وكثرة الوعود والأوهام ، وهو الأمر الذي آلت إليه المرجعية العلمانية وتجربتها التاريخية.

إن الخطأ الكلاسيكي الذي تقع فيه كل الأنظمة الاستبدادية هو الإيمان بأن هذا الشخص أو هذا الحزب أو هذه المرجعية ستضمن الفاعلية والسرعة والعدالة دون أن تقع في الأخطاء القاتلة التي وقع فيها السابقون . وهي بذلك كمن يتوهم أنّ له علاقات خاصة مع قوى الغيب، أو أن قوى الطبيعة ستغير من مجراها الطبيعي لطيب نواياه وصفاء سريرته.

إن المتأمل في طبيعة النظام السياسي المحسوب على المرجعية الإسلامية سواء الموجود قديما كالنظام السعودي، أو الحديث كالنظام السوداني أو الإيراني ، أو المنشود في العديد من البلدان العربية كالجزائر ومصر من قبل  بعض التنظيمات الإسلامية المتطرفة ، لمواجه  بظاهرتين :

1 ـ الإصرار على اعتماد  الحجاب والعقوبات الجسدية كحجر الزاوية للنظام السياسي ، والحال أن دور هذه الإجراءات في حل مشاكل الشعب منعدم.

إنها في الواقع مجرّد علامات الفصل والقطيعة مع النموذج الحديث للحكم . وعلامات الانتصار عليه.إن أي نظام إسلامي يأخذ السلطة يرفع راية سيادته على رؤوس النساء. لكن علامات القطيعة والانتصار ليست ولا يمكن أن تكون برنامجا سياسيا أو بديلا عنه .

2 ـ الإيمان الصادق أو المفتعل بأن تطبيق الشريعة هو أهم أو أعجل عنصر لحل مشاكل المجتمع وهو أمر شبيه بالإيمان بأن حل مشكلة التصحّر في غرس شجرة واحدة ومن بلاستيك أخضر. لكن مشكل المجتمع هو حصيلة ألف عامل وعامل، كتهريب الثروات إلى الخارج واستشراء الفساد والقمع ووضع نظام الولاء للشخص أو الإيديولوجية ، ووضع الرجل غير المناسب في المكان غير المناسب ، فكيف يعقل أن تحلّ هذه الأمراض المعقّدة بالتركيز على أهمية العقوبة التي يجب أن تسلط على سارق الرغيف ، أو إشكالية شعر المرأة هل هو عورة أم لا ؟

تكون  الإجابة خارج الموضع وعلى هامشه ، بل هي أصلا ليست حتى إجابة عنه ، لأن سؤالا كهذا يتطلب ردودا في منتهى التعقيد على مستويات شتى لا علاقة لها بالفقه.

إنّ  التخلص من هذا النقد البديهي بالركون السريع في التعامل مع القضايا المصيرية إلى شكل أو آخر من الليبرالية أو الاشتراكية  البيروقراطية، مع الاحتفاظ بآليات النظام السابق .وهو ما يعرّض هذه الأنظمة الاستبدادية إلى الفشل ، طال الزمان أو قصر . فلا يشفع لها أنها تتغطى برداء الإسلام ، كما لم تشفع هذه المرجعية للأنظمة القومية أو الاشتراكية أنها صادرت ثروات الشعب لصالحها ، وشوّهت طموحات مشروعة وأحلاما عظيمة وشعارات براقة.

والسؤال هنا : هل يمكن التوفيق بين مرجعية إسلامية وآليات الديمقراطية ؟

إن أمرا كهذا ممكن وضروري حتى لا يحكم علينا بدوره استبدادية أخرى قد تطول وقد تقصر وقد تكون أعنف مما عرفنا إلى حد الآن . ولنا فيما حصل ويحصل في السودان عبرة ومثال .

بداهة ، لا شيء يحرّم في الإسلام العمل بحرية الرأي وحرية التنظم واستقلال القضاء والتداول السلمي على السلطة. ولا شيء يمنع أن تكون داخل اللعبة السياسية تنظيمات إسلامية ديمقراطية.

إلا أن الموقف المعتمد في هذه القضية لا يخضع بالضرورة إلى رأي "علمي" صحيح ، في مواجهة موقف آخر بدائي وناقص ، إنما هو اختيار سياسي يواجهه  خيار مناقض ويستطيع كل منهما أن يجد له في المرجعية ما يبرر موقفه .

أما على المستوى العملي ، فالأمر يتوقف على تطور هذا الصراع الفكري السياسي داخل المنظمة الإسلامية وعلى نتائجه التي ستكون لصالح الشق الاستبدادي إذا أعطت الديمقراطية عن نفسها صورة حركة غريبة المصدر والتوجه، منبتّة ومعادية للإسلام ، متنكرة لمبادئها ومزدوجة الخطاب.

إن الخيارات أمام الحركة السياسية الإسلامية قليلة :

فإما أن تحاول الاستفراد بالمجتمع ، فيؤدي بها ذلك إلى التهميش وبناء نظام استبدادي مؤهل للفشل طال الزمان أو قصر ، بل ربما استعمل كحجة ضدها وضد الإسلام نفسه ، في إطار عملية الخلط المقصود الذي هو في نهاية الأمر جزء من السياسوية العامة.

وإما أن تدخل اللعبة الديمقراطية ، شأنها في هذا شأن العائلات الثلاث التي أفرزها الواقع العربي (القومية والليبرالية والاشتراكية) ، لتتفاعل معها سلميا في إطار منافسة نزيهة. وهذا هو الخيار الأسلم الذي ندعو كل الفرقاء إلى تبنيه .يجب إذن على كل أيدلوجيا أن تنقذ نفسها ومشروعها ، بل وحتى صورتها وسمعتها، بإقحام الآليات الديمقراطية في فكرها وعملها . وهذا هو أيضا حظ الديمقراطية لأنها تستطيع عندئذ أن تخصب وتتفاعل وتخدم المشاريع القومية والاشتراكية والإسلامية التي انتهى بها الأمر ، كمشاريع تحررية ، إلى "بيوت الأشباح " والتعذيب ، لتصبح للأسف جزءا من مأساة ومعاناة الإنسان الذي ادعت أنها جاءت لتحريره .فالكرة إذن اليوم عند الإسلاميين. فهم مطالبون بتوضيح موقفهم من نظام الآليات الأربعة ، والبتّ في إشكالية : "هل يمكن البرء من الاستبداد بالاستبداد ؟".

أما الديمقراطيون فلا يمكن أن يخرجوا عن مواقف مبدئية ثابتة خلاصتها  :

إن أتاك البعض في مستوى دائرة السياسة فقل : الإسلام غطاء تتلحف به حركة التحرر ، وتتغطى به ممارسة الاستبداد في آن واحد. تتجاذبه نفس القوى المتضاربة في كل مكان ومنذ بداية التاريخ. فإن أردتم به التعبير عن آلام الإنسان المستعبد وآماله، فلن نبخل بعون واعتراف وتضامن . وإن أردتم التستر به على القمع والظلم، فلكم دينكم ولي تحرري .

وإن أتوك في مستوى دائرة الثقافة، فقل : هو كالأم واللغة والتقاليد ، من مقومات الذات ، وذاتي لا تكون  إلا بمثل هذه الدعائم وإلا بقيت فراغا سرمديا ، شأني في هذا شأن بقية البشر برؤاهم ولغاتهم يعبّرن بها حسب ما ارتآه لهم التاريخ عن إنسانيتهم.

وإن أغلظ بعضهم القول يريدون تقريرا بأولوية أمهم على بقية الأمهات ، فقل : لكم دينكم ولي إنسانيتي .

وإن أتاك بعضهم متحدثين في مستوى دائرة السر الأعظم واللغز المحير، فذكرهم بمقولة غاندي : "إنما الأديان لغات ناقصة ، يستعملها أناس ناقصون في محاولة يائسة للتعبير عن حقيقة كاملة".

وقل أيضا : " هو نافذتي أنظر منها إلى المطلق ، لكنني لا أخلط بين النافذة وبين جلال ما أطمح لاستشفافه وراءها من دلالات العظموت "..

وإن كشر المتزمتون منهم عن أنيابهم يريدونك مقرا بسذاجتهم ، فقل : "لكم دينكم ولي صمتي  ***

 

 

 

2 ـ التحوّل الصعب

 

لقد توفر لدينا اليوم عدد هام من الشروط الموضوعية والضرورية لتحقيق النظام الديمقراطي في واقعنا ، من ذلك تطور المجتمع وارتفاع نسبة التعليم وتوفر المصادر المختلفة للرأي والإعلام ، إضافة إلى أهمية "العدوى" الديمقراطية، وانتشار مطلب المشاركة في الحياة العامة من خلال بروز ظاهرة الجمعيات المدنية المختصة. إلا أننا نلقى مع ذلك الكثير من العراقيل الهيكلية والظرفية التي تجعل الانتقال أمرا صعبا.

 من أهم هذه العراقيل في الوطن العربي التبعية الكبرى التي يعانيها المجتمع تجاه الدولة. فهي تعتبر أول مشغل لقطاعات عريضة من المواطنين ، وأول طرف يجب إرضاؤه والتعامل معه بحذر، حتى في القطاع الخاص وذلك نظرا لقدرتها المطلقة العرقلة والاحتواء.

لقد أعطت القدرة الاقتصادية للدولة الاستبدادية ـ خاصة في البلدان التي أصابها الله بمصيبة البترول ـ إمكانية هائلة للضغط المادي بجانب إمكانياتها في ميدان القمع المباشر.

وتشاء سخرية الأقدار أن تصبح هذه الدولة اليوم مضطرة إلى فتح المجال باطّراد في وجه المبادرة الاقتصادية، الفردية منها والجماعية، أي أنها بصدد تسليم إحدى أهم الأوراق الرابحة (بالنسبة لها  والتي كانت تملكها للتحكم في رقاب الناس.وهذا راجع لا محالة إلى أسباب عدة : داخلية وخارجية، وإلى عجزها المكشوف عن تسديد حاجيات المجتمع المتصاعدة.

فهي تستطيع بالتأكيد أن تماطل وتناور ولكنها لا قبل لها اليوم بالتصدي لانتقال اقتصادي واجتماعي يفتكّ منها حريات متزايدة لصالح الأجزاء المكونة للمجتمع ويكتسي يوما بعد يوم قوّة الظواهر الطبيعية.

لقد سمحت قدرة آلة الإنتاج للأرستقراطيات المخفية في الغرب بربح الوقت ، إذا استطاعت، بتوافر عوامل التصنع السريع والاستعمار والإمبريالية ، أن توفر للناس الحد الأدنى من الرخاء في ظل الاستفراد بالسلطة الحقيقة. وقد راهنت كذلك على هذه الظاهرة دكتاتوريات الشرق الأقصى التي عملت بمقولة " اطعم الشعب يسكت" .

إلا أنه رهان خاسر ، فالأرستقراطيات المخفية هنا أيضا تنشر الغصن الجالسة عليه لكن في زمن أطول، لأن إرضاء الحاجيات المادية يترك للناس الوقت الكافي للنضال من أجل حاجياتها المعنوية، وأولها الحق في المشاركة في تقرير المصير.

نذكر مرّة أخرى بأن ليس هناك أي حتمية لانتصار الديمقراطية في الوطن العربي، لأن الاستبداد فيه ليس عنصرا طارئا، دخيلا أو عابرا، بل هو حصيلة التقاء مواقف وتصرفات تشكل جزءا لا يتجزأ من "الطبيعة البشرية". وذلك كإرادة الإخضاع عند البعض وإرادة الخضوع عند البعض الآخر، مع ما للظروف الذاتية لدى كل شعب مؤثرات : كانتشار الخوف من الفوضى، أو من الفقر ... إلخ. هذا، بالإضافة إلى الظروف الموضوعية القاهرة : كانخرام الأمن وعجز الناس عن الارتقاء من العنف إلى الرمز أو احتداد الأزمة الاقتصادية ... إلخ.

لذلك فهو كالمرض يعود كلما توفرت ظروفه. وما زال أمامه مستقبل زاهر حتى في أعرق البلدان الديمقراطية. ذلك لأن التاريخ ليس قطارا يحملنا إلى محطة اسمها " الحرية " أو "الاشتراكية" أو "الدولة الإسلامية الفاضلة" بل هو طريق يصعد وينزل، ينطلق كالسهم ثم يتوقف، يتراجع القهقرى ويدور في حلقات مفرغة، وقد يفضي بشعوب وحضارات إلى حافة الهاوية ثم يتقدم ليلقي بها في الفراغ.

إن بناء النظام الديمقراطي مغامرة، والحفاظ عليه أطول وقت ممكن مغامرة أيضا، والتمتع به لا يكون إلا مكافأة وجزاءا لشعوب استطاعت أن تفرضه، وأن تتمسك به وتستفيد منه. إن أقصى ما يمكن أن يجازف بقوله اليوم هو أن الديمقراطية حظوظا في هذه المرحلة من تطور الأمة، وذلك بفضل تظافر عاملي اهتراء الأنظمة الاستبدادية بالسرعة المتزايدة الملاحظة ، و"روح العصر" التي تجعل من الديمقراطية الوجه الآخر للحداثة والمكمل للتكنولوجيا العصرية التي تجري وراءها دون أن يخطر ببالنا أنها مرتبطة أوثق الارتباط بالأسس الفكرية والقيمية التي تولّد الديمقراطية .

هناك إذن قوى دافعة في غاية الأهمية، تجعلنا نشعر بإمكانية تحقيق الديمقراطية رغم خطر البديل الاستبدادي الديني ، وهو اليوم في أوج غليانه. لكن هذا التحقيق يبقى رهين نضالات فكرية وسياسية صعبة، معقدة وخطيرة، تخص مستويات عدة وجبهات مختلفة، وتتطلب مدة زمنية طويلة نسبيا .

ثم تأتي بعدها مرحلة طويلة من التجريب ، إذ الديمقراطية ، ككل نبتة بحاجة إلى فترة هامة من العمل ليصلب عودها وتتعمق جذورها وتورق أغصانها.

كما لا بد للآليات الديمقراطية من فترة زمنية كافية للتمكن من حسن إدارة اللعبة. فالإعلام الذي أصبح حرا، قد يسيء استعمال "الحرية" والانتخابات الحرة قد تأتي للسلطة بقوى معادية للديمقراطية، لكن لا مناص من هذا، فالطفل، ولو يولد بكل أجهزته، مضطر للترنح والسقوط مرات، قبل أن يحسن المشي والجري.

وكلما كانت النبتة صالحة وغير مزيفة، وكان متعهدها (أي النخب الفاعلة) حذرا، تزايدت حظوظها للإيتاء بأكل شهي.

لكن، لا جدال اليوم في خطورة النكبة التي تعيشها الأمة، وفي تعقد أبعاد الأزمة القيمية ـ السياسية ـ الاقتصادية الخانقة، التي تنخر المجتمع العربي وتتسبب في انهيار أحلام جيل الاستقلال الأول ، وما تبعه من تحقيق سريع للتحرر والعدالة والكرامة الفردية والجماعية.

إن هذا التعقيد المريع  للنكبة ، يفرض علينا أن تكون صادقين مع أنفسنا إلى أبعد حدود الصدق. فهو يتنزّل في إطار عالم متميز أساسا بانعدام الاستقرار، وغياب الطريق الواضح ، وبالتغيّر المتسارع لخصائصه.

كما أن الحلول التي تحتاجها الأمة لحل مشاكلها، لا نجدها بالضرورة في وصفة طبية جاهزة ولو تمثلت في الديمقراطية نفسها. بل هي موزعة ومشتتة في جزئها الموجود. وهي في أهم مستوياتها لا تزال مجهولة.

إن المشكل الذي تواجهه الأمة ، يشبه فيل الأسطورة  الذي حاول تعريفه ثلاث عميان : تحسّس كل واحد منهم جزء منه، فقال الأول إنه خرطوم ، وردّ الثاني بل هو ذيل ، وصرح الثالث أنتما مخطئان إنه قوائم ضخمة.

كذلك ، فمن طبيعة الفكر الإيديولوجي أنه يركز على جزء من المشكل الاجتماعي  ويضخمه، ثم يولي أهمية ثانوية لبقية العناصر المكونة للمشكل . ويغفل هذا الموقف عن طبيعة المشاكل الاجتماعية المعقدة والمترابطة والمتعددة ونتائج حركيتها المتسارعة.

فتأتي الماركسية لتركز على الاقتصاد، منكرة دور العقيدة والهوية. وتأتي العقيدة مركزة على الأخلاق، متناسية أن السوق يدمر جملة من القيم الضرورية للشعب، والتي من أهمها : المساواة والعدالة الاجتماعية.

أما الخطأ الذي يمكن أن يرتكبه الديمقراطيون ، فهو أن يتصوروا أن الديمقراطية نفسها عقيدة إضافية يجب أن يكون لها حزبها. فينضاف بهذا أعمى رابع ليقول : بل الفيل هو الآليات الأربع ، وهي الحل. فتكون بدورها متناسية أهمية الحاجة العقائدية، وعمق التبعية الاقتصادية، والصراع الشرس بين الأمم ، وتظافر كل هذه العوامل مع تحليل وضعية الشعب والأمة.

إن دور الديمقراطية هو إخصاب كل الحلول الإيديولوجية، وفتحها على بعضها البعض، بواسطة ضمان حرية الرأي. وهو وضع يضمن حتما التلاقح والإدماج والاستعارة والتوفيق، وأحيانا التلفيق. هذا، بالإضافة إلى أن الديمقراطية وحدها هي التي تستطيع تنظيم التداول على المسؤولية، من أجل تطبيق مختلف الحلول أو الأصناف المشتقة والممتزجة منها. كما أنها الأقدار على إحلال هدنة الدم حتى لا يشكل "صراع الحلول" مشكلا إضافيا لمجتمع زاخر بالمشاكل.

فهي إذن إطار تنظيمي داخل كل حل إيديولوجي ، وبين مختلف الحلول.ومتن ثم، فهي جزء هام من الحل، بخلاف الإيديولوجيات عندما تكون في طورها المتشنج، فتشكل بذلك جزء هاما من المشكل

إن الأزمة القيمية مثلا ، لن تحل إلا بمصالحة بين قيم التحرر في تراثنا العربي والإسلامي، وقيم تحرر العصر. وهذه المصالحة هي أهم خدمة يمكن أن تساهم بها حركة إسلامية ديمقراطية مستنيرة، في عملية التحرر الجماعي. ففي الدين الإسلامي مخزون لا ينضب من قيم التحرر والتعاضد والتكافل، وهي قيم يجب أن نعتز بها وأن نحافظ عليها وأن نواجه بها "أخلافيات " الاستبداد.

كما لا جدال في أن الأزمة التنظيمية لا يمكن أن تحل إلا بآليات ديمقراطية. لكننا لا ننقلها كما هي، بل نطورها ونحسنها في اتجاه تطويق السلبيات والمضاعفات المحتملة، والتي هي حتمية في كل خيار، مهما كان صائبا وموفقا.

أما الأزمة الاقتصادية التي نتخبط فيها، فلن نجد لها حلا في التراث ولا في الوصفات المعاصرة والجاهزة، من ليبرالية متوحشة أو اشتراكية بيروقراطية.

إن الحلول ما زالت للاكتشاف والتجريب والمراجعة والتحسين . وذلك حتى نصل إلى تحقيق بعض المعادلات الصعبة : كالتوفيق بين حق المبادرة والمساواة ، بين الفاعلية الاقتصادية والمحافظة على واجب التعاضد الاجتماعي، بين تطوير البنية والمحافظة على البيئة، بين الأخذ والعطاء المتساويين ، بين الاندماج في الاقتصاد العالمي والمحافظة على الحد الأدنى من القدرة على أخذ القرار.. إلخ.

إنها حقا تحديات ضخمة، ومشاريع ضخمة، وأحلام ضخمة، وصعوبات ضخمة.. لكن قدر هذا الجيل والأجيال القادمة هو مواصلة نضالات الإنسان لتحقيق ذاته وإنسانيته.

وهذه النضالات لا يمكن أن تنتهي ، ما دامت الحياة ومآسيها لم تنته.

إن تحقيق الاستقلال الثاني هو مهمتنا ودورنا في هذه الفترة العصيبة من تاريخ الأم’. وهو ليس وفاء لنضالات رجال ونساء الاستقلال الأول فحسب ، وإنما هو وفاء لأطفالنا وأحفادنا خاصة، أولئك الذين استعرنا منهم هذا الوطن، الذي يتوجب علينا أن نرجعه لهم وهو أكثر ما يكون عدلا ونظاما وأمنا وإنسانية.

                                     ***

 

 

ملحق الطبعة الالكترونية

نشر هذا الكتاب سنة 1996 في بيروت بفضل عون العديد من الأصدقاء وعلى رأسهم هيثم مناع وفيوليت داغر وبعض الأخوة الذين هربوا المخطوطة من تونس وكنت آنذاك محروما  من جواز السفر .

 وقد استنفر البوليس السياسي قواه لمنع دخول الكتاب ووقع استجواب مكتبي في سوسة حول مدى علمه به وأنكر الرجل عن صدق لن الكتاب تسرب لتونس في حقائب البعض ولم تدخل منه إلا نسخا قليلة واستعصى بطبيعة الحال تحقيق الهدف منه إي دفع النقاش إلى الأمام وإلى العمق خاصة في قضية التفكير في أمراض الديمقراطية الغربية وخاصة العنصر التمثيلي وكان أملى ولا يزال أن ننتبه من الآن للعيوب الكامنة في الآليات الديمقراطية الغربية حتى لا ننقل مسخا مشوها ومريضا فنعرض الديمقراطية بما هي أهداف إلى نكسة مؤكدة والعودة إلى النظام الاستبدادي بعد جولة من الفوضى السياسوية .

أن هذه الإشكالية ما زالت مطروحة وأدعو للنقاش المعمق  حولها ربحا للوقت  وربما توفيرا لردّة نحن بغنى عنها .

فإن كان صحيحا أن التحول نحو الديمقراطية ليس حتميا أو آليا فإن كل المؤشرات تدل على أن النظام الاستبدادي العربي في آخر مراحل تطوره وانه لن يعبر في جل أقطار الوطن العشرية الأولى من القرن الجديد ولا أدل على ذلك من محاولة  التأقلم والتفتح الحذر كما يمارسها النظام في المغرب أو الأردن

أما الأنظمة الرافضة لسنة التغيير الحتمي فإنها تتأرجح  إمّا بين ستراتيجيا الهروب إلى الأمام كما يمارسها النظام الملكي في السعودية أو النظام ''الجمهوري'' في العراق أو ''الجماهيري '' في ليبيا وإمّا  ستراتيجيا التزييف والمغالطة كما يمارسها النظام البوليسي في تونس بادعاء الديمقراطية .

إلا أن هذه الحيل لا تنطلي على أحد فالنظام الاستبدادي فقد إلى الأبد المقومات الضرورية لبقائه وهي الايدولوجيا ودعم هذه الطبقة أو تلك وتواطؤ الخارج .

فلا أحد يصدق اليوم حرفا مما تقوله السلطة الاستبدادية ولا توجد طبقة لها مصلحة في بقاء نظام سياسي اصبح الفساد خطرا على كل فئات الشعب .

 أما الخارج فقد اصبح يتشكل من رأي عام عالمي تمثله منظمات المجتمع المدني المتصاعدة القوة والنفوذ وهذه أصبحت عنصرا متزايد التأثير في سياسة دولها وكل هذه القوى تدفع نحو الدمقرطة ولم يعد بإمكان دول غربية متساهلة مع الدكتاتورية التصرف بالحرية التي كانت تمتلكها في الستينيات والسبعينيات .

 وهكذا لم يعد للنظام الاستبدادي العربي من حليف سوى أجهزة قمع بدأت هي الأخرى تحسب للأمور حسابها خاصة بعد سقوط مفهوم الإفلات من العقوبة وظهور المحكمة الجنائية الدولية .

إن كل هذه المؤشرات غنية بالمعاني والدلالات .

ومنذ فترة  صدور الكتاب إلى اليوم والأزمة السياسية تتفاقم في تونس فقد تواصل القمع البوليسي للحريات بصفة مكثفة وشمل القمع كل مكونات المجتمع المدني وانهارت بصفة نهائية نظرية إرجاء الديمقراطية إلى حين الانتهاء  مع الخطر الإسلامي  فالنهضة لم تعد تشكل أي تهديد للسلطة خاصة بعد أن اتضح للجميع أنها ترفض خيار العنف رغم كل الاستفزازات لجرها إليه وكان ذلك موقفا صائبا  منها ، وهو ما فضح الخيار الدكتاتوري للنظام الذي اشهر الحرب على الأشخاص والمؤسسات التي يشتم منها التعطش للحرية .

 لكن سياسته هذه باءت بالفشل فبعد المؤتمر الرابع للرابطة التونسية لحقوق الإنسان الذي شهد تدجين الرابطة وخروجي من رئاستها بدا الوضع قاتما لكن قوى المقاومة الديمقراطية جمعت صفوفها في إطار مجموعة ضيقة كان لي شرف تنسيقها وامكنها أن تعلن تواصل النضال الديمقراطي متمثلا في إصدار البيانات ومنها المطالب المتعددة بالعفو التشريعي العام ومتابعة ملف التعذيب ومراقبة المحاكمات والتنسيق مع المنظمات الدولية المهتمة بحقوق الإنسان .

 وفي العاشر من ديسمبر 1998 وبمناسبة خمسينية الإعلان العالمي أشهرت المجموعة عن ولادة المجلس الوطني للحريات وكان ذلك منطلق أحداث لا زالت ترتباتها تجري إلى اليوم .

 ونحن نعايش يوميا اطراد وتعمق أزمة النظام البوليسي وصعود المقاومة الديمقراطية  وهي نفس الظاهرة التي تعرفها تقريبا أغلب أقطار الوطن .

والثابت اليوم أن عزلة الدكتاتورية داخل تونس وخارجها قد وصلت اوجها إذ  فقد النظام كل أمل في استعادة الصورة المنمقة التي جاهد لإعطائها للعالم في بداية التسعينيات وهو لا يختلف في شيء عن بقية الأنظمة الدكتاتورية الباقية التي أفلست على كل المستويات أولها الايدولوجي والإعلامي .

 وبصفة موازية لولادة المجلس  رأينا الحركة العربية لحقوق الإنسان تتهيكل عبر تنظيمات جديدة منها اللجنة العربية لحقوق الإنسان ( التي أبت إلا تسميتي رئيسا لها مع العلم أنني كنت ممنوعا من السفر واعجز من القيام بأي مهمة على رأسها ) في الوقت الذي تفرض فيها على الأرض القوى الديمقراطية الصاعدة في الأردن ومصر والمغرب وفلسطين والجزائر مطالبها ورؤاها على أنظمة محشورة في الزاوية .

إنه من الخطأ أن نقول مثلا أن الاتحاد السوفيتي قد انهار سنة 1991 فهو انهار في الواقع في الستينيات  ولم يكن ذلك واضحا للأعين لأن الأنظمة السياسية تنهار مثلما ترمي دعاماتها في العقول والقلوب قبل أن يتضح ذلك عبر المؤسسات والقوانين والنظام السياسي المعمول به ''على السطح '' .

ومن هذا المنظور يمكن القول أن النظام الاستبدادي العربي قد انهار في الجزء غير المنظور من الواقع السياسي لأنه فقد معركة الأفكار والقيم  وان البديل المبهم رمى جذوره في هذا الجزء غير المنظور أي في  عقول وقلوب العرب المتعطشين لنظام سياسي جديد يحترم ذكائهم وكرامتهم وطلبهم  للعدل والتقدّم .

ولا بدّ للفكر السياسي العربي في هذه الفترة الانتقالية الحرجة أن يضطلع بدوره لطرح البدائل ونقاشها بانتظار أن ينتهي النظام الاستبدادي العربي كما انتهى النظام الاستبدادي في شرق أوروبا وأمريكا اللاتينية .

إن مبدأ قيادة الناس ضرورة وهو  من أصعب الأمور إذ يتطلب أمران  هما أقصى العلم والتجربة والحنكة و أقصى الأخلاق من تعقل لكن التجربة تظهر العكس أي أن الحكم مارسه كل أنواع المجانين والأغبياء ورأينا  مسؤولية غير عادية يوضع فيها ناس جد عاديون فيفقدون الصواب  ويتألهون محملين عامة الناس أخطار هذيانهم

 وهذه  معظلة دوخت المفكرين السياسيين أرهقت الأمم والشعوب .

 ومن نافل القول أنه ليس هناك من وصفة سحرية  وليس هناك من حالة نموذجية نصل إليها وتغلق إشكالية السلطة حتى ولو كانت الديمقراطية في شكلها الغربي

 وكل ما في الأمر أن هناك رصيد من التجارب  يجب أن تستعمل وهناك جملة من  المحاذير التي يجب على كل شعب يريد حماية نفسه من الجنون والغباء في أعلى مراكز القرار أن يتخذها

وهناك آليات لتصحيح الخطأ الحتمي والانزلاق يجب وضعها  و هناك تربية على ممارسة  السلطة

هناك عمل متواصل لتعديل الشطط والعودة إلى التوازن بين المؤسسات الحاكمة وبين الحاكم والمحكوم .

وهذه هي التحديات المطروحة علينا نحن العرب اكثر من غيرنا لأن استنزاف طاقاتنا وتخلفنا المهين عن المم التاريخية التي ننتمي غليها راجع بالأساس لعجزنا عن وضع القانون والمؤسسات بدل الشخص والشخصانية على أعلى هرم السلطة .

ونحن اليوم في منعرج إيجابي قد يمكننا منذ سقيفة ابن ساعدة في حل المشكل العويص لتكون السلطة جزءا من الحل وليس كما كان الأمر طوال التاريخ جزءا من المشكلة .

فلنواصل النضال على جبهتين السياسية للتعجيل بولادة الدولة الجديدة التي رمت جذورها في العقول والقلوب وتنتظر أن يبرز ويصلب عودها وتأتينا بثمارها والتفكير العميق لنصون النبتة الجديدة مما يتهدّدها من أخطار خارجية وامراض داخلية

                                  سوسة في 12-2-2001

 

 

 


                                   ملحق 2

أزمة الدولة البوليسية في تونس وتحدّيات الإصلاح السياسي

 

أحيل الكاتب على التحقيق من أجل هذه المقالة  بتهم ثلب النظام العام وثلب القضاء وترويج أخبار زائفة وحث الناس على خرق قوانين البلد  إضافة إلى تكوين  جمعية غير معترف بها – المجلس الوطني للحريات –وحكم عليه بسنة سجن في ديسمبر  2000 وهو الحكم الذي رفض استئنافه طعنا في قضاء فقد ابسط مقومات الاستقلالية واصبح مجرّد منفّذ للأحكام التي يقررها الجهاز البوليسي .

 

تعتبر  تونس تاريخيا من اكثر أقطار  الوطن العربي  عزوفا عن التغييرات الجذرية والانقلابات الدموية وميلا إلى الإصلاحات التي تطبخ على نار هادئة  والحلول الوسطى والحوار المسترسل بين ألد العداء ويعزى هذا التوجه في معالجة الأزمات السياسية إلى طبع السكان الميال إلى الاعتدال وخصائص البلاد الجغرافية المكونة أساسا من سهول مفتوحة  التي تجعل خلافا للجزائر كل ثورة سهلة الإخماد ناهيك عن الخصائص الاجتماعية التي تتميز بها كالتجانس العرقي والديني  وهيمنة الطبقات الوسطى عدديا وسياسيا  وثقافيا .

إن كل هذه المقومات للأسف هي اليوم  تحت ضغط شديد أمام عوامل  وضع سياسي اقتصادي اجتماعي لم تشهد له  تونس مثيلا منذ استقلالها  يتمثل أساسا في تعمق  أزمة دولة وأزمة مجتمع وأزمة علاقة بين الاثنين.

يمكن القول أن عوامل  تفكك  الدولة العصرية مفهوما وممارسة قد ذهب اليوم  شوطا بعيدا في تونس نتيجة سياسة السلطة في العشرية الماضية والتي دمرت مكتسبات انطلقت  في نهاية القرن التاسع عشر وتواصلت طوال هذا القرن .

وقد يبدو هذا الرأي مبالغ فيه  لمن يزور البلاد فيرى كل مظاهر الدولة بل وحتى الدولة القوية  من دوران الدواليب  البيروقراطية  وًاستتباب الأمن ً   لكن المظاهر في النظم الاستبدادية  لا تخدع إلا أصحابها ومن ليس لهم الوقت أو القدرة على الانتباه لما يوجد وراءها  ومن المعروف حسب المقولة الشهيرة أن ً كل شيء على ما يرام في الدكتاتورية إلى الربع ساعة الأخيرة ً . فإذا سلمنا أن الدولة العصرية هي  الجهاز الذي  يتمتع بحد أدنى من الهيبة والمصداقية والفعالية  هدفه  الأساسي  الحد من العنف و إدارة  شؤون المجموعة الوطنية  وفق القانون تكريسا لجملة من القيم  الجماعية المتفق عليها يمكن القول أن لاشيء من هذا القبيل يوجد في تونس بل   دولة مطعون في  هيبتها وفي  مصداقيتها  وفي  شرعيها تشتغل أغلب الوقت خارج إطار القانون وضد القيم المجتمعية و لا تواجه أزمتها  الهيكلية  إلا بإجراءات اعتباطية تعمقها يوما بعد يوم وترمي بتونس في مجاهل  أخطار كبيرة  .

 ومن سخرية الأقدار أن تنتصب دولة البوليس  التي افتكت السلطة على اثر انقلاب سلمي في -7.11.87 - من دولة الحزب الواحد بادعاء معالجة تفاقم أزمة هذه الدولة فتنتهي في عشرية واحدة إلى الزقاق المسدود الذي انتهت إليه الدولة الحزبية في ثلاث عقود .

ولا شكّ أن تحليل عملية الانهيار هذه تتطلب دراسات مستفيضة لكنني سأكتفي في هذه المقالة بالإشارة إلى أهم خصائصها تاركا للمؤرخين تحليل الآليات التي جعلت عملية إنقاذ الدولة تتحول سريعا إلى عملية إغراق لها .

وأول تفسير أن  الطبع غلب التطبع فلم تطل فترة المراقبة الذاتية وانتحال الديمقراطية لتعود للسطح عقلية البوليس وتقنياته المعروفة في التعامل مع القضايا السياسية .

 ومن بين هذه التقنيات تلك التي تمارسها كل الدول  ومنها الديمقراطية لكنها تبقى في حدود وجدّ مخفية وفي خدمة سياسة ليست الأساليب القذرة إلا جزءا منها .

لكن النظام التونسي جعل من الشاذة القاعدة  والقاعدة الواضحة التي يروم بها تحقيق أهداف سياسية وهكذا   انتشرت بجانب الممارسات الكلاسيكية التي سارت عليها الدولة الحزبية  من تعذيب ومحاكمات جائرة  عمليات بالغة الخطورة من منظور الرمز والمعنى فهذه خانات محسوبة على الدولة لا تتورع ابتداء من التسعينات  عن توزيع الأشرطة البرنوغرافية المزعومة ضد المعارضين مثل محمد مزالي وعلي العريض وعبد الفتاح مورو وسهام بن سدرين  ثم برزت ظاهرة الهجمات البالغة الحقارة ضدهم  في صحف مأجورة تخصصت في الفضائح  شملت سعد الدين الزمرلي رئيس الرابطة آنذاك وخميس الشماري وكاتب هذه السطور  ثم تنامت ظاهرة سرقة سيارات مناضلي حقوق الإنسان أو تهشيمها مثل سيارة  عمر المستيري  وجمال الدين بيدة وراضية النصراوي ومصطفى بن جعفر وخميس قسيلة وتوفيق بن بريك  واخيرا سيارتي  كذلك تعرضت مكتب راضية النصراوي  إلى الخلع وسرقة الملفات . ثم  برزت ظاهرة القضايا الكيدية التي يلفقها البوليس والسيناريو هو أن يطلب من البعض عدم الإمضاء في المراكز تطبيقا لحكم المراقبة الإدارية ثم تحال الضحية لأسباب تتعلق بسوء سلوكه أو للضغط على عائلته على المحاكمة بتهمة امتناعه عن الإمضاء ولا ينفع قوله أن البوليس هو الذي طلب منه ذلك ويحكم عليه  بالسجن كما حدث ذلك في قضيتي محمد علي البدوي وعلي بن سالم الصغير . 

   وهكذا استشرت داخل المجتمع  صورة مدمرة للدولة وهي أنها  تمارس  ما جعلت لمقاومته وتزامنت  هذه الصورة في الوقت الذي ضج فيه المجتمع بالشكوى من استشراء الفساد في كافة الأجهزة وخاصة في الجهاز البوليسي  .

وثمة ظاهرة أخرى ساهمت في ضرب هيبة الدولة  وهي  الضريبة  المفروضة على الناس بخصوص تمويل  صندوق 26-26 وفي يوم من السنة يطلب من  كل المواطنين التطوع الإجباري بالتبرع لفائدة صندوق إحياء المناطق الفقيرة لكن الأمر بالنسبة للبعض  ليس سوى وسيلة تملق للسلطة أو  للتهرب من الضرائب الرسمية إذ هناك مقايضة غير رسمية تجعل   الدفع للصندوق يعفي أو يسهل التعامل مع الضرائب الرسمية أما بالنسبة للأغلبية   فهو  ضرب من ضروب الابتزاز المالي تأخذ بموجبه السلطة باليد اليمنى من جيب المواطن في ظل التهديد المبطن لتعطي باليد اليسرى جزءا ضئيلا مما أخذته  بأسلوب المنّ المهين في حين  يضيع أهم جزء من المال في المجهول .

والخطورة في قضية هذا الصندوق ليست في ابتزاز المواطنين وضرب المورد الأساسي للدولة الذي هو الضرائب ولا في الأموال المختفية وإنما مجدّدا في ضرب صورة الدولة .

فالدولة العصرية تبدأ لحظة التفريق بين مال المجموعة ومال الحاكم وخاصة عندما تعتمد المجموعة الوطنية   مبدأ رئيسيا هو لا ضرائب بدون قانون يسنه برلمان ويسهر على شفافيتها جهاز محاسبة ذا مصداقية .

إن هذا الصندوق إضافة إلى الممارسات  السوقية الخارجة على القانون  أعاد الدولة التونسية إلى ما قبل الدولة العصرية التي ظننا أن دستور 1861 قد أدخلنا إليها .  

ونفهم الجزء الثاني من أزمة الدولة أي  انهيار المصداقية  إذا أضفنا إلى الصورة السلبية التي أدت إليها هذه التصرفات   فراغ الإعلام الرسمي من كل قيمة وعزوف الناس عنه وفرارهم إلى الفضائيات الأجنبية وخاصة  قناة الجزيرة .

إن ما سمعته تونس في مستوى الخطاب الرسمي طوال التسعينات ليس ما يسمى باللغة الخشبية المعهودة في كل نظام دكتاتوري وإنما شيئا آخر جديدا أدخلته الدولة البوليسية وهو اللغة المضللة. ففي تونس أصبحت الهوة بين القول والفعل بين الكلمة ومضمونها غير قابلة لأي تجسير بفعل خطاب يتستر بكل مصطلحات الديمقراطية وحقوق الإنسان وقيم العدالة والتسامح لممارسة نقيضها  . وهكذا تعلم التونسيون فهم الكلمات بالعكس فالديمقراطية تعني الدكتاتورية وحقوق الإنسان تعني انتهاك حقوق الإنسان ودولة القانون تعني دولة الاستبداد  والتسامح تعني التعصب والتعددية الأحادية الخ .  

ومما زاد في انهيار المصداقية الحرب الشرسة التي شنتها الدولة البوليسية ضد انتشار الصحون المقعرة  التي تكثف وجودها بالرغم من انفها ومراقبة الهاتف والبريد والإنترنت والصحافةوفشلها الذريع في هذه الحرب .

يبقى أن أهم عوامل تفكك  الدولة العصرية مفهوما وممارسة هو انتفاء الشرعية عنها فقد كان بإمكان السلطة المنبثقة عن انقلاب 7-11 أن تستقي شرعيتها من مشروع حضاري مثل إرساء الديمقراطية  مثلما استقت الدولة الحزبية شرعيتها من تحقيق الاستقلال الأول  لكنها فضلت الركون إلى انتخابات مزورة من ألفها إلى يائها ولا يأخذها  أحد لا في الداخل ولا في الخارج  على محمل الجدّ .

 وفي مثل هذه الحالات لا بد لكلّ دولة أن تقايض وجودها غير الشرعي أي غير المستمدّ من الرغبة الواعية الحرة للشعب إما بمشروع أيدلوجي مثلما كان الأمر بالنسبة للشيوعية أو النازية أو بادّعاء التصدّي لعدو خارجي أو داخلي يمكن أن تنجرّ عنه مخاطر أهم بكثير من وجود دولة غير شرعية أو بتحقيق دعائم رخاء اقتصادي يمكن به شراء ضمائر البعض وسكوت الأغلبية وتحييد " المتطرفين ".

 ولا يوجد اليوم في تونس أي من هذه العوامل فلا أحد يصدق حرفا واحدا من الهذر المستمر حول الديمقراطية  ولا وجود لعدو خارجي أو داخلي  خاصة بعد قمع الإسلاميين ورفضهم المتواصل الرد بالعنف على المظالم التي يتعرضون لها . أما ً المعجزة الاقتصادية ً التي يتغنى بها النظام فإن الفساد والعولمة تكفلا بضرب صورتها في الداخل  والخارج ناهيك عن حقيقتها المبالغ فيها كثيرا .

ويتمثل  الجزء الثاني في معادلة الوضع السياسي  في طبيعة المجتمع  وقدرته على مواجهة الدولة البوليسية وخاصية المجتمع ككل انه يحيا منذ عشر سنوات في ظلّ  إرهاب الدولة وأنه يتردّد بين سورات العنف المباغتة التي يعبر فيها عن غضبه وبين الاستكانة والصبر على المكروه الذي لا يستطيع أن يغيره .

 وثمة شعور عميق داخل المجتمع بالمهانة والإذلال لضرورة الصمت على فساد لا حدود له ومظالم مستشرية تتوجها انتخابات مزيفة تصادر فيها سيادة الشعب وكرامته.

ومن أخطر مكونات الأزمة النفسية للشعب التونسي تيقنه انه عرضة للتعسف وأن  حقوقه التي يفترض فيها أنها غير قابلة للتصرف وأنها محمية بالقانون  امتيازات هشّة  يدين بها دوما لأصحاب القرار ولو كانوا من أصغر أنواع الموظفين  ولا يحافظ عليها إلا بالتملق والمهادنة والنفاق والغشّ. وقد تسببت المحاكمات السياسية وما ظهر من خلالها من خواء مفهوم دولة القانون من كل محتوى،  في استشراء القناعة بأننا نحيا في ظل دولة اصبح فيها القانون وسيلة للتشريع للظلم والتغطية عليه .

  وفي هذا الجو المشحون تترعرع الجريمة التي يلاحظ الكل تفشيها الخطير بالرغم  من كثافة قل نظيرها في العالم من كل ما يخطر على بال أو لا يخطر من أنواع البوليس .

 ولا أحد يعلم ما هو ارتفاع منسوب الجريمة وتجارة المخدرات وإدمان الكحول والانتحار فكل هذه المعطيات معلومات سرية ولا يمكن البحث فيها علميا أحيانا يطلب من الباحثين العلميين الكذب على الأرقام مثلما حصل مؤخرا عندما طلبت وزارة الصحة من أستاذة في الطب عدم المشاركة في ندوة طبية حتى لا تذيع أرقاما تدل على ارتفاع الإدمان على المخدرات .

ولم يفلح هذا المجتمع في الانعتاق  إلا على  مستوى عدد يحصى على الأصابع من منظمات مستقلة عن السلطة تتحرك  أساسا في ميدان الدفاع عن الحقوق الإنسانية أما ما عدا ذلك فنسيج من الجمعيات الرياضية وكلها مراقبة بصفة لصيقة من قبل السلطة التي تفاخر بأن في تونس 7000 جمعية والحال أنه ليس فيها اكثر من عشر جمعيات غير حكومية فعلا .

وإذا قارنا هذا الوضع ببلدان شبيهة حتى في أفريقيا اكتشفنا مدى التصحر الذي أحدثه قانون الجمعيات بمنع كل حيوية اجتماعية وتكبيلها وعقاب كل من يريد أن ينشط في أي حقل كان خارج سيطرة سلطة مهووسة بالهاجس الأمني أصبحت اليوم العنصر الأول في شعور التونسيين بقلة الأمن  والاطمئنان . ففي جنوب أفريقيا مثلا يوجد 180جمعية للدفاع عن حقوق الطفل ولا يوجد واحدة في تونس والعلاقة بين الجمعيات والحكومة على طرفي النقيض مما هو عندنا فالدولة لا تكتفي بالسماح للجمعيات بالنشاط بل تتعامل معها من موقع التكامل مفضلة أحيانا تكليف البعض منها بأنشطة لا تقدر عليها بيروقراطيتها الثقيلة وتمولها بدون المساس بالجمعية سياسيا أي بدون محاولة التفويض الرخيص التي هي القاعدة في تعامل الدولة الاستبدادية مع مؤسسات المجتمع المدني في بلداننا الموبوءة بالنظام الدكتاتوري .

وبجانب الروح المعنوية التي دمرتها الدكتاتورية فإن الخراب الذي لحق كل مكتسبات المجتمع أصبح مصدر تهديد خطير لمستقبل الأجيال المقبلة  وقد يتطلب إصلاحه جيلا بأكمله .

فنحن لا ننتبه عادة أن الغرس وجني الثمار صالحة أو طالحة في مستوى الشعوب عملية تحسب بالعقود لا بالسنين كما هو الحال على مستوى الأفراد .

 ففي تونس نحن نجني في سنة ألفين ثمار سياسة الستينيات في مستوى التنظيم العائلي . إن انخفاض عدد المسجلين في المدارس الابتدائية وتنازل الضغط على مطالب السكن هي الثمار التي نجنيها اليوم من  إحدى الخيارات الحكيمة القليلة للدولة الحزبية أي تحسين وضعية المرأة والتنظيم العائلي . كذلك فإن نوعية النخب المتعلمة والمتكونة أساسا من الكهول هي نتيجة نفس السياسة الرشيدة في ميدان التعليم  التي وضعت في الستينيات .

و ابتداء من الثمانيان ضعف مستوى التعليم  ثم تسارع تدهوره في التسعينيات  بفعل انتشار الفساد   وتدهور وضعية رجال  ونساء التعليم  وتحريم النقد والمراجعة وتتبع المبدعين والتصحر الثقافي ووضع الرجل غير المناسب في المكان غير المناسب لمجرد ولاءه للسلطة  والسياسة اللغوية القديمة  وخاصة ديماغوجية النظام الذي اصبح يبحث عن شعبية رخيصة   بالزيادة في نسب النجاح في الباكلوريا  وهكذا أصبحنا نلاحظ في الجامعة دخول أجيال متزايدة الجهل  لا يمكن بأي حال من الأحوال خاصة في ظروف فقر الجامعة أن تسمح لتونس باحتلال المكان اللائق بها . وهذه الأجيال الضعيفة التكوين علميا وثقافيا والتي نشأت في جو القيم الموبوءة للدكتاتورية هي التي ستقود تونس لزمن طويل . وهذا هو الأثر السلبي الأساسي الذي ستبقى تونس تعاني منه زمنا طويلا بعد زوال الدكتاتورية .

وإنها نفس الآليات التي خربت القطاعات الحيوية الأخرى للشعب كالصحة والصحافة والثقافة  والنظام البنكي والعدالة  وهو ما يجعلنا سنعاني لسنوات طويلة من التعامل مع قطاعات ضعيفة الفعالية  تتحكم فيها قوى صنعتها الدكتاتورية لا مصلحة لها في التغيير وستقاوم بشدّة كل محاولات الإصلاح الديمقراطي .

 وبهذا يتضح لنا أن عشر سنوات من دكتاتورية دولة البوليس واصلت أربعين سنة من دكتاتورية الدولة الحزبية  جعلت تونس تشبه  حاسوبا أنيق المظهر لكن  بملفات أفسدها  الفيروس .

يتضح خاصة حجم التحديات التي ستواجه البديل الديمقراطي يوم يكرّسه الشعب فهو مطالب بإصلاحات في مستوى الرمز والمعنى بجعل هيبة الشعب أهم من هيبة الدولة وهذه الهيبة لا يمكن أن تأتّى إلا من  عودة السيادة الفعلية له عبر حقه غير القابل للتصرف في التنظم والرأي واختيار من يحكمه . وعندما يستعيد الشعب حقه في الاصداع برأيه دون إرهاب فإنه سيستعيد في نفس الوقت جزء من الثقة بالنفس المفقودة وستتحرك الآليات لبرئه من عقد النقص والعجز والذنب والاحتقار للذات

 ويبقى أن أهم عامل من عوامل إعادة بناء الذات الجماعية هو إعادة  بناء الثقة في شيء اسمه القانون وذلك  بإحالة كل القضاة الفاسدين الذين حكموا بدون نص وحكموا في نفس القضية اكثر من مرة وأغمضوا عينيهم عن التعذيب إلى المحاكم لتقول رأيها في تصرفاتهم . ولن يكفي هذا بالطبع إذ يجب أيضا محاربة المحسوبية ووضع آليات بالغة الدقة والفعالية استئصال فساد متجدد وليست الديمقراطية بمرهم سحري ضدّه وإنما وسيلة لتتبع ظهوره المستمرّ  وجزّه باستمرار كما نفعل مع الأعشاب الضارة التي لا نستطيع التخلص منها وإنما قصّها بنفس العناد الذي تتوالد به

أما  هيبة الدولة فإنها لن تبني إلا على قاعدة اخلقة السياسة إلى ابعد حدّ ممكن بعد أن رمت بها في المز ابل سياسة الشرائط البرنوغرافية وسرقة سيارات الناس والاعتداء على أرزاقهم وشرفهم من قبل المؤسسة المجعولة لمقاومة البرنوغرافيا والسرقة والاعتداء على الشرف .

وهذه بالطبع مهمة جيل بأكمله لأن التخريب الذي لحق تونس من نظام 7-11 لن يكون سهل الإصلاح لكنه لا خيار لنا يدفعنا ويشد من عضدنا مفهومنا للوطنية وثقتنا المطلقة بان الأنظمة وحدها تموت أما الشعوب فخالدة ابد الدهر .

***

 

 

 


المـراجـع

            رغم هذا النص ليس دراسة أكاديمية وإنما كتابة سياسية صهرتها التجربة  والآلام فإنه لم يتولد من شيء ومن ثمة امتناني لكل المؤلفين الذين لعبوا دورا في بلورة أفكاره ومن أهمهم :

 

1 ـ في الفهم القديم للاستقلال وبعض محطات تاريخ النضال الوطني في تونس ، انظر :

·        محمد الحبيب المولهي : الوطن والصمود، دار الغرب الإسلامي . تونس 1991

·        النوري البودالي : الدفاع والإستقلال . تونس 1989

·        أحمد العباسي : الشيخ عبد العزيز الثعالبي. تونس 1987

 

* Hachemi Jegham  : La constitution tunisienne de 1961. Edition Chems-Tunis  1989.                                                                               

2 ـ في مفهوم الإستبداد ـ انظر :

·        محمد الجويلي : الزعيم السياسي في الخيال الإسلامي، بين المقدس والمدنس. دار سراس للنشر

                تونس 1991

·        طيائع الإستبداد  للكواكبي,

 

3 ـ في الضريبة الباهظة للإستبداد الحديث والناتجة أساسا عن ثورة مختلف مكونات المجتمع المدني ضد الدولة الإستبدادية 

        واحتجاج الدولة الإستبدادية لمواصلة هيمنتها بضرورة مقاومة خطر التطرف الديني. انظر :

·        منظمة العفو الدولية

-        التقارير الدولية للسنوات العشر الأخيرة

-        الأطباء والتعذيب ، بين المشاركة والصمود. مطبوعات منظمة العفو الدولية ـ لندن

 

Human Rights Watch World Report 1995                                                  

485 Fifth Avenue- New-York NY                                                                   

Reporters sans frontiere: Rapport 1995                                                      

5 Rue Geoffroy -   Marie 75000 Paris                                                                 

·        المنظمة العربية لحقوق الإنسان

-        انتهاكات حقوق الإنسان في الوطن العربي عدد 13

-        التقارير السنوية عن حالة حقوق الإنسان في الوطن العربي

-        الكاريكاتير وحقوق الإنسان

-        آفاق الديمقراطية في الوطن العربي في ضوء التغييرات الدولية

 

-        النظام الدولي وحقوق الإنسان في الوطن العربي

-        الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وأحوال الوطن

            إصدارات المنظمة العربية ـ القاهرة.

*Union Interafricaine des droits de l’ homme                                                      

Les droits de l homme en Afrique : Historique, realites et perspectives Rapport 1993/1994  -Ougadougou 1995                                                          

 

·        المركز العربي للدراسات  الإعلامية : عدد خاص عن حقوق الإنسان والحريات : شارع طلعت حرب ـ القاهرة.

·        المنظمة المغربية لحقوق الإنسان من خلال بلاغاتها وتصريحاتها

-        ماي 1988 مارس 1991

-        ماي 1991 دجنبر 1992

-        ملاحظات حول التقرير الحكومي ـ أكتوبر 1990

-        إصدارات دار النشر المغربية ـ الدار البيضاء 1991

 

·        المنظمة المصرية لحقوق الإنسان

-        جريمة بلا عقاب  : التعذيب في مصر

-        القوانين المقيدة للحقوق المدنية والسياسية في التشريع المصري ـ تأليف عبد اللـه خليل 1993

                 1017   شارع متحف النيل ـ الروضة ـ القاهرة.

 

·        مركز  الدراسات والمعلومات القانونية لحقوق الإنسان .

            دفاعا عن حق تكوين الجمعيات ـ تأليف أمير سالم

           7 شارع الحجاز ـ روكسي ـ مصر الجديدة.

·        الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان ـ بلاغات 1989 –1995

 

4 ـ في خطورة ظاهرة الفساد التي تسبب في عنف الإستبداد والعنف المضاد للحركات الدينية التي تستمد جزءا هائلا  من إغرائها لتركيزها عليها وادعائها القدرة على استئصالها باسم القيم السامية للدين . انظر :

Pierre Pean  : l argent noir-corruption et sous developpement Fayard 1988                                                                           

5 ـ في الفراغ المتصاعد للمفهوم القديم للإستقلال في عالم متصاعد الإرتباط . انظر :

Thierry Henstch : le systeme mondial :rapports internationaux et relations intenationales : nouvelle optique -Montreal 1984                                                

 

 

 

6 ـ في نظرية حقوق الإنسان ومفاهيمها الأساسية والجدل القائم حول مدى تلاؤمها مع موروثنا الحضاري

·        هيجل : مبادىء فلسفة  الحق . ترجمة تيسير شيخ الأرض ، منشورات وزارة الثقافة ، دمشق 1948.

·        د. محمد شريف بسيوني ـ د. محمد سعيد الدقاق ـ د. عبد العظيم وزير.

                حقوق الإنسان ـ المجلد الأول والثاني ـ دار العلم للملايين ـ بيروت 1988

·        د. محمد السيد سعيد : حقوق الإنسان

-        المكتب العربي للمعارف بالقاهرة 1995

-        الإسلام وحقوق الإنسان  ص 13 – 43 ـ رواق عربي عدد 1

 

·        د. هيثم مناع :

-        حقوق الإنسان في الثقافة العربية الإسلامية

-        الضحية والجلاد .

·        فاتح سميح عزام : ضمانات الحقوق المدنية والسياسية في الدساتير العربية

·        بهي الدين حسن : حرية الصحافة من منظور حقوق الإنسان

·        د. فيوليت داغر : الطائفية وحقوق الإنسان ،

            إصدارات مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان ـ 9 رستم ـ القاهرة.

Ben Asayag Miguel : Utopie et libertes : les droits de l homme une ideologie       la decouverte 0 Paris 1988.                                                                                   

Ben Achour Vadh  : Normes, foi et loi- CERES- Edition -Tunis 1993                  

 

                       

7 ـ في إشكاليات الديمقراطية النظرية والتحول الديمقراطي في العالم الثالث والوطن العربي . انظر

·        الطاهر لبيب : علاقة المشروع الديمقراطي بالمجتمع المدني العربي ص 80 ـ 104  المستقبل العربي عدد 4، 1992 ـ منشورات مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت .

·        مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام ـ القسم الثاني ـ التطور الديمقراطي في العالم العربي ـ التقرير الستراتيجي العربي 1995 .

·        محسن الميلي : ظاهرة اليسار الإسلامي ـ تونس 1983

·        عبد السلام ياسين : حوار مع الفضلاء الديمقراطيين . مطبوعات الأفق ، الدار البيضاء 1994 .

·        د. حيدر ابراهيم علي ـ الديمقراطية في السودان : البعد التاريخي ، الوضع الراهن وآفاق المستقبل ـ مركز الدراسات السودانية ـ القاهرة  1993

·        مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت

-        المجتمع والدولة في الوطن العربي 1988

-        العرب والعالم 1988

-        مستقبل الأمة العربية 1988

-        التنمية العربية 1989

 

8 ـ في مختلف تجارب الدمقرطة في العالم الثالث ونجاحها المتفاوت .انظر :

 

 

Larry Diamond/Juan J.Linw/ seymoun Martin Lip Set : comparing experiences with Democracy - Lynne Rienner Publishers 2000

 

 

9 ـ في عيوب الديمقراطية البرلمانية الغربية وأمراضها الخطيرة (والتي علاجها هو مزيد من الديمقراطية وليس ردة
        استبدادية  أخرى) . انظر :

 

François de Closets : La grande Manip Seuil 1990                                           *

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الفهـرس

 

الإستقلال الثاني ـ تقديم

مقدمـة

الفصل الأول : فاتورة الإستبداد

            ـ تمزيق الذات

            ـ دولة القانونيين

            ـ العمل الرديء

            ـ العلم المقيـد

الفصل  الثاني : أسس الديمقراطيـة

            ـ الحرب الرمزية

            ـ الإعتراف الكبير

            ـ العقلية التحررية

الفصل الثالث :  الآليات

            ـ الدعامات

            ـ تنظيم الحرب السلمية

            ـ الصراع الإعلامي

            ـ التجدد السلمي للسلطات

            ـ القضاء العادل

الفصل الرابع : الآفـاق

            ـ الخطر المتجدد

            ـ التحول الصعب

المراجع