الإصلاح الدستوري في السعودية ..

القضايا والأسئلة الأساسية...

الدكتور متروك الفالح

 

" الإصلاح الدستوري في السعودية "

القضايا والأسئلة الأساسية

 الدكتور متروك الفالح

 

 الطبعة الأولى ‏2004‏‏

جميع الحقوق محفوظة

 

الناشر

المؤسسة العربية الأوربية للنشر  (باريس)

اللجنة العربية لحقوق الإنسان

الأهالي للنشر والتوزيع

سورية- دمشق ص.ب 9503

هاتف 00963113320299

 فاكس 00963113335427

 بريد إلكتروني

  odat-h@scs-net.org

 

 منشورات أوراب Editions Eurabe

 

 

Commission Arabe des Droits Humains

5, rue Gambetta 92240  Malakoff

Tél 0033140921588  Fax 0033146541913

E. mail: achr@noos.fr

 

الترقيم الدولي

ISBN : 2-914595-33-6

EAN : 9782914595339

 

Buds : Studies of the Arab Commission for Human Rights

Constitutional Reform in Saudi Arabia

 

 

تقديم

 

يسر اللجنة العربية لحقوق الإنسان أن تنشر في هذا الكتاب آخر ما كتب الدكتور متروك الفالح، أستاذ  السياسة المقارنة والعلاقات الدولية في قسم العلوم السياسية في جامعة الملك سعود، قبيل اعتقاله (مسودات كتبت في نهاية يناير وأوائل فبراير 2004). ثلاث محاولات تعطي فكرة عن ما أصبح يعرف بالحركة المطالبة بالإصلاح الدستوري والتي يسميها أبو بلال، الدكتور عبد الله الحامد، المملكة السعودية الرابعة.

 تتناول هذه الأوراق نظرة الدكتور الفالح للدستور والملكية الدستورية والإسلام والدستور. وقد ارتأينا أن نضم لها نصا نشر بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر. ذلك لإعطاء فكرة

عن رمز من رموز التحركات التي عرفتها المملكة العربية السعودية على صعيد النشاطات السلمية المختلفة والتصورات الفكرية-السياسية.

سيجد القارئ ما يمكن تسميته بالقوة الهادئة واللهجة الحكيمة للتغيير دون صاعق كهربائي ودون عملية "كسر عظم وكسر عظم مضاد". إنه تشريح عميق للنتائج الكارثية التي يحملها الخيار العنفي والخيار الأمني، وإدراك لضرورة إعادة بناء اللحمة المجتمعية بالإسهام الجماعي الرافض للاستئصال أو التهميش أو احتكار السلطة والثروة.  من هنا الاستهجان الفائق في المجتمع لعملية الاعتقال التي طالت هذا التيار وبقي من رموزه في المعتقل اليوم الدكتور عبد الله الحامد والدكتور متروك الفالح والشاعر علي الدميني. 

من لا يتقاسم السلطات يتقاسم الأحقاد، ومن لا يتأطر في العلني العام يتأطر في السري الخاص، ومن لا يجد نشاطا سلميا يخوض به يستهويه الرفض العنيف للسائد. فكل صد للمواطن عن المشاركة والفعل والتعبير يخلق بالضرورة حالة اضطراب للحاكم وليس فقط للمحكوم.

قد لا يفهم السوري أو المغربي أو المصري خصوصية النقاش الذي يطرحه التيار الإصلاحي الدستوري في مملكة الصمت والعزلة والقطيعة مع الآخر (بالجمع) من داخل وخارج الحدود، لكنه بالتأكيد سيبصر خطابا وتحليلا ينم عن شعور عميق بالمسؤولية ورغبة صارمة في الانتقال السلمي لمجتمع المواطنة. إنه تأكيد لتصور، يدافع عنه الإصلاحيون،مضمونه أن الحقوق السياسية والمدنية ليست بحال من الأحوال في صراع مع قيم ومبادئ إسلامية تمكنت يوما من بناء حضارة لا تغيب عنها الشمس. كما أن عملية الخروج من التسلط تتم عبر اكتشاف المحطات الخلاقة فيها واستلهام إنجازات العصر.

لقد بدا لنا من الضروري، وكاتب هذه الأسطر في السجن، أن يضم الكتاب ملحقا يعرف القارئ ببعض الحيثيات التي تجعلنا نطرح السؤال لحظة رفع جلسة المصلحين الثلاثة لأجل غير مسمى: من يحاكم من؟ وإلى متى سيشكل الاعتقال وسيلة السلطة للحوار مع من تختلف عنه؟

وضع اللمسات الأخيرة على هذا العمل كان يوم 11 سبتمبر، ذكرى المأساة الأمريكية التي تحولت لكارثة إنسانية عالمية بعولمة حالة الطوارئ. وهو يوم الجلسة الرابعة لمحاكمة الشيخ سعيد بن زعير المضرب عن الطعام والممنوع من الزيارات ومن حقه في الدفاع  والقابع في سجن الحائر (الرياض) للشهر الخامس، بعد خمس دقائق تحدث فيها على قناة الجزيرة. وربما، لكسر هذا المشهد الرمادي، يوم صدور "نعم في الزنزانة لحن" للشاعر علي الدميني، صاحب متروك وعبد الله في منتجعهما وراء القضبان.

باريس 11/9/2004

الدكتور هيثم مناع

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

  

 

 

 

الإصلاح الدستوري " في السعودية " القضايا والأسئلة الأساسية

الملكية الدستورية : إقصاء أم إعادة تأسيس

 

          قبل سنتين عندما كتبت عن المستقبل السياسي للسعودية في ضوء أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 م، طرحت فكرة إن المشهد المنقذ في وجه احتمالات مشاهد الانهيار أو التقسيم للبلد، هو ولوج الإصلاح الشامل وعن طريق البدء في الإصلاح السياسي أولاً وتبني إعلان " الملكية الدستورية" [1] وعندما تداعى دعاة الإصلاح والمجتمع الأهلي المدني إلى فكرة الإصلاح الدستوري السلمي كانت مذكرة وخطاب " نداء للقيادة والشعب معاً : الإصلاح الدستوري أولاً " والتي وقعها أكثر 116 شخصاً من النخب المثقفة والأكاديمية بما في ذلك أساتذة بارزين في العلم الشرعي في عدة جامعات سعودية، دعاة وقضاة وكذلك إعلاميين ورجال أعمال، وقدمت إلى القيادة السعودية بعد منتصف شهر ديسمبر 2003 م. وقد طالبت تلك المذكرة بإصلاحات سياسية شاملة تنطلق من المطالبة بالدستور ومن إعلان الملكية الدستورية، وكان هناك آلية مقترحة لتشكيل هيئة وطنية مستقلة، من أهل الرأي والخبرة والعلم في الفقه الدستوري والعلوم الاجتماعية الأخرى وكذلك أهل العلم الشرعي، لكي يعدوا مسودة عناصر الدستور، لعرضها بشكلها النهائي على الشعب للتصويت عليها، لكي تشكل عقد اجتماعي لعلاقة قانونية ملزمة بين المجتمع والسلطة، تتحدد بها الحقوق والواجبات وآليات الرقابة والمحاسبة على السلطات فيما بينها، ويبدأ بتطبيق الإصلاح الدستوري في غضون ثلاثة سنوات.

            وإذا كان الأمر كذلك ، فهل يعني تبني الدستور وبالذات الملكية الدستورية أنه يهدف إلى إقصاء العائلة المالكة "الأسرة السعودية"عن الحكم ؟ لكي "تملك ولا تحكم"  وتكون كالأسرة المالكة البريطانية، باعتبار إن بريطانيا ذات "ملكية دستورية" مجرد رمزية شرفية. هناك من المسئولين من طرح هذه التساؤلات مباشرة على بعض من دعاة الإصلاح الدستوري السلمي والمجتمع الأهلي المدني. وقال أنتم تريدون ملكية دستورية، يعني تريدوننا "نملك ولا نحكم".  كذلك طرح آخرون من بعض الكتاب أطروحات قريبة من هذا وبعضهم هاجم مطلب الملكية الدستورية على إنه حرق للمراحل. [2] هل هذه التساؤلات تنطلق من مخاوف مشروعة أم من محاولة لأحباط الاصلاح ؟ سؤال مفتوح، ولكن جدلاً هل هذه التساؤلات صحيحة أم لا ؟  بداية نقول أن هذه التساؤلات والمخاوف ليست صحيحة البتة، وسبق إن قلنا ذلك، ولكن نعيد بعض النقاط للتأكيد عليها ولتوضيح فكرة الملكية الدستورية وإنها لا تعني البتة إقصاء "آل سعود عن الحكم".  في مذكرة "الإصلاح الدستوري أولاً"  كانت العناصر الدستورية التي حددت:

1) إقرار الحقوق والحريات العامة والأساسية التي أقرتها الشريعة الإسلامية والمواثيق الدولية والتي التزمت بها الدولة السعودية بما في ذلك حق التعبير والرأي والاجتماع والمشاركة الشعبية  في اتخاذ القرارات (إدارة الشئون العامة).

2) فصل السلطات وانتخاب سلطة نيابية " مجلس شورى ملزم" انتخاباً شعبياً مباشرة من أهل الرأي والخبرة والعلم والاختصاصات، فهم الذين تنطبق عليهم " أولي الأمر" وإنهم أهل الحل والعقد. وهذه السلطة النيابية "مجلس شورى ملزم" المنتخبة شعبياً ودورياً تتمتع بسلطات رقابية ومحاسبة على السلطات الآخرى وخاصة السلطة التنفيذية ، بمعنى رقابة أعمال وسياسات الحكومة " الوزارة " ، على أن تكون لها امكانية القدرة على المسائلة بما في ذلك مسائلة الوزراء عن أعمالهم وكذلك مراقبة المال العام والميزانية.

3) وفي سياق فصل السلطات ، مسألة تعزيز استقلال القضاء وذلك ليؤدي دوره في إقامة العدل عن طريق التقاضي والتخاصم دون أن تخضع لضغوط وتأثيرات من السلطات الأخرى وخاصة السلطة التنفيذية مما يدخل في العدالة القضائية. واستقلال القضاء الذي يراد الوصول إليه هو ليس استقلال القضاة أنفسهم وإن كان هذا مطلوباً وإنما استقلال القضاء كاستقلال "مؤسساتي" وهذا يتطلب معايير دولية على الدولة أن تضمنها للسلطة القضائية في حدود الصلاحيات  الدستورية لها.

4) وفي سياق الحقوق والحريات العامة، السماح بتكوينات المجتمع الاهلي المدني بالتشكيل والقيام من قبل الأفراد والجماعات في المجتمع على أسس مهنية في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وفي مرحلة لاحقة قد تكون السياسية مستقلة، والهدف من هذه الجمعيات الاهلية والمدنية أن ترعى مصالحها وحقوقها وما يتعلق بالاحتساب المؤسسي على السلطة في سياق الامر بالمعروف والنهي عن المنكر كل في مجاله وفي المجال العام. إضافة إلى ذلك فإن هذه التكوينات الاجتماعية الأهلية المدنية تقوم بدور هام وهي إنها تساهم في  انخراط الأفراد والمواطنين وخاصة الشباب في تلك الأطر الاجتماعية، مما يتيح لها أن تفصح عن رغباتها ومطالبها وإيجاد منافذ لها في التعبير وطرح الآراء والمشاركة الاجتماعية بطريقة سلمية، تبعدهم عن الانحرافات والإتجاهات ووسائل العنف، والتي قد تكون الوسيلة المتاحة  في غياب تلك المؤسسات الأهلية المدنية.

      هذا الدستور بهذه العناصر والآليات للرقابة والمحاسبة فيما بينها والاحتساب عليها، يصوت عليه شعبياً بأن تتم صياغته من هيئة وطنية مستقلة من أهل العلم والرأي والاختصاصات في كافة المجالات بما في ذلك الفقه الدستوري والشريعة الإسلامية لكي يؤصل على الإســلام.

     إذا تم التصويت عليه، يكون لدينا "عقد اجتماعي جديد"، يقنن العلاقة الملزمة بين السلطة والمجتمع، الشعب، الأمة، بحيث تحدد الحقوق والواجبات والحريات، وكذلك يصبح المواطن جزءاً أصيل داخل العملية السياسية وليس خارجاً عنها عن طريق ممارسة حق الترشيح أو التصويت لانتخاب ممثلي الشعب في السلطة النيابية"مجلس شورى منتخب ملزم"، وبالتالي يحقق حقه وحريته في المشاركة الشعبية وفي اتخاذ ورسم السياسات والرقابة عليها . وتكون المرجعية في هذه المشاركة وللرقابة وللسلطة النيابية "الشورى الملزمة" هي مرجعية شعبية،  "سلطة الأمة في تحقيق مقاصد الشريعة"، وتتحقق دائماً بالانتخابات الدورية وهذه " المرجعية الشعبية" هي التي تعطي السلطة النيابية مجلس الشورى الملزم، الحق في ممارسة اتخاذ القرارات والقوانين والأنظمة ، ولكن مصادر أحكام تلك القرارات والأنظمة في بلد إسلامي مثل السعودية، مثلاً، تبنى على أولوية النصوص القطعية في الكتاب والسنة "الشريعة الإسلامية في حالة وجودها". ومع تحقيق قدر كبير من استقلال القضاء أيضاً وكذلك قيام وعمل تكوينات المجتمع الاهلي المدني لاتمام عملية المحاسبة والرقابة والاحتساب على السلطات، بما في ذلك على السلطة النيابية نفسها "مجلس الشورى المنتخب الملزم"، نكون بالفعل وصلنا إلى دولة وحكومة دستورية حيث تكون سلطتها مقيدة عن طريق الرقابة والاحتساب.

          عند الوصول إلى ذلك، نستطيع أن نضمن مزيدًا من العدل  بكافة أشكاله ومجالاته في الاقتصاد والاجتماع والحقوق والتخاصم والتقاضي والادارة ... الخ ، والذي أمر الله به وأنزل البينات على رسله ليقوم الناس به. عندها نستطيع أن نقضي على الفساد ونحارب الظلم والجور والرشوة والفساد المالي والإداري وهدر المال العام والإختلالات الاقتصادية في التنمية وسوء توزيع الثروة والموارد على المواطن والمناطق، وكذلك الاختلالات الاجتماعية والثقافية والفكرية والتعليمية والطغيان والاستبداد ، عندها يمكن اصلاح التعليم، وإصلاح الثقافة والاقتصاد. أما قبلها وبدون الإصلاح السياسي القائم على " الدستور"  فإننا لا نستطيع، بل فوق ذلك لاندرك إننا نخادع  أنفسنا و أننا سوف نصل إلى انهيار عاجلٍ أم آجلٍ.

      نختصر القول عن لماذا الدستور، فنقول : أن لا عدل بكافة المجالات بدون شورى ولا شورى ملزمة دون أن تكون منتخبة شعبياً ودورياً وبسلطات رقابية ومحاسبة على المال وسياسات الحكومة "السلطة التنفيذية"  "الوزارة"  ولا سلطات رقابية ومحاسبية بدون دستور مصوت عليه شعبياً ومتضمناً لتلك  العناصر وتلتزم الدولة به باعتباره عقداً اجتماعياً لا يجوز ابداً الإخلال به.

        في المقابل فإن النظام الأساسي للحكم 1412هـ ـ 1992م في المملكة، ينص على أن الملك، هو الذي تنتقل إليه السلطة ، بالوراثة، ومن أبناء  وأحفاد الملك عبد العزيز آل سعود. وهو ما يعني ان ليس بوسع الغالبية من آل سعود أن تتبوأ هذا المنصب ويحرمها الحق في هذا رغم إنها من الأسرة، - هو مرجع كل السلطات، السلطة التنفيذية وما يسمى بالسلطة التنظيمية" السلطة التشريعية في الدول الأخرى " والسلطة القضائية وهو الذي يعين ولي العهد. إذ نحن أمام أولي الأمر على أنه سلطة مطلقة كاملة مهيمنة على كل شئ بما في ذلك السلطة القضائية" المحاكم" حيث إن الملك من خلال نظرية  "ولي الأمر" هو القاضي الأول والأساس وما القضاة المعينين سواء وكلاء او نواب عنه. ولذلك في قضايا " التعزير" ومنها القضايا السياسية والأمنية والتي ليس فيها نصوص قطعية ، فإن الملك " ولي الامر " له الحق في عدم قبول الحكم ورده ورفضه وطلب تغييره ، أما بالتشديد أو التخفيف. وإذا أضفنا إلى ذلك مشكلة تأثير وضغوط السلطة "ولي الأمر على السلطة القضائية"، رغم القول إنها مستقلة طبقاً للنظام الأساسي للحكم، وإن لا سلطات عليها سوى الشريعة الإسلامية، وكذلك عدم وجود معايير محددة واضحة لاستقلال القضاء كمؤسسة وليس كأفراد، فإن هناك خلل كبير في إقامة العدل على مستوى التقاضي والتخاصم، وخاصة عندما تكون الدولة هي الخصم المدعي تجاه المتهمين في قضايا سياسية،  فما بالك على مستوى عمل السلطة التنفيذية والتي تجمع في عملها، أعمال السلطة التشريعية أو التنظيمية. في الوقت نفسه الملك هو رئيسها (رئيس مجلس الوزراء) وهو المرجع لها، وهو الذي يصدر معظم القرارات إما بمراسيم أو بقرارات من مجلس الوزراء، ورئيسه وهو الملك أو من ينوب عنه، والسلطة القضائية بوضعها الحالي وضمن صلاحياتها لا سلطات لها على السلطة  التنفيذية والتشريعية "مجلس الوزراء"، وأما مجلس الشورى "المعين" فهو بالنظام الاساسي للحكم وكذلك نظامه الاساسي أصلاً لا يتمتع بسلطات أو صلاحيات رقابية ولا في إصدار قرارات ملزمة تجاه الحكومة " مجلس الوزراء" باعتبارها سلطة تشريعية وتنفيذية، لها أن تأخذ بتوصيات مجلس الشورى او ترفضها، وللملك وحده الحق في أن يفصل في المسألة، علماً بأنه رئيس مجلس الوزراء ، وفي موازاة ذلك عدم وجود جمعيات اهلية مدنية تقوم بالاحتساب على السلطة لمصالحها وحقوقها وللمصلحة العامة. إذا نحن أمام "سلطة مطلقة" في النظام الاساسي للحكم الحالي، يتمتع بها الملك، ولا توجد آليات للمحاسبة والرقابة، وحتى ديوان المظالم، هذا ديوان أو جهاز وإن كان يسمح نظامه بشكوى الموظفين الحكوميين لأجهزتهم الحكومية، إلا أنه جهاز أصلاً غير مستقل وبالتالي لا يوجد آلية للرقابة والمحاسبة المطلوبة.

        بناءاً على ما تقدم ، هل النظام الاساسي للحكم يعتبر دستورياً ؟ الجواب، بالتأكيد لا، ذلك لأن النظام الأساسي للحكم أولاً، لا يتضمن الآليات والهياكل والعناصر الدستورية التي تضمن اقامة العدل من خلال وجود آليات المحاسبة والرقابة على السلطة التنفيذية "الحكومة" من قبل سلطة ذات مرجعية شعبية "الشورى المنتخبة الملزمة" وثانياً، إضافة إلى عدم اكتمال العناصر الأخرى من حيث الحقوق والحريات العامة والأساسية للناس وعدم وجود آلية ملزمة بها وكذلك خلل في استقلال القضاء لذلك فإن النقطة الأهم هي أن أي نظام للحكم لكي يصبح دستور أو دستورياً لا بد أن يحظى بموافقة شعبية عن طريق التصويت ليصبح الشعب وإرادته هي التي تقرر مصالحه, ويصبح دور الحاكم تنفيذيا، وليس أي مرجعية أخرى على أن تكون ممارسة الدولة  "الحكومة" تدل بوضوح على التزامها بالحقوق والحريات، والرقابة والمحاسبة عليها من قبل السلطات الأخرى او بالاحتساب عليها من قبل المجتمع، عبر هياكل ومؤسسات المجتمع الاهلي المدني  الجمعيات والاتحادات والروابط ...  الخ.

         إذ نحن أمام نظام للحكم ليس دستورياً على الإطلاق، بل ومن خلال الجمع بين السلطات الثلاثة، فإنه يؤسس لنظام الحكم الفردي بالسلطات الشمولية "سلطات مطلقة"، دون رقابة أو محاسبة لا من السلطات ولا من المجتمع ولا حتى مـن الأسرة نفسها.

        إذ نحن أمام حكم ملكي ذو سلطة مطلقة،  وهذه بدورها تولد أنظمة استبدادية تسلطية في الأجهزة والمؤسسات الحكومية، ولذلك يستشري الفساد والمحسوبية وعدم المبالاة وهدر المصلحة العامة، وذلك لغياب أيضاً آليات المحاسبة, والرقابة, ويصبح الخلل في كافة المجالات متغلغلاً إلى درجة يصعب السيطرة عليه, بل أيضاً في ظل غياب آليات المحاسبة والرقابة، تصبح عملية السيطرة أمراً مستحيلاً، ولذلك ليس غريباً أن تؤدي تلك الاختلالات إلى تنامي روح عدم الانتماء للوطن وغياب الشعور بالوحدة الوطنية وكذلك تنامي بذور العنف، واحتمالات مفتوحة من الصراع الاجتماعي ليست بعـيدة.

        وهـذه الإشكالية وتداعياتها، ليست عيباً لصيقاً "بالملكية المطلقة" فقط وإنما هي أيضاً عيباً ومشكلة حتى في الأنظمة العربية المسماة "جمهورية" طالما هي ايضاً أنظمة سلطوية استبدادية، حتى وأن كانت تزعم بوجود دساتير، ولكنها دساتير لا تقيد سلطات الحكومات ولا تعبر عـن إرادة شـعبية.

      إذن فنحن في السعودية أمام نظام حكم ملكي وملكية "ذات السلطات المطلقة"، بمعنى غير دستورية. في المقابل فإن الأخذ بالدستور، من حيث إننا نصل بالفعل إلى سلطة "غير مطلقة" يعني أننا سنصل إلى الملكية الدستورية، فما الذي يحدث بالنسبة للسعودية في هذه الحاله؟ هل ذلك يلغي  العائلة (أو بعضاً منها لأنه ليس لكلها الحق في ذلك من خلال النظام الأساسي للحكم حيث يقتصر ذلك على أولئك الأبناء والأحفاد من أبناء الملك عبد العزيز فقط)، من الحكم ؟ أم ماذا؟.

     الذي يحدث من تبني "الملكية الدستورية" هو إعادة تأسيس وتجديد للدولة ومشروعيتها على أسس جديدة تقوم على  "عقد اجتماعي" بحيث نكون أمام صياغة جديدة تسير العملية السياسية واتخاذ القرارات، يكون المواطن فيها جزءاً أصيلاً، عن طريق  المشاركة الشعبية عبر جمعيات المجتمع الاهلي المدني عامة, وعبر مجلس النواب المنتخب في السلطة النيابية  و خاصة المجالس الثانوية و البلدية, والمناطقيه وبذلك يصبح المجتمع هو الأدرى بمصالحه وله السلطة العليا في تحقيق مقاصد الشريعة.

        إذن تبني "الملكية الدستورية" يعني إعلان ميلاد وقيام "الدولة السعودية الرابعـة"[3]  إذا صح التعبير، باعتبارها دولة ذات حكومة دستورية، مما يجعلها شورية عادلة ذات شرعية جديدة، تقوم على التعاقد أو العقد الإجتماعي الملزم للطرفين بين المجتمع والأسرة "آل سعــود"، بحيث يصبح المجتمع عن طريق من يمثلونه "سلطة نيابية ـ مجلس شورى ـ منتخب ملـزم" شريكاً ومشاركاً في الحكم وليس بديلاً عن الأسرة أو مقصياً لها. هذه الصيغة الجديدة للدولة السعودية الدستورية "الشوروية العادلة " وعن طريق ذلك العقد الإجتماعي  "الدستور" تمكن الأسرة " آل سعود من الاستمرار والتواصل لعقود بل لقرون مفتوحة، ضمن تلك الصيغة التشاركية مع المجتمع.

         إذن الذي يحدث في تبني ملكية دستورية في السعودية هو إنه بدلاً من نظام حكم ملكي "بسلطات مطلقة" فإننا نصبح أمام نظام حكم ملكي "بحكومة أو سلطة مقيدة". هل يفقد الملك أو الأسرة حكمها ؟ أو أن تحكم  ؟ طبعاً هذا ليس صحيحاً، الذي يحدث هو أن الملك لا يزال يتمتع بالسلطات قد تكون  واسعة ولكنها ليست شاملة أو شمولية أو مطلقة، كما كانت في السابق، وذلك لإدخال البعد الشعبي في المشاركة في صناعة القرار والسياسات والرقابة والمحاسبة. إن الملك يبقى ضمن عناصر أخرى من الأسرة له القيادة العليا في الدولة، وهو المسؤول الأول عن الدولة ويعين الوزارات ويقيلها ويجري عليها التعديلات لمقتضيات الضرورة والمصلحة العامة وهو القائد الأعلى للقوات المسلحة، وهو المسئول عن السياسة العامة للدولة. ولكن هذه السياسة العامة للدولة باعتبار إن التي تعدها الحكومة "الوزارة" تخضع للرقابة والمحاسبة من قبل "سلطة نيابية مجلس شورى ملزم" يمثل الشعب. إذن بالقدر الذي تم التنازل عنه، هو القدر الذي أتاح للشعب والمواطن الحق بالمشاركة وصنع السياسات وأعمال الرقابة والمحاسبة. إذ هو تنازل في سياق تعاقد اجتماعي عن جزء من السلطة وبقيت أجزاء واســعة منها.

    وإذا كان هذا لا يوضح الصورة بمعنى أن تبني الملكية الدستورية في السعودية لا يعني اقصاء الأسرة الحاكمة من الحكم، فإن لدينا تجربة كل من الأردن والبحرين، فكل من الدولتين تبنت الملكية الدستورية وخاصة في تطبيقاتها الجديدة، في الأردن منذ 1989م  وفي البحرين منذ 2002 م . فهل تطبيق الملكية الدستورية في كل من البلدين ازاح الأسرتين المالكتين عن الحكم ؟  الجواب طبعاً معروف، ملك الأردن وملك البحرين لا زالا يتمتعان بسلطات دستورية واسعة وكل ما حدث إنهما قبلا مشاركة الشعب والدخول في آلية المحاسبه والرقابة المجتمعية على أعمال الحكومة،  وإما مكانتهما والأسرة فقد زادت شعبياً وتاييداً والتفافاً أكبر عن ذي قبل. فلماذا إذن، لا نقيس على هذه التجربة العربية في الملكية الدستورية ؟ ولماذا نقيس على نموذج الملكية الدستورية البريطانية أو الأوروبية ؟  هذه النماذج الأوروبية وبالذات البريطانية لها أكثر من قرنين من الزمن حتى وصلت إلى ملكية دستورية رمزية بالنسبة للاسرة المالكة. الذين يقيسون على الملكية الدستورية الأوروبية وبالذات البريطانية، والذين يقولون إن تبني الملكية الدستورية يعني حرق للمراحل، هؤلاء إما يريدون ايجاد مخاوف لدى الأسرة السعودية، أو أن تتخذ ذريعة لضرب مطالب الإصلاح الدستوري، أو انهم يقدمون المبررات والمسوغات لتلك التوجهات وذلك لتداخل مصالحهم ونفوذهم ومحاولة استدامة الأوضاع، بكل ما يعني ذلك وما تحمله من مخاطر تواصل مشاهد الإنهيار وتزايد حالات الاحتقانات واتجاهات العنف. لذلك فإنهم يتحملون كل مسئولية تترتب على الاخلال بمستقبل هــذا البلد والمجتمع.

       نقطة قبل  الأخيرة، بالنسبة للحديث عن الملكية الدستورية وماذا يترتب عليها في حالة تبنيها انطلاقاً من الموافقة على دستور مكتوب مصوت عليه شعبياً، بما يعني إنه يمثل "تعاقد اجتماعي ملزم" بين الأسرة المالكة والمجتمع، أي لتأسيس دولة دستورية شوروية عادلة يمكن أن يطلق عليها "الدولة السعودية الرابعة" تلك النقطة تتعلق بأن ذلك التبني للملكية الدستورية لا يعني فقط ايجاد حل لمسالة العدل والحقوق العامة للمجتمع، وإنهاء الاحتقانات والاختلالات وإيجاد حياة مدنية اسلامية شوروية عادلة متقدمة، وإنما أيضاً يساهم في حل دستوري داخل الأسرة المالكة نفسها، بحيث تقلل من الاختلافات والتنازع على المناصب وولايه العهد وغيرها، حسم هذا الأمر يجب أن يضمن في ذلك الدستور والذي يصوت عليه شعبياً بحيث تكون هناك شرعية دستورية شعبية مسبقة ومحددة تقضي على احتمالات الصراع والتنافس وتجعل هناك آلية دستورية مسبقة تطمئن الأسرة المالكة نفسها وكذلك المجتمع نفسه بأن لا تتفجر الأوضاع يوماً ما. 

           ختاماً نقول إذن من هو المستهدف من تبني الملكية الدستورية في السعودية؟  هل هو القضاء على الجور والظلم والفساد وضياع الحقوق والثروات وكرامة الإنسان ؟ أم هو إقصاء آل سعود عن الحكم ؟ إن تبني " الملكية الدستورية " في سياق الإصلاح الدستوري يستهدف إنقاذ البلد مجتمعاً وسلطة من أجل حياة مدنية إسلامية شوروية عادلة تقيم وتصون العدل والحقوق والكرامة الإنسانية . إنما نخشاه ويخشاه دعاة الإصلاح الدستوري والمجتمع الأهلي المدني، إن أي تأخير وعرقلة لقيام ملكية دستورية في السعودية في الوقت الراهن، قد يجعل منها مطلباً غير معروض أصلاً في المستقبل، بل قد يكون مرفوضاً من قبل قوى الاعتراض خارج السلطة حتى لو أن السلطة عرضت أو قبلت به في وقت لاحق حينئذٍ تكون الفرصة قد ذهبت ولربما بدون رجعة. فهل هناك من عاقل رشيد يبصر ويسمع ويبادر باتخاذ الخطوة التاريخية برؤية واضحة للمستقبل ، ويطلق قيام الدولة السعودية الرابعة الدستورية  الشوروية العادلة قبل فوات الآوان.


الدستور : هــو الآليات العصرية المؤسسية للاحتساب على السلطات فيما بينها لإقامــة حــياة مدنية إسلامية عــادلة شوروية

 

        من أكثر القضايا ذات الحساسية هي قضية الإصلاحات الدستورية في السعودية, وعلى وجه التحديد، قضية مدى تعارض أم توافق الدستور مع الشريعة الإسلامية "القرآن والسنة". ففي بلد عربي مسلم مثل السعودية بني مجتمعها وسلطانها على ثقافة إسلامية محددة ، تولد لدى عامتها ونخبها السياسية والثقافية والدينية تصوراً. قد يكون متعمداً أو تغطية، خاصة من قبل النخب السياسية والدينية، أو قد يكون جهلاً من عامة الناس ومثقفيهم، بأن دستورنا ودستور البلاد هو "القرآن والسنة" وإن أي حديث عن دستور للبلاد أو المطالبة بالدستور يعني إحلال دستور بديل ينافي "القرآن والسنة"، وبالتالي فإن ذلك يعني في ما يعني إن تلك مفاهيم وأطروحات علمانية، بمعنى أنها تهدف إلى فصل الدين في الأحكام الشرعية عن الحياة العامة، أي خروجاً عن المجتمع وثقافته وعلى الدولة وسلطانها. فهل هذا التصور أو سوء الفهم صحيح أم لا من الناحية الموضوعية لمفهوم الدستور والعلاقة الصحيحة مع الإسلام ؟.

          بداية نقول إننا بهذا الحديث لا نهدف إلى تقديم تأصيل نظري في الفقه السياسي الإسلامي, وإنما طرح بعض الأفكار للمساهمة في إزالة اللبس في مسألة العلاقة بين الدستور و"القرآن والسنة"، وثانياً نتوجه بشكل أساسي للنخب الدينية,  والتي غالباً ما يكون لديها فهم خاطئ عن, التعارض بين الدستور والإسلام "القرآن والسنة", وذلك لنوضح عدم صحة ذلك التصور. وثالثاً سيكون هذا الحديث رداً على النخب الدينية والسياسية، والتي تدرك في تصورها، التعارض ليس صحيحا، وإنما تهدف إلى التدليس على الناس وعامتهم لاستخدام الدين سلاحاً ضد الإصلاح والتقدم ودعاته ، من أجل إبقاء الأوضاع على ما هي، خدمة لمصلحة استمرار نفوذها واستبدادها.

       بداية، لننطلق من الجانب النظري وبالذات فيما ورد في "القرآن والسنة" ونسأل: هل الإسلام مع الظلم أم ضده ؟. هل الإسلام مع العدل أم ضده  وهل الإسلام مع الاستبداد والطغيان أم ضدهما ؟ هل الإسلام مع الحرية أم العبودية  "غير العبودية لله " ؟ هل الإسلام مع المساواة وكرامة الإنسان أم ضدهما؟. لعل أهم قضية أرسل الرسل بها لتبليغها للناس والعمل بها هي، إقامة العدل "القسط" قال الله سبحانه وتعالى: "لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط" (آية 25 من سورة الحديد). ويقول الله سبحانه وتعالى مخاطباً المؤمنين، ومطالبتهم بإقامة العدل: "يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الأقربين: فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا" (آية 135 من سورة النساء).  ويقول الله تعالى مطالباً الناس "المؤمنين" بالعدل حتى مع الخصوم: "يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يحرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون" (آية 8 سورة المائدة).

        القسط بمعنى العدل الوارد في الآيات، ليس المقصود به فقط ما يتعلق بالتقاضي والتخاصم في مسائل الحقوق، وإنما هو إضافة إلى ذلك يشمل إقامة التوازن العادل  في كافة المجالات الاجتماعية والاقتصادية وغيرها من مناحي الحياة الروحية والمدنية، في سياق إقامة حياة مدنية إسلامية . نظام مدني اسلامي ينسجم مع الحاضر المتطور انطلاقاً من قاعدة صلاحية الإسلام لكل زمان متوازنة ومستقرة قابلة للتطور والتقدم.        

         وعن الموقف ضد الظلم أو الفسق أو البطر أو الترف وهي أمور تعني غياب العدل وانتشار المفاسد، يقول الله سبحانه وتعالى، رابطاً بين الظلم والهلاك، فيقول:  " وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعداً" (الآية 59 من سورة الكهف). ويقول الله تعالى في نفس الاتجاه: "وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون" ( الآية 59 من سورة القصص ). وعن الربط بين البطر وإهدار المال العام  وسوء الإدارة وبالتالي تدهور الحياة، يقول الله سبحانه وتعالى: "ضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون" (الآية 112 من سورة النحل). وفي الربط بين الترف والفسق والهلاك يقول الله تعالى :"وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً"(الآية16 من سورة الإسراء).

       والظلم هنا ليس محصوراً فقط بمسألة الكفر وعدم الإيمان، وهو ما  يشمله، وإنما يتجاوز ذلك إلى عدم وجود الحياة الصالحة، وحسن الإدارة، والأعمال الصالحة، بما في ذلك غياب العدل وانتشار المفاسد. لذلك فإن الله سبحانه وتعالى قد أهلك قوم "لوط" ليس لكفرهم وحده، وإنما لفسادهم الأخلاقي، وتجاوزهم في ممارساتهم الحياتية، الحياة الكريمة الصالحة مع العلاقات الزوجية مع النساء، المستقيمة مع الفطرة, إلى العلاقات الجنسية الشاذة مع الرجال. لذلك يقول الله سبحانه وتعالى: "ولوطاً إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين"( آية 28). "إنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر..."(أية 29).  "ولما جاء ت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين" ( الآية 31).  "إنا منزلون على أهل هذه القرية رجساً من السماء بما كانوا يفسقون" (الآية 34 والآيات لسورة العنكبوت).

          وفي الموقف من الطغيان باعتباره مفضياً إلى الفساد والاستعباد، فإن الله أهلك فرعون وقومه لما طغى، فقال الله تعالى مخاطباً موسى أولاً: "اذهب إلى فرعون إنه طغى" (آية 24)، ثم مخاطباً موسى وهارون سوياً "اذهبا إلى فرعون إنه طغى" (43 الآيات من سورة طه).  واستعبد فرعون الناس واستبد بهم، واستخف قومه وأطاعوه، ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى: "ونادى فرعون قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون" (الآية 51 الزخرف). وحيث أن قومه لم ينكروا عليه هذا الزعم وقبلوا بالذل فاستخفهم، فأطاعوه، وفي ذلك يقول الله تعالى: "فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوماً فاسقين" (الآية 54). "فلما اسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم جميعاً" (آية 55 الزخرف). وفي الربط أيضاً بين  الطغيان المفضي للفساد فالعذاب، يقول الله تعالى في الإشارة إلى أقوام عاد وثمود وفرعون، فيقول سبحانه وتعالى: "الذين طغوا في البلاد *  فأكثروا فيها الفساد *  فصب عليهم ربكم سوط عذاب". ( 11-13  الآيات من سورة الفجر).

          وفي التأكيد على المساواة، وإن أصل البشر واحد، مع ملاحظة فكرة التنوع والاختلاف لإقامة العلاقات الاجتماعية، وإن الفروقات بينهم فيما يخص العلاقة مع الله هي في "التقوى" قال الله تعالى: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير" (آية 13 سورة الحجرات). ويقول الله تعالى: "هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها ... "(آيه 189 سورة الأعراف). إضافة إلى ذلك فقد أكد القرآن على الكرامة الإنسانية " بني آدم " ، حيث قال تعالى:"ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً" (آية 270 الإسراء). وهذه المساواة، في الأصل بين الناس، لا تلغي فكرة التفاضل والتراتب في  الحياة والعلاقات الاجتماعية، وفي ذلك يقول الله سبحانه وتعالى: "أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً ورحمة ربك خير مما يجمعون "( 32 الزخرف ) . و"السخريا"  الواردة هنا لا تعني تحول البعض إلى عبيد وسخره وإنما الفكرة ترتبط بالتفاوت بين الناس في قدراتهم وإمكاناتهم وطبائع نفوسهم وبالتالي احتياجاتهم لبعضهم البعض في تقديم الحاجات والخدمات وتلك مما يؤسس لإقامة حياه مدنيه (دوله) وفي السياق نفسه تفاضل الناس بالرزق،  يقول الله سبحانه وتعالى: "والله فضل بعضكم على بعضكم في الرزق...."(71 النحل). والمساواة في الأصل بين البشر، لا تلغي أيضاً التمايز بين الرجال والنساء نتيجة الاختلاف في تكوينهم الفسيولوجي والنفسي ولذلك ترتب عليه اختلاف في بعض الحقوق والواجبات,  كما أشار إلى ذلك القرآن في قضايا الإرث والشهادة والطلاق.

         وفي الحرية، يؤكد القرآن على آفاق واسعة من الاختيار والتصرف،  المربوط بالمسؤولية في الثواب والعقاب الدنيوي والأخروي ، بما في ذلك حرية الإيمان وفي ذلك يقول  الله  سبحانه وتعالى: "ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين" (99 يونس)، ويقول الله سبحانه وتعالى: "لا إكراه في الدين قد تبين  الرشد من الغي...." (256 البقرة)  ويقول سبحانه وتعالى: "وهديناه النجدين"(10 البلد). وكذلك يقول الله سبحانه وتعالى:" لست عليهم بمسيطر"(آية 22 الغاشية). وفي سياق الحرية بما هي ضد الاستعباد، ومع التحرر من العبودية، في غير الله،  فإن الله أرسل موسى عليه السلام إلى فرعون، في جزء من رسالته، بمطالبة فرعون أن يخلي سبيل بني إسرائيل من الإذلال والعبودية والقهر، فقال سبحانه وتعالى: "اذهبا إلى فرعون إنه طغى"  (آية 43 من سورة طه) ... "فأتياه  فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم ... " ( آية 47 طه ) .

         وفي سياق الحرية بما هي التحرر من العبودية والرق فقد تعامل معها القرآن، بالحث على التخلص تدريجياً, باعتبارها كانت ضمن  الواقع الاجتماعي في بداية الرسالة. يقول سبحانه وتعالى: "لا يؤاخذكم الله باللغو في إيمانكم ولا يؤاخذكم بما عقدتم الأيمن فكفارته.... أو تحرير رقبة.... " (آية 89 المائدة)،  ويقول الله تعالى أيضاً: "وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطئا ومن قتل مؤمناً خطئا فتحرير رقبة مؤمنة .... فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة... وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق ... وتحرير رقبة مؤمنة .... ( الآية 92 سورة النساء )

        وفي هذه المعاني للحرية الجسدية والنفسية، كانت مقولة عمر بن الخطاب الشهيرة ، في معرض مساءلة ابن عمرو بن العاص، والذي اشتكاه أحد أقباط مصر إلى الخليفة عمر ، حيث قال " متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً".  وإذا كانت حرية التعبير لم تذكر مباشرة في القرآن الكريم ، إلا إن حرية الاعتقاد والرأي,  آنفة الذكر, وكذلك ما ورد من آيات بالحث على التفكير والتأمل العقلي "أفلا تعقلون"... "أفلا تتفكرون" ...  "وكذلك ما ورد في آية "وأمرهم شورى بينهم"  (آية 38 سورة الشورى)،  تتطلب بيئة لطرح  الآراء وتنوعها والحق في قولها للوصول إلى الرأي المجتمع عليه. وفي حديث رسول الله (ص) كما ورد في صحيح مسلم : "من سكت عن الحق فهو شيطان أخرس"، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم :  "أفضل الجهاد قول كلمة حق أو( عدل) أمام سلطان جائر,"  إشارة واضحة إلى الحق والحض على المجاهرة بالرأي وبالحق، وهو ما يرقى إلى أن تصبح حق وحرية الرأي والتعبير واجب طرحه طالما تتعلق بالحقوق.

        ورغم أن القرآن والسنة اشتمل كل منهما، أيضاً على منظومة من الحقوق والواجبات والقيم في  العلاقات الاجتماعية والاقتصادية، لم نشا التطرق لها، مثل قضايا الزكاة والإرث والموقف من العدوان والعلاقة مع الآخر، ومحاربة الفساد المالي والرشوة والتجسس والعلاقة مع الآخر..."، إلا أن التركيز كان على الأسس والقضايا والمبادئ الكبرى لإقامة حياة مدنية إسلامية، وأهمها التشديد على إقامة  العدل ومحاربة  الظلم والفساد في كافة  المجالات والحقوق المادية والمعنوية وكذلك على التركيز على أصل المساواة المنسجمة على مسألة التفاضل والتمايز  الطبيعي،  وكذلك الحرية في وجه الاستبداد والطغيان بكافة أشكاله ومجالاته وكذلك حرية ومشيئة التصرف بما في ذلك حرية الإيمان وكذلك إبداء الآراء والتشاور حولها.

           ومع ذلك فإن القرآن والسنة في أغلب الأحيان لم يحدد الآليات والهياكل والإجراءات، باستثناء  الشورى، والتي طبقها الرسول صلى الله عليه وسلم، والتزم بها الخلفاء الراشدون والخليفة عمر بن عبد العزيز، لذلك أمكن ضمان العدل إلى حد كبير في أزمانهم، لإقامة الحياة المدنية الإسلامية، لتحقيق تلك المقاصد والمبادئ.  إذا ترك  القرآن والسنة  تلك الآليات، باستثناء الشورى التي لم ترسخ آلياتها بسبب قصر فترة الخلافة الراشدة، والتي تم إقصائها بتجاهلها, أو بتهميشها بالقول بعدم إلزاميتها وذلك من قبل  الحكام والسلاطين والأمراء وفقهائهم، بما في ذلك عدم تحديد آلية وكيفية انتقال السلطة "الخلافة" وكذلك لم يتطرق القرآن ولا السنة إلى الأنظمة والأساليب الإدارية والتنظيمية في قضايا  الاجتماع  والاقتصاد والإدارة والعلاقات فيها . وما دام المبدأ موجوداً, فان ترك وسائله ناتج عن تقصير المسلمين ,على أن هذا الترك وعدم التحديد  ، ليس عيباً بذاته ، بل مقصودا هدفه انسجام الإسلام مع متطلبات وتطورات العصور ذلك أنه مما حسب للإسلام بصلاحيته للزمان والمكان ، وذلك بأن ترك للناس الذين هم أعلم بأمور دنياهم كما جاء في الحديث الشريف تقرير تلك الآليات والهياكل والتنظيمات والأنظمة في كافة المجالات لإقامة حياة مدنية إسلامية حسب مقتضيات ظروفهم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية،  بحيث يصار إلى إيجاد الوسائل والآليات المناسبة والمتوازية مع تطور الأحوال.

      كان لدى الفقهاء وعي بأن للحكومة الشرعية شرطان؛ العدل والشورى وهذا ما تحقق في  فترة الخلافة الراشدة وإلى حد ما  في عهد عمر بن عبد  العزيز، والذي وصف بأنه راشد لأنه "عدل وشاور"، هي الاستثناء في الدولة العربية الإسلامية" الخلافة"  والتي تم فيها إقامة العدل بسبب أنه ربط بآلية الشورى المرتبطة  والنابعة من إرادة المجتمع "المسلمين والأمة" آنذاك خاصة وإن طريقة وآلية تسلم  الخليفة الأول أبو بكر رضي الله عنه كانت مسنودة إلى الآلية المؤسسية الشورية وهي "سقيفة بني ساعدة"، تلك المؤسسة والتي للأسف لم تتطور كمؤسسة انتخابية لانتقال السلطة بحيث تعبر عن إرادة شعبية "مجتمع وأمة".

         مع إقصاء الشورى عن السلطة في قيامها وانتقالها، أصبحت مسألة العدل غير مربوطة بآلية يمكن أن يضمن تحققها في آفاقها. عندما أسست السلطة الوراثية تم إقصاء الشورى فحدث الخلل، الاستبداد على حساب العدل والشورى والحرية. كانت في الدولة الإسلامية، منذ الخلافة الأموية، باستثناء عهد عمر بن عبد العزيز, كما أسلفنا، وهي السبب الأساسي لما شهده التاريخ الإسلامي من توالي ثورات على الاستئثار بالسلطة والثروة والقرار طوال قرون اتسمت بانعدام الاستقرار ونجم عنها تشظي الدولة لدويلات. وحتى وقتنا الحاضر تقريباً، وخاصة في عدد من البلاد العربية ، كانت هناك ثلاثة آليات لإدارة الدولة والعلاقات الاجتماعية بكافة أبعادها.

1) وجود حاكم أو خليفة أو سلطان أو أمير يأمل أن يكون عادلاً ؟ حتى لو كان مستبداً، ومن هنا كان إقصاء الشورى في عملية اختيار وانتقال السلطة وإدارتها.  تم حصر السلطة والسياسة في أشخاص بعينهم، وبالتالي إعطائهم الحق دون غيرهم، ومن هنا كانت شمولية السلطة مشفوعة بفكرة ونظرية طاعة "ولي الأمر". وشمولية سلطاته وعدم الفصل بينهم، بررت عن طريق قياس ذلك على حال الخلفاء الراشدين، باعتبار أنهم يجمعون بين سلطة  القيادة وسلطة القضاء في أحيان متكررة. ومع ذلك فإن كان صحيحاً بالنسبة لعدد من الخلفاء الراشدين، ومن في صفتهم وهم محدودين على أية حال، فإن نقاء وتقوى ونزاهة أولئك الخلفاء، وقربهم من عهد رسول الله ومن بداية الدولة،  وكذلك عدم تعقيداتها في معظم المجالات، فقد مكنهم ذلك الجمع بين السلطات ولكن في نفس الوقت كانوا ملتزمين بآلية الشورى. أما غيرهم، وهو القياس مع الفارق بدرجة كبيرة، فإنهم أولاً لا يتحلون بصفات أولئك الخلفاء ولم يتمسكوا بها،  ثانياً، آلية الشورى لتضمن إقامة العدل والحياة المدنية الإسلامية المتوازنة وحيث أن السياسة بقت فقط "الرئاسة" والإمارة, فإن الأمير أصبح هو كل شئ، وأما بقية الناس فليست سوى رعايا لا شأن لها بالسياسة وخاصة في ظل وتبرير ذلك فقهياً, ثم استخدام مفاهيم في سياق فقه التغلب والضرورة بنيت على أحاديث عن الرسول (صلى الله عليه وسلم)،  لتطور أيضاً فكرة وشمولية الحكام والسلاطين والأمراء إلى آخره.  في ضوء تلك الخلفية من إقصاء الشورى وبعده المجتمعي إرادة " المجتمع  ـ الأمة " والتي كانت نواته المغيبة هي مؤسسة "سقيفة بني ساعدة"، فإن فكرة الصراع والتنافس والتعاون بين الأفراد والجماعات، وكذلك فكرة المساهمة والمشاركة في إدارة الشئون العامة في الدولة الإسلامية، لم تؤخذ على محمل الجد، بل نظر إليها على أنها محاولة لاغتصاب السلطة. من هنا، كانت حالة من عدم الاستقرار في الدول الإسلامية، حيث التصفيات ومحاولة الانتقام والتغلب على السلطة، على حساب آلية, سلمية لإدارة الصراع  والتنافس والتعاون على توزيع الموارد و إقامة العدل, وبالتالي على حساب إرادة وسلطة المجتمع والأمة، والتي لم تتطور ولم تتاح لها فرصة التطور رغم وجود بذور إمكاناتها. إذاً، مع إقصاء آلية الشورى المسئولة أو المناط بها, ضبط العدل ومنع الاستبداد ومع استبعاد مركزها الجماعي في الإدارة (الأمة والمجتمع)  المتمثل في نواة مؤسسة "سقيفة  بني ساعدة" وحصر السلطة بوكلاء الوالي *[4] والذي يجمع السلطات كلها بيده,مبعداً نفسه عن المحاسبة والشمولية الواردة في الحديث الشريف وكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته, وأما الشعب والمجتمع فهم الرعية فما عليهم إلا أن يتبعوا ما يريده الراعي"الولي" . تطور الاستبداد وغياب العدل في ظل ثقافة أساسها لم تكن مدنية، جمعت بين البطش والقسوة. من هنا أصبحت الدولة هي السلطان والخليفة والأمير ... الخ  ولكنها "الدولة- الفـرد".

           وللأسف فأن الكتابات الحديثة في الفقه السياسي لم يتغلغل اجتماعيا ولم يتيح لها التطبيق الفعال وكذلك حتى الفكر السياسي العربي  الحديث، والمهتم بقضايا الدولة، لم يعط فكرة الدولة والمؤسسات المدنية كثير اهتمام،  ولم يتبنها إلا منذ وقت قريب جداً، ولا زال هناك من يفكر بنفس  الطريقة القديمة، في تبرير وجود "الدولة ـ الفرد" وكذلك " الفرد ـ البطل"  "والمحرر"  "العادل ـ المستبد"  وغيرها من مسميات تبجيلية خادعة. من هنا فإن ثقافة الحياة المدنية وآليات الدولة المعاصرة باعتبارها مؤسسات وليست  أفراداً,  أهملت وأغفلت عمداً أو جهلاً بل إن هناك مع الأسف من لا زال يؤصل للاستبداد والطغيان بالتشديد على شمولية سلطة الحاكم في الدولة الإسلامية وعدم الفصل بين  السلطات.

2) الآلية الأخرى والتي كانت ولا زالت مستمرة في كثير من البلدان العربية والإسلامية هي وجود "قاض أو قضاة" يتميزون بالنزاهة والأمانة والصدق وعن طريقهم يتم تطبيق  العدل وخاصة في نقاط التقاضي والتخاصم بين الناس. كان القاضي أو القضاة في السابق وفي فترات  الدولة الإسلامية غير الحديثة، وبتلك المواصفات ولعدم تعقيدات الحياة  يمكن أن يحققوا قدراً مقبولاً من العدل ولكن في ظروف الدولة الحديثة وتكاثر سكانها وتنوع وتضارب مصالحها والاحتياجات، فإن هذه الآليات بالتأكيد لن تكون كافية، وستكون قاصرة عن تحقيق مقاصد الشريعة الإسلامية، وخاصة لن تحقق القدر اليسير من العدل. لذلك بدأ أنه مع تزايد الاستبداد لدى "الدولة ـ الفرد"، فإن استقلال القضاة ـ ليس من  حيث القضاة أنفسهم فقط وإنما بوجود معايير وآليات تمنع تدخل الحاكم "السلطة التنفيذية" وأجهزتها بشئون القضاة كسلطة قضائية وكمؤسسة. وطبقاً لنظرية ولي الأمر، فإن الحاكم. كما هي مطبقة في بعض من البلاد العربية ومنها السعودية على وجه التحديد، يعتبر هو القاضي الأول وما القضاة إلا وكلاء ينوبون عنه، وبالتالي فإن الحاكم ـ الملك يستطيع في العقوبات التعزيرية رفض الأحكام وطلب تغييرها، هذا فضلاً عن عدم وجود مدونة لأحكام وعقوبات التعزير معروفة وواضحة  "محددة وموحدة ومعلنة"  

 3)  آليات الاحتساب على السلطة "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"

           لنبدأ أولاً بأدلة من القرآن والسنة على الاحتساب على السلطة أو السلطات والأمر وبالمعروف أو النهي عن المنكر:

 أولاً : الأدلة من القرآن الكريم:

1) قال تعالى "ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون" (104 سورة آل عمران). ويلاحظ في هذه الآية الكريمة أن الأمر لم يقتصر فقط على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على العموم، وإنما قدم لها بالدعوة  إلى الخير وتلك يمكن الاستدلال فيها على القيام بكل الأعمال الخيرة بما في ذلك مسألة تقديم الاقتراحات والآراء والأفكار الإصلاحية لخير المجتمع وتقدمه .

2) وقال الله تعالى "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ( 110 آل عمران). ويلاحظ في هذه الآية الكريمة إن القيام في الأمر بالمعروف والنهي عن  المنكر حق متاح لأي فرد في المجتمع وليس فقط كوظيفة لفئة محددة كما هي الآية الأولى.

1) قال الله تعالى "والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر" (آية 71 التوبة). 

2) قال تعالى " فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون" (آية 165 سورة الأعراف). وفي الآية الكريمة فإن الذين ينهون عن السوء فهم أولئك الذين ينكرونه وبالتالي نجاهم الله فسلموا، وأما الذين ظلموا منهم ، فهم أولئك الذين فسقوا "إيماناً أو سلوكاً" وأيضاً الذين سكتوا ولم ينهوا عن الظلم والفسق فعذبوا عذاباً شديداً.

ثانياً: الأدلة من السنة على الاحتساب على السلطة "السلطات"   الأمـر بالمعروف والنهي عن المنكر:

1) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال سمعت رسول  الله صلى الله عليه وسلم يقول: من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان"  رواه مسلم .[5]

      ويلاحظ في هذا الحديث أن حق الإنكار واجب على كل فرد وكل حسب طاقته، ولذلك فإنه بالنسبة "لدعاة الإصلاح الدستوري والمجتمع الأهلي المدني" فإن الوسيلة هي الكلمة والآراء والمقترحات والتعبير عنها "باللسان"  لأن ذلك مما يقع في قدرتهم وإمكاناتهم المعرفية والقدرة على التعبير عنها بالرأي كتابة أو خطابة .... الـخ .

2) عن ابن مسعود رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يأمرون، ومن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل" رواه مسلم .[6]

        ويلاحظ في الحديث أعلاه أن الرسول صلى الله عليه وسلم, يجعل من الاحتساب,  بكافه وسائله, بما في ذلك الاحتساب عن طريق الكلمة "اللسان", جهادا ومجاهدة.

 

       والمقصود من وتعرفون وتنكرون، أي تعرفون أفعالهم الموافقة للشريعة وتنكرون بعضها لمخالفتها لها. وأما المقصود بقول "من رضي وتابع أي من رضي بفعلهم وافقهم عليه فهو العاصي. [7]

3) وعن عدم تناهي بني إسرائيل عن المنكر كما وردت في (الآيات 78ـ 81 .. المائدة)،  وإن علمائهم أخذوا يجالسونهم ولا ينكرون عليهم ... قال الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث عن ابن مسعود رضي الله عنه، محذراً المسلمين أن يكونوا مثل أولئك من بني إسرائيل، "كلا"  والله لتأمرون بالمعروف، ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يدي الظالم ولتأطرنه عن الحق أطراً، ولتقصرنه على الحق قصراً أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعنكم كما لعنهم  رواه داوود والترمزي [8] 4) وعن حذيفة رضي الله عنه عن النبي (ص): "والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم" رواه الترمذي  . [9]   

5) عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال، سمعت رسول الله يقول: "إن الناس إذا رأوا  الظالم فلم يأخذوا على يده أوشك أن يعميهم الله بعقاب منه" رواه أبو داوود والترمذي والنسائي [10]  والمقصود بأن يأخذوا على يده، أن يمنعوه من الظلم باليد أو باللسان أو بالقلب. [11] 

          في سياق الاحتساب على السلطة، بما هي أمر بالمعروف ونهي عن المنكر, بما في ذلك القيام بالنصيحة والدعوة إلى الخير متوجهاً في تحقيق ذلك إلى السلطة والمجتمع والشعب (الأمة)، وهو ما قد يشمل إلقاء الخطب والمحاضرات  والندوات في مختلف المنابر العامة وبما يشمل طرح الآراء والرؤى في قضايا الإصلاح وتوعية الناس في أمورهم ومصالحهم ، فهناك حديث الرسول (ص) يقول فيه : "الدين النصيحة قلنا لمن ؟ قال: "لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم". [12]

        وكلمة النصيحة هنا كلمة جامعة ، تعنى بأمور الدين الروحية والمدنية" قولاً وعملاً " وبالنسبة لعامة الناس فالنصيحة تشمل إرشادهم لمصالحهم في دنياهم وآخرتهم، بما في ذلك دفع المضار عنهم، وجلب المنافع لهم، والذب عن أموالهم، وغير ذلك من أحوالهم بالقول والفعل  [13].

        والنصيحة بهذا المعنى الواردة بالحديث ،  تعني أولاً إنها وهي تتوجه ليس فقط للحكام, وإنما لعامة الناس فإنها لا يمكن أن تكون سرية بل علنية، وحق للناس على من لديهم المعروفة والإمكانية في تقديم النصيحة في أمور حياتهم، ومنها بدرجة أساسية الدفاع عن قضايا العدل ومحاربة الظلم والفساد وما ينتهك حرياتهم وحقوقهم المادية والمعنوية، في كافة المجالات، بما في ذلك المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتوعيتهم لها بكل وسيلة سلمية ممكنة.

         تلك الأدلة من القرآن والسنة على الاحتساب على السلطة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ونود أن نشير إلى أن الاحتساب على السلطة من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويركز على الأمر بالمعروف السياسي والنهي عن المنكر السياسي، وأهم أمر بالمعروف السياسي، هو إقامة العدل والأمر به، والدعوة إليه كتابة أو خطابة أو تقديم رؤى، ولتحقيق ذلك، بما في ذلك ما يتعلق بالوسائل والآليات والهياكل والطرق والأساليب السياسية الحديثة لتحقيق ذلك. وأما النهي عن المنكر السياسي فإنه يشمل أيضاً النقد، ومحاربة الفساد والظلم والمظالم والمحسوبية وتبيان ذلك للسلطة وعامة الناس بكل طريقة ووسيلة سلميه ممكنة. ورغم إن الأدلة القرآنية والسنن النبوية الشريفة تقدم تلك الإمكانية للاحتساب على السلطة لصالح الأفراد والجماعة وفي سبيل إقامة حياة إسلامية عادلة شورية، إلا إن الممارسة بهذه الإمكانية كانت أولاً تـتـم فـي:

  أولاً : إما على شكل فردي يحاذر السلطة.

  ثانياً : أو على شكل هيئة ولكنها خاضعة للدولة أو  السلطان، وبالتالي غير مستقلة وعادة تركز    تلك الهيئة على أمور الاحتساب الأخلاقي والآداب والسلوك الإسلامية وهذا أمر هام, كما هو حال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في السعودية، ولكنها  لم تكن تمارس الاحتساب السياسي "الأمر بالمعروف، الأمر بالعدل والنهي عن المنكر، عن الظلم". بل فوق ذلك فإن تاريخ الدولة الإسلامية في قديمها وحديثها، كما هي حالة السعودية وبعض البلدان العربية، لا تسمح بالاحتساب عليها، من قبل الأفراد من أهل العلم والرأي والخبرة والاختصاص في كافة المجالات,  والذين يمتلكون القدرة المعرفية والتحليلية لتقديم الرؤى والمقترحات والإصلاحات، من خلال الهياكل والآليات المحايدة، والتي في حالة تبنيها يمكن أن تساهم في ضمان إقامة العدل ومحاصرة الظلم والفساد وإقامة حياة مدنية إسلامية شورية عادلة. وعادة ما تنظر مثل هذه الدول للاحتساب الفردي عليها بحساسية مفرطة، وغالباً ما تحاول تقييده ومحاصرته واتهام من يقوم به بالتحريض والفتنة، رغم إن أراء بعض الفقهاء تشدد على إن الاحتساب على السلطة في المجال السياسي لا يحتاج إلى إذن وموافقة منها، كما قال في ذلك عديد من الفقهاء كابن تيمية وأبو حامد الغزالي وغيرهم، لأن القيام بالاحتساب حق للفرد والجماعة، بل إنه يتجاوز الحق إلى كونه واجباً لمن لديه قدرة، ولذلك فإن القيام به تجاه الاستبداد والسلطة  الجائرة اعتبر على إنه يوازي الجهاد حيث إن في ممارسته "أثمان ومشقة" يمكن للمحتسب والمصلح أن يدفعها بأي لحظة.

        إذن الاحتساب الفردي غير مسموح به من قبل السلطات والدول، وخاصة في عدد من الدول العربية، وإذا قبلت به فتقبله على مضض وتحاول أن يكون في أضيق الحدود (وغير علني ... سري ... النصيحة والمناصحة سراً)،  وذلك للتحكم وإغفال المجتمع وعامتهم، رغم ما لهم من حق على المحتسبين بالنصح لهم وتوعيتهم كما مر بنا في الحديث السابق.

 وإذا كان الاحتساب على السلطة فردياً وغير مسموح به من تلك  الدول، فإنها في المقابل، سوف تشعر بقلق أكبر من الاحتساب الجماعي "المجتمعي- المؤسسي" على السلطة. ولضمان عدم حدوث الاحتساب المجتمعي المؤسسي عليها، قامت معظم  الدول العربية, أ كانت تقول أنها  تطبيق الشريعة الإسلامية أم لا، ولضمان عدم حدوث الاحتساب المجتمعي  المؤسسي عليها، بشكل كبير ومنهجي وخاصة بعضها، بمنع أي إمكانية لقيام تكوينات المجتمع الأهلي المدني "الجمعيات والاتحادات والنقابات"  المهنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية والسياسية أو بالهيمنة عليها وتحويلها إلى مؤسسات شكليه.  وفي حالة قيامها أو وجودها, فإن تلك الدول والسلطات تعمل على عدم فعاليتها الاحتسابية "الامر والنهي عن المنكر"  وخاصة في المجال السياسي في قضايا الحقوق والحريات والمصالح والعدالة في كافة مجالاتها، وكل حسب مجاله واهتماماته  وتتم عادة عدم الفعاليات لتلك التكوينات الأهلية المجتمعية ، من خلال محاولة تلك الدول السيطرة عليها باختراقها أو  التضييق عليها.

        بموازاة ذلك عملت عديد من الدول العربية، بوعي أو بجهل بتدمير التكوينات الاجتماعية الأهلية التقليدية (الأسر والعشائر والطوائف ... الخ) . نتج عن هذه وتلك نتيجتان متلازمتان:  الأولى، من خلال غياب الرقابة والمحاسبة سواء أكانت مؤسساتياً على مستوى تركيب السلطة نفسها "عدم وجود فصل السلطات والرقابة فيما بينها" أم على مستوى الاحتساب الفردي أو المجتمعي المؤسسي، مدعوماً دعماً واضحاً في استقلال القضاء، أصبحنا أمام دول عربية، ومنها من يقول إنها تطبق الإسلام وإن دستورها القرآن والسنة، وفيها الاستبداد "الانفراد بالسلطة"  والسلطة المطلقة والاستئثار بها هو السائد المهيمن، فاستشراء الظلم والمظالم، بما في ذلك الفساد المالي والإداري وسيطرة نخب من عائلات متحالفة مع السلطة أفرغت قضايا التنمية وتوزيع الموارد لمصلحتها ونفوذها، وانتهكت الحقوق, والحريات تم مصادرتها, فضاعت الكرامة الإنسانية للمواطنين، وقل الاهتمام بالمصلحة العامة، وتناقص الانتماء والولاء، فأصبحنا أمام دول هشة غير قادرة على مسايرة ومواجهة التحديات الداخلية والمخاطر الخارجية مما يجعلها تعرض مجتمعاتها لأشد احتمالات الخطر إلا وهو التفتيت ومشاريع التقسيم ومشاريع إعادة صياغة خرائط وإخضاع المنطقة بما ينطوي على تلك من مخاطر حقيقية.

 ثانياً : كان ولا زال اندلاع الصراع الاجتماعي والحرب الأهلية والعنف، في عدد من الدول العربية، نتيجة متلازمة للاستبداد وغياب المشاركة الشعبية تماما مثلما كان في الدولتين الأموية والعباسية، عن طريق إقصاء آلية الشورى  الملزمة والمنتخبة دورياً وبتفويض من المجتمع (الأمة)، وبالتالي خلل أو غياب العدل في كافة المناحي والمجالات. ولذلك فإن انخراط أعداد متزايدة من الشباب في العنف، كان نتيجة طبيعية ولربما حتمية للاستبداد السياسي، مع غياب المشاركة وآلياتها، وكذلك عدم وجود أطر وتكوينات مؤسسات المجتمع الأهلية والمدنية، لكي يتيح لهؤلاء الشباب الانخراط فيها والإفصاح عن رغباتهم وآرائهم ورؤاهم ومطالبهم وإمكانية إيجاد أطر تقدم لهم التوجه والقيادة والمشاركة والأمل في حياة أفضل.

        ولكي نضمن تحقيق العدل والقضاء على الاستبداد، فإننا بحاجة إلى آليات وهياكل وإجراءات تتضمن عناصر أساسية  من خلالها يمكن أن نصل إلى  انتظار الوسائل المناسبة للتحقيق الأمثل لمقاصد الشريعة الإسلامية والتي لم تعد الوسائل والأدوات السابقة الماضية كافية أو قادرة على تحقيقها وضمان تطبيقها وتلك الوسائل والآليات والهياكل والإجراءات والعناصر التي يمكن أن تحقق لنا العدل وتقضي على الاستبداد وتضمن حقوق  الناس وحرياتهم يوفرها ويتضمنها "الدستور".

 والدستور بهذا المعنى "ليس كفراً ولا إيماناً"، بل هو آليات وهياكل وإجراءات وعناصر محايدة لإقامة حياة مدنية إسلامية ( أو سواها حسب المرجعية)، وهنا المرجعية الإسلامية "القرآن والسنة". وقبل أن ندخل في تفصيل عام  عن هياكل وآليات الدستور، نقول إن الدستور يمكن أن يقاس على تنظيمات وأنظمة وآليات وهياكل،  تستخدمها الدول للمساعدة في تسيير بعض شئون الحياة، ومنها على سبيل المثال وليس الحصر نظام المرور. ونظام  المرور يتكون من عناصر تتعلق بالقيادة للسيارات ، والإشارة الضوئية التلقائية، وكاميرات المراقبة، وأجهزة رصد السرعات  "الرادار" والشبكات الإلكترونية إضافة إلى نظام العقوبات والجزاءات للمخالفات ..... الخ.  وفي السعودية، وقبل أكثر من خمسين عام أو حولها، لم يكن هناك نظام مرور، ولا مسارات ولا طرق معبدة ولا رقابة على السير. ومع الوقت أصبحت الحاجة ملحة لاستخدام تلك المنظومة من عناصر نظام  المرور، وهذه لم تكن أصلاً موجودة في البلاد العربية أو الإسلامية، وإنما تطورت في الغرب، كنتيجة طبيعة لتطور مجتمعاتها وتقنياتها، بما في ذلك السيارات والآليات والنقل والحاجة إلى تنظيمها. فهل نظام المرور "حرام أم حلال"؟ وهل نظام المرور "إيمان أو كفر"؟ وإذ لم يرد في القرآن والسنة فهل يعني إن أي نظام أو تنظيم  حياتي يأتي من تجارب الآخرين والحضارة الإنسانية، يعتبر مخالفاً للقرآن والسنة  والدستور؟. 

         والدستور في جوهره آليات وهياكل وإجراءات وعناصر، تضمن العدل، وتقضي على  أو تحد من الاستبداد، وصولاً إلى إن الدستور ما هو في  النهاية إلا "السلطة  المقيدة"  "الحكومة المقيدة" (أ والملتزمة) بذلك، من خلال الممارسة وتطبيق تلك الآليات والهياكل، مسنوداَ ذلك بدعم شعبي يصوت عليه، بحيث يكون المجتمع ـ الشعب "الأمة وإرادتها" الأمر باعتبار السلطة للأمة في تحقيق مقاصد الشريعة, فهي أي الأمة المخولة بتقرير مصالحها واتخاذ الوسائل المناسبة لتحقيق مقاصد الشريعة والتي تتجلى من خلال الانتخابات العامة الدورية النزيهة للمواطنين مع ضمان حرية التصويت. والدستور من حيث هو آليات وهياكل وعناصر يتكون ببساطة من العناصر والهياكل الآتية:

إقرار الدولة بالحقوق والحريات الأساسية.

فصل السلطات وآليات الرقابة والمحاسبة.  أ – السلطة التنفيذية  ب- السلطة النيابية ( الشورى المنتخبة الملزمة) .ج- السلطة القضائية.

3) ضمان وتعزيز استقلال القضاء "تعزيز استقلال القضاء(السلطة القضائية عن طريق وجود معايير معترف بها دولياً تقبلها الدولة وتأخذ بها).

4) السماح بتكوينات المجتمع الأهلي المدني من جمعيات واتحادات ونقابات بالتشكل والعمل والمحافظة على مصالح المنتمين لها والقيام بحماية الحقوق والحريات والرقابة في الشئون العامة والاحتساب على السلطات وعلى التكوينات الاجتماعية الأخرى.

           وبدون الدخول في  التفاصيل [14]، فإن المهم في تلك  الآليات والهياكل هو أن نصل بالفعل إلى "السلطة المقيدة" وذلك عن طريق:

آلية فصل السلطات وآلية الرقابة والمحاسبة أو يمكن تسميتها في الإسلام "التراقب والتحاسب المؤسساتي في الإسلام للسلطات على بعضها البعض وفيما بينها".  إن كل سلطة من تلك  السلطات الثلاث لها اختصاصها وصلاحياتها في أداء وظائفها ومهامها: "السلطة التنفيذية" أو الحكومة، تختص أساساً بالتنفيذ ورسم السياسات العامة وتصريف أمور إدارة الشئون العامة والخارجة عن طريق الأجهزة الحكومية - الوزارات وفروعها، وما تسمى "الإدارة العامة" أو البيروقراطية؛ السلطة النيابية المنتخبة شعبياً ودورياً يتولد لها من تلك الانتخابات التفويض الشعبي ومشروعية ممارسة سلطتها نيابة عن المجتمع ـ الشعب أو الأمة, ومهمة هذه السلطة النيابية هو إصدار القوانين والقرارات وسنها طبقاً لأحكام الدستور ومرجعيته في مصادر الأحكام؛ والسلطة القضائية تقوم بتطبيق الأحكام المنصوص عليها دستورياً والمؤسسة على مرجعيات محددة في مصادر الأحكام، وكذلك بالبث بمشروعية وشرعية القرارات الصادرة من السلطات الأخرى، وذلك عن طريق وجود محكمة دستورية عليا  (شرعية)، بالفصل في المنازعات بين الأفراد والأطراف بما يحفظ ويصون الحقوق  وعلى قدم المساواة.

               إضافة إلى ذلك،  وهذا هو المهم أيضاً، فإن تلك السلطات ورغم أنها تقوم في أداة وظائف واختصاصات كل في مجالها، إلا أن كل منها،  مناط بها، طبقاُ للدستور، القيام بمراقبة عمل السلطات الأخرى  وإمكانية التدخل للحد من تجاوز الصلاحيات والمخولة دستورياً وعدم إساءة استخدام السلطة وهذه هي آلية ووظيفة يمكن تسميتها بالتراقب والتحاسب.  فالسلطة النيابية "ممثلة للشعب والمجتمع" تراقب أعمال وسياسات الحكومة وتحتاج الحكومة والسلطة التنفيذية إلى إقرار وموافقة السلطة النيابية على كثير من أعمالها؛ فالميزانية العامة للدولة وصرفها تحتاج إلى موافقة من السلطة النيابية ، وكذلك تعيين الوزراء ومسائلتهم عن أعمالهم وأيضاً المصادقة أو رفض توقيع الاتفاقات الدولية وخاصة الأمنية والعسكرية... الخ. والسلطة القضائية عن طريق المحكمة الدستورية العليا الشرعية تراقب أعمال وقرارات كل من السلطات التنفيذية والنيابية، فإذا وجدت أن تلك القرارات تتعارض مع الدستور وأحكامه، بما في ذلك عدم انتهاك حقوق وحريات المواطنين الأساسية فإنها تصدر أحكاماً ملزمة تجاه السلطة  المخالفة، بإلغاء تلك القرارات أو القرار. إضافة إلى ذلك، تكون مؤسسات المجتمع الأهلي المدني وتكويناته المختلفة، والتي يضمن الدستور قيامها وعملها واستقلاليتها، بالرقابة المؤسسية المجتمعية على السلطات، وهو ما يمثل  "آلية الاحتساب على السلطة"  إسلامياً ولكن بطريقة مؤسسية وليست فردية وبكافة المجالات ذات الصلة بالعدل والحقوق والحريات والمصالح الخاصة والعامة وضد الفساد والمظالم ... الخ، وكذلك تقوم مؤسسات المجتمع الأهلي المدني بالاحتساب على بعضها البعض للحفاظ على الحقوق  والمصالح والتوازن في سياق المصلحة العامة .

         هناك عدة نقاط تحتاج إلى توضيح فيما يتعلق بتلك  الآليات الدستورية وعدم تناقضها مع القرآن والسنة. الأولى تتعلق بمسألة الحقوق والحريات العامة للمواطنين "حقوق الإنسان" وكذلك بمصادر الأحكام ذات الصلة بالدستور أو بالحقوق أو بعمل السلطة النيابية. فنقول أن المرجعية ذات الأولوية في كل ذلك هي الأحكام القطعية الواردة في القرآن والسنة فيما يتعلق بالحقوق والحريات، ومصادر أحكام الدستور لعمل السلطات. إضافة إلى ذلك فإن الحقوق والحريات الأساسية التي تقرها السلطة النيابية المتصلة بالمواثيق الدولية المنسجمة مع الإسلام وغير المتعارضة تعتبر جزءاً من تلك المنظومة الحقوقية.  الثانية:  تتعلق بآلية فصل السلطات وخاصة فيما يتعلق بالسلطة النيابية فهذه في بعدها الإسلامي والقرآني وسنة النبي وسيرة الخلفاء الراشدين هي  "الشورى  الملزمة"  والمنتخبة شعبياً ودورياً في المجتمع.  وأما من المؤهل لذلك التمثيل "تمثيل  الناس والمجتمع"   "في تلك السلطة ـ الشورى الملزمة "  فهم من يطلق عليهم أهل الحل والعقد من أهل الرأي والخبرة والعلم والاختصاص في كافة المجالات الحياتية بما في ذلك أهل الاختصاص في الشريعة الإسلامية،  وأولئك وهؤلاء جميعاً هم من يطلق عليهم القرآن "أولي الأمر" والذي تنطبق عليهم الآية الكريمة  التالية  قال الله تعالى  : "وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به، ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم، ولو لا فضل  الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً"  (الآية 83 من سورة النساء). "أولوا  الأمر" في الآية  السابقة هم، كما قال بذلك، النووي في شرح صحيح ومسلم، أهل العلم والمعروفة والرأي . [15]  ، ويقول بذلك أيضاً الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، حيث يقول "أولي الأمر" المقصود بهم، أهل الرأي والعلم والنصح والرزانة الذين يعرفون الأمور. [16]

            والثالثة تتعلق بمؤسسات المجتمع الأهلي المدني وهذه تمثل الجمعيات والاتحادات والنقابات في المجالات المهنية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية ... الخ . والمهم هنا إن هذه الآلية تسمح للمجتمع والجماعات والأفراد المنتمين لها بالاحتساب على السلطات بطريقة  "مؤسسية سلمية ومشروعة"، وفي سياق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في الشئون العامة، وما يتصل بالعدل باعتباره من أهم وأولويات الأمر بالمعروف، والنهي عن النظم والفساد باعتباره من أهم أولويات الإنكار السياسي.  إذن تصبح هذه الآلية بالاحتساب على السلطة،  هي الآلية المؤسسية "المجتمعية" للأفراد والجماعات المنخرطين بها، للقيام بالاحتساب على السلطة، وفيما بين تلك المؤسسات الأهلية المدنية، وبطريقة سلمية دستورية مشروعة ، وبما يحقق أيضاً آليات وأطر اجتماعية بانخراط المواطنين من أبناء المجتمع بما في ذلك الشباب منهم في تلك التكوينات، مما يساهم في الحد من العنف واتجاهاته،  مع تكامل ذلك مع الحد من الاستبداد، عن طريق آلية فصل السلطات ودخول المواطن العملية السياسية، وأن يكون جزءاً أساسياً منها وبحق وضمان دستور مصوت عليه شعبياً يؤكد على "إرادة الأمة والمجتمع في تحقيق مصالحه المشروعة في الشريعة" باعتبارها منبـع الولاية و مناط الحكم ومرجعيته، ويشكل أساساً المشاركة الشعبية بآلية الشورى الملزمة (السلطة النيابية المنتخبة).

             فإذا كان  الدستور  بهذه الآليات يصل بنا إلى ضمان تحقيق العدالة في آلية الشورى الملزمة، ضمن آليات فصل السلطات والقيام بالرقابة والمحاسبة والتراقب والمحاسبة بين السلطات وعلى بعضها البعض، وضمن آلية استقلال القضاء، وكذلك آلية المجتمع المدني في الاحتساب على السلطات من خلال الأمر بالمعروف والنهي المنكر، ويحد عن طريقها من الاستبداد ويصون الحقوق والحريات العامة، والكرامة الإنسانية، إسناداً إلى مرجعية إسلامية بالأحكام، حيث أن " أحكام الشريعة الإسلامية" تمثل المصادر الأولى وذات الأولوية في التطبيق كلما كان هناك نصوصاً قطعية عليها,  فهل الدستور بديل " القرآن والسنة " أم هو التطبيق الأمثل للشريعة الإسلامية وتحقيق مقاصدها؟ في تحقيق وضمان العدل ومنع الاستبداد، وإقامة حياة مدنية إسلامية عادلة، تؤسس لخير المواطن والمواطنين من أبناء المجتمع والأمة، بما يعمل على  نموهم وتقدمهم، وإمكانية  أن يتنافسوا فعلياً مع الأمم الأخرى في المساهمة في الحضارة الإنسانية، ولربما تقديم نموذج للتقدم والحياة وفي سياق روحي ومدني متوازن.  وباختصار نقول إنه لا عدل من دون شورى، ولا شورى من دون إلزام، ولا إلزام من دون محاسبة ومراقبة واحتساب، ولا محاسبة أو مراقبة أو احتساب من دون دستور.

          الدول والمجتمعات الحديثة أصبحت معقدة في شئونها العامة والخاصة وفي كافة مجالاتها الاقتصادية والاجتماعية والسكانية والثقافية والقيم والمعتقدات السياسية... الخ ،  بحيث تطلب إدارتها على نحو فعال لتحقيق العدل والحياة الصالحة ومقاومة الظلم والفساد وتجلياتها إمكانات وآليات جديدة. والدستور هو الآليات والهياكل الحديثة التي تقدم هذه الإمكانيات.  والوسائل القديمة لتحقيق مقاصد الشريعة الإسلامية ، لم تعد في ضوء مثل هذه التعقيدات كافية أو قادرة على أن تحقق تلك المقاصد . من هنا فإن الحاجة ماسة إلى الاستفادة من الهياكل والآليات الدستورية التي تحقق ما عجزت عنه تلك الوسائل والآليات القديمة.  والدستور بمرجعية إسلامية أساسية وتطبيق آلياته يعيد الآلية "الشورى الملزمة"، السلطة النيابية، فاعليتها وروحها في سياق الدستور الإسلامي. وإذا كان الدستور يحقق العدل (القسط) الذي أمر الله الناس ليقوموا به, فأنه يعتبر من الدين, ذلك أن ابن القيم الجوزية في تفسيره للآية (25 من سورة الحديد). يقول "...فأي طريق أستخرج بها العدل والقسط فهي من الدين ليست مخالفه له, فلا يقال إن السياسة العادلة مخالفه لما نطق به الشرع بل موافقة لما جاء به , بل هي جزء من أجزائه " [17]

             وكما أشرنا سابقا إلى مثال نظام المرور وأهميته في تسيير المسألة المرورية، وما يتعلق بها وأخذه من قبل تجارب وحضارة الآخرين، فإن تجربة الدولة الإسلامية الأولى في أيام الخلافة الراشدة أيضاً قد مرت بتجربة مشابهة،  من حيث استيرادها لمفاهيم وآليات "الدواوين" أو ما يمكن تسميته "بنظام الإدارة"،  ولم يكن ذلك يمثل تعارضاً مع القرآن والسنة، رغم إنه نظام استخدم من حضارة أخرى  وتلك الحضارة كانت كافرة. إن حسن الإدارة والنظم والآليات في حياة مدنية متطورة قد تجعل أمماً كافرة أكثر عدلاً من أمم ودول مسلمة، وكذلك أقدر على مقومات القوة والانتصار وهذا ما نراه هذه الأيام من قبل تلك الدول والأمم، وليس غريباً أن ينصر الله الفئة الكافرة على الفئة المؤمنة نتيجة امتلاك أسباب القوة والإدارة والتعامل مع معطياتها 

       انطلاقاً من ذلك التصور للعلاقة السليمة بين الدستور والإسلام " القرآن والسنة " ثم صياغة خطاب " نداء إلى القيادة والشعب معاً : الإصلاح الدستور أولاً " ،  والذي قدم إلى القيادة السعودية بعد منتصف الشهر الأخير من العام 2003 م ، وذلك على بناء صيغة إسلامية وعلى مرجعية إسلامية  ولذلك فقد كان من بين الموقعين عليه ، والذين بلغوا إجمالا مائة وستة عشر شخصاً من أبرز النخب المعرفية والثقافية والشرعية والمهنية السعودية ـ أكثر من خمسة وعشرين من أساتذة عقيدة وتربية إسلامية وقضاة ودعاة ومنهم رموز وفعاليات إسلامية معروفة.

     وتمشياً مع مشروعية الاحتساب على السلطة، في سياق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المجال السياسي، فإن دعاة الإصلاح الدستوري السلمي والمجتمع الأهلي المدني قدموا وطرحوا تلك الرؤى الإصلاحية الدستورية للقيادة والشعب انطلاقاً من أنها تمثل دعوة للخير والإصلاح لإقامة حياة مدنية إسلامية شورية عادلة، وعملاً بقول الرسول (صلى الله عليه وسلم) :"الدين  النصيحة  قلنا لمن ؟ قال: "لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم. وهذه دعوة إصلاحية دستورية سلمية وأما تطبيقها وتنفيذها فيعود إلى الفعاليات الاجتماعية وإلى تفهم وإدراك القيادة لاغتنام الفرصة واعتبارها  من ضرورات الانتقال إلى حياة مدنية إسلامية شوروية عادلة، تنفي مع قيامها مسببات العنف والاحتقانات واحتمالات الصراع الاجتماعي المفتوح ومشاريع التفتيت والتقسيم أو الإعاقة أو التبعية والاستعباد للبلد والمجتمع والمنطقة عموماً .

 

 

 

 


الإصلاح الدستوري أولا: في السعودية

القضايا والأسئلة الأساسية

الدستور المكونات الجوهـر والــروح

 

       في البلاد العربية تثار قضية أن لديها دستور أو أن دستورها هو القرآن والسنة, كما في السعودية تحديدا, وان نظامها الأساسي يقوم ويؤسس على ذلك، بل أن الدولة في قيامها ومشروعها أسست على ذلك. وبالتالي فإن هناك في السلطة أو خارجها من يثير فكرة أن طرح الإصلاح السياسي وخاصة الإصلاح الدستوري بالتركيز على فكرة "الدستور" لا يأتي بجديد, أو أنه لا حاجة إليه باعتبار أن الإسلام والشريعة الإسلامية ( القرآن و السنة ) هي دستور الدولة والمجتمع. فهل هذه المقولة قناعة أم تشكيكا لغاية ضرب مشروع الإصلاح الدستوري هي مقولة يعتد بها أم لا ؟ وإذا كانت هناك دساتير في بعض الدول العربية لماذا ليست لها الروح الفاعلة ؟

       بداية وقبل الإجابة على هذه التساؤلات لا بد من تحديد المقصود بالدستور. ذلك أن هذه الكلمة غير مفهومة ليس فقط لدى عامة الناس, بل حتى من النخب الثقافية والفكرية والدينية, بل وحتى السياسية. ورغم أن هذه الكلمة ربما تسمعها تلك الفئات وترددها خاصة خلال العقد الأخير المنصرم وبالذات خلال السنوات الأخيرة الماضية. إلا أن الكثير منهم بمن فيهم بعض النخب المثقفة  لا تعي المعاني والدلالات الأساسية السياسية والحقوقية لها . من هنا فان الحاجة ماسة إلى إعطاء تصور محدد عن ما هو المقصود "بالدستور" حيث ورد في الرؤى الإصلاحية وخاصة في وثيقة "الرؤية" لحاضر الوطن ومستقبله" وبشكل أكثر تحديدا، في وثيقة "الإصلاح الدستوري أولا" والذي قدمت إلى القيادة السعودية في منتصف الشهر الأخير من العام 2003م وانتشرت على نطاق واسع حيث وقعها أكثر من #116 شخصية من أبناء الوطن من مثقفين وعلماء وأساتذة جامعات وقضاة ورجال أعمال ومهتمين بالشأن العام ونشطاء في مجال الدعوة إلى المجتمع الأهلي المدني (1). الوثيقة آنفة الذكر, تطالب بإصلاح سياسي اقتصادي واجتماعي وثقافي شامل في السعودية يقوم على المطالبة بالدستور, وإعلان الملكية الدستورية ,في سياق مبادرة إصلاحية من منظومة متكاملة من العناصر الإصلاحية الدستورية، على أن يصوت على ذلك الدستور وعناصره , والذي يفترض أن يصاغ بعناصره وبنوده من خلال هيئة وطنية مستقلة من بين أهل الخبرة والاختصاص في كافة العلوم وخاصة الفقه الدستوري والشريعة.

     ما هو الدستور؟ وما هي عناصره الأساسية؟ ولماذا الدستور وأهميته في الإصلاح الشامل والسياسي خاصة في السعودية ؟ وما هي روح الدستور؟

        هناك فهم سائد قديم في الفقه الدستوري بأن الدستور هو مجموعه أحكام وقواعد تحدد نظام الحكم (وشكله وطريقة انتقال السلطة) والسلطات واختصاصاتها وعلاقاتها ببعض والوظائف الاقتصادية والمدنية والاجتماعية والثقافية التي تقوم بها الدولة، وكذلك حقوق وواجبات المواطن. ورغم أن هذا جزء من فهم الدستور إلا أن هذا الفهم لا يبين جوهر وروح الدستور والفهم السليم له، وهذا ما سوف نوضحه تاليا.                                                     

     إذا كنت في جزيرة ما، وأنت سلطانها الآمر الناهي المتحكم بكل شيء على سكانها, فإن هؤلاء السكان يعتبرون رعايا وأقرب إلى العبيد. ذلك أن سلطة مطلقة لا يحدها حد, ولا يقيدها قيد، وبالتالي فإن العدل والعدالة تصبح مفقودة وكذلك الحرية والحقوق بالنسبة إلى سكان تلك الجزيرة. وحيث السلطة المطلقة هي مفسدة مطلقة، فلا بد من وضع قيد عليها يمكن الناس من حقوقهم وحرياتهم, وكذلك من آفاق مجتمع العدل والمواطنة والعدالة الاجتماعية(توزيع الثروة). من هنا فإن الدستور, بهذا المعنى, يعني أن السلطة (في أي بلد كان ) هي " سلطة مقيدة". مما يفترض أن الرئيس أو الأمير أو الملك، وهو رئيس السلطة التنفيذية أو رئيس الدولة بشكل أساسي، يجب أن تقيد سلطاته لكي تمنع مسألة الاستبداد "(الانفراد) بالسلطات واحتكارها " وبالتالي الحد من القمع ضد المواطنين وحقوقهم وحرياتهم وكذلك ضمان "العدالة والعدل".

       إذن الدستور هو في المعاني السياسية والحقوقية السلطة  أو "الحكومة المقيدة". وكل    حكومة ملتزمة بذلك بالممارسة وليس بالنصوص تكون حكومة دستورية. لكن كيف يتم ضمان أن تكون السلطة مقيدة ؟ ضمان ذلك يتم أولاً عن طريق آلية فصل السلطات والمراقبة : السلطات في أي دولة تتكون بشكل أساسي من ثلاث سلطات لكل منها مجالها واختصاصها: السلطة التنفيذية، السلطة النيابية "التشريعية" والسلطة القضائية. وبالتالي فإن السلطة المطلقة تقيد عن طريق آلية فصل السلطات، وذلك بأن لا يكون الرئيس أو الأمير أو الملك جامع بين السلطات الثلاث, وإنما يقتصر سلطانه على "السلطة التنفيذية", فيما السلطة النيابية "التشريعية"   يقوم بها نواب أو ممثلون منتخبون انتخابا مباشرا من الشعب, بحيث أن عملية الانتخاب والتمثيل تقدم التفويض والشرعية للسلطة النيابية "التشريعية" للقيام  بمهام اتخاذ القرارات وإصدار القوانين في كافة المجالات. ذلك وفقا لمصادر وأحكام الدستور, والذي في الإسلام يشكل القرآن والسنة المصادر الأساسية له, و التي لها الأولوية في الاعتماد والاستناد إليها في سن القوانين والتشريعات والتنظيمات، وذلك بالانسجام مع تلك الأحكام القطعية الواردة في القرآن والسنة. إضافة إلى سلطة نيابية (مجلس شورى) منتخب انتخابا شعبيا على فترات دورية كل أربع سنوات إلى خمس. مثلا هناك أيضا انتخابات مباشرة  ودورية لمجلس الحكم المحلي والبلدية على مستوى المناطق والولايات الإدارية. في موازاة ذلك تكون السلطة القضائية (المحاكم ) ذات استقلالية عن تدخلات السلطة التنفيذية أو النيابية، وتحتاج تلك الاستقلالية لكي يشار إليها بالبنان إلى توفر معايير استقلال القضاء(2),  وان يكون ذلك منصوصا عليه في الدستور وكذلك مطبقا فعليا بالممارسة.

      استقلال القضاء المقصود به هنا ليس نزاهة واستقلال القضاة أنفسهم، ذلك أن هذا وإن كان أمرا مطلوباً ومحموداً, فإن المقصود باستقلال القضاء وتعزيزه هو استقلال مؤسساتي (القضاء كمؤسسة وليس كقضاة). مع ذلك فان استقلال القضاء لا يعني عدم إمكانية محاسبة القضاة في حالة التعسف أو ارتكاب أخطاء، بل أنه لابد من وجود آلية للمحاسبة عن طريق محاكم قضائية خاصة مثلا بإشراف من المحكمة العليا الدستورية الشرعية.

     إن آلية فصل السلطات تلك تتضمن إمكانية وآلية موازية لها وهي الرقابة والمحاسبة من فصل السلطات تجاه بعضها البعض. فالمحكمة العليا الدستورية الشرعية وهي جزء من السلطة القضائية يمكنها أن تلغي قرارات وقوانين وتشريعات "السلطة النيابية " "التشريعية ", إذا وجدت بنفسها أو جهة ما رفعت إليها, بان تلك القوانين والقرارات مخالفة لأحكام الدستور أو أحكام مصادره الأساسية, مثلا إذا تعارضت مع أحكام الشريعة الإسلامية (القرآن والسنة).

      أيضا في التوازي, تستطيع السلطة النيابية (التشريعية ) أن تخضع السلطة التنفيذية أو أحد مسؤوليها "الوزراء مثلا" للمحاسبة,  وكذلك مراجعة ميزانية الدولة والمال العام والمصادقة عليها، وعلى التعيينات. كذلك بالموافقة أوعدم الموافقة مثلا على الاتفاقيات الدولية, وخاصة منها الأمنية والعسكرية والاقتصادية  الثقافية .....الخ , وأيضا الموافقة على تشكيل الحكومة أو حجب الثقة عنها، كما هي في بعض نماذج الحكومات أو الدول. في المقابل تستطيع السلطة التنفيذية ورئيسها تحديدا كملكا أو رئيسا أو أميرا من تقديم مشروعات وقوانين لربما تقرها السلطة النيابية عن طريق مناصريها, أو حق الاعتراض على قوانين تصدرها السلطة النيابية في غضون فترة محددة. كذلك إصدار بعض القوانين والقرارات المفروضة من قبل السلطة التنفيذية في فترات محدودة (الإجازات للضرورات), مع طلب تصديقها لاحقا, وكذلك في بعض الدول الدستورية, تستطيع السلطة التنفيذية أو رئيسها حل السلطة النيابية والدعوة إلى انتخابات جديدة تعاد فيها تشكيل السلطة النيابية لربما وفق توجهات السلطة التنفيذ يه.

  ما الذي تعنيه أو  تحققه آلية فصل السلطات المنبثقة عن الدستور ؟

إنها  تحقق الآتي:

(1) محاصرة الاستبداد وتقييده والوصول إلي السلطة المقيدة, وبالتالي إزالة القمع والقهر أو الحد منهم إلى اكبر درجة ممكنة , عن طريق السلطة النيابية (الشورى المنتخبة والملزمة) شعبيا ودوريا (فترات محدده ), وكذلك انتخابات مباشرة ودوريه لمجالس الحكم المحلي والبلديات لتصبح المشاركة الشعبية أمرا واقعا ويصبح المواطن جزء من العملية السياسية ومساهما فاعلا في اتخاذ القرارات, على مستوى هياكل السلطة المركزية (السلطة النيابية ) أو(مجلس الشورى المنتخب الملزم), أو على مستوى السلطات المحلية مجالس الحكم المحلي والبلديات,  وهنا يجمع بين حرية وحق المشاركة وتحمل المسؤولية على مثل القرارات والسياسات المتخذة, وهو ما يعني ويساهم في نفس الوقت  بإلغاء أو تقليص الاستبداد ، ويقيد السلطة المطلقة , وفي مقابل ذلك يتم تحقيق الحقوق والحريات ويزداد هامشها.

      إضافة إلى ذلك فان المشاركة الشعبية المباشرة تلك,  سواء بالانتخابات,  أو بالتصويت, أو بالدخول للمجلس, بما يعنيه من تفويض شعبي للسلطة النيابية (الشورى المنتخبة الملزمة) وباعتبار أن الشعب مصدر السلطات، فان مسألة وقضيه العدل والعدالة الاجتماعية من توزيع الثروة والمال والفرص المتكافئة والمساواة القانونية والمواطنة, والتنمية بما يحقق تقدم كرامة الإنسان والمواطن,  في كافه المجالات دون تمييز في كافه المناطق ,تصبح هي النتيجة المطلوبة الثانية (العدالة) بعد أو مع الحرية.

      إضافة إلى ذلك، فان استقلال القضاء وتأكيده, عن طريق تلك الآلية الدستورية سيضمن حقوق المواطن , سواء فيما بينهم أو اتجاه الدولة, وكذلك ضمان مسألة المساواة والعدالة  بين المواطنين في التقاضي والترافع وتطبيق الأحكام.

     إضافة إلى تحقيق العدالة والحرية, من خلال آلية فصل السلطات والمراقبة, وبالتالي الوصول إلى فكرة "السلطة المقيدة", والتي تعبر عن المعاني الأساسية والكبرى للمفهوم الحديث للدستور, فان عناصر ومحاور أي (دستور ) لابد أن يتضمن أساسا الإقرار بالحقوق والحريات الأساسية والعامة (حقوق الإنسان ) للمواطن, باعتبارها منظومة متكاملة من الحقوق والحريات اللصيقة بالمكونات والفطرة الإنسانية وأيضا في أساس العلاقات الاجتماعية. تلك الحقوق والحريات الأساسية العامة أبرزها الإسلام في القرآن والسنة وكذلك في الممارسات الإسلامية, مثل "الحرية" وخاصة بعض رموزها وخلفائها, كمقولة لعمر بن الخطاب "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا". تلك الفكرة التي للأسف لم تتبلور إلا مع الطرح الفلسفي الأوروبي وخاصة مع مقولات ( العقد الاجتماعي ) للمفكر الفرنسي جان جاك رسو, كذلك فان المواثيق الدولية كالإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة  1948وكذلك العهدين الدوليين الخاصين بالحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ...الخ  , قد أقرتها اغلب الدول بما فيها الدول العربية ومنها السعودية، رغم بعض التحفظات على ما ورد فيها..

     من أهم الحقوق والحريات إضافة إلى الحقوق الأساسية في العيش والتملك والعمل، فان هناك حقوق سياسية ومدنية, من أهمها حرية الرأي والتعبير والمشاركة في إدارة الشؤون العامة وحق إنشاء الجمعيات و النقابات والاتحادات والانضمام لها. كذلك الحق في حرية الاشتراك في الاجتماعات والجمعيات السلمية (3).

     تلك الحقوق والحريات, وخاصة الأساسية منها, هي إحدى مكونات وهيكل الدستور,  والذي لابد أن تقره الدول نظريا وممارسة, وبموافقة شعبية عليه، لكي يكون ضمن العناصر والآليات والضمانات, لكي يمكن للآلية الفصل بين السلطات والمراقبة أن تصل بقصبتي العدالة والحرية إلى آفاقها والقياس عليها, خاصة فيما يتعلق بمسألة قيام القضاء بمهامه ومن خلال استقلاله (ومعايير استقلال القضاء كما في السعودية مثلا), ولتطبيق الأحكام ذات الصلة بالحقوق والحريات وضمانها قضائيا. وبالتالي الوصول إلى فكرة الدستور باعتبارها "السلطة المقيدة " فعلا لا قولا.

       في هذا السياق وبالمقارنة، فان كثير من الدول العربية تقر في دساتيرها أوفي نظامها الأساسي للحكم, السعودية مثلا, عدد من الحقوق والحريات، ولكن تلك الحقوق والحريات أولا, تعتبر قاصرة من حيث عدم اشتمالها لحقوق وحريات أساسية خاصة في المجال السياسي والمدني. وثانيا، فان الممارسة في الحياة العملية لا تسندها ولا تشير إلى التزامها بتلك الحقوق والحريات, فضلا عن عدم اكتمالها أصلا. والسبب يعود إلى أن تلك الدول تفتقر إلى الآلية الدستورية الحقيقية وللفصل والمراقبة بين السلطات وبالتالي الحد من السلطة. ذلك لأنها أصلا صادرة بدون تفويض شعبي وبدون وجود آليات للرقابة الشعبية ( إرادة الشعب باعتبارها المرجعية للسلطات، وليس الفرد أو الحزب أو العائلة سواء كان ملكا أو رئيسا أو أميرا).

      من هنا فان هذه الدول, التي تزعم بأنها تحافظ على الحقوق والحريات وتصونها في أنظمة كلها أو دساتيرها شكلية, إنما هي لا تخادع فقط شعوبها وإنما تخادع العالم. إذ أن الشعب والعالم يعرف أن حقوقه مهدورة وحقوقه مصادرة, والممارسة خير برهان في الإعتقالات والممارسات القمعية ضد الحقوق في التعبير أو الاجتماع أو حتى السفر. وهي ابسط الحقوق المصادرة. أوليست مثل هذه الممارسات القمعية الصارخة ضد دعاة الإصلاح والمشاريع الإصلاحية داخليا وخارجيا وفي تناقض مفضوح مع أطروحات الإصلاحات العربية الرسمية، سواء على مستوى الدول أو جامعة الدول العربية، دليلا صارخا على الاستبداد والقمع وبالتالي عدم الدستورية ؟

        ضمن عناصر ومكونات الدستور، لكي يكون الدستور هو الترجمة الفعلية "للسلطة المقيدة", فانه وفي سياق إقرار الحقوق والحريات الأساسية والعامة (السياسية والاقتصادية) .....الخ ,  فان على الدولة (أية دولة)، لكي يمكن وصفها بأنها دولة دستورية، أن تقبل وتضمن قيام وضمان عمل تكوينات المجتمع الأهلي المدني.

       مفهوم المجتمع الأهلي المدني هو ببساطة شديدة يتكون من :

     (1) تكوينات وهياكل مدنية وأهلية (عامة وخاصة)،

(2)منظومة من القيم (التسامح والحوار- التعدد، نبذ العنف) في التعامل والعلاقات والتنافس السلمي،

(3)ارتباطه بالبيئة والهيكل الدستوري،   

(4)الوظائف والأغراض والأدوار.

 التكوينات والهياكل هي كل الأنواع من الأطر (الجمعيات) الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والمهنية وفي أحيان حتى السياسية, والتي يقوم مجموعة من الأفراد في مجتمع ما بتشكيلها للقيام بتحقيق أهداف أو أغراض خاصة أو عامة، وتكون منسجمة مع الدستور. تلك التشكيلات أو التكوينات هي:

(1)الجمعيات والاتحادات والنقابات, الانتماء إليها بالمهنة مثل جمعيه المزارعين, جمعية التجار، جمعيه المحامين، جمعيه الأطباء....نقابات واتحادات العمال، واتحادات الطلاب,....الخ. والانتماء لهذه التكوينات والجمعيات هو أساسا انتماء طوعي واختياري. تقوم في عملها وأدائها لوظائفها وكذلك في العلاقة مع الآخرين والتعامل معهم على منظومة قيمية معينة ولكن أهمها السلمية, ونبذ العنف، وقبول الآخر، والتعددية والحوار، والتسامح والتنافس السلمي, والتعاون وأن تكون مستقلة عن السلطة.

 (2)القوى السياسية ومنها الأحزاب السياسية، هذه التكوينات هناك خلاف بين علماء السياسة والاجتماع على احتسابها من ضمن مكونات المجتمع الأهلي المدني. ففريق يرى بإضافتها, وفريق يرى بعدم إضافتها, باعتبار أن هناك تداخل بينها وبين السلطة, بخلاف الجمعيات المهنية والتي تبدو منفصلة عن السلطة السياسية.

(3) التكوينات والأطر الاجتماعية التقليدية (غير المهنية), والتي تقوم على الرابطة بين من ينتمون لها ليس على أساس المهنة, وإنما على روابط أساسية كالدم والعرق والدين والطائفة (مثل بعض المدني، و الأسر أو العشائر أو القبائل، المناطق أو الطوائف المذهبية، باعتبار أن الانتماء هنا ليس اختياري وإنما إجباري). هناك خلاف أيضا بين علماء السياسة والاجتماع السياسي على اعتبار هذه التكوينات من مكونات المجتمع المدني. والغالب على كثير من العلماء هو استبعاد تلك التكوينات من الانتماء إلى المجتمع المدني، باعتبار أنها تفتقر إلى القيم المدنية مثل التسامح، وقبول التعدد، والحوار، والتشديد على الندية والصراع أكثر من التعاون....الخ.

         هب بعض علماء الدين والاجتماع، ونحن منهم، إلى فكرة إضافة تلك المكونات التقليدية إلى المجتمع المدني، خاصة وان ممارسات كثير منها في البلدان العربية والأجنبية (مثل لبنان، “الطوائف"، واليمن، وعمان، والأردن، والسودان، والهند).......الخ .تبين أنها غير معادية للديمقراطية والتنافس السلمي، وأن "الندية" البارزة لديها وفيما بينها ليست بذاتها سيئة, وإنما قد تكون أحد عوامل التوازن ومنع الاستبداد من قبل كل منهما أو تجاه بعضهم البعض (5). لذلك كنا من ذلك التوجه، خاصة مع شيوع وانتشار تلك التكوينات التقليدية (الأهلية) في البلدان العربية وفاعليتها الأكثر مقارنة وموازنة بالمكونات المدنية الحديثة في البلدان العربية، والتي لا زالت تعاني من أسباب عدم الفعالية. يعود جزء كبير منها إلى بنية وطبيعة الدولة العربية التسلطية, حيث اختراقها لتلك التكوينات وبالتالي عدم استقلاليتها، كما هو واضح مثلا بالنسبة لعدد من الدول العربية. كذلك بسبب سياستها التنموية غير المتوازنة بين المراكز والأطراف, بين المدن والأرياف. مما ولد حالة متواصلة من تداخل الأرياف بالمدن، بل وتحول المدن إلى مجمعات سكانية متريفة

(6) نتيجة ذلك التداخل.

         ومع فكرة قبول الانخراط بالعملية الديمقراطية من قبل التكوينات التقليدية والأهلية كما بينتها تجارب بعض البلدان العربية وخاصة في لبنان واليمن وكذلك الهند، فإننا وآخرون نرى اعتبار تلك التكوينات الأهلية التقليدية جزء من تكوينات المجتمع المدني. لذلك أطلق أحد الباحثين والمهتمين بالشأن العام والإصلاح الدستوري مفهوم "المجتمع الأهلي المدني"، كمخرج ومفهوم جامع(7).

 

"المجتمع الأهلي المدني آلية للاحتساب المؤسسي على السلطة وفيما بين مكـوناته"

على أن النقطة الأهم المناطة بتكوينات المجتمع الأهلي المدني، ليس بذاتها وهياكلها وإنما بما تقدمه من أهداف وأغراض ووظائف وخاصة في المجال العام، بعض التكوينات المدنية الأهلية، تقوم لتحقيق وظائف خاصة للمتسببين لها وذلك بالحفاظ على مصالحهم وتثمينها وتطويرها سواء تجاه الدولة (السلطة ) أو المجتمع (التكوينات الأخرى ). في المقابل، يقوم البعض بوظائف عامة ومن ذلك مثلا: جمعيات حقوق الإنسان وجمعيات البيئة وحماية المستهلك ودعاة المجتمع المدني في فترات التكوين والمطالبة ......الخ . وهناك البعض من التكوينات تجمع بين الغايات الخاصة والعامة, مثلا اتحاد العمال الذي يقوم بدور حماية مصالح أعضائه. لكنه في نفس الوقت, إذا تعلق الأمر بالسلطة والأجور والعمل, فقد يقوم بالإعلان عن مظاهرات سلمية احتجاجية. وهؤلاء وأولئك من التكوينات التي تجمع بين الخاص والعام. وكذلك حتى الخاصة, عندما تتوازن مع الآخرين أو السلطة, ويقومون بدور وآليات الرقابة والمحاسبة المجتمعية المؤسسية  على السلطات وتجاه المكونات الاجتماعية الأخرى. وبالتالي فان تلك التكوينات الاجتماعية المدنية والأهلية تضيف أبعادا إضافية وفعلية إلى آليات الاحتساب على السلطة, وذلك بالأمر بالمعروف السياسي والنهي عن المنكر السياسي في قضايا العدالة والحقوق والحريات والمصالح. وهذه تناسب الطريقة الإسلامية كل في مجاله ولكن بشكل مؤسسي لحساب الأفراد والجماعات المنتمين لها. وبالتالي تسهم فعليا في الوصول إلى "السلطة المقيدة" فعليا, بما يحقق العدالة ويصون الحقوق والحريات العامة الأساسية,  كما وينهي ويحاصر الاستبداد والقمع والظلم والمفاسد. يجد بالتالي المواطن نفسه في مجتمع ودولة تكفل له الكرامة والمساواة الإنسانية والفرص المتكافئة في التقدم والرقي في حدود وآليات قانونية واضحة (دستور).

        إضافة إلى ذلك فان وجود تلك التكوينات والتشكيلات الاجتماعية الأهلية والمدنية ولضمان استقلالية عملها،فان وظيفته هامة جدا, تقدمها تلك التكوينات الاجتماعية الأهلية المدنية، إضافة إلى آليات الاحتساب على السلطات وفيما بينها. فإنها إذ تقوم على نبذ العنف وتؤمن بالحوار والوسائل السلمية وقبول الآخر والتعددية والتسامح، فإنها تتيح لأعضاء المجتمع أفرادا أو جماعات الانضواء تحت تلك الأطر. وبالتالي تقوم بدور الموجه والمدرب وقيادة المواطنين وخاصة الشباب نحو التوجهات السليمة والإفصاح عن رغباتهم من خلال تلك القنوات. مما يستتبعه المساهمة على نحو جذري في القضاء على اتجاهات العنف والتي تبدو متزايدة مع غياب الأطر الاجتماعية المدنية الحديثة أو الأهلية القديمة. كما نلاحظ ما تمر به بعض البلدان العربية من عنف في الجزائر والسعودية، وهذا مرتبط  في جزء هام منه بغياب تلك الهياكل (مكونات وعمل المجتمع الأهلي المدني).

        تلك العناصر والمحاور الأساسية للدستور, والتي تشكل آليات وهياكل وإجراءات، تجعل من السلطة بالفعل" سلطة مقيدة" والحكومة حكومة دستورية بالفعل. عندها يمكن من خلال تلك الآليات، وخاصة آليات الفصل والاحتساب على السلطات وفيما بينها, وكذلك من قبل التكوينات الاجتماعية، المجتمع الأهلي المدني، تجاه السلطات وكذلك فيما بينها، تحقيق وضمان العدالة والحرية. على أن " روح الدستور" هو أن تتولد تلك العناصر الدستورية من خلال عقد اجتماعي مصوت عليه شعبيا, بحيث تكون"إرادة الشعب هي مناط ومرجعية سلطة الحكم". وأن تتجلى تلك الإرادة من خلال الانتخابات الدورية النزيهة سواء على مستوى السلطة النيابية المركزية (الشورى المنتخبة الملزمة ) أم على مستوى الحكم المحلي والبلديات. وذلك ضمن قانون انتخابي يقوم على الاقتراع العام والرأي الحر للمواطنين وعلى قدم المساواة.

      إذن روح الدستور والذي يجعله فاعلا في الممارسة وليس فقط في النصوص هو العلاقة الجديدة القانونية الملزمة, بين السلطة والمجتمع من خلال "العقد الاجتماعي", والذي يمثل الدستور, وتكون الإرادة الشعبية هي مناط سلطة الحكم. ويكون المواطن فعلا لا قولا جزءا من العملية السياسية وجزءا من السلطة، وخاصة في السلطة النيابية "الشورى المنتخبة الملزمة" على مستوى المركز أو المجالس المحلية, وسواء تمثل ذلك من خلال المشاركة الفعلية في الممارسة السياسية في العملية الانتخابية, ترشيحا أو تصويتا أو تمثيلا, في تلك المجالس التي تمثل الإرادة المجتمعية ذات الآلة الرقابية والمحاسبة على أعمال الحكومة وسياساتها.

      إضافة إلى ذلك فإن "إرادة الشعب" باعتبارها مناط سلطة الحكم تجعل أيضا من خلال الانتخاب الدوري أن المواطن نفسه، وخاصة الذي أصبح جزءا من العمل السياسي داخل السلطات النيابية أو المجالس المحلية، هو نفسه أيضا عرضة للمحاسبة والمساءلة وإلى التغيير وعدم الدوام في المنصب. وبالتالي تكون المصلحة العامة دائما مقدمة، وفي حالة الإخلال بها فإن هناك آلية المحاكمات والاحتسابات والمحاسبة ....الخ. هذا هو الفهم الصحيح للدستور باعتبار أنه "السلطة المقيدة" ضمانا لمنع الاستبداد, وتحقيقا للعدالة والحريات والمشاركة الشعبية المتصلة بإرادة المجتمع باعتبارهامناط سلطة الحكم ومرجعيته العليا. 

       رغم أن التحديد أعلاه لماهية وروح الدستور تقترب من جوهره, فإن الدول الدستورية تختلف من حيث الحدود القصوى والدنيا لحالة الممارسة الدستورية, وخاصة "السلطة المقيدة". غير أن الحد الأدنى الذي لا بد أن يدركه المواطنون هو وجود المشاركة الشعبية في القرارات والسياسات عن طريق انتخاب سلطة نيابية "مجلس شورى منتخب ملزم" انتخابا حرا مباشرا ودوريا له صلاحيات وسلطات رقابية على السلطة التنفيذية والحكومة. وكذلك وجود حد معقول من "استقلال القضاء " بما في ذلك وجود محكمة عليا دستورية. كذلك السماح بحرية التعبير والرأي بما في ذلك حرية الصحافة والإعلام والنشر والسماح بتكوينات المجتمع الأهلي المدني ووجود ضمانات لإستقلالية عملها.

       من هنا كانت الدعوة والمطالبة بالدستور " الإصلاح الدستوري"، باعتباره الركيزة والأساس الذي يبنى عليه أي إصلاح شامل في السعودية, لتحقيق غاياته في ضمان العدالة والحرية والكرامة للمواطن والمجتمع والسلطة على حد سواء.

        نقطة أخيرة لا بد من الإشارة إليها سريعا وهي تتصل بمن يصوغ الدستور ؟  جرت العادة في الدول التي تريد أن تتبنى حياة سياسية دستورية حقيقية أن تتكون هيئة وطنية مستقلة من أهل الرأي والخبرة والعلم في كافة الاختصاصات بما في ذلك الفقه الدستوري والشريعة الإسلامية " في البلاد العربية والإسلامية ", لصياغة بنود وعناصر وآليات الدستور المشار إلى أهم عناصرها السابقة. ثم عند الانتهاء من تلك الصياغة تقوم الحكومة " الدولة " بعرض ذلك الدستور المقترح على الشعب للتصويت عليه. وقد تكون صيغة التصويت بنعم أو لا. ومتى صوتت الغالبية بنعم  فيعتبر عقدا اجتماعيا جديدا ملزماً للطرفين السلطة والمجتمع ونافذا, وتتحدد بعدها مرحلة التنفيذ وآلياتها. خاصة فيما يتعلق بإجراء الانتخابات العامة "السلطة النيابية "- الشورى الملزمة  والمحلية والبلدية, مع وجود قانون انتخابي مبني على إحصاء سكاني حديث. ويناط بالسلطة النيابية لاحقاً حق تعديل أو إلغاء الدستور جزئيا أو كليا وطبقا لآلية تصويت واضحة، مثلا غالبية الثلثين. ويناط بالمحكمة الدستورية العليا المراجعة الدستورية، بمعنى البت فيما هو دستوري أو متعارض مع الدستور من القرارات والقوانين التي تسنها السلطة النيابية أو غيرها في حالات استثنائية.

       من أجل ذلك، طالب دعاة الإصلاح الدستوري في السعودية بتشكيل مؤتمر وطني للحوار. الغاية منه هو الوصول بالحوار بين التيارات مع الحكومة إلى تشكيل تلك الهيئة الوطنية المستقلة لصياغة الدستور. لذلك لم يكن الهدف من ذلك المطلب الإصلاحي هو إقامة مركز وطني للحوار كما تبنته الدولة, مهيمنة عليه دون أن تكون طرفا فيه. وإنما كان الهدف هو الوصول إلى تلك الهيئة لصياغة الدستور من أجل البدء بتطبيقات الإصلاحات الدستورية في فترة لاحقة معقولة.

 

الهوامش :

 (1) في التفصيلات والأسماء الموقعة على الوثيقة انظر :" نداء إلى القيادة والشعب معا"     "الإصلاح الدستوري أولا"ا16 |12|2003م .

(2) من معايير استقلال القضاء : إقرار نظرية الحقوق الأساسية للمواطنين ومدونة معلنة محددة لأحكام التعزير، استقلال مالي للقضاة، عدم تدخل السلطة التنفيذية بالأحكام، إشراف السلطة القضائية على تنفيذ الأحكام، إشراف السلطة القضائية على السجون والمعتقلين والمتهمين، توحيد المحاكم، وجود محكمة عليا دستورية شرعية للفصل في القرارات ومدى مشروعيتها ودستوريتها. في تفاصيل ذلك انظر ابو بلال، عبدالله الحامد, المعايير الدولية لاستقلال القضاء في المملكة العربية السعودية 2003م .

(3) عن تفصيلات الحقوق والحريات للإنسان في كافة المجالات وخاصة في مجال الحقوق السياسية، يمكن الاطلاع عليها من موقع الأمم المتحدة على الانترنت ولنظرة موجزة عامة لميثاق حقوق الإنسان الصادر في 1948 انظر "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" 1948........قرار3 217 في 10/12/1948.

(4) هناك ندوات ودراسات عن المجتمع المدني في البلاد والوطن العربي، لعل أهمها ندوة المجتمع المدني في الوطن العربي ( بيروت مركز دراسات الوحدة العربية 1992م) عزمي بشارة، المجتمع المدني (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية)، احمد صبيحي شكري، المجتمع المدني، متروك الفالح، المجتمع والدولة والديمقراطية، دراسة مقارنة إشكالية المجتمع المدني في ضوء تريف المدن (بيروت : مركز دراسات الوحدة العربية 2002م ).

(5) عن تريف المدن وعلاقة ذلك بالمجتمع المدني انظر، متروك الفالح المجتمع والدولة والديمقراطية.

 (6)  أبو بلال، عبدالله الحامد، المجتمع الأهلي المدني 2003م.

(7) إضافة إلى دراستنا متروك الفالح، المجتمع والدولة والديمقراطية في البلدان العربية،  مصدر سابق انظر إيليا حريق، العرب والتراث والديمقراطية، المستقبل العربي عدد 3يناير 2002م .

 

 

    


المستقبل السياسي في السعودية

 (في ضوء أحداث 11 سبتمبر 2001م)

الإصلاح في وجه الانهيار أو التقسيم

 

 

 العلاقات السعودية الغربية وبالذات بطرفها الأمريكي كانت تتسم بشكل عام بالتميّز طوال العقود الخمسة الماضية وحني بداية الألفية الثالثة الميلادية. غير آن ذلك التميّز لم يكن، بالضرورة علي وتيرة واحدة إذ شهدت العلاقات الغربية السعودية، ومنها الأمريكية تحديدا، حالة من التوتر وعدم الاتساق وخاصة في الفترة لما بعد 1995/1996 حيث تفجيرات الرياض والخبر ضد القوات الأمريكية والتي أسست وأرخت لبداية تقلق شعبي من الوجود الأمريكي وكذلك عدم ارتياح رسمي من التدخل في الشؤون الداخلية وخاصة في لطار التحقيقات في تلك الإحداث (1). تلك الحالة العامة من العلاقات السعودية الأمريكية والتي كانت علي ما يبدو متميّزة، وان لم تخلو من توتر كما أسلفنا، بدأت تتبدد على نحو لم يكن مسبوقا من قبل و ذلك بعد الهجمات المميتة في واشنطن ونيويورك وبنسلفاينا في الحادي عشر من سبتمبر عام 2001م.

ذلك الحدث وتوابعه في سياق ما سمي "الحملة ضد الإرهاب" بما في ذلك الحرب ضد أفغانستان - ولربما مستقبلا، ضد دول عربية أو إسلامية وكل ذلك يشير إلي إن المسلمين ومنهم العرب تحديدا هم المستهدفون بدرجة واضحة من كل تلك الحملة واتجاهاته- فتح ملف العلاقات الغربية العربية ومنها السعودية- الأمريكية تحديدا علي مصراعيه باتجاه إعادة صياغتها أو تغييرها وعلي نحو بدا أنه يؤسس لازمة ذات مخاطر علي البلاد العربية عموما ومنها الدولة والمجتمع في السعودية تحديدا. تلك المخاطر تبدو هذه المرة مخاطر حقيقية وجدية وبالتالي تتطلب في المقابل معالجة حقيقية وجدية ولكن على أسس وصيغ جديدة لتتواكب وتتعامل مع مرحلة جديدة ومختلفة تماما عن سابقتها.

إن ما يهمنا في هذه الورقة ليس معالجة العلاقات، الأمريكية السعودية بذاتها، وإنما ملاحظتها في سياق ارتباطها بأحداث الحادي عشر من سبتمبر لعام 2001م والحملة الأمريكية علي ما سمي "الإرهاب" وانعكاس ذلك على أو ارتباطه في المسالة الداخلية في السعودية آلا وهي علاقة الدولة بالمجتمع وما يرتبط بذلك بما يمكن تسميته بالمستقبل السياسي للسعودية. ولكي نصل إلى هذه وتلك الغاية لا بد من ملاحظة ما يمكن تسميته بالأزمة في العلاقات الأمريكية السعودية وعناصرها ومدى صلة ذلك كله بمعادلة الدولة والمجتمع في السعودية وما هي المعالجات لها إن وجدت؟ وهل تلك المعالجة تمثل معالجة سليمة وشافية؟ أم إنها تحتاج إلى معالجات بديلة أكثر ملائمة مع تلك التحديات والتطورات وذلك من اجل الإمكانية والاستمرارية والبقاء للدولة والمجتمع علي حد سواء. من هنا فان المشاهد للازمة الداخلية وفي سباق الأزمة الخارجية واحتمالاتها المفتوحة تحتاج إلى تحديد، بما في ذلك المشاهد التي تمثل مخاطر حقيقية وكذلك المشاهد البديلة للخروج من الأزمة علي الصعيد الداخلي.

 

في الحملة الأمريكية علي السعودية وأحداث الحادي عشر من سبتمبر2001م

 

 

هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001م والتي أسست لأولى حروب القرن الواحد والعشرين، وما انطوت علية من مزاعم أمريكية بان منفذيها هم في اغلبهم من السعودية حيث أشير إلى خمسة عشر شخصا سعوديا من بين تسعة عشر متهما بتلك العمليات الهجومية – ولدت توجهات وانتقادات حادة من قوى ونخب إعلامية وفكرية وسياسية ذات صلة قوية بمراكز صنع القرار في الولايات المتحدة الأمريكية ضد الدولة السعودية إلى درجة التعريض بشخصيات سعودية رسمية كانت خلال العقد المنصرم وحتى تلك الهجمات تحظى بقبول واحترام كبيرين داخل الإدارة الأمريكية وقواها السياسية (2). تلك الحملة الأمريكية وبصلة بعناصر قيادية رسمية وخاصة في السلطة التشريعية، بدأت متواضعة في البداية ولكنها أخذت تكسب زخما وقوة مع مرور الوقت وخاصة قبيل الحرب الأمريكية على أفغانستان وما بعدها(3). إن تلك الحملة المناهضة للسعودية والتي أسست لأزمة في العلاقة مع السعودية دولة ومجتمعا من جهة، وكشفت عن تراكم أزمة بين الدولة والمجتمع في السعودية من جهة أخرى – وتلك الأخيرة حرصت القيادة السعودية وخاصة بقيادة الأمير عبد الله على محاولة احتوائها– تمحورت حول عدة عناصر ومنها:

(ا) الزعم الأمريكي بتورط سعوديين في الهجمات أنفة الذكر مما فتح باب أسئلة أمريكية جديدة حول التفريخ السعودي للتطرف و"الإرهاب" لعناصر مجتمعية ذات توجهات إسلامية تحديدا ولكن بالإشارة إلي كونها محفوفة بسياسات حكومية رسمية.

(ب) ثم لاحقا المطالبة الأمريكية بالمراقبة المالية وتجميد بعض الحسابات والأرصدة التابعة لمجموعات إسلامية بما فيها بعض الجمعيات الخيرية والمطالبة بتعديل مناهج التعليم في سياقها الإسلامي والتي تزعم إطراف أمريكية بأنها تحض وتحرض علي التطرف والكراهية والعداء للأخر وخاصة للغرب.

(ج) ومع اقتراب الحرب الأمريكية وعدوانها على أفغانستان بحجة مكافحة "الإرهاب الإسلامي" كانت الإدارة تطالب بمزيد من التعاون السعودي الرسمي في السياق العسكري وخاصة استخدام قاعدة الخرج كمركز للتحكم والسيطرة والقيادة للعمليات الحربية ضد أفغانستان.

(د) ترافق ذلك كله بتردد سعودي رسمي تجاه مسألة الرقابة المالية ومسألة الزج بأسماء السعوديين في الهجمات دونما تقديم دليل، وكذلك الحرج من مسالة التعاون العسكري العلني وخاصة السماح باستخدام قاعدة الخرج مما ولد ردود فعل عنيفة من قبل القوى الإعلامية والسياسة الأمريكية تجاه الدولة السعودية وكذلك المصرية واتهامهما بأنهما تلعبان أدوارا مزدوجة في التعامل مع حرب أمريكا علي "الإرهاب"(4).

(ه) ترافق ذلك كله مع حالة شعبية في السعودية غير مسبوقة من المناهضة للسياسات الأمريكية تجاه مزاعمها وكذلك مطالبها الرقابية المالية وتعديل المناهج وكذلك السخط الشعبي من الحرب الأمريكية على أفغانستان باعتبار تلك الحرب كما نظر لها شعبيا ودعمت من علماء إسلاميين محليين ومن البلاد العربية الإسلامية (5) على أنها حرب صليبية ضد الإسلام والمسلمين وفي القلب منهم العرب.

(و) ومما زاد من السخط الشعبي إن معظم المعتقلين والمحتجزين داخل أمريكا من باب الشبهة وتحت ما سمي باستراتيجية البعثرة Disruptive Strategy (6) داخل الولايات المتحدة هم من العرب بما فيهم السعوديين، وكذلك ما لحق "بالعرب الأفغان" والمجازر التي ارتكبت ضدهم من قبل الفوات الأمريكية وقوى التحالف الشمالي الأفغاني وتوابعها لاحقا، بما في ذلك مسالة الأسرى العرب والمعاملة المشينة وغير الإنسانية التي تلقوها على أيدي الأمريكيين سواء في أفغانستان أو في معتقل "جوانتنامو" في كوبا لاحقا.

(ز) ووصل الأمر بالحملة الأمريكية على السعودية في منتصف يناير عام2002م بقيام عناصر من الإدارة الأمريكية (كارل ليفن مثلا) بالتلويح تهديدا بإعادة النظر بالتواجد العسكري الأمريكي في السعودية أو بسحب قواتها استنادا إلى تلميحات بان تلك الخطوة مرتبطة بوجود رغبة سعودية غير محددة المصدر والتي لم تدم أو تصمد طويلا إمام تصريحات سعودية رسمية أو أمريكية علنية بعكس ذلك(7). إضافة إلى ذلك كله وفي سياقه، ومنذ البداية وحتى الآن، كانت هناك تصريحات عن وتلميحات إلى، وتهديدات بمسالة الاستبداد والفساد السياسي للنظام في السعودية ودعوات إلى الحاجة لإيجاد صيغ أكثر ملائمة تأخذ بحسبانها حقوق الإنسان والمشاركة والحريات وان بشكل تدريجي وتلك الإشارات بدأت منذ خطاب بوش أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 17/11/2001م وفي كتابات وتعليقات وانتقادات إعلاميين ومفكرين ودبلوماسيين(8).

 

 

 

ثانيا: الحملة الأمريكية علي "الإرهاب" والسعودية: جذور ألازمة الداخلية

 

 

الموقف الرسمي السعودي من إحداث 11-9-2001م وما بعدها، بدا انه - ورغم إدانته تلك العمليات وتوظيف بعض التخريجات الدينية من بعض علماء الدولة(9) يميل إلى التردد وخاصة في مسالة قبول الزج بأسماء سعوديين وكذلك تجاه التعاون الأمني والعسكري وكذلك المالي الرقابي(10). ورغم أن السعودية من الناحية الرسمية كانت تعلن تعاونها وموقفها ضد الإرهاب(11)، إلا أنها كانت تشعر بالحرج من مسالة الموافقة علنا على استخدام قاعدة الخرج وكذلك من التوجهات الشعبية الداخلية المعادية للولايات المتحدة وخاصة بعد بداية العمليات الحربية ضد أفغانستان وحكومة طالبان مما جعلها، وتحت ضغط إعلامي أمريكي متزايد، إلى إن تقوم بالطلب من أئمة المساجد بوقف دعاء القنوت فجرا ومغربا ضد الولايات المتحدة والمساند لحركة طالبان بالنصر(12).

في المقابل، كانت التوجهات الشعبية تزداد حدة وعداء للولايات المتحدة الأمريكية منذ بداية الإحداث (11سبتمبر2001) حيث كان الملاحظ أن هناك نوع من الابتهاج (13) بما حدث في أمريكا وضدها وذلك تشفيا بما تراه للعناصر والفئات الشعبية وشرائحها المتنوعة في السعودية بان ذلك يشكل ردا على أمريكا وسياساتها المناهضة للعرب والمسلمين وخاصة في فلسطين والعراق وأماكن أخرى. تلك المواقف الشعبية أخذت بالزيادة المطردة ضد الولايات المتحدة من اغلب الفئات الشعبية بما في ذلك الشرائح اللبرالية وخاصة مع بداية العمليات الحربية ضد أفغانستان وأحداثها المتعاقبة وكذلك في سياق الحملة الأمريكية على السعودية وأيضا في سياق التوجهات الأمريكية – الداعمة لحكومة وسياسات الكيان الصهيوني في عملياتها التدميرية ضد الشعب الفلسطيني ومقدرا ته وممتلكاته ومقدسا ته– والتي أخذت بالتزايد إلي درجة إدراج حركات المقاومة الفلسطينية وخاصة حركة حماس والجهاد ضمن قائمة الإرهاب الأمريكي عندما بدا لها (أمريكا) أنها تتجه إلى حسم الأمور في أفغانستان مكافأة للعدو وإذلالا للعرب على وجه الخصوص. الموقف الرسمي السعودي بدأ يستفيد من الحملة الأمريكية المتزايدة علي السعودية وذلك بتوظيفها وذلك للإحاطة بالمسالة الداخلية وفي محاولة لردم الفجوة بينها وبين التوجه الشعبي والذي بدا ولأول مرة بأنه بالفعل يتخذ مواقف متعارضة مع التوجهات الرسمية وخاصة فيما يتعلق بالموقف من إحداث سبتمبر والتعاون مع أمريكا في مسالة مكافحة ما سمي "بالحملة علي الإرهاب"وكذلك في سياقها" المسألة الأفغانية" بما هي حرب علي بلد مسلم خاصة في سياق التوجه الإسلامي المدعوم من بعض القيادات العلمية الإسلامية المحلية والعربية المناهضة للتعاون مع الأجنبي والتحالف مع الكفار والمشركين ضد العرب والمسلمين(14). القيادة السعودية وخاصة توجهات الأمير عبد الله (ولي العهد)، بدأت تتعامل مع الحملة الأمريكية على أنها حملة ضد المسلمين وعقيدتهم (15)، وكذلك مرتبطة بحملة صهيونية ذات صلة بالجماعات الصهيونية الضاغطة (اللوبي الصهيوني) في واشنطن والبلاد الغربية ضد مواقف المملكة من القضية الفلسطينية والإشارة إلى إن السعودية قد وصلت إلي طريق مسدود مع الإدارة الأمريكية في مسالة موقفها من وتحيزها مع الكيان الصهيوني في معالجة القضية الفلسطينية. وفي محاولة للإحاطة بالمسالة الداخلية عن طريق بوابة الحملة الأمريكية والبعد الصهيوني فيها، قام الأمير عبدا لله بالاجتماع، وعلي مراحل، بعدد من الفئات والشرائح وبعض القوى السعودية من أساتذة الجامعات والمعلمين والتجار والمشايخ والعسكريين وذلك في محاولة لكسب تلك المجموعات من الحملة السعودية المناهضة للحملة الأمريكية وفي محاولة للتأكيد علي الوحدة الوطنية وأهميتها للتعامل مع انعكاسات تلك الأزمة وتوابعها علي الأوضاع الداخلية(16).

وبتوافق ولربما تناغم مع تلك الحملة السعودية المناهضة للحملة الأمريكية عليها، بدا أن السلطات السعودية تتيح لعناصر من الشعب السعودي ذات توجهات متباينة وبعضها غير متسق مع الخط الرسمي للدولة للتحدث علنا في إطار الأزمة ورؤيتها لها وخاصة من خلال الأدوات والقنوات الإعلامية العربية وبالذات الفضائية منها وبدرجة اكبر قناة الجزيرة الفضائية (قطر)(17). في المقابل، بدا أن السلطات السعودية وهي تواجه التحدي الأمريكي وخاصة مع حسم الأمور في أفغانستان لصالح أمريكا –تتجه إلى محاولة التخفيف من الضغط الأمريكي عليها وذلك من خلال التناغم معها، وذلك بقبول المزاعم الأمريكية بتورط سعوديين في الهجمات السبتمبرية علي أمريكا(18)، وكذلك بالتعامل مع الساحة الأمريكية مباشرة من خلال الأقلام الأمريكية الزائرة أو المستكتبة من خلال شركتي الاتصالات والعلاقات العامة داخل الولايات المتحدة الأمريكية(19). وكذلك من خلال العناصر القيادية السعودية في سياق الوفد السعودي الكبير لاجتماعات "منتدى دافوس" في أوائل فبراير 2002 حيث راس الوفد رئيس الاستخبارات السعودية (الأمير نواف بن عبد العزيز) ورافقه عدد من الأمراء والذين أدلى بعضهم بتصريحات وأجروا مقابلات تلفزيونية داخل أمريكا محاولين على ما يبدو التأكيد علي الدور التعاوني للسعودية في الماضي وفي الحاضر المستمر وفي القادم المحتمل (20). ويلاحظ مع ذلك كله، أن تلك الردود السعودية علي الحملة الأمريكية انتهت إلى الدفاع عن علاقات السعودية مع أمريكا والتعامل مع تلك العناصر الإعلامية الأمريكية الموصوفة بالمعادية للمملكة ( مثلا، نيويورك تايمز والـ واشنطن بوست تحديدا) والمتحيّزة للصهيونية، وصولا إلى تقديم مبادرة "التطبيع الكامل مقابل الانسحاب الشامل لإسرائيل من الأراضي العربية المحتلة منذ 1967" رغم ما جرى عليها لاحقا من تعديلات باتجاه "السلام الشامل مقابل الانسحاب الكامل "نتيجة للردود العربية تجاهها، ثم إقرارها على صيغة أكثر توازنا عربيا بالإجماع في مؤتمر القمة العربية في بيروت 27-28-مارس-2002م(21).

تلك المعالجة السعودية الرسمية اللازمة علي الصعيد الداخلي لا يبدو أنها طرقت العناصر الأساسية للأزمة وجل ما فعلته أنها لامست بعض منها ملامسة غلب عليها الشكلية والمعالجة الآنية(Add-hoc) وغلبت البعد الخارجي (الأمريكي والغربي وتوابعه) علي البعد الداخلي المجتمعي المتصل بمسالة العلاقة بين الدولة والمجتمع. وبينما بدا إن السلطات السعودية تشعر بالارتياح إلى عدم تطور أحداث داخلية تتسم بالعنف وبالحدية- باستثناء إحداث بدا أنها عارضة ( مثل التفجير الذي وقع في الخبر، وكذلك محاولة التعرض لبعض الأجانب في الرياض) وكذلك الأدعية (القنوت) في صلوات الفجر والمغرب ضد الكفار والمشركين وتلك أوقفتها السلطات السعودية عنوة لمن لم يتوقف طوعا، وكذلك بالارتياح الرسمي السعودي إلى ما بدا انه نهاية للمسالة الأفغانية بإنهاء حركة طالبان وتدمير القاعدة وعناصرها بدرجة كبيرة –وان كانت هذه وتلك مسألتين لا زالتا فيهما نظر (22)، مما خفف من الغليان الداخلي الذي ترافق مع العمليات الحربية الأمريكية ضد أفغانستان والذي انعكس بدرجة واضحة على أحاديث ومناقشات كثير من الفئات والشرائح الشعبية وما اتصل بتقلقل الرأي العام المحلي بما في ذلك التوجه نحو الدعاء غير المحدد (الدعاء بالنصر للمجاهدين من كل مكان دون تحديد أفغانستان) عندما أصبح الدعاء الصريح ممنوعا. وبالقدر الذي بدا للسلطات السعودية أنها تحسم أمرها بمزيد من التعاون والاتساق مع الغرب وأمريكا تحديدا بما في ذلك ما يبدو إن له صلة بطرح المبادرة "التطبيع الكامل مقابل الانسحاب الكامل" رغم ما جرى عليه من تعديل أقرته قمة وبيان بيروت لاحقا، مضطرة أو مقتنعة بذلك، فقد بدا للمجتمع وفئاته أن ذلك الخيار تم علي حساب مشاعره وتوجهاته ودون أن يكون له الصوت المسموع في تلك السياسات والتوجهات مما زاد في سعة الفجوة بين الدولة والمجتمع وعكس بدوره تراكم جذور أزمة في العلاقة كانت تتشكل منذ عقد ونيف ولكن تلك الأحداث أفصحت عن مظاهرها. وبالقدر الذي أخطأت فيه الولايات المتحدة الأمريكية في معالجتها لإحداث 11 سبتمبر بإتباع استراتيجية "إرهابية" خارجية ودون الالتفاف(مراجعة) حول سياساتها الخارجية والداخلية التي ولدتها، فان السعودية هي الأخرى، وبمراهنتها علي الخارج وعلى الوقت لتجاوز المسالة الداخلية، جازفت في عدم التنبه إلى مسالة الأزمة الداخلية وجذورها ومعالجتها معالجة حقيقية تنطلق من رؤية صحيحة للخلل في العلاقة بين الدولة والمجتمع ومن ثم تصويبها بشكل صلب يؤسس لمرحلة قادمة.

رغم أن تفاعلات الدولة والمجتمع في السعودية وفي سياق الأزمة، من حيث كونها تفاعلات كانت تميل إلى أن تكون غير متسقة وغير متوازنة ومتوازية وإنما بدرجة واضحة تبدو أكثر متعارضة أو متفارقة، بدأت تخف مع مرور الوقت وما بدا أنه يتوافق مع حسم الأمور عسكريا في أفغانستان، إلا أن الأزمة الداخلية والعلاقة بين الدولة والمجتمع لا يبدو أنها طرقت علي الإطلاق، وما تم فيها كان معالجة وقتية ظرفية ذات اتجاه واحد يركز علي التعبئة الإعلامية الرسمية، ولكن بالنهاية التوافق مع الخارج. ليس هناك على، ما يبدو، رغبة أو رؤية في النظر بان تلك الأحداث وتوابعها ذات " منبع ومكّون داخلي" بحيث تحل على مستوى العلاقة بين الدولة والمجتمع وبالبحث مع القوى الاجتماعية على حلول لها. وكما كانت أزمة الخليج الثانية، فان المعالجة للأزمة الداخلية المتصلة بأحداث 11سبتمبر كانت المراهنة على الوقف مرة أخرى، وان الداخل ليس هو المشكلة وإنما الخارج والخارج فقط.

وحيث أن سر الأزمة يكمن في العلاقة بين الدولة والمجتمع، وكونها لم تعالج البتة، فإن المسألة لازالت مفتوحة الاحتمالات والبدائل، وقد تحمل معها نذر غير محمودة. ويبدو أن المشكلة في التحليل النهائي ترتبط بدرجة أكثر تحديدا بان هناك أولا سوء تقدير أو تصور خاطئ لأهداف الحملة الأمريكية على السعودية وحصرها ببعدها الصهيوني –أو هكذا قيل– والمسألة الدينية أو التعليمية. وثانيا أن هناك تجاوزا للمسالة الداخلية ذاتها والتركيز علي البعد الخارجي لها وذلك في سياق التصور الخاطئ وعدم معالجة الشأن الداخلي معالجة تبدو فعلية وجدية وذات جرأة بما يعني ويتضمن الملائمة مع متطلبات التكيّف للنظام السياسي في إطار المحافظة على استمراره واستقراره ولكن بصيغ أخرى مستحدثة.

 

 

الدولة والمجتمع والغرب: في البدائل والاحتمالات

 

 

في الحملة الأمريكية علي السعودية ومشروع التقسيم

بداية يمكن التساؤل هل يمكن حصر الحملة الأمريكية علي السعودية في مسالة اللوبي الصهيوني والموقف العدائي من المواقف السعودية تجاه المسالة الفلسطينية؟ للإجابة على ذلك، يمكن القول بداية، إن ذلك قد يكون جزئيا صحيحا ولكنه ليس الأهم والأبرز في الرؤية الأمريكية من وراء تلك الحملة وعناصرها. ما هو مطلوب أمريكيا هو أولا، أن الدولة والسلطة السعودية علي مستوى القرار السياسي يجب أن لا تتردد بل ويجب أن لا تفكر بذلك طالما أن الولايات المتحدة ترى أنها هي التي توفر الحماية والأمن للدولة والنظام وبالتالي فان التردد أو الحرج بذاته لم يكن مقبولا على الإطلاق خاصة وان ذلك قد يعني أن التحالف في الحرب ضد    "الإرهاب" سيتعرض للتشكيك والاهتزاز وهو ما لم تكن الإدارة الأمريكية ترغب فيه ولا العناصر التي تقود تلك الحملة – ومن هنا كان التردد الظاهري للسعودية يمثل جرأة غير مقبولة من دولة– هي مدينة، في الرؤية الأمريكية، في وضعها الأمني تحديدا (23) وتوابعه بما في ذلك الاقتصادي والنفطي للدولة والقوة الأمريكية. وثانيا وهذه تمثل النقطة الأهم والأبرز، أن المخطط الأمريكي أصلا في الحرب التي أعلنتها ضد أفغانستان وفي سياق ما اسمته الحرب ضد "الإرهاب" يتجاوز أفغانستان إلى الإحاطة الكونية وبنقاط مركزية منها ذات صلة بالإبعاد الاستراتيجية للنفط والغاز في دائرة محورها يمتد من أسيا الوسطي شرقا وحتى منطقة الخليج العربي غربا. ومن هنا فان الحاجة ستكون لاحقة باتجاه إعادة صياغة الخرائط للمنطقة العربية تحديدا وبالتالي فان العودة لها ستكون أمرا قائما تتطلبه تلك المهمة خاصة وان المشروع الأمريكي هذا للمنطقة وبتوافق مع المشروع الصهيوني لها لم يتم بعد. وإضافة إلى ذلك ثالثا، فان صورة الشعب السعودي وفئاته بدأت تتهاوى في الرؤية الأمريكية وخاصة في سياق ما سمي بالتفريخ "للإرهاب " بشرا وعقيدة (الوهابية) وتمويلا خاصة إذا ما قبلنا فكرة إن الذين قاموا بعمليات الحادي عشر من سبتمبر عام 2001م هم في غالبيتهم من السعوديين. إضافة إلى ذلك وفي صلبه، فان النظام السياسي السعودي بما هو الحاضن لتلك التوجهات أصبح هو الأخر يمثل، في الرؤية الأمريكية، عبئا لا رصيدا، وبالتالي فإن السعودية (دولة ومجتمعا) أصبحت مستهدفة في إطار المشروع الأمريكي للإحاطة الكونية والمتلاقي مع المشروع الصهيوني بالمنطقة والذي لم ينجز بعد، وبالتالي يحتاج إلى تعويم ضمن إتمام المشروع الأمريكي ذاته. هذا الاستهداف للمنطقة العربية وبما هو تلاق بين المشروعين الأمريكي والصهيوني يؤكده وزير الخارجية الأمريكي كولن باول إذ، يقول، في خطابه أمام جامعة لويزفيل في 19-11-2001م، أن "الرؤية الأمريكية لمنطقة الشرق الأوسط ستكون بعيدة المنال ما لم تكن إسرائيل وجيرانها في حالة سلام..." (24).

إن الوصول إلى هذه النقطة من تعويم المشروع الصهيوني في المنطقة بإقامة المشروع الشرق الأوسطي في إطاره الاقتصادي والمتداخل مع المشروع الأمريكي للسيطرة علي منطقة الغاز والنفط (السيطرة هنا قد تكون للاحتياج الذاتي أو للتحكم بالعالم من خلال التحكم بالموارد النفطية) والممتدة من شرق أفغانستان وبحر قزوين وحتى منطقة الخليج العربي (25) يتطلب بشكل أساسي أن تتواصل الحرب الأمريكية علي "الإرهاب" بما في ذلك إزالة المعوقات القائمة في المنطقة وهي الحالة العراقية ومن ثم السورية. ولكن قبل الوصول إلى هذه الغاية لا بد من البدء من "الحلقات الأضعف" في المنطقة العربية ( والتي قبلها أو معها قد تكون الإدارة الأمريكية مشغولة في احتواء أو تصفية ما تسميه "الإرهاب" و"إرهاب القاعدة " في حلقاته الأضعف على المستوى العالمي من الفلبين إلى جو رجيا وهكذا...) لتنفيذ المخطط الاستراتيجي للمنطقة والعالم. وبالتالي ستكون البداية الصومال واليمن بدرجة احتمالية كبيرة (والتي بدأت بوادرها بالفعل في الصومال حيث تضيق الخناق على السواحل الصومالية بالأساطيل الغربية الأمريكية والألمانية تحديدا بحجة منع عناصر القاعدة وكذلك محاصرة المؤسسات الاتصالية والمصرفية لشركة البركات بحجة علاقتها بالتحويلات المالية للقاعدة، وكذلك ما يجري في اليمن منذ يناير2002م حيث القوات اليمنية وبدعم أمريكي تطارد ما تسمية عناصر ذات صلة بالقاعدة مع تأكيد أمريكي بلسان بوش بان أمريكا تعمل على منع أن يتحول اليمن إلى أفغانستان أخرى للقاعدة وهو ما رحبت به القيادة اليمنية (26) وذلك كله للإحاطة الجيوبوليتكية بالصومال و/ أو بالنفط اليمني في تلك المعادلة الأمريكية الكونية وان تشكلا (الصومال واليمن) خلفية لمنطقة الجزيرة العربية --بما فيها وبدرجة أساسية منها منطقة الخليج العربي- وكذلك لمحورها في أسيا الوسطي (بحر قزوين وأفغانستان حاليا).

ومع إخضاع تلك الحلقات الأضعف، فعندها ولربما معها أو بعدها سيكون العراق هو المستهدف لإلحاقه هو الآخر بالمنظومة الأمريكية في إطار مشروعها الكوني وذلك من خلال إقامة نظام حكم موالي لها كما هي الحالة الأفغانية وتحت ذرائع ومسوغات تتراوح بين التفتيش عن أسلحة الدمار الشامل وحقوق الإنسان...الخ. إن الدائرة النفطية وعناصر الطاقة الممتدة من روسيا ومرورا ببحر قزوين وأفغانستان وإيران والخليج العربي بما في ذلك العراق تمثل الدائرة الأكبر والاهم للحياة الاقتصادية العالمية المستقبلية. والعراق، إضافة إلى كونه مع الحالة السورية والفلسطينية يمثل عائقا للمشروع الصهيوني أصلا، يمتلك بذاته احتياطيا هائلا من تلك الموارد، لذلك يبدو إن الهدف الأمريكي، هو اختطاف هذا البلد ووضع اليد على موارده النفطية وإلحاقه تماما بالدائرة النفطية للنفوذ الأمريكي (27). عليه، فإن الولايات الأمريكية كانت منذ البداية ومع مرور الوقت تخطط للوصول إلى استهداف العراق تحت ذرائع "محور الشر" و"أسلحة الدمار الشامل" وبتنسيق متناغم بين كل من " بوش " و"بلير" ورغم ما يتعرض له الأخير من ضغوط داخلية، بما في ذلك عناصر متزايدة من حزبه- بعدم الانسياق التلقائي وراء المخطط الأول لضرب العراق (28).

 من هنا فان المطلوب أن تكون السعودية وقرارها السياسي في نفس الاتجاه، بداية، وكذلك فان الخوف كل الخوف هو أن الحملة الأمريكية على السعودية ليست فقط حملة صهيونية كما تراها السعودية وقياداتها وبعض من عناصرها الإعلامية، وإنما هي أيضا وبدرجة اكبر وأخطر الضغط على السعودية لكي تحصل منها أمريكا على ما يمكن تسميته "الاسترضاء" Appeasement السعودي تجاه العملية القادمة بضرب العراق. تلك المسألة "مسألة استرضاء" السعودية نحو المسألة العراقية بدا أنها في مراحلها التحضيرية الأولى تقترب من تحقيق بعض من ثمارها حيث؛ أولا إن تصريحات رئيس الاستخبارات السعودي السابق (الأمير تركي الفيصل) ومقابلته مع وسائل الأعلام الأمريكي تشير إلى إن السعودية سوف تتعاون مع أمريكا تجاه إسقاط النظام العراقي وان شدد علي إن يكون ذلك من الداخل (29). وثانيا إن طرح المبادرة السعودية في إطار "التطبيع الكامل مقابل الانسحاب الكامل" ورغم ما جري عليها من ردود فعل واتجاهات بتعديلها وهو حدث بالفعل في مؤتمر القمة العربية في بيروت (27-28-مارس 2002، بيروت) وكذلك رغم احتمال ربطها بالمسالة السياسية الداخلية من حيث محاولة التأكيد على تراتب السلطة والنفوذ – في هذا الوقت وعلى ما بدأت أول مرة عليه فأنها تمثل لربما محاولة من قبل بعض القوي والتي قد تقف وراء الدفع بها إلى التعامل مع البعد الخارجي في سياق الحملة الأمريكية أو الصهيونية أو أنها تمهد للتطبيع القادم المحتمل. ومهما يكن من أمر حول مستهدفات ونوايا تلك المبادرة وضر وفها ومنابعها الداخلية أو الخارجية، فان قبول ضرب العراق- أو إي بلد عربي أخر- والمساهمة في تغيير النظام بغض النظر عن طبيعة النظام و الموقف منه، سيكون بزاته سابقة خطيرة وورقة ترفعها الدول الغربية وبالذات الأمريكية في وجهة إي نظام عربي بما في ذلك حلفاءها في المستقبل ومنهم السعودية تحديدا. ومن هنا فان المصالحة العربية التي تمت في إثناء مؤتمر القمة العربية في بيروت (27-28-مارس-2002م) وخاصة بين السعودية والعراق والي حد ما بين العراق والكويت والإجماع العربي في القمة وقراراته على الرفض القاطع لضرب العراق أو أي بلد عربي أخر، يشكل أحد المداخل الأساسية لسد تلك الثغرة (ضرب العراق والملف العراقي والحالة العراقية الكويتية) في وجه المخطط الأمريكي المحتمل للمشرق العربي ومنه ما يتصل باحتمال التعرض للسعودية لاحقا. ولذلك فان الخطوة التي أقدم عليها كل من الأمير عبد الله وعزت إبراهيم تستحق الإشادة، إذ أنها تمثل الخطوة الأهم والأساس في الطريق الصحيح والذي يحتاج إلى مزيد من تلك الخطوات للبناء عليها للوصول إلى تطبيع العلاقات العربية– العربية ومنها وبدرجة أساسية السعودية- العراقية وكذلك الكويتية العراقية.

إذا تمت تلك عملية ضرب العراق- (وهو ما نتمنى إن تكون القمة العربية وقراراتها في بيان بيروت وفي إطارها المصالحة السعودية– العراقية وكذلك الكويتية، قد أسست لأرضية  تحول دون حدوثه وان لازال هناك بعض المخاطر وكذلك البدائل التي قد تستغلها أمريكا لتنفيذ العملية مستقبلا) وفي سياقه أو (معه أو قبله الصومال والذي لا يبدو يثير شجون وهموم العرب على نحو كاف) وإسقاط النظام العراقي تحت أية حجة وهي ستكون سابقة خطيرة، كما أشرنا أنفا، وقد تكون السلاح الذي يشهر بوجه الحلفاء الحاليين مستقبلا ، فان النقطة القادمة والأبرز في إتمام المشروع الأمريكي من الهيمنة على المنطقة وبما يتضمن تعويم المشروع الصهيوني ثم العودة إلى استهداف الخليج والسعودية تحديدا ستكون سوريا هي المستهدفة ثانيا (بعد العراق)إذ ستكون محاصرة من جميع الجهات بقوى إما معادية كما هي إسرائيل وتركيا أو أنها تقع في النفوذ الأمريكي كما هي الأردن والعراق –البديل إذا تم أو ضعيفة وهي الحالة اللبنانية. عندها سيمكن إخضاع سوريا طوعا أو كرها؛ إما طوعا فيتم الضغط عليها بتوقيع اتفاقية تسوية مع إسرائيل كما هي اتفاقيات التسوية مع الأردن 1994ومصر 1979. وإما كرها فان الأمر ليس هو الأخر مستبعدا وما لائحة الخيار النووي إلا تمهيدا لذلك الخيار واحتمالاته رغم إن الأمر سيكون أسهل من ذلك بكثير إذا ما تم تحييد المسالة العراقية أصلا (في حالة ضرب العراق وتغيير النظام وإقامة نظام موالي). إن خيار اللائحة النووية الأمريكية والذي سربته صحيفة "لوس انجلوس تايمز" قبل فترة و رغم انه فيما ورد أصلا في التقرير يستهدف سبعة دول هي الصين وروسيا وكوريا الشمالية والعراق وسوريا وإيران وليبيا إلا انه من الواضح فان استهداف الصين وروسيا بقنابل نووية صغيرة أمر لا يمكن القبول أو التصديق به ذلك إن اللعب بنار نووية وان كانت صغيرة مع دولة نووية أمر لا يمكن التحكم به وبالتالي فانه خيارا لا يمكن إلا إن يكون لدول غير نووية أصلا وخاصة الدول العربية المعنية ومنها تحديدا سوريا كما هي العراق ولربنا ليبيا ثم لاحقا المسالة الإيرانية وحتى باكستان والتي عدم أدراجها اسمها في تلك القائمة يثير علامات استفهام واستغراب في الوقت ذاته (30). فوق هذا وذاك فان ذلك التلويح باللائحة النووية والخيار النووي المحدود وهو يستهدف دول عربية (سوريا العراق ليبيا)، قد يراد به دول عربية أخرى كما هي مصر والسعودية تحديدا للحصول على الاسترضاء لكي يتم إخضاع تلك الدول العربية ومنها سوريا –هنا- عنوة إن لم يكن طوعا.

وإذا ما تم إخضاع سوريا عنوة أو طوعا وفي إطار الإحاطة الكونية الأمريكية والمشروع الأمريكي الصهيوني للمنطقة فان تسوية القضية الفلسطينية أو تصفية لها سيكون أمرا ممكنا وان كان لا يخلو من صعوبات ليست بالأمر السهل. وفي سياق محاولة تصفية القضية الفلسطينية يلاحظ أن الإدارة الأمريكية وفي ضوء عدم رضاها علي نتائج القمة العربية وبيان بيروت وخاصة فيما يخص الإجماع العربي، بما فيه الموقف السعودي والكويتي، الرافض لضرب العراق وبدرجة اكبر المصالحة السعودية والكويتية مع العراق جعلها (الإدارة الأمريكية) تتآمر مع شار ون للإطاحة بعرفات وتدمير السلطة الفلسطينية بعدوانها الهمجي منذ صباح اليوم التالي لانتهاء مؤتمر القمة العربية في بيروت وذلك للحصول منه على تنازلات تحت الضغط وكذلك معاقبة للعرب الآخرين وتعويضا لربما لتلك الخسارة الأمريكية في المسالة العراقية. لذلك ليس مستغربا إن توجه الإدارة الأمريكية وعلى لسان وزير خارجيتها "كولن باول" في تصريحاته الصحفية (29-3-2002م)، وبشكل أكثر وضوحا وفجاجة على لسان الرئيس الأمريكي "بوش" نفسه، في تصريحاته (31-3-2002م )، لاتهام لعرفات وتحميله مسؤولية العدوان الصهيوني الذي يجري منذ 29-3-2002م، وتبدي في المقابل تعاطفها مع شار ون وإسرائيل وان من حقها الدفاع عن نفسها.

غير إن النقطة الأهم انه وفي سياق ذلك المشهد الإخضاعي (إذا تم إخضاع سوريا بعد إخضاع العراق وهي حالات وأوضاع نتمنى إن تكون القمة العربية الأخيرة في بيروت،  مارس 2002م، وقياداتها قد وضعت قيدا قويا ومسافة بعيدة للوصول إليها وتحقيقها) أو في ثناياه ستكون المهمة الأمريكية التالية هي إعادة إدماج العناصر مع بعضها البعض وخاصة إدماج منطقة الخليج العربي ودولة بما فيه السعودية تحديدا في ذلك التوجه وتلك الصياغة. وإذا ما تمت تلك المشاهد اعتمادا على فكرة تكسير "الحلقات الأضعف" أولا،   فعندها ستكون مصر والأردن ولربنا لبنان وكذلك العراق خارج المعادلة وبالتالي ستكون السعودية هي المستهدفة وفي وضع لا تستطيع فيه إن تقاوم ذلك الإدماج. إن ذلك الاستهداف الأمريكي للسعودية وبتناغم مع الرؤية الصهيونية يعني ببساطة شديدة إن تقبل دول الخليج العربي وعلى رأسها وفي المقدمة منها السعودية مسالة التطبيع مع الكيان الصهيوني (والذي يبدو إن السعودية في طرحها مبادرتها الأخيرة تحاول لربنا إما التمهيد له إن لم تكن تحاول التخفيف من الحملة الأمريكية "استرضاء " والنتيجة النهائية في الحالتين في حالة عدم التحصين الداخلي والعربي على أية حال واحدة) وإحياء فكرة الشرق أوسطية وبالتالي تعويم المشروع الصهيوني مندمجا مع المشروع الأمريكي. إننا إمام عودة إلى الأصول والأساسيات للحملة الأمريكية على "الإرهاب" والسعودية باعتبار إن الأخيرة (السعودية في الرؤية الغربية والأمريكية تحديدا) هي "المركز للإرهاب" وهي "المشكلة" وهي "الخطر" على الغرب عموما وعلي الولايات المتحدة خصوصا وبالتالي فان إعادة هيكلة السعودية أو تفكيكها هي المهمة الأساس المؤجلة في بداية الحملة لضرورات إتمام المشروع الأمريكي في سياق الإحاطة الكونية وضمن تكتيك إنجاز المهام مرحليا طبقا "للحلقات الأضعف" ولكنها المهمة الأساس الناجز في نهاية مطاف "الحلقات الأضعف".

في حالة ممانعة السعودية لذلك التوجه في حلقاته النهائية وهو التطبيع، فان الأمر سيكون بالتلويح بأمر أخر اكبر وأكثر خطورة مما يتوقعه الكثيرون؛ انه مشهد التقسيم والتفتيت للدولة والمجتمع في السعودية ولربنا في منطقة الجزيرة العربية كلها وإعادة رسم خرائطها على نحو أخر.

إن فكرة مشهد التقسيم والتي لا تبدو في عناصرها جديدة (31)، تقوم في توجهاتها ومرتكزاتها الجديدة، والتي حاولنا منذ عدة سنوات خلت الإشارة لها ولفت أنظار المعنيين من صناع قرار ومثقفين في البلاد العربية (32)، على إمكانية استغلال معطيين أساسيين هما: النفط والإسلام (الأماكن المقدسة).إن النفط موجود بدرجة أساسية بالمشرق العربي من العراق شمالا و مرورا بالسعودية ومنطقة الخليج العربي جنوبا. وأما الأماكن المقدسة (الإسلام) فانه في الجزء الغربي من المشرق العربي من الحجاز (المنطقة الغربية) في غرب السعودية بدرجة كبيرة وحتى فلسطين (القدس) شمالا. وبقدر ما يتعلق الأمر بالخليج العربي عموما والسعودية بدرجة اكبر خصوصا، فان مشروع التقسيم سيكون في مشهده الاحتمالي على النحو التالي: إقامة مناطق أو دويلات عازلة أولا: في المنطقة الشرقية وما يتصل بها من مناطق بترولية خاصة بامتداد الربع الخالي (ولربما تربط بالشرق العربي من جنوب شرق الجزيرة وحتى العراق شمالا في مرحلة من المراحل) وحتى مشارف وادي الدواسر. ثانيا: في الحجاز دولة إسلامية مفتوحة للجميع لأداء المشاعر الإسلامية وهذا الخيار الأخير و بما قد تفعله أمريكا لإقناع أو إكراه بعض من المسلمين و/ أو دولهم لربما يجد صدي عند بعض المسلمين من الناحية الإسلامية ولربما سيكون مرحب به من قبل بعض الدول على الأقل. و قد تسند تلك التوجهات بمدينة " القدس" مدّولة لكل الأديان بما في ذلك الإسلام وبحلول مفروضة على العرب والفلسطينيين إن أمكن ذلك. ثالثا: أما المناطق الشمالية والوسطي والجنوبية فإنها تترك لقدرها تتطاير أو تتذرذر وبالشكل الذي تريده أو يراد لها أما علي شكل إمارات أو محميات أو على شكل ملاحق لكيانات أخرى. عندها سيكون الجميع خاسر دولة ومجتمع ومناطق بما في ذلك الوضعية العربية وتلك حالة لا أحد يرغب بحدوثها ولكن الرغبة شيء والعمل على تفعيلها بممانعة جادة شيء آخر.

ولعل السؤال الأكثر أهمية في ذلك السياق، هو هل هذا المشهد التقسيمي واحتمال حدوثه أمر ممكن أم لا؟ إن الإجابة عليه باليقين أمرا ليس ممكنا ولكن الاقتراب منه قد لا يكون عسيرا. إن ذلك احتمال قد يحدث وقد لا يحدث ولكن كل المؤشرات والدلائل تشدد على أن الولايات المتحدة الأمريكية لن تترك السعودية في مرحلة ما قادمة على ا كانت عليه وان إعادة هيكلة السعودية سيكون أمرا قادما لا محالة وان كان مؤجلا للمرحلة الآنية حتى الانتهاء من "الحلقات الأضعف". وبينما كان هناك من يصرح بان هناك توافق أمني استخباراتي أمريكي– روسي للتخلص من الحالة العراقية والإيرانية أولا ثم التفرغ للمهمة الأهم في النهاية بالجزيرة العربية وتحديدا في السعودية و"الإرهاب السعودي" حتى وان تطلب ذلك التخلص من أنظمة الحكم القائمة وهو ما أشير إلى ضرورته في النهاية، فان هناك من طرح فكرة إقامة سياج حول المنطقة الشرقية من السعوديةFencing Eastern Province    (33).

وفي سياق تلك الإمكانية وذلك المشهد على أية حال، ليتركز الأمر على بعض من تصورها في سياق مشروطياتها: انطلاقا من تلك التلميحات والتصريحات، ماذا لو قررت الولايات المتحدة وأعلنت خطوط الطول وأجزاء من العرض- (بدلا من خطوط العرض كما هي الحالة العراقية)- لشرق الدهناء وغرب الحجاز، فمن الذي سيمنع الولايات المتحدة الأمريكية من تنفيذ ذلك؟ هناك من لا يصدق أو لربما لا يريد أن يصدق بان ذلك قد يكون ممكنا باعتبار إن ذلك وفي سياق المسالة النفطية السعودية والاستقرار السياسي في المنطقة لن يكون في مصلحة هذا الخيار. ولكن في المقابل يمكن القول انه ورغم إن مصلحة الولايات المتحدة الأمريكية هي في الاستقرار السياسي للمنطقة في إطار المسالة البترولية وهي ما تراهن عليها عناصر وأطرافا عربية وغربية واهمة أو متوهمة إن أمريكا سوف تتركها وشانها على ما كانت عليه، فان هناك أيضا من يري ومن عناصر متنفذة في الغرب وفي الولايات المتحدة الأمريكية تحديدا- (وخاصة في سياق الفكرة المهيمنة بان ترك "الحالة السعودية "على ما كانت عليه أمر لا يمكن القبول به ويجب معالجتها معالجة جذرية وإلى الأبد)- انه من الممكن وفي المصلحة الأمريكية تنفيذ ذلك المشروع التقسيمي وان ذلك أمر ممكنا وفي إطار صياغة التقسيمات الصغيرة والضامنة للمسالة البترولية. أو ليست الولايات المتحدة الأمريكية هي القوة- على الأرض الضامنة حاليا لتلك المسالة البترولية؟  

يجب أن نقول إن المسالة ليست في تهويلها ولا في تضخيمها ولا في القول بان تلك الإمكانيات لن تلقي مقاومة أو ممانعة محلية أو إقليمية أو حتى دولية ولكن أيضا نشدد على أن القول بان ذلك أولا:احتمال ومشهد مستقبلي ويمكن إذا ما تمت لحظة الحسم باتجاه السعودية والخليج العربي وفي سياق الإدماج في المشروع الأمريكي والمتناغم مع المشروع الصهيوني عندها لن تكون المسالة تخيّلية وعند هذه اللحظة لربما تلتقي الرؤية الصهيونية بالحملة الأمريكية على السعودية تحديدا كما يتصورها الرسميون السعوديون حاليا. أما لماذا الإمكانية لتحقيق مشروع التقسيم فالأمر يرتبط أساسا بعدة عناصر منها ما هو خارجي مرتبط بدوافع القوي الكبرى وحلفاءها بالسيطرة على المنطقة وكذلك بالقوى الإقليمية وخاصة في سياق العلاقات العربية العربية وطبيعة عناصر ومكونات القوة العربية وفاعليتها وعدم متانتها أو تمتينها، ومنها ما هو داخلي يرتبط بالأوضاع الداخلية تحديدا.

 ورغم أهمية العناصر الخارجية والتي قد نتعرض لبعض منها لاحقا، فان ما يهمنا هو البعد والعناصر الداخلية في إمكانية تحقيق مشروع التقسيم. ونود التأكيد بداية على أن ذلك المشهد وعوامله العربية والداخلية تحديدا بالقدر الذي يمس  ويفسر الحالة  السعودية ومستقبلها   فانه  لربما يقترب زيادة أو نقصا من ذلك القدر الذي يمس ويفسر الحالة العربية  لمعظم الدول العربية إن لم يكن كلها وخاصة تلك الدول التي  تتعرض لتحديات داخلية مترافقة مع ضغوطا خارجية.

بناء عليه فان ما هو داخلي يتصل ويمس مسا جوهريا مسالة أزمة الدولة والمجتمع أو العلاقة بين الدولة والمجتمع على ضوء عدم قدرة أو رغبة تكيّف النظام السياسي أو القائمين عليه وما يرتبط بذلك من مقومات لا نجاح المشروع التقسيمي وخاصة في سياق ضعف أو هشاشة ما يتصل بمسالة "الاندماج" وغموض فكرة المواطنة وغياب الشعور بالمسؤوليات لدي الأفراد والجماعات في البلد وذلك لان سياسات الدولة اتسمت بعدم التوازن من حيث التنمية وتوزيع مخرجاتها وذلك لغياب أصلا الإشراك المتوازن في المسؤوليات في إنتاج تلك السياسات المتوازنة المطلوبة. وتتداخل تلك الأمور مع تزايد تلك المشاكل الاقتصادية والفساد المالي والإداري في سياق استشراء المصلحة الخاصة وعلى حساب المصلحة العامة أو بفقدانها أصلا، وكذلك مترافقة والبطالة وتزايد السكان مع عدم وجود قوانين ومؤسسات لمواجهة تلك التحديات (34).

إن كانت تلك تحديات حقيقية، فمن الذي يمنع الولايات المتحدة إذا ما أعلنت إن شرق الدهناء من شمال الخليج إلى جنوبه، على سبيل المثال منطقة محظورة علي التجاوز ؟من الذي سوف يحارب الولايات المتحدة الأمريكية؟ هل أبناء تلك الدول لديهم الإحساس بتلك المسؤولية ويتوافرون على القدرة والتعبئة المطلوبة؟ إن المواطنين في بلدان الخليج العربي ومنهم أبناء السعودية، لربما لا يقلون عن أقرانهم الآخرين في العالم في رغبتهم في الدفاع عن بلادهم. ولكن لكي يحصل ذلك فلابد من مقومات وتلك المقومات لا يبدو متوفرة؛  إذ أن المواطن العادي لا يعرف بشكل عام استخدام المسدس فكيف بمقاتلة دولة كبري وتحدي قرارها؟ ألم تستطيع أمريكا أن تفرض مناطق عازلة في شمال وجنوب العراق وعلى بلد هو العراق وهو يعتبر اقوي بكثير من السعودية مثلا ؟ وفوق هذا وذاك إننا إمام مناطق ومجموعات لم تتولد لديها فكرة " الدمج " و"المواطنة" وبسبب من سياسات التنموية غير المتوازنة والقائمين عليها. إنها مناطق ومجموعات تبدو معزولة أكثر عن بعضها البعض ولدرجة أن كثيرا من الأهالي، أفرادا وجماعات لا يعرفون ولم يزوروا تلك المناطق أو مدنها علي الإطلاق، بل أن هناك من لاحظ وباستغراب وتساؤل عن أن أبناء البلد يعرفون مدنا عربية وأجنبية أكثر بكثير من معرفتهم لمدن ومناطق بلدهم وبالتالي فهو يري الحاجة ماسة إلى التواصل الاجتماعي والثقافي (35). وإذا ما تم تواصل بينها فان ذلك لبعض ضرورات العمل أو المرور. وحتى المدن الرئيسية والتي تستقطب معظم سكان البلد (وهي الرياض ومكة وجدة والدمام والخبر)، فأنها ورغم أنها تستقطب مجموعات من مناطق مختلفة وتبدو ظاهريا أكثر اندماجا أو دمجا من الناحية الشكلية، إلا أن واقعها الاجتماعي يشير إلى إنها مجتمعات مسكونة بتقاسمات مجموعات غير مندمجة. ورغم إن الموروثات الاجتماعية قد تكون مسئولة إلى حد ما عن تلك الوضعية إلا أن سياسات التنموية غير المتوازنة بين المناطق والمجموعات وحتى في المدن وإطرافها والرؤية الاستراتيجية للقائمين عليها بما هي منظومة ناظمة ضاغطة قد تكون بدرجة اكبر مسئولة عن تواصلها وبالتالي بالتعاضد مع عوامل سالبة لبيئة وبنية نظام تتسم بالجمود، تقفان وراء تكّون البنية – التحتية الانقسامية ومن ثم البذرة التي قد تسهل عملية مشروع التقسيم في حالة الإصرار على تنفيذه وفي غياب مشروع الإصلاح واستمرار مشهد الانهيار وهو ما نعالجه ونفصل فيه تاليا.

في طبيعة الأزمة الداخلية ومشهد (بديل) الانهيار

 إن طبيعة الأزمة الداخلية ليست عارضة كما بدأت وتبدو للوهلة الأولي او إنها متصلة فقط في سياق الموقف من السياسات الأمريكية ذات الصلة بالحملة علي الإرهاب والمشكلة الأفغانية في سياقها. إن تلك الأحداث منذ الحادي عشر من سبتمبر 2001م وصاعدا وحتى هذه اللحظة،  ولربما تتصاعد مستقبلا على ضوء التقدم على مسار المشروع  الأمريكي في إطار "الحلقات الأضعف" وبالذات ما يخص  المنطقة العربية–  هي بعض منها أو مظاهرها وقواها المحفزة. إن طبيعة الأزمة تتصل بالعلاقة بين الدولة والمجتمع على خلفية عدة محاور منها محور "الشرعية ومصادرها" ومحور "التنمية والعدالة" و"الإدماج" ومسالة "الفساد" المالي والإداري ومحور "الأمن والعلاقة بالأجنبي" ومحور "المشاركة السياسية" وما يتصل بالتكوينات الجديدة وصناعة القرار والميدان السياسي ونطاقه عموما. كل هذه المحاور تتصل أساسا وبدرجة كبيرة بمسالة "بناء الدولة" وما يتصل بذلك من مسالة قدرة الدول والأنظمة السياسية ونخبها على التحول أو التكيّف مع التحديات الداخلية والخارجية. إن واقع الدولة السعودية من حيث النظام وقدراته وامكانياتة الحالية هو الذي يقبع وراء الأزمة الداخلية أو انعكاسات الأزمة الخارجية (العلاقات السعودية – الغربية ومنها الأمريكية وحملتها تحديدا).

إن العلاقة بين الدولة والمجتمع في السعودية كانت بداية وفي بداية التأسيس علاقة تقوم على فكرة "المساهمة والمشاركة" بين الفاعليات والتكوينات الاجتماعية آنذاك سواء كانت حضرية/ قروية أو قبلية أو مناطقية من جهة وبين السلطة السياسية ممثلة بالملك عبد العزيز آنذاك والذي مثل الزعامة التاريخية ونال شرعيتها. تلك المعادلة وصياغتها كانت ترتكز على عملية التوازن بين السلطة وتلك القوي وكأنها عقد اجتماعي غير مكتوب يترك القرار السياسي وصناعته للملك والأسرة الحاكمة (المحدودة آنذاك) ولكنة في نفس الوقت يترك مجالا للتوازن مع تلك القوي من حيث فكرة "المساهمة والمشاركة" على الطريقة الخلد ونية(36).

تلك الصيغة يبدو إنها وخلال العقود الخمسة الماضية عبرت عن تلك المرحلة وقواها الاجتماعية، غير أن التحولات في طبيعة القوى الاجتماعية والمتصلة بالتحولات المادية والتحديثية ذات الصلة بآثار مدا خيل النفط بدأت وكأنها تتغير من طرف واحد إلا وهو تشكل وتّكون قوى جديدة بتطلعاتها ورغباتها (رغم ما لحقها هي الأخرى من تآكل أو فساد أو انحرافات نتيجة تعطل قدراتها أو تعطيلها بسبب جمود الطرف المقابل والأبعاد الاجتماعية المتداخلة معه)، بينما الطرف الأخر وهو المجال السياسي ولمن الحق في المشاركة فيه بقي كما هو دون تغير يذكر عدا لمسات تجميلية شكلية (النظام السياسي ومجلس الشوري والمناطق) وهذه الأخيرة لم تكن تتوافق وتغيرات العلاقة الجديدة المتكّونة. وخلال تلك الفترة السابقة بدا أن المعالجة المالية للأمور تأخذ الحيز الأكبر من عملية تعديل الاختلال في العلاقة علما بان ذلك أيضا تركز على فكرة الاحتواء التوظيفي وبعض المشاريع والبني الأساسية غير المتكاملة أصلا وبشكل عام وغير المتوازنة تحديدا وبشكل خاص على مستوي أو بين المناطق والمجموعات.

ومع أزمة الخليج التالية1990/1991 وتوابعها بدأت الأسئلة المجتمعية في البروز، وخاصة من قبل القوي والفئات والعناصر الجديدة وسواء كانت لبرالية أو إسلامية وحتى التقليدية، عن الأمن والعلاقة مع الأجنبي وكذلك إدارة موارد الدولة وتوازنها والحاجة إلى مؤسسات سياسية وقانونية عصرية. ومع أن تلك الأزمة كانت فرصة ثمينة لتكيّف النظام السياسي بصياغة أكثر استجابة مع تطلعات القوى الجديدة واستمرار تقدم المجتمع ككل واستقراره، إلا إن المراهنة على الوقت كانت لها الأولوية. ومع تزايد الانكشاف الأمني المتصل في العلاقة مع الولايات المتحدة وفي سياق المسالة العراقية وتواصلها وخاصة منذ 1995 فصاعدا، بدا أن هناك توجه لتقلقل من فئات اجتماعية وصل بها الأمر إلى قضية التفجيرات في 1995/1996 م. تلك التفجيرات ورغم إعدام بعض مرتكبيها وخاصة منفذي عملية 1995، بدأت تؤسس لموقف شعبي معاد للوجود الأمريكي في الخليج وفي السعودية تحديدا. ورغم أن السلطة السعودية نفسها بدأت هي الأخرى تتقلقل من تأثيرات ذلك الوجود ومسالة التدخلات في الشؤون الداخلية (مسالة التحقيقات في التفجيرات وخاصة تفجير الخبر1996م و الذي لم تكن التحقيقات في إطاره قد انتهت حتى أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م) وكذلك رغم الاتفاق الناتج عن تلك التفجيرات بين السعودية والولايات المتحدة الأمريكية على إعادة نشر القوات الأمريكية وتجميعها في منطقة الخرج تحديدا إلا أن تلك المعالجات لم تكن لتكفي ردم الفجوة الداخلية بين رغبات وتطلعات الفئات والقوى الشعبية وبين رؤية النظام وضروراته أو خياراته للتعامل مع تلك القضية.

إن الحل الأمني لتلك المسائل وخاصة الإعدامات للعناصر المعارضة والمتصلة بالتفجيرات لم يحل المشكلة بل أن المسالة أخذت بالتطور وخاصة بعد1996 ثم لاحقا بعد أحداث 1998 بضرب العراق والسودان وأفغانستان ثم انفجار الانتفاضة ضد الاحتلال الصهيوني منذ 28 سبتمبر2000م وما رافق ذلك كله من بعض التقلقلات على صعيد بعض الأحداث الاجتماعية كالمظاهرات التي حدثت في الجوف والي حد ما في جدة والرياض والدمام (وإن كانت الأخيرات قليلة في حجمها) وكذلك اختطاف الطائرة إلى بغداد. كل ذلك - مع استمرار الانتفاضة الفلسطينية ضد الاحتلال والحملة الوحشية الصهيونية المتواصلة، وصلة ذلك كله بالسياسات الأمريكية الداعكة للكيان الصهيوني بدون حدود- أدى، بالتعاضد مع التراجع الاقتصادي و قلة فرص العمل وتزايد البطالة وصلة ذلك بموارد الدولة وإدارتها، إلى تكوّن وتعزز بيئة تنمو فيها أسئلة مجتمعية مفتوحة عن تلك الأوضاع وكذلك إلى تزايد العناصر المعارضة للوجود الأمريكي ولسياساتها في المنطقة والمنحازة للكيان الصهيوني. ثم وفي أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر واتهام السعوديين بالهجمات، بدا أن الأمر يتعلق بمسالة أساسية لم يفكر فيها كثيرا ألا وهي أن هناك مجموعات سعودية تجاوزت مجموعة ال1995 عددا وعدة وتخطيطا ومتجاوزة، فوق ذلك الدولة السعودية من حيث إعطاء الانتماء والولاء السياسي لمجموعة ومركز غير الدولة وهذه الأخيرة لا تعترف بها بل وتناصبها العداء. وإذا فترضنا أن هؤلاء الخمسة عشر مهاجما بالفعل سعوديون – كما يبدو أن السلطات السعودية أقرت به مؤخرا كما سبق الإشارة إليه – وكذلك ما بدا من تفاقم الأزمة الأفغانية وما بعدها من أعداد متزايدة متعاطفة مع تلك المجموعة من تنظيم القاعدة وزعيمها أسامة بن لادن فإن الأمر يعني فيما يعنيه، ولا يقتصر فقط عليه، إن الدولة السعودية من حيث هي "سلطة ومركز" سياسي تعاني بالفعل من ما يمكن تسميته بـ"أزمة الشرعية". إن الافتراق الشعبي مع الحكومة السعودية في إطار سياساتها الخارجية والمستند على اختلالات في السياسة الداخلية خاصة في سياق انغلاق الأفق السياسي واختلالات في التنمية وعدم توازنها خاصة بين المناطق إضافة إلى مشاكل اقتصادية عامة ذات صلة بإدارة الموارد بشكل عام، قد أصبح واضحا جدا في ثنايا أزمة أحداث سبتمبر 2001ومابعدها.

إن الشرعية لأي نظام سياسي غالبا ما تأتي من رضاء وقبول الناس لذلك النظام وسياساته ومخرجاته. ومصادر الشرعية عادة ما ترتكز إلى عدة عناصر منها الزعامة التاريخية العقيدة الدين (الآيدولوجيا) والهوية وكذلك الإنجازات التنموية وتوفير الحماية والأمن وبشكل عام قدرة النظام علي التعامل والتكيّف مع الاحتياجات الشعبية والتحديات بكافة تجلياتها. وحيث أن الزعامة التاريخية (الملك عبد العزيز) للدولة السعودية لم تعد هي الماثلة والقائمة في المرحلة الحالية وذلك بانقضاء مهامها أصلا مع بداية تكوين الدولة، وكذلك مع تغليب المصالح السياسية علي مسألة العقيدة والدين والهوية وخاصة بالانسياق وراء العلاقات الدولية وبالذات الغربية والأمريكية تحديدا، وكذلك حيث أن الدولة منذ1990 فصاعدا بدأت وبشكل مكثف تعتمد على الحماية الأجنبية والأمريكية تحديدا، وبالتالي عدم قدرتها، أو لربما رغبتها، في توفير الحماية الذاتية، ومع تنامي عجز الدولة في أداء متطلبات التنمية وتوازنها بين كافة المناطق والمجموعات وعلى أسس تحقق العدالة والكرامة والرفاهية للجميع وبشكل متوازن، وكذلك مع تزايد البطالة والتي سوف تتفاقم مع تزايد السكان، ومع انعدام الشفافية والمكاشفة تجاه تلك القضايا والمسائل، فان أزمة الشرعية للدولة السعودية لم تعد منطقة غير واضحة. وبغياب الأنظمة والقوانين المؤسساتية والتي توازن بين تلك الحاجات وتحقق الرضا والتوازن والاستقرار، ومع سيطرة قوى ونخب مغلقة ذات إمتدادات عائلية (عدد من العائلات والأسر) ومناطقية بعينها (وعدد من قرى أو مدن من تلك المناطق وليس بالضرورة كلها) على صياغة السياسيات التنموية وتوزيعات مخرجاتها وعلى نحو يأخذ في حسبانها مصالحها هي بدرجة أساسية أو امتداداتها المناطقية إلى حد ما، فإن الفساد والمحسوبية أصبحت هي الأخرى مستشرية في الدولة والمجتمع على حد سواء. وبموازاة ذلك كله، أصبحت المصلحة الخاصة والخاصة جدا هي معيار العمل وعلى حساب المصلحة العامة وخاصة في مرافق الدولة ومؤسساتها. كل ذلك أدى إلى انحرافات من قبل فئات اجتماعية متنامية سواء على مستوى الأفراد أو المجموعات أو المناطق، وتلك الانحرافات بدأت تأخذ أشكال متعددة بما في ذلك الانحرافات الأخلاقية والمادية، وكذلك الانحرافات في اللاءات السياسية وتجاوز الدولة. وحيث أن الأفراد والمجموعات الشعبية ليست مشركة في العملية السياسية على نحو واضح ومحدد، بحيث تدخل في عملية صناعة القرار وإنتاج السياسات المطلوبة وتتحمل مسؤولياتها، فإنها لن تكون بمنأى عن تلك الانحرافات، وبالذات السياسية منها، بما في ذلك التطرف والنزوع للعنف ضد الدولة وسلطتها وسياساتها وارتباطاتها الخارجية ومنابعها الداخلية. وبالتالي فان الأزمة الداخلية، إن لم يتم تداركها على نحو يقترب مما سوف نفصل فيه تاليا، سوف تتفاقم مع الوقت ولربما تعجل بنمو بذرة الانهيار وبروز مشهده.

 

 

الإحاطة بالأزمة الداخلية والخارجية: بديل الإصلاح

 

 

 

ان جوهر الأزمة بين الدولة والمجتمع يرتبط، كما أسلفنا، بانغلاق الأفق والنطاق السياسي للنظام في وجه القوى والفئات الاجتماعية والشعبية وما ولدته تلك الحالة من افتراق بين الطرفين. إن معالجة الأزمة الداخلية لا تتم من خلال المعالجة لبعدها الخارجي مع الغرب بمزيد من الإتساق معه، وهو ما يعمق ذلك الافتراق ويزيد أزمة الشرعية للنظام تعقيدا، وليس عن طريق الحلول الأمنية والقسرية ومحاولة المراهنة على الوقت بمعالجات وقتية وظرفية. إن معالجة الأزمة الخارجية وكذلك الأزمة الداخلية تتجه جوهريا إلى الإحاطة بمسألة ذلك الافتراق وما يتطلبه بالفعل من الاتجاه إلى إصلاح الدولة وإعادة بنائها بصياغة جديدة للأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإعلامية.

إن نظريات التنمية السياسية بكافة تياراتها وتشعباتها (مدخل بناء الدولة القومية، ومدخل معضلة الخيارات ومسألة التحديث والاستقرار السياسي ومدخل قوة وضعف الدولة) تؤكد جميعها، وبرغم الملاحظات عليها، أن قدرة النظام السياسي لأي دولة على الاستمرار والبقاء والارتقاء بالمجتمع ومقدرا ته، تقوم علي قدرة ذلك النظام والدولة علي التكيّف مع التحديات الداخلية والخارجية وضروراتها. كل ذلك مرهون بمرحلة من المراحل بقدرة ورغبة النخب الحاكمة على المضي في ذلك الاتجاه وليس الوقوف عند فكرة اللحظة التاريخية لتولد ذلك النظام باعتبار أنها وصياغاتها فكرة خالدة أو يجب أن تستمر كذلك.

إن إدارة البلد وعلى الطريقة التقليدية حتى وان استندت إلى تكنوقراطية وبيروقراطية تبدو حديثة- لم تعد تتناسب والتغيرات المجتمعية المحلية والمعطيات الدولية والإقليمية المحيطة. كانت تلك الإدارة مناسبة لربما لفترة ما قبل نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، أما منذ العقد الأخير للقرن الماضي وبدرجة اكبر منذ دخولنا الألفية الثالثة فإن تلك الإدارة ليست فقط غير مناسبة بل أن استمرارها يشكل عبئا وتكلفة باهظة، ليس على القائمين عليها فقط، وإنما على البلد دولة ومجتمع. ورغم ما يقال عن ديموقراطية الصحراء لتلك الإدارة ومجالسها، فان تلك لم تعد تمثل الإطار المناسب، وكذلك فان مرتادوها هم في الغالب من كبار السن وليسوا من الأجيال الجديدة والذين قد لا يجدون فيها الخلاص. ورغم الجانب الإنساني في تلك المجالس بان يقابل أعلى قيادي في البلد مواطنيه (وبعض منهم بشكل دوري كما هو الحال مع سمو ولي العهد الأمير عبد الله) فإن الأمر لا يخلو من أثار سلبية في الوقت ذاته، ذلك أن عددا من الذين يرتادون تلك المجالس غالبا هم من كبار السن والشيوخ، والذين يأتون من أماكن بعيدة للبحث عن حلول لمشاكلهم والتي لو وجدت الآليات والإجراءات والمؤسسات المركزية والمحلية ذات الصلاحيات والأطر القانونية، لما كان لهذه المعاناة أن تحدث وتستمر. أضف إلى ذلك حقيقة بشرية، وهي عدم إمكانية وقدرة أن تستطيع القيادة، أي قيادة مهما أوتيت من قدرات ورغبات في ذلك الاتجاه (رغم احتمال وجود مستوى عال من الرغبة في ذلك) أن تحل مشاكل أفراد المجتمع وفئاته بهذه الطريقة والتي أيضا، إن وجدت، قد تبقى أسيرة للحاجب والوسيط والذي يتحكم بمن يدخل ومن لا يدخل، ثم بعد ذلك للشارح والمنفذ والمتابع، وكلها حلقات يصعب التحكم بكفاءاتها، وبالتالي إضعاف تلك الأخيرة عموما لدرجة أنها تولد نقيضها من حيث عدم قدرتها علي الاستجابة لتلك الحاجة الاجتماعية العامة وبالتالي تصبح فعليا غير ملائمة.

ولحل الأزمة الداخلية في السعودية- ولربما في البلدان العربية الأخرى المماثلة قياسا- وبما هي علاقة بين الدولة والمجتمع، فان المخرج هو بديل الإصلاح والذي يتطلب التفهم وإمعان النظر فيه من قبل المعنيين ببقاء الدولة والمجتمع علي حد سواء. وحيث أن بديل الإصلاح يتطلب إصلاح بنية الدولة وإعادة صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع على أساس تكيّف قدرات النظام في المجال السياسي والاقتصادي والاجتماعي، فان الآليات تحتاج إلى تحديد الخطوط العامة للإصلاحات المطلوبة في تلك المجالات.

 

 

في المجال السياسي

 

 

يجب الانطلاق من فكرة جوهرية، وهي الانطلاق من المواطن نفسه، وإعادة الاعتبار إليه والثقة فيه بحيث يكون الأساس، والجوهر هو إشراك المواطن في الحكم بمعنى إدخال المواطن إلى دائرة الحكم وصناعة القرار بدلا من يكون خارجها كما هو حاليا. تلك تقتضي معالجة مسألة المشاركة السياسية وهذا يتطلب إيجاد صياغة حقيقية لفصل السلطات (التشريعية، والتنفيذية، والقضائية) منطلقة من قيام نظام دولة ملكية دستورية بحكومة رئاسية، وهذا يعني وبما يضمن بقاء واستمرار الملك علي قمة هرم الدولة وهو ما يعني أو لربما التأكيد على بقاء الأسرة السعودية باعتبارها القوة الأعلى في هرم قيادة وإدارة هذه الدولة. وهذا يعني إمكانية كون الملك ستكون له سلطات سياسية أصيلة واضحة تعطيه الحق الدستوري عن طريق"الإرادة الملكية"في تكليف تشكيل الحكومة أو إقالتها إذا لم تنسجم مع السلطة التشريعية والقيام بمهامها "إي برنامجها الحكومي" بحيث تكون الحكومة أصلا مسؤولة أمام السلطة التشريعية، بحيث يمكن للأخيرة التصويت على الحكومة بالثقة من عدمها، ومحاسبة الوزراء وكذلك المساءلة القانونية ومناقشة الميزانية والمصادقة عليها أنها رفضها. وإما من يكون الملك وهو رئيس هذه الدولة فهذا أمر يترك " للأسرة السعودية" وقد يكون من المناسب أن يقوم"مجلس الأسرة"- والذي يفترض أن يتشكل بّالية ترضي الأغلبية منها أو إنها تتوافق عليها- بعملية اختيار الملك. وتلك العناصر السابقة واللاحقة يجب أن ينص عليها دستور محدد النصوص وبموافقة شعبية عليه"استفتاء شعبي" ثم يربط ذلك الدستور للمراجعة سواء بالتعديل أو الإضافة أو الحذف فيه بالسلطة التشريعية باعتبارها صاحبة الصلاحية في تلك الأمور.

وتلك السلطة التشريعية والتي تأتي عن طريق آلية الانتخابات هي المؤسسة التي يتم من خلالها إشراك المواطن في الحكم وصناعة القرار. والسلطة التشريعية تلك، يمكن إن تتكون من مجلسين بحيث يمكن إدخال القوي الاجتماعية الجديدة والشعبية، وكذلك إيجاد التوازن مع القوى الاجتماعية التقليدية والأعيان والمشايخ وبعض الأقليات والعلماء. ولإتمام تلك العملية فان مجلس الشورى الحالي يتطلب التطوير إلي سلطة تشريعية أصيلة وتحويله إلى مجلسين؛ مجلس شوري منتخب للشعب وآخر للأعيان. ويمكن للأخير إن يتم اختيار أعضاءه بالتعيين بحيث يضمن دخول تلك القوى التقليدية ومن في حكمها من أجل الموازنة وكذلك للإحاطة بالمسالة الاجتماعية.

وفي سياق تطوير مجلس شوري منتخب، لربما هناك من يثير مسالة التخوف او التخويف من الأبعاد القبلية والطائفية وكذلك الإشارة إلى عدم وعي الشعب في تلك الاتجاهات. وتلك حجة ليست قوية، إذ أن بعض البلدان العربية (لبنان – الأردن- الكويت- اليمن) وكذلك الأفريقية وحتى في الهند ومناطق أخرى أتاحت المجال للانتخابات رغم التنوع القبلي أو الطائفي والعرقي ولم تتعطل العملية السياسية. فوق هذا، فإننا نزعم أن القبيلة، كمؤسسة منظمة مهيمنة على، ومحركة لمن ينتمون إليها، في السعودية، قد تضعضت وضعفت بدرجة كبيرة.  وهذه الوضعية تنسحب على كافة القبائل في السعودية، وان كانت بنسب متفاوتة، إذ هي بالشمال أضعف منها في الجنوب والوسطي. وبغض النظر عن الفوارق تلك وأسبابها (ولعل هذه النقطة الأخيرة بما هي ظاهرة تحتاج إلى إعمال النظر والدراسة المعمقة لها) فإن فاعلية القبيلة في السعودية لم تعد واضحة إلا في مسالة الانتساب الاجتماعي، وحل بعض المشاكل مثل الديات، وتلك الأخيرة ليست أساسا مسألة سلبية بل أنها قد تكون إضافة في إطار بعض التكوينات للمجتمع الأهلي.

ومهما يكن من أمر، فإن فاعلية القبيلة من حيث حركتها السياسية ومدى تحكم شيخها في تلك الحركة لم تعد محسوسة تماما. كذلك فان القبيلة من حيث هي بنية ذات نظام سياسي واجتماعي وقانوني "عرف" وديناميكية في إطار الحمي "الإقليم" والغزو باعتبار الأخير أحد وسائل الحياة والعيش، لم تعد قائمة أبدا، ذلك أن الدولة أصبحت ليست فقط المنافسة، بل المهيمنة خاصة وان الأخيرة هي المتحكمة بالموارد بكافة عناصرها. إضافة إلى ذلك، فان الانتخابات ومسألة البعد الاجتماعي منها إنما تحتاج إلى مزيد من الولوج باعتبار أن تلك تجربة تحتاج الى المساهمة في إنضاجها. إن ذلك يتطلب البدء فيها وليس الانتظار، لأنه ليس هناك نقطة نهائية للقول بالوصول عندها. أضف إلى ذلك كله، إن تلك المخاوف يمكن تحييدها عن طريق آلية إيجاد المجلسين، لكي تعطى الفرص المتوازنة لتلك القوى التقليدية مع القوى الأخرى، وذلك من خلال مجلس "شوري" الأعيان وعن طريق التعيين لنسبة ما من الأعضاء، إن كان ذلك ضروريا وخاصة في المراحل الأولى من العملية السياسية بصيغتها الإصلاحية. إضافة إلى ذلك كله، فان هناك من يرى، وبناء على ملاحظة التجارب العالمية تاريخيا وحاضرا، بان التركيب القبلي أو الطائفي لم يكن عائقا تجاه التحول إلى المشاركة السياسية الانتخابية، ذلك أن التوازنات القبلية بحد ذاتها، وهي في سياق الندية والمساواة، ستعمل على موازنة بعضها البعض، وبالتالي قد تكون دعامة قوية ضد الطغيان والاستبداد ذاته (37).

إضافة إلى السلطة التشريعية بشقيها (شوري الشعب والآخر للأعيان)، فإن الحكومة (السلطة التنفيذية) يجب أن تشكل دائما بناء على اتجاهات الانتخابات في السلطة التشريعية، ويكلف الملك الشخصية سواء أحد الأمراء أو أحد أبناء الشعب، ويفضل الأخير وذلك بما يعفي الأسرة من مسؤوليات وتبعات إخفاق الحكومة وأدائها التي تشكل الحكومة من المجموعات أو القوى أو الكتل الأكثر وزنا (عدد المقاعد) داخل السلطة التشريعية لمجلس الشورى المنتخب. ويغض النظر عمن يرأس الحكومة فإن تشكيل الحكومة يجب أن يربط ببرنامج محدد ومسؤولية قانونية أمام مجلس شورى الشعب والأعيان، بحيث يمكن التصويت على الحكومة وبرنامجها بالثقة أو سحبها ومساءلة الوزراء ومحاسبتهم وكذلك مناقشة الميزانية والموافقة عليها أو رفضها. وفي حالة تشكيل أي حكومة سواء في أعقاب الانتخابات التشريعية أو في حالة إحلال حكومة بدل أخرى نتيجة التصويت، والأخيرة يجب أن تقدم استقالتها أمام الملك فان ذلك يستند إلى صدور إرادة ملكية وبخطوط عامة للبرنامج الحكومي، والذي يتحدد لاحقا بشكل تفصيلي لإقراره من السلطة التشريعية. ويمكن التأكيد على أن يحتل بعض المناصب الوزارية عدد من أفراد الأسرة السعودية وخاصة بعض الوزارات السيادية (مثل الداخلية والدفاع والخارجية) وعلى نحو متعارف عليه والى فترة تشعر فيها الأسرة بنوع من الاطمئنان بان الإصلاح لا يستهدف الإقصاء وإنما يستهدف التطوير وتمتين العلاقة بين الدولة والمجتمع بحيث يكون الأخير جزء ومركب أساسي من أساسيات النطاق السياسي واتخاذ القرارات ومصدر مشروعيتها. وفي حالة التوجه إلى هذا البديل الإصلاحي، فإنه علي مستوى برنامج الحكومة، فإن مكافحة الفساد بكافة أشكاله وتجليا ته، باعتبار أن الفساد أصبح سرطانا يشمل الجميع،  ولا يستثني أحدا تقريبا، وخاصة في الأبعاد المالية والإدارية والمحسوبية، وكذلك التأكيد على تغليب المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، يجب أن تحظى بأولوية قصوى لأي حكومة بهذا الاتجاه.

ارتباطا ببديل الإصلاح في بعده السياسي، والذي يرتكز على فكرة قيام نظام ملكي دستوري رئاسي، وهو ما يعني تنمية سياسية مطلوبة للتكيّف مع التحديات الخارجية والداخلية فان قيام نظام وسلطة قضائية مستقلة يعتبر من مكونات ذلك البديل وأركانه الأساسية.

إن هذا يعني فيما يعنيه قيام وإيجاد نظام قانوني دستوري يحدد تلك السلطات والاختصاصات وعلاقاتها، وبما يؤكد على سيادة القانون، والذي يجب أن يتمحور حول الإنسان وكرامته وحقوق الأفراد وحرياتهم الأساسية في مقابل الواجبات الملقاة عليهم. ولكي يصار إلى هذا النظام القضائي، فيمكن الدمج بين المصادر التشريعية الإسلامية باعتبارها المصادر الأساسية، ولها الأولوية، وبين المصادر القانونية الإنسانية، وتلك الأخيرة أصبحت ضرورات الحياة تحتاجها ولا تقوم بدونها ولا تتعارض بالمطلق مع الأولى.

وفي سياق تلك المسألة وتحقيقها، فإن هناك حاجة ماسة لإعادة هيكلة وتأهيل الطاقم القضائي كاملا، بحيث يجمع بين متطلبات الشريعة وضرورات القوانين العالمية، وأن يكون لدى القاضي إلمام قانوني فقهي إسلامي وعالمي مقارن. وفي هذا السياق، يؤكد على مساهمة كافة العلماء والمشايخ، من كافة المدارس والمذاهب الإسلامية في تلك المؤسسات القضائية، وبما يعني الانفتاح على المذاهب الفقهية الأخرى، وأن لا يكون ذلك حكرا على فئة أو مدرسة فقهية بعينها.

وينطبق هذا على التوجهـ بالانفتاح الديني علي كافة الاتجاهات العامة، بحيث يمكن للمواطنين من مختلف المدارس والمذاهب الفقهية المساهمة في المسألة الدينية وشعائرها، بما في ذلك مهام الدعوة والإرشاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكذلك في إمامة الصلوات وخاصة في قائمة أئمة وخطباء المساجد وبالذات الجمع. إن تلك الإصلاحات القضائية والدينية ذات الصلة في سياق بديل الإصلاح، وخاصة وجود نظام قضائي دستوري متطور ومنفتح هو أيضا أصبح من متطلبات التوجهات العالمية وخاصة فيما يتعلق بتسهيل انضمام المملكة إلى منظمة التجارة العالمية، والتي تشترط أساسا حدوث إصلاحات جوهرية في تلك الأبعاد، وبما يضمن الحقوق والممتلكات للمستثمرين ويسهل من مهمتهم، قبل قبول الانضمام.

 

 

في المجال الاقتصادي

 

 

 ورغم أن هذا مرهون بعمل الحكومة وبرنامجها الحكومي لفترة عملها، فان التأكيد هنا يكون على التشديد على مسألة التعامل مع قضية التنمية الاقتصادية وأبعادها كافة، بما يحقق العدالة الاجتماعية والرفاهية والتقدم والكرامة للجميع أفرادا وجماعات ومناطق، وهذا يتطلب أن تعاد صياغة أولويات التنمية والخدمات المتصلة بها(تعليميا-اجتماعيا-صحيا-مائيا-زراعيا...) بحيث يكون هناك توزيع عادل ومتوازن للموارد وان تتاح الفرصة الكاملة والمتساوية لأبناء البلد ومناطقها للحصول على تلك الخدمات والحاجات من خلال؛ أولا، توزيعها على المناطق وليس حصرها في مناطق أو مدن منها بعينها والذي يعني، في حالة استمراره انحرافها كما هي عليه الآن، هو مزيد من التشوهات الاقتصادية والاجتماعية وبما يزيد من الهجرات من مدن ومناطق بعينها وبما يراكم مشاكل ومتطلبات لا تستطيع معها تلك المدن أصلا ولا أجهزتها سواء خدماتية أو أمنية علي السيطرة عليها. وثانيا إشراك المواطن على مستوى الدولة المركزية وعلى مستوى المناطق والمحافظات والمراكز بعملية صياغة السياسات التنموية ومخرجاتها وتقويمها. وفي هذا السياق، فإن وجود لا مركزية في مسائل المالية والصلاحيات في اتخاذ القرارات علي مستوى المناطق قد يكون هو الخيار الأفضل، مع توفير قدر كاف من الموارد المالية للمناطق حسب احتياجاتها التنموية حتى تصل إلى درجة معقولة من التوازن مع المناطق الأخرى، ثم تصبح المسالة لاحقا حسب الاحتياجات النسبية لكل منطقة.

إن الاختلالات التنموية بين المناطق وخاصة التدني في مستوياتها في المناطق الجنوبية والشمالية هو الذي يفسر، إلى حد ما، نزوع بعض الأفراد والجماعات من تلك المناطق إلى العنف أو تجاوز الدولة وهذا الربط بدأت تلحظه حتى المصادر الغربية. ورغم أن الدولة وقياداتها، وخاصة بتوجيهات الأمير عبد الله، تحاول منذ أكثر من سنتين توجيه الاهتمام إلى تلك المناطق، وبالذات الجنوبية، على اثر انتشار حمي الوادي المتصدع(38)، وبدرجة اقل الشمالية، فإن الأمور لازالت تسير ببطء. إن حالة نزوع الأفراد إلى العنف، نتيجة الفقر والإفقار والاختلالات الاقتصادية لا يجب أن ينظر إليها في بعد التظلم الفردي للفقر والإفقار، وتلك حالة وان كانت عامة(39)، إلا أنها وفي سياق الربط بالتظلم الجماعي أو المناطقي –قد تكون هي المحرك لذلك النزوع العنفي، حتى وان كان بعض الأفراد المنخرطين فيه من ميسوري الحال. وفي سياق المعالجة الاقتصادية، فان معالجة البطالة والتوظيف والديون وتطوير إدارة موارد الدولة يجب أن تحظى بأولوية قصوى لحكومة الإصلاح.

 

في المجال الاجتماعي

 

وفي المجال الاجتماعي هناك حاجة ماسة لتطوير قوى ومكونات المجتمع الأهلي في كافة الفضاءات والإشغالات الاجتماعية وان لا ترتبط بتشكيلات رسمية أو قيود وبما يعني ويضمن إنهاء الوصاية الفوقية على تلك التكوينات (الجمعيات) الاجتماعية، بحيث يمكنها القيام بمهام وأدوار أصبحت الحاجة إليها في هذا العصر، وفي سياق تقديم خدماتها في كافة المجالات التنموية المعنوية والمادية لكثير من الأفراد والمجموعات –ضرورة من ضرورات الحياة والعيش المشترك خاصة مع تراجع قدرات الدولة في تقديم تلك الخدمات، ومع تزايد الأدوار والمهام للقطاعات الخاصة الأهلية في كافة الدول، وبما يتماشى واتجاهات العولمة وتحدياتها. إن ذلك التطوير والتفعيل لمكونات المجتمع الأهلي في كافة الفضاءات والإشغالات الاجتماعية يعني فيما يعنيه وبدرجة جوهرية تفعيل جمعيات أهلية مستقلة للإنسان في مجال الحقوق والحريات، وكذلك البيئة والصحة والاستهلاك، إلى جانب وجود جمعيات رسمية أو حكومية. إن إعلان الحكومة السعودية منذ أكثر من سنتين عن تشكيل جمعيات حقوق إنسان أهلية ورسمية خطوة في الطريق الصحيح، ويجب أن يؤكد عليها مرة أخرى، ولكن بشكل يتطلب فكرة اكتساب المشروعية الأهلية والقانونية، وذلك بان يشرع لها، من قبل "السلطة التشريعية" المتكونة في سياق بديل الإصلاح، وبما يحدد مهامها أو ضوابط عملها انطلاقا من صدور "تشريع" أو قانون لتلك الجمعيات وقوى المجتمع الأهلي. وفي سياق الإصلاح الاجتماعي، يجب التأكيد على مراجعة جدية وحقيقية لا وضاع وأدوار المرآة في العملية التنموية بكافة أبعادها، وكذلك في الأبعاد الأخرى ذات الصلة من العملية الإصلاحية.

 

في المجال التعليمي والثقافي والإعلامي

 

إضافة إلى ما تقدم من عناصر "إعلان بديل"، فان على الحكومة وبرنامجها الحكومي، إعادة هيكلة التعليم والانفتاح علي التعليم الحديث ووسائطه وتقنياته والأطر الفكرية، من الإسلامية إلى العالمية ذات الوجوه الإنسانية، مع التأكيد على الهوية العربية الإسلامية في هذا التوجه. وفي سبيل المضي قدما في تحقيق هذا التوجه، فإن الأمر يتطلب أيضا، ويحتاج إلى إعادة تأهيل شبه شامل لكافة الكوادر التعليمية، وخاصة في مستويات التعليم ما دون الجامعي وحتى الابتدائي، بحيث تكون الكفاءة والالتزام بأخلاقيات العمل والعلم، هي الأساس للعمل في المجال التعليمي والتربوي. أن على الحكومة في سياق برنامجها الحكومي المتصل بالعملية الإصلاحية التربوية العمل على تفعيل كافة القطاعات الإنتاجية، بما يتوافق مع أن تكون الدورة التعليمية ذات مخرجات متنوعة وعصرية تدخل في كافة العمليات الإنتاجية، وليس كما هي الآن دورة مقفلة، يعاد إنتاجها لامتصاص بعض من البطالة، والتي تدور في حلقة مفرغة، بتركيزها على استيعاب مخرجات الدورة التعليمية في القطاع التعليمي نفسه (العمل كمدرسين أو مدرسات) أو في الوظائف الحكومية، والتي يبدو أنها تجاوزت درجة التشبع إلى التخمة المفرطة، ووصلت إلي عدم القدرة علي المضي في تلك العملية الاستيعابية، بما سوف ينعكس سلبا بإعادة إنتاج البطالة مرة أخرى. طبعا هناك مخرجات متنوعة بعض الشيء في الدورة التعليمية في حلقاتها العليا، ولكن يلاحظ انه، وباستثناء بعض من التخصصات، خاصة العلوم الطبية، فان معظم الخريجين والخريجات من كافة التخصصات من الجامعات يبحثون عن عمل في القطاع التعليمي (التدريس) أوفي الأجهزة الحكومية. إضافة إلى ذلك، هناك حاجة ماسة للتوسع في القطاع التعليمي الجامعي والتطبيقي الرسمي والإصلاح، مع التأكيد على رفع القيود عن مثل تلك التوجهات والتركيز بدرجة أكبر على المناطق الأخرى، والتي لازالت تعاني من نقص في المجال التعليمي وخاصة الجامعي منه.

ولعل الخطوة الأخيرة (الأمر الملكي في 24-3-2002م) التي أقدمت عليها القيادة السعودية بدمج الرئاسة العامة لتعليم البنات بوزارة المعارف خطوة تمثل محاولة للتعامل مع معضلة التعليم وإعادة هيكلته في سياق معالجة الانفصام الذي كان قائما بين المؤسسات التعليمية للبنين وللبنات، وما يتصل بالازدواجية غير المبررة في المجالات الإدارية والمالية والمنهجية. إن كانت تلك الخطوة تستهدف إعادة هيكلة التعليم، بحيث يحقق قدرا عاليا من تمتين مستويات التعليم وجودة عالية لإدارة الموارد في تلك المجالات، فإنها تعتبر خطوة في الطريق الصحيح لكنها تحتاج إلى التعزيز في السياقات التعليمية الإصلاحية الأخرى. وإن كانت تلك الخطوة تستهدف التمهيد لتعديلات في المنهجيات للتعامل مع الضغوط الخارجية الغربية والأمريكية تحديدا، فان ذلك لا يبدو هادفا إلى إعادة هيكلة التعليم باعتبارها أحد متطلبات بديل الإصلاح لمعالجة الأزمة الداخلية. 

وفي السياق الثقافي العام، يجب أن يكون هناك انفتاح ومكاشفة وشفافية مع النخب الفكرية والمثقفة والمتعلمة في البلد، بحيث تكون الأخيرة قادرة على المساهمة في بناء الدولة والمجتمع والأمة، وان تتجاوز القيود المفروضة عليها في سبيل تلك المساهمات، سواء على مستوى الداخل أم الخارج، وفي درجة هامة النطاق العربي. وفي سياق المسألة الثقافية ومساهمة المثقفين فإنه، من المثير للملاحظة أن هناك شبة انعدام للمؤتمرات والندوات عن القضايا الملحة داخليا(40). وإذا وجدت فإنها وفي سياقها الرسمي، غالبا ما تفتقر إلى الهامش المطلوب للرأي الأخر. وأما بالنسبة لمشاركات المثقفين والمفكرين في النشاطات الخارجية، وخاصة في المنطقة العربية فإنها تخضع لقيود صارمةـ وتتطلب الحصول على موافقات رسمية والتي غالبا ما تتأخر أو تأتي بالرفض. ولعل من المفارقات العجيبة أن هذا البلد يحتضن طاقات وكوادر متعلمة مثقفة ربما قل نظيرها في كثير من البلدان العربية، وذلك في كافة التخصصات، ولكنها ولعدم قيامها بمهامها وتعطيل فاعلتها أدى بها إلى غيابها، بل إلى تراجع في إمكاناتها ومخزونها المعرفي والثقافي مع مرور الوقت. ولعله من المثير للملاحظة وغريب الأمور أن تجد عناصر في البلد ممن يشيرون إلى مواقف المثقفين والمفكرين الآخرين وهم عادة من العرب أو الأجانب باعتبارها مواقف سلبية تجاه السعودية، وان تلك المواقف تمثل نوع من الحسد أو الحقد... إن تلك المسالة وإن صحت جزئياـ ليست صحيحة على الجملة وان ما فيها من صحة مردها، أيضا، عدم إتاحة الفرصة للمثقفين من البلد للقيام بمسؤولياتهم من حيث المساهمة والمشاركة والحوار مع أولئك المثقفين، وبالتالي تبديد الصورة النمطية عن الإنسان والدولة والمجتمع في السعودية إن وجدت.

ولذلك يجب أن تكون هناك مكاشفة وشفافية تجاه الرأي العام وبالتالي انفتاح الصحافة وتوسيع أدوارها، إن لم يكن إطلاق هامش الحرية لديها بحيث تتسع للرأي والرأي الأخر، وان تكون أحد وسائل وأدوات أطر إتاحة المعلومات، وطرح ومناقشة القضايا الملحة محليا وعربيا ودوليا في كافة المجالات، خاصة وان الأمر لم يعد يحتمل في ضوء وجود بدائل وقنوات ومساحات وساحات للمناقشات والحوار وتبادل المعلومات وإيصالها للمواطنين من الأعلام العالمي والإقليمي والعربي ووسائل الاتصال الحديث المتصل بشبكة المعلومات العالمية الانترنت وفضائياتها غير المحدودة وكذلك القنوات الفضائية...الخ.

إن إلقاء نظرة علي الإعلام المحلي سواء المرئي أو المكتوب وخاصة واقع الصحافة السعودية، يبين أنها تعيد إنتاج نفسها في كل منطقة، بحيث انك لا تجد من الفوارق إلا ما تعلق بمحليات المناطق تحديدا، أما الخطوط العامة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمتصلة بالشأن العام المحلي فإن قراءة صحيفة واحدة تكفيك عناء الإطلاع علي البقية.

ولعل الأكثر وضوحا في كل ذلك هو انعدام الرأي الأخر انعداما يكاد يكون كاملا – رغم وجود أقلام ومواهب وكوادر تمتلك مقومات التحليل والنقد والتقويم والتعامل مع الأفكار الجديدة والمستجدة – وذلك بسبب من معوقات العمل وخاصة انعدام أو الضيق الشديد لهامش الحريات.  إن ذلك يؤدي إلى حجب أو تغييب تلك الإمكانات والعناصر الثقافية والمعرفية وأصحابها ويضطر بعض منها إلى النفاق السياسي والرؤية الأحادية الشديدة – الانغلاق، وبالتالي يفسح المجال فقط للكتاب الذين لا يرون غضاضة في التماهي مع تلك التوجهات والمساهمة في استدامتها على نحو قد يساهم جهلا أو عمدا في تواصل إمكانية بروز مشهد الانهيار.

أن الرأي الأخر سواء علي مستوى الثقافة والمثقفين والمفكرين في نطاق الندوات والمؤتمرات والمساهمة فيها، أم على مستوى الإعلام المقروء والمكتوب وفي المسموع، يجب أن يعطي الفرصة والضمانات المشروعة بان يؤدي دوره منظورا إليه، ليس على انه فكر هدام، أو معارضه هدامة، كما هو شائع في عقول من ينتسبون إلى الحقول والقوالب والحقب الماضية، وإنما يجب أن ينظر إليه على انه رأي مختلف، يقدم قراءة مختلفة ولربما يشكل على هذا النحو، وحسب مقولة وليم زارتمان دعامة للحكم(41) أكثر من أولئك الذين لا يستطيعون إلا أن يقدموا القالب والرؤية الأحادية والواحدة، والتي تتماشي مع ما يعتقدون أنه الخط العام المقبول. إن الاختلاف في الرأي والنقد هو الذي يبين السلبيات ويطرح الخيارات؛ وأما الرأي الواحد المماشي (الذي لا يستطيع طرح مناقشة إلا قضايا ومشاكل الخارج بما فيها مشاكل البلدان العربية من حيث حقوق الإنسان ومشاكل الأقليات والاستبداد السياسي والإخفاق الاقتصادي، ولكنه لا يريد أو لا يقدر أن يتعامل مع تلك القضايا علي مستوى الداخل)، فإنه وإن كان يرى بأم عينيه المخاطر والحفر والمزالق، فإنه إما لا يستطيع أو لا يريد أن يقول ذلك، إنه دائما راكبا للسفينة العمومية، وزاعما الولاء لها محرضا علي استعداء الرأي الآخر على طريقة كسب مزيد من الود والترقي.

لعل من المثير للملاحظة والاستغراب إن الرأي الآخر في مستواه الأقصى محارب كما تمثلها بشكل صارخ حالة ما تعرض له مؤخرا الشاعر عبد المحسن المسلم من مساءلة واعتقال بسبب قصيدة "المفسدون في الأرض" والتي ينتقد فيها بعض القضاة ونشرها في صحيفة "المدينة" في 10-3-2002م، وكذلك إقالة رئيس تحرير الصحيفة نفسها (محمد مختار الفال) بسبب نشره لتك القصيدة(42). إن تلك المعالجات القاسية للرأي الآخر، وهي ليست حالات معزولة على أية حال، تعيد دوامة السياسات الأمنية والتي لا تزيد الأمور إلا تعقيدا، بل إنها تساهم بإنتاج دوامة التطرف، وتزيد من اتساع دائرة المعترضين على الدولة وسياساتها، وبما ينعكس سلبا علي علاقة الدولة بالمجتمع وتفاقم من أزمتها بدلا من حلها. إن مثل تلك الحادثة والتي لا تبدو معزولة ومحدودة، تثير الاستغراب حقا، ذلك أن هناك عناصر في أجهزة الدولة تساهم بجهل أم بوعي في خلق الأعداء للدولة، وتلك مفارقة يجب أن يعاد النظر فيها لأنها تزيد الأزمة الداخلية تفاقما.

ولعل الأكثر غرابة وإثارة للملاحظة في سياق التعامل مع الرأي الآخر، أنه ليس فقط محارب ومغيب بل وإنما فوق هذا وذاك منكر عليه صمته وابتعاده عن الساحة الإعلامية والثقافية في إطار قياساتها وقوالبها وحدودها القائمة، وقد يصل الأمر إلى أبعد من ذلك، بان يثار صراحة أو تلميحا إلى فكرة تخوين أولئك الصامتين، وإثارة الشكوك حول وطنيتهم. إن تلك الحالة والوضعية الثقافية سواء علي مستوى الثقافة العامة أم على مستوى الإعلام، وبما هي وضعية متدنية أو مفقرة وشديدة الضيق بالرأي الآخر، عكست هي الأخرى جانب من أزمة الدولة والمجتمع في السعودية علي محور الثقافة والمثقفين.

وتتسع تلك الأزمة الثقافية بانسداد الأفق الثقافي أمام المثقفين والمفكرين – ( إذ لا ندوات ولا مناقشات ولا حوارات، وقليل جدا من معارض الكتب والفعاليات الثقافية حتى في الجامعات ومؤسسات التعليم العالي، والتي وصلت إلى حالة يمكن توصيفها بأنها تمثل مدارس ثانوية كبيرة لا أكثر ولا أقل) فقد أفضى ذلك كله إلى أن تري أعدادا متزايدة من المثقفين والمفكرين من السعودية يطرقون الساحات العربية ( بيروت والقاهرة والبحرين، ودبي والدار البيضاء) بحثا عن الفكرة والكتاب ومعارضها وندواتها والكتابة في وسائلها الثقافية والإعلامية وحتى العيش فيها لما تتيحه بعض منها من بيئة اجتماعية وثقافية وسياسية ذات هوامش للحريات أوسع وأرحب من تلك البيئة التي ترعرعوا فيها، والتي بدءوا يشعرون بالاغتراب معها. ومع تلك البيئة الطاردة، فانك أمام موسم دائم "لهجرة الطيب صالح للشمال" ونضيف عليها بعض من حلقاتها الجديدة الخليجية والمغربية.

 وحتى تلك الهجرة وطرق ساحاتها الثقافية العربية محفوفة ببعض المخاطر، اذ لا تخلو من توترات أزمة الدولة والمجتمع في سياقها الثقافي، ذلك أن أعدادا من المثقفين يتعرضون بين الحين والآخر لمضايقات لا تخلو من غرابة ومفارقة في نفس الوقت. فإما الغرابة فيها فإن من يمارسها هم عناصر وأطر لا علاقة لهم بالثقافة، ولربما يتجاوزون بها حتى الأنظمة وأطرها وأصحاب الشأن بها؛ وأما المفارقة فيها، فإن تلك المضايقات بما هي تجاوزات تصادر الحقوق والإبداع تساهم بقصد أو بجهالة بتعميق الأزمة بين الدولة والمثقفين، وذلك من خلال ممارسة الكبت والحرمان والقهر، وبما يعني التفنن بخلق وتزايد العناصر المعادية والمعارضة للدولة.

إن استمرار تلك الوضعية الجامدة والمجمدة على ما يبدو في وجه أصحاب القلم والزاي في سياق المعلومة والإعلام والثقافة والرأي الآخر داخليا من جهة، و بين انفتاح آفاق غير محدودة للمعلومة وأطرها من إطراف خارجية، من جهة أخرى لا يؤدي إلا إلى مزيد من ابتعاد كثير من المواطنين، وخاصة المثقفين والمفكرين وأصحاب الرأي والقلم، عن الدولة وأطرها وسياساتها، باعتبارها متفارقة معهم على نحو يخلق ويعمق ويعزز الفصام والقطيعة بلا رجعة بين الطرفين. إن تفعيل الأطر الثقافية ومكوناتها سواء على مستوى الثقافة العامة والمنتديات والجامعات أم على مستوى الإعلام، وبما يضمن هامش قانوني واسع لتفاعل الآراء دون مضايقة على بعض منها ودونما تجريم أو منع سيكون أحد الدعامات الأساسية لمشروع بديل للإصلاح.

 

 

بديل الإصلاح والمجال الخارجي

 

 

إن السياسات في المجال الخارجي وخاصة في إطار المجالات الأمنية العسكرية والعلاقات مع الخارج الغربي منها والعربي، تحتاج إلى مراجعة وإعادة نظر. وفي السياق الدفاعي والأمني والعسكري للدولة، فإن المسألة ببساطة تحتاج إلى الاعتماد على القوة الذاتية من أبناء البلد، والذين لا تنقصهم الرغبة في القيام بمهام حفظ الدولة والمجتمع، إذا ما أتيحت لهم الأرضية الملائمة.

وتأسيسا على ذلك، فإن الحاجة أصبحت ماسة إلى إعادة النظر بتواجد القوات الأجنبية الغربية، والأمريكية تحديدا، ويجب أن يكون الهدف هو التخلص منها وإن بشكل تدريجي ومرحلي. إن إحدى أزمات الدولة– المجتمع هي أزمة الشرعية المتصلة بالاعتماد على الحماية الأجنبية وتلك مسائل تقلق أبناء البلد إذ يشعرون بفقدان الكرامة الإنسانية، إضافة إلى فقدان سيادة الدولة أو تقييدها بدرجة كبيرة. وفي هذا السياق، فإنه وفي سبيل الوصول إلى نهاية لتلك الحماية الأجنبية الأمريكية، يجب التنبيه إلى أن ذلك لا يتطلب بالضرورة المواجهة مع الغرب وأمريكا تحديدا، وإنما إيجاد آليات وصيّغ للوصول النهائي إليها وخلال فترة تتراوح بين خمس إلي سبع سنوات كحد أقصى.

ويتطلب ذلك، العمل الجاد على تقوية علاقات الدولة مع كافة الدول الأخرى شرقية كانت أم غربية وعلى نحو متنوع ومتوازن بما يحقق أيضا تنويع العلاقات الاقتصادية وكذلك تنويع مصادر الأسلحة، وكذلك العمل على تطوير صناعة أسلحة محلية أو عربية في هذا الاتجاه للخروج من مسألة الاعتماد على السلاح والمصدر الواحد. وقد يكون من المناسب أيضا تطوير قوة عربية خليجية للاعتماد عليها.

ولضمان هذا التوجه، فإن مرتكز العلاقات الخارجية سيكون إعطاء أهمية حاسمة للدائرة العربية، والخروج من ملف الأزمات العربية وبدون عقد، أو الانتظار حتى يقرر الآخر (الغرب). لذلك فان الحاجة ماسة لإعادة النظر بالمسألة والحالة العراقية الكويتية على نحو يقفل هذا الباب نهائيا وبما ينقذ كافة البلدان العربية وشعوبها من التورط في عمليات لا تستهدف في النهاية سوى العرب بمن فيهم الذات. إن ضرب العراق واستهداف النظام فيه وإسقاطه، وبغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف معه، قد يكون البوابة الواسعة التي يدخل منها الغرب والولايات المتحدة تحديدا والورقة السابقة -- التاريخية التي ترفقها ضد الدول العربية الواحدة تلو الأخرى، كما حاولنا أن نبين مخاطر ذلك سابقا. إن على السعودية ومصر وسوريا العمل على إقناع الدول العربية الأخرى، من خلال القمة العربية القادمة، أو الاتفاق فيما بينها على الأقل، على عدم التعاون مع الولايات المتحدة في ذلك التوجه، والعمل على إنهاء الملف العراقي والحالة العراقية الكويتية بشكل نهائي، ولمصلحة كل الأطراف والأمة العربية عموماـ وذلك بالانطلاق من حكم شرعي إسلامي طبقا وتطبيقا للآية الكريمة: ((وان طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله،  فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل واقسطوا إن الله يحب المقسطين <9> إنما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون <10> سورة الحجرات)). إن المصالحات التي تمت في أثناء مؤتمر القمة العربية في بيروت وقراراتها التي صدرت، وهي تتصل بالاتجاه نحو إغلاق الملف العراقي، تعتبر أمورا مهمة ومشجعة وتستحق الثناء والتقدير. إن الحاجة أصبحت ماسة الآن إلى البناء على تلك الاتجاهات بخطوات تعزيزية أكبر وأهم للوصول إلى تطبيع كامل للعلاقات العربية العربية، وكذلك التنبه إلى بعض المنافذ العالقة، والتي قد تستغلها أمريكا في توتير الأجواء العربية من جديد، واستخدام بعض المواقع والقواعد العسكرية العربية الأخرى، والتي تعمل أمريكا على ما يبدو تجهيزها (حيث التوجه الأمريكي بنقل أجهزة الكترونية وحاسبات لسلاح الجو الأمريكي إلى قطر، وهو ما يعني نقل مقر سلاح الجو وقيادة العمليات التشغيلية هناك) كمنطلق لشن الضربة على العراق. لذلك، فإن على الدول العربية الرئيسية، ومنها السعودية مصر وسوريا، مساعدة الدول العربية الصغيرة والوقوف معها، مثل قطر، والتي قد تتعرض مستقبلا للضغط عليها لإتمام المشروع الأمريكي بضرب العراق، وبالتالي فتح مشاريع التفتيت والتقسيم، وخاصة في الشرق العربي ومنه الخليج والسعودية في مقدمته.

وفي السياق العربيـ فإن الحاجة تدعو إلى تطوير الأطر العربية وتفعيلها، بما في ذلك مجلس التعاون الخليجي باتجاه كيان فيدرالي وكذلك مؤسسة القمة العربية والجامعة العربية للوصول إلى ميثاق ومبادئ يمكن أن تؤطر بفعالية للعمل العربي المشترك والخروج من ملف الأزمات، بما في ذلك إيجاد آلية للتصويت في مؤسسة القمة العربية تأخذ بالأغلبية المطلقة أو أغلبية الثلثين في اتخاذ القرارات بحيث تكون ملزمة للجميع بمن فيهم المعارضون طالما هم أقلية. وفي هذا السياق، يجب التركيز على تفعيل المحاور الاقتصادية والثقافية ومناطق التجارة الحرة والمساهمة في قيام مؤسساتها ودعم وتفعيل ما هو قائم منها. أن تلك التوجهات بما فيها التوافق والاتفاق مع العناصر والأطراف العربية المعنية في إدارة الصراع العربي الصهيوني إدارة تكفل الحقوق الشرعية والمشروعة للشعب الفلسطيني، بما في ذلك الوصول إلى إقامة دولة مستقلة عاصمتها القدس مع التأكيد على حق العودة للاجئين، وبما تتضمنه تلك الإدارة من دعم شامل للانتفاضة وحمايتها حتى الوصول الي تلك الغايات – سيكسب الدولة شرعية محلية وعربية وإسلامية.

 

معوقات بديل الإصلاح ومحفزاته

 

ان تلك العناصر والتي فصلنا في بعضها، تشكل في شموليتها مشروعا يبدو هائلا وثقيلا،  ولربما من الصعب تحقيقه في كلياته وفي آن واحد. ومع ذلك، فإننا وإن كنا لا نقلل من أهمية المصاعب التي قد تواجهه، وبالتأكيد ستواجهه، فإننا نرى في الوقت ذاته أن تنفيذ العناصر الأساسية من بديل الإصلاح أمر جوهري، لإنقاذ البلد سلطة ومجتمعا، وألا فإن مشهد الانهيار سيكون البديل –الإمكانية. ومشهد الانهيار هو استمرار الأوضاع كما هي عليه، اعتقادا من القائمين على اتخاذ القرار بان الأزمة تم تجاوزها من خلال المعالجات الظرفية والمؤقتة ذات الصبغة المهدئة والمسكنة، والتي ترافقت لربما بحالة سكون ظاهرية، لكنها قد تكون حالة خادعة، ذلك لأن تلك المعالجة لم تكن معالجة شكلية فقط، وإنما لأنها وأصحابها لا يريدون أن يعترفون بوجود أزمة بالفعل في العلاقة بين الدولة والمجتمع، والتي وصلت إلى حالة يمكن وصفها بأنها شجرة وصلت إلي شيخوختها قبل أوانها بفعل النخر الذي بدا يسري فيها من الفروع إلى الجذع، والعكس صحيح، وإنها فقط مرحلة أخرى ربما لن تطول لكي تأتي بعض من الرياح (أزمة أخرى) لتودي بها لكي يتأكد مشهد الانهيار.

إن مشهد الانهيار يمكن تجاوزه فعليا ببديل الإصلاح، وكذلك قطع مشهد التقسيم أو التفتيت إذا وصل الأمر إليه قبل مشهد الانهيار، وهذا الأخير سيكون الحافز والعامل الحاسم في مسألة التسريع والتسهيل بتنفيذ مشهد التقسيم. ويجب التشديد هنا أن طرح ومناقشة بديل الإصلاح إنما يعكس توجهات ونقاشات عامة وخاصة ودعوات فردية ضمن مقابلات ومنابر أطر إعلامية متنوعة(43). في هذا الصدد ولربما حتى بين أفراد الأسرة السعودية المالكة وخاصة دعوات الأمير الوليد بن طلال، الذي دعا إلى إيجاد نوع من الانتخابات لمجلس الشورى وإن قصرت في مراحلها الأولي على الرجال دون النساء، قياسا بالتجربة الكويتية، وكذلك دعوات والده الأمير طلال بن عبد العزيز، والذي كان ولا يزال في كثير من مقابلاته وتصريحاته يدعو إلى تطوير وإصلاح المؤسسات السياسية في السعودية. ومما قاله الوليد بن طلال، في دعوته للديمقراطية في السعودية 30/11/2001م في حوار مع صحيفة "نيويورك تايمز" أنه لمعالجة عدم الرضي الداخلي خصوصا بعد التطورات الأخيرة فإنه "إذا سمح للناس الحديث بحرية ومشاركة بقدر أكبر في العملية السياسية فسيكون بالإمكان احتواءهم وجعلهم جزء من العملية" وقال إنه كلما تمت عملية انتخابات مجلس الشورى بسرعة كلما كان أفضل للمملكة. وقال إنه يفضل إلغاء المخصصات الملكية السنوية والتي قال أنها تصل إلى 180000 دولار أمريكي، وذكر بأنه وهو يطرح تلك الأفكار فإنه يساهم في النقاشات داخل الأسرة حول فكرة الانتقال إلى ديمقراطية محدودة، والتي تطرح علنا فيما بين أفرادها وإن لم تطرح علنا إعلاميا. وذكر في النهاية، إن الأسرة لا زالت بصدد دراسة أن تقول (نعم)أهمية (لا)(44).

ورغم أن الوليد لم يكشف مواقف أفراد الأسرة المالكة تجاه تلك الديمقراطية المحدودة، إلا أنه يبدو أن هناك عناصر من الأسرة المالكة، وإن لم يكن بالإمكان حصرها، أما أنها تشاطر هذا التوجه، أو أنها لا تمانع من سلوكه. ويبدو أن تلك العناصر، والتي يصعب حصرها أو تحديد أعدادها تنطلق في مواقفها هذه من فكرة أن توسيع دائرة المشاركة السياسية في صنع القرار لا يمس فقط الأبعاد الشعبية وإنما يمسها هي كذلك؛ إذ أنها وعناصر أخرى داخل الأسرة تشكل حلقات بعيدة الأهمية، مبعدة عن مراكز القرار، وبالتالي عن دائرة ومقتسمات والثروة وأهمية النفوذ. وكذلك يبدو أن لهذه العناصر مصلحة في توسيع دائرة المشاركة انطلاقا من مصالح (المصالح ليست بالضرورة مادية وقد تكون معنوية أهمية ذات صلة بالمكانة والنفوذ) لها  تبدو غير محققة في ظل الوضع الراهن حتى وإن حصلت على بعض الامتيازات الهامشية، بالمقارنة بالامتيازات الضخمة للحلقات ومراكز القوة الأساسية. والبعض الآخر منها ينطلق من إدراك ووعي بأن الأمور أخذت بالفعل بالتغيير في إطار علاقة الدولة بالمجتمع ومكونات الأخير وقواه، وأن أفضل طريقة لتماسك البلد بما هو دولة ومجتمع هي التنازل عن بعض الأشياء مقابل الاحتفاظ بالأشياء الأخرى أو ببعضها على الأقل.

ومع ذلك فإن هذه العناصر المنفتحة على التغيير وولوج الإصلاح، لا يبدو أنها مسموعة في صوتها أو أنها كما هي العناصر الشعبية مغيّبة، أو غير قادرة على البوح والمخاطبة والدفع بهذا التوجه، ولربما تشعر بالضغوط والقوة الممارسة عليها ضد هذا التوجه. في هذا السياق، يلاحظ أن الأمير طلال، والذي يبدو أكثر الأصوات داخل الأسرة ارتفاعا في إطار التوجه الإصلاحي، هو الأخر يشعر بتلك القيود ولربما بعض من معاناتها عندما يقول في حلقة ضمن برنامج بلا حدود (قناة الجزيرة الفضائية/ قطر) والتي خصصت لردود الفعل على حلقات شهادته على العصر، وذلك في 6/12/2000م انه بعد هذا اللقاء، فإنه لا يريد أن يتكلم عن الشأن العام وذلك لأنه: الآن عرف...؟ أن هناك ثلاثة أشخاص مصرح لهم بمثل هذا الحديث وهم الملك فهد والأمير عبد الله والأمير سلطان(45). ورغم أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م وتوابعها، وصلة ذلك بما سمي الحملة الأمريكية على الإرهاب وعلى السعودية، قد أتاحت حديثا آخر للأمير طلال، إلا أنه وفي مقابلة في برنامج بلا حدود – مرة أخرى (قناة الجزيرة الفضائية/ قطر) (في 23/1/ 2002م) لم يشأ الخوض بالشأن العام الداخلي وركز جل همه على معالجة الأزمة من طرفيها الخارجي (الأمريكي تحديدا) عارضا فكرة استخدام ضغط المجمع المدني العربي ومن خلال شركة للعلاقات العامة تؤمن الدخول إلى الساحة الأمريكية، علما بأن الأمير طلال يعلم بأن مؤسسات المجتمع المدني العربي ليست موجودة في عدد من البلدان العربيةـ ومنها بالذات السعودية، وبالتالي فإن الإصلاح لا يكون من الخارج بل من الداخل، بما في ذلك تفعيل ذلك التوجه(تنشيط عمل مؤسسات المجتمع المدني أو الأهلي، كما نفضل تسميته) داخليا وأولا وقبل كل شيء(46).

وحيث أن تلك هي التوجهات داخل الأسرة، وخاصة في إطار عدم الإفصاح عن مدى حجم وعدد الأصوات تجاه دعوات الإصلاح، وكذلك عدم خروجها إلى العلن من أصوات عناصر واضحة، إضافة إلى أن المسألة كانت لا تزال تدور في إطار دراسة هل نقول "نعم" أم" لا لفكرة"الديموقراطية المحدودة" وخاصة الوصول إلى سلطة تشريعية منتخبة، وكذلك مع حالة السكون وما تعكسه من شعور بهدوء الأوضاع، فإن ذلك كله يشير إلى أن هنالك ما يبدو أنه معوّق بنبوي ضد الإصلاح والديموقراطية المحدودة في ثنايا أطر العائلة المالكة وحلقاتها.  

وعليه، فإن الأمر يبدو انه وفي ثنايا تلك الحلقات من العائلة، فإن معوق كبير للإصلاح والديموقراطية يبدو مرتبط بعناصر من الأسرة، والتي تسودها وتطغي عليها رؤية وعقلية مغرقة بالماضوية؛  تلك هي "عقلية ملكية الجميع"، بمعني أن البلد ومن فيه بشر وأرض وموارد ومؤسسات ومخرجات هي ملك خاص في قبضة اليد والتي لها الحق دون غيرها بالتصرف بما تشاء و كيفما تشاء ومتي تشاء. تلك العقلية بالملكية الخاصة للجميع تستند إلى، وتنطلق من مقولة أخرى أكثر ضيقا في رؤيتها، ألا وهي أن إقامة الكيان والدولة السعودية إنما تمت (بالقوة وبحد السيف) وأن من يريد أخذ شيء فليستخدم نفس الأسلوب والأداء، إن كان يستطيع طبعا. وتلك مقولة خطيرة، إن من حيث التلويح بالقوة واستعداء الآخرين بالولوج لها باعتبار أن الإصلاح باب مقفل.  فوق هذا وذاك، فإن تلك العقلية تنسى أو تتناسى أن تلك القوة التي كانت وراء تكوين الدولة السعودية (في السياق الداخلي فقط مع عدم إغفال أهمية العامل والقوي الخارجية في ذلك) لم تكن إلا من القوى المجتمعية والشعبية آنذاك سواء الحضرية منها "القروية والفلاحية" في بداية النواة الأولى للتكوين أم من القوى القبلية (رغم التصادم مع بعضها لاحقا عندما قويت شوكة الدولة) وكذلك دور بعض العائلات في المدن والأرياف والتي تحالفت مع الملك عبد العزيز وسهلت تلك المهمة بدرجة كبيرة، في القصيم وحائل والأحساء والحجاز وعسير والجوف في مرحلة التمدد والتوحيد. لذلك تميزت المرحلة الأولى لقيام الدولة السعودية "بالمشاركة والمساهمة" لتلك القوى أو من يمثلونها في مقابل الاستقرار وإنهاء حالة الصراع الأهلية البينية المتعددة والمتواصلة قبل ذلك.

 وفي إطار ذلك التوازن كانت تلك "العقلية بالملكية" التي ربما كانت مقبولة قي الفترة الماضية، فترة التكوين وحتى نهاية السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن العشرين، فإنها في المرحلة الحالية وخاصة منذ أزمة الخليج الثانية1990 فصاعدا، ومع التحولات في تركيبة المجتمع وقواه - والمتصلة بحركة التحديث منذ نهاية عقد الخمسينيات من القرن العشرين فصاعدا، وكذلك مع التطورات المحلية والإقليمية والدولية، بما في ذلك ثورة المعلومات والاتصالات، فإن تلك العقلية ورؤيتها، ليست فقط غير صالحة للمرحلة، بل إنها ستكون عبئا علي الجميع "دولة ومجتمعا" بمن فيهم أصحاب وعناصر تلك الرؤية والعقلية.

إضافة إلى تلك العقلية المهيمنة والمنتمية إلى الماضي، ولكنها فاعلة في الحاضر ولو إلى حين، فان هناك عقبة بنيوية أخرى، ربما تصل إلى أن تكون متساوية، مع أنها لم تكن اكبر من عقبة"عقلية الملكية" وبالتالي ستكون الأكثر فاعلية ضد بديل الإصلاح. تتمثل تلك العقبة الأخرى بالقوى المتنفذة في أجهزة الدولة ومؤسساتها "البيروقراطية" وخاصة في مستوياتها العليا، وأيضا حول عدد من العناصر القيادية في الدولة. هذه القوى المتنفذه هي ذات امتدادات مناطقية محددة وترتبط بعائلات بعينها من مدن أو قرى محددة من تلك المناطق المحددة رغم إنها ليست بالضرورة ممثلة لها أو لأهلها على الجملة. تلك العائلات وأبنائها وامتداداتها بدأت تسيطر على المناصب الرئيسية في القطاعات المهمة من الدولة، وتستحوذ بالتالي على نفوذ ربما يتجاوز كثير من أفراد الأسرة المالكة، بل إن أعداد من الأخيرة ربما لا يجدون مفرا من التعامل مع تلك الأسر وعن طريقها للوصول إلى دائرة القرار في مدخلا ته أو مخرجاته. تلك القوي المتنفذة والمرتبطة بعائلات بعينها وذات امتدادات بقرى أو مدن من مناطق بعينها، وان كانت لا تمثلها بالضرورة، أخذت تستحوذ علي لنفوذ ورسم السياسات وتوزيع المناصب داخل الهياكل الحكومية وبالتالي أصبحت وبشكل متعاضد هي التي تعد وترسم وتنفذ سياسات الدولة وخاصة الداخلية منها. من هنا يمكن ملاحظة أن السياسات التنموية لم تكن متوازنة بين المناطق وإشغالاتها الاجتماعية، لذلك فان ما يتضح من تلك الاتجاهات هو انه رغم أن "الأسرة السعودية" لا زالت بيدها القرار النهائي لتلك السياسات، إلا أن من يقوم بالفعل بإدارة البلد هي تلك القوي من العائلات المتنفذة.

إن تلك القوى المتنفذة هي ما يمكن أن يطلق عليه" الحرس القديم-الجديد". أما كونه قديما فليس المقصود به هو انه من القوي القديمة من الناحية الزمنية وإنما لأنه يمثل الاعتراض علي الجديد "الإصلاح"؛ وإما كونه جديدا فالمقصود به ليس لأنه يمثل التكوينات الاجتماعية الجديدة بالضرورة، وإنما لأنه في مرحلة ما، وهي السبعينيات من القرن العشرين كان قد اخذ يحل وبشكل تدريجي محل النخبة السابقة، والتي كانت تنتمي إلى عائلات من منطقة أخري بعينها والتي كانت لها الهيمنة في بيروقراطية الدولة آنذاك. تلك القوي المتنفذة هي التي تنعم بمكتسبات الدولة وخدماتها من مالية وخدماتية ومعنوية، بما في ذلك، وبدرجة مهمة، مسألة النفوذ والمكانة، باعتبار أن النفوذ ذاته جالب للخيرات والملذات، كما يقول ابن خلدون (47). إنها تحصل على مرتبات ومخصصات عالية، وتحصل علي تعليم عال، وربما خاص، وتحصل على خدمات صحية عالية حكومية وخاصة و ربما على حساب الدولة ونفقاتها، وكذلك تحصل في مناطق سكنها على خدمات بلدية لا يمكن تواجدها في أي من الأحياء الأخرى غيرا لمشغولة بتلك الفئات وعناصرها. لذلك فان تلك الفئات والعائلات وقواها المتصلة بها لن تكون مع الإصلاح، بل يمكن أن تكون العائق الأكبر في هذا الاتجاه.

من هنا، فإن استمرار تلك العقبة ذات الصلة بالقوي المتنفذة والمتعاضدة والمتحالفة مع العقبة الأولى عمدا أو جهلا منهما أوكلاهما، سيشكل العامل الحاسم والمحوري في تواصل عملية النخر في ظل تواصل عقبة أخرى، هي الفساد بكافة تجليا ته وبالذات المالية والإدارية والمحسوبية واستشراء المصلحة الخاصة علي حساب المصلحة العامة، وفي غياب القانون والمحاسبة. وبالتالي ستكون تلك العقبات وخاصة الأولى والثانية المسؤولة عن تعويم بديل الانهيار و/ أو الوصول بالبلد إلى مشروع التقسيم والتفتيت.

والأكثر كذلك، فان بديل الإصلاح المطروح ينبه إلى ضرورة الالتفات إلى خطورة تلك العقبات وبالتالي معالجتها معالجة تفضي إلى إيقاف مخاطرها تلك. وعليه في هذا السياق، فان الحاجة ماسة إلى معالجه المعضلة المتمثلة بتلك القوي المتنفذة ووقوفها ضد العملية الإصلاحية وما تمثله تلك العقبات ومواقفها من بقاء الأوضاع كما هي. وتلك الأخيرة تمثل البيئة التي تترعرع وتنمو فيها بذرة الانهيار، ولربما تمهد في تنامي فرص مشهد التفتيت خاصة وأن الغرب وتحديدا الولايات المتحدة، عازمة وجازمة هذه المرة على أن لا تترك السعودية على ما كانت عليه، وان ذلك فقط يحتاج إلى الانتهاء من الأولويات في سياق مشروعها الكوني وتسلسل حلقاته.

والمعالجة تلك وأمرها لا يجب أن يفهم منهما بان ما هو مطلوب هو استبدال تلك العناصر بعناصر أكثر طيبة ونظافة ونزاهة لتقويم الأداء الحكومي والذي بدا أن القيادة بدأت تلحظ قصورا واضحا فيه وتحذر من أثاره على المواطنين، وذلك أمر محمود بذاته، كما فعل و نبه إليه الأمير عبد الله ولي العهد وخاصة مؤخرا(48)، وإنما الأكثر أهمية في المعالجة يتركز على الإحاطة بجوهر المشكلة. إن المعالجة لها والوصول إليها لا يتم فقط بالرجال الأكفاء، وان كان ذلك مهما، ولا يقلل من شانه في ذاته، وإنما بوجود مؤسسات وآليات ذات صلة بالتكيّف السياسي للنظام وأبعاده الأخرى، بحيث تتكون آليات ومؤسسات تستطيع القيام بمهام المسؤولية والمحاسبة القانونية تجاه تلك العناصر والممارسات أي كان مصدرها، وبغض النظر عن أصاحبها، وذلك ضمن إطار قانوني ودستوري يعتمد على إشراك المواطن في دائرة الحكم ولا يقصيه أو يستثنيه كما هو قائم حاليا. إن الثقة في المواطن وإعادة الاعتبار له في  كل تلك الحلقات، هو الذي يؤسس لإقامة علاقة متوازنة بين الدولة والمجتمع، والتي تستطيع بالتكيّف للنظام طبقا للاتجاهات وظروفها أن تصمد أمام التحديات داخلية كانت أم خارجية، خاصة وأن القادم منها وبالذات الأمريكي على وجه التحديد- وفي سياق توجهاتها المستقبلية للمنطقة وهي تشدد علي أن الحالة السعودية يجب لا تبقى كما كانت حتى ولو تطلب ذلك تفكيكا لها أو إعادة هيكلتها على نحو ما- هو أكبر مما يتصوره البعض. إن الخوف كل الخوف أن تستمر عقلية التوهم بأن الخطر زال وأن الأزمة انقشعت وان الأوضاع وأطرافها ساكنة هادئة وبالتالي لا ضرورة لمعالجة أو إصلاح.

إن الانتظار مطولا عند فكرة الإصلاح أو التردد تجاهها قد يكلف البلد (الدولة والمجتمع) ثمنا باهظا قد يصل إلى فناءه، وبالتالي يجب عدم الانتظار حتى تفرض الأمور من الخارج بهذا الاتجاه أو ذاك. أليس الأجدى والأكثر كرامة ولربما استحقاقا للتقدير أن تأتي الإصلاحات من وعي ورغبة وقدرة وجرأة من النخب الحاكمة؟ إن الأمل معقود على وجود عناصر من النخب المسؤولة ممن لديهم بالفعل من العقلانية والحكمة والرشاد ما يؤسس لمثل هذه التوجهات الإصلاحية. إن الأمر بدرجة كبيرة يرتبط بوجود رؤية لمشروع دولة بحيث أنها لا تقصي ولا تستثني، وإنما تقوم علي فكرة "المساهمة والمشاركة" للجميع أفرادا و جماعات ومناطق وبصيّغ وآليات ومؤسسات عصرية تصون الحقوق وتحفظ الكرامة وتحقق العدالة والرخاء والتقدم.

في النهاية نقول، إن هذه الورقة، وبما تضمنته من أفكار انطلقت من تصورات ومتابعات أكاديمية موضوعية وإيمانا بالمكاشفة والمصارحة للمساهمة في إنقاذ البلد والأمة، لا تدعي أن صيغة الإصلاح المقدمة، هي الصيغة الوحيدة أو الكاملة. إن هناك بالتأكيد طاقات وقدرات في أبناء هذا البلد وأبناء البلاد العربية عموما، والذين إذا ما أتيحت لهم الفرصة فإنهم بلا شك سيعملون على صياغة مشروع وعقد (ميثاق إجماعي جديد) لبلدانهم وأمتهم. إن كل ما تسعى إليه الورقة هو أنها تريد أن تلفت إلى المخاطر والتحديات ومنها الداخلية بدرجة اكبر وكذلك الخارجية ذات الصلة ببنيان وتماسك الدولة والمجتمع والأمة في الحاضر والمستقبل. وثانيا فإنها وبتلك الأفكار تفتح المشروع والأسئلة ذات الصلة بالدولة والمجتمع في السعودية تحديدا ولربما في لبلاد العربية الأخرى قياسا على الآخرين المناصرين والمناهضين، وسواء من أهل الثقافة أو الفكر أو أهل القرار وقواه وذلك للتعامل معها بالطريقة التي قد تصل بهم إلى الأجوبة وأبوابها التطبيقية أو لربما لفتح مزيد من الأسئلة والبحث في النماذج الإصلاحية.



 

 

 

 

 

 

 

 

ملحق خاص بالاعتقال والمحاكمة

    


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الموضوع : أطلقوا سراحنا من دون تعهدات ظالمة أو حاكمونا علانية

 

سماحة الرئيس الأعلى للقضاء / الشيخ : صالح اللحيدان            وفقك الله                                                

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

       نلجأ إليكم بصفتكم رأس السلطة القضائية في المملكة العربية السعودية طالبين وراجين إنصافنا وحمايتنا من الظلم الذي أوقعته بنا الدولة، سجناً وتشويهاً، فالقضاء الشرعي هو حامي المواطنين العزل، ومعاذ الأفراد الضعفاء، من بطش الأقوياء، وفي هذه المذكرة سنعرض خمسة عناصر: أولها ماذا فعلنا ؟ الثاني كيف تصرفت الدولة تجاهنا ؟ الثالث تحليل تصرفات خط المحافظة من بعض رموز القيادة ؟  الرابع مسؤولية القضاء في حماية الرأي والتعبير المسئولين ، الخامس نطالب بإطلاق سراحنا أو محاكمة علنية عادلة .

 

أولاً : نشرح أولاً ماذا فعلنا ؟

 

 نحن الموقعين أدناه وضمن مجموعة تتجاوز ألف شخصية من علماء هذا البلد وفقهائه ومفكريه وأساتذة الجامعات والمثقفين من دعاة الإصلاح الدستوري والمجتمع المدني أسسنا دعوتنا على خمسة مبادئ.

 

الأول : الإسلام هو أساس كل إصلاح ولا سيما الإصلاح الدستوري. وقد نصت الدولة في نظامها الأساسي على أن "دستور الدولة هو الكتاب وسنة النبي صلى الله عليه وسلم" ونحن إنما نطالب بتفعيل هذا المبدأ المعلن في الديباجة بإجراءات وآليات وهياكل وأطر، تعمق وتوسع مفهوم تطبيق الشريعة، في الإدارة والتربية والمال العام.

 

الثاني : الالتفاف حول القيادة السعودية في إطار قيامها بالإصلاح الدستوري المتدرج.

 

الثالث :  محاربـة نوازع التقسـيم والتدخـلات الأجنـبية والنزعات الإقليميـة، والتمسـك بثوابت الوحـدة الوطنـية، والالتزام بالعمل السلمي، في المطالبة الإصلاحية.

 

الرابع : صياغة خطاب يجمع بين كافة الأطياف الثقافية والاجتماعية والمناطقية أي خطاباً وطنياً لا فئوياً، قاعدته سماحة الإسلام  لاضيق المذهبية الذي أقرت مفهوم التعددية, كما طبقها النبي وخلفاؤه الراشدون، الذين نمذج التعامل مع المخالفين فيه علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

 

الخامس : دعوة كل من القيادة والناس إلى تفعيل الإصلاح السياسي السلمي لكي يتواكب المجتمع وقيادته في التعاون على البر والتقوى، لأن كل إصلاح لايمكن أن ينجح إلا بتكاتف رسمي وشعبي معاً، رسمي من القيادة والدولة ومؤسساتها، وشعبي من المجتمع الأهلي أفراداً وهيئات لاسيما من المهتمين بالشأن العام.

 

وقد أصدرنا في ذلك مع إخواننا دعاة المجتمع المدني والإصلاح الدسـتوري عرائض منها عريضتان الأولى  (رؤية لحاضر الوطن ومستقبله) التي قدمت إلى صاحب السمو الملكي الأمير عبد الله بن عبد العزيز في شوال 1423 هـ ، والثانية (نداء إلى القيادة والشعب معاً: الإصلاح الدستوري أولاً) الذي قدم إلى سموه في ذي القعدة 1424هـ . ومضمون الخطابين : المطالبة بتحقيق العدل الإسلامي في توزيع الثروة، على كافة الشرائح الاجتماعية والمناطق المختلفة، والتصدي للمشاكل التي يعاني منها المواطنون، ولا سيما الفقر والبطالة، واتخاذ إجراءات مؤسسية لكافة ما تعانيه البلاد، ولا سيما الديون التي قد تثقل كواهل الأجيال القادمة.

ومطالبة الدولة بأن تكفل للناس كافة الحقوق السياسية والأساسية، التي أقرها الإسلام قبل أربعة عشر قرناً من تنادي الأمم الحديثة إليها، بإقرار مبدأ المشاركة الشعبية السياسية في اتخاذ القرار الرسمي، والسماح للمجتمع الأهلي المدني بالتعبير المسئول عن رأيه كتابة وتجمعاً، عبر النقابات والجمعيات وإقرار التجمعات الأهلية المدنية في النظام. وحيث إن أي إصلاح لا يمكن أن يستقر ولا أن يستمر إلا إذا كانت قاعدته سياسية فقد حدد الخطابان الحل في خمس نقاط:

 

تطوير نظام الحكم من نظام أحادي مطلق الصلاحيات من دون مساءلة إلى نظام مؤسسي محدد الصلاحيات فصله النداء الدستوري بأنه (الملكية الدستورية) المؤسسة على الشريعة الإسلامية، وتقرير حقوق المواطنين التي قررها الإسلام بأن الأمة صاحبة السلطة، في تقرير مصالحها، التي أقرتها الشريعة أو قررتها، وأنه من دون ذلك لن يكون شعار (الإسلام دستورنا) متجسداً.

إنشاء مجلس للنواب، ينتخبه الراشدون من الشعب، رجالاً نساءاً ويكون له سلطة إصدار القوانين والتنظيمات وله سلطة على رسم سياسة الدولة العامة، خارجية وداخلية، ويتولى المحاسبة والمراقبة، وتتحقق بها الشورى الجماعية الملزمة التي أشار إلى اشتراطها الفقهاء كابن عطية الأندلسي.

تعزيز استقلال القضاء، بإجراءات وهياكل، تصل مفرداتها إلى عشرين بنداً وتجدونها مشروحة في خطاب بعنوان ( رؤية لاستقلال القضاء ) ، فعبارة " القضاة مستقلون ولا سلطان لأحد عليهم إلا سلطان الشريعة "التي في ديباجة نظام القضاء لا تكفي فالمطلوب استقلال نظام القضاء، فلن يستقل القضاة مالم يستقل النظام.

تجسيد مبدأ التعاون على البر والتقوى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الشؤون العامة، روحية ومدنية، بإجراءات فعالة بمثل السماح للناس بإنشاء جمعيات المجتمع المدني الأهلية كالنقابات والروابط، في شتى الشئون ثقافية ومهنية واجتماعية واقتصادية وسياسية.

فصل السلطتين (القضائية) و(النيابية)، عن هيمنة السلطة التنفيذية، بحيث يتجسد مفهوم الحاكم في الدولة على أنه وكـيل عن الأمة لا وكـيل عليها ، وليس أدرى بمصالحها من نواب الشــعب، الذين هم (أولو الأمر) وأهل الحل والعقد، وهم أهل الرأي والعلم والفضل، كما أشار عديد من التابعين كعكرمة ومجاهد وأبي قلابة وابن تيمية وابن سعدي وكما فصل النيسابوري والرازي ومحمد عبده ومحمد رشيد رضا، واستقر عليه فقه السياسة الشرعية عند فقهائه المعاصرين.

 وبين دعاة الإصلاح أن هذه الإجراءات، التي ينبغي أن تأتي متدرجة، هي مصاد الرياح، التي تحفظ البلاد والعباد ، من رياح التغريب والعلمنة، ومن الفتن الأهلية والفوضى، ومن أخطار التدخلات الأجنبية والعولمة .وبينوا أن هذه إجراءات وآليات، من الوسائل الشرعية، لتحقيق المقاصد الشرعية في العدل، في المال والإدارة والشئون العامة والتولية والعلاقات الخارجية والتربية الخ...، وكل وسيلة مشروعة تحقق مقاصد الشريعة، فهي واجبة في الشرع، ولو لم يفعلها  النبي صلى الله عليه وسلم، ولا نزل بها القرآن ولم يفعلها الخلفاء الراشدون، كما نص على ذلك الفقهاء، كابن عقيل الحنبلي في أصول الفقه، وكابن القيم في"الطرق الحكمية".

إن مبدأ ( الإسلام دستورنا ) غير فعال، إذا لم يجسد بإجراءات وأطر، تكفل اعتبار رأي الناس في مصالحهم عبر ممثليهم وتكفل حراسة الملة وسياسة الأمة، من أخطار التدخلات الأجنبية وتضع الضوابط الكفيلة بحفظ مال الأمة، وتكفل صيانة الأمة ومصيرها وتربيتها ومالها ومستقبلها لكي لا ينفرد بالتصرف  بمصالح الأمة بعض عناصر الأسرة المالكة، وكأنهم من جنس الملائكة، الذين لا يعصون الله ما أمرهم، وكي لا يستبدوا بامتيازات ومظالم،  كبار وصغار. وتضمن أن لا يتصرف الحاكم بالبلد والبشر، تحت عنوان "ولي الأمر أدرى بالمصلحة"  وكأنه معصوم لا يسأل ولا يحاسب ولا يراقب عن ما يفعل، وهو مصطلح سعودي ما أنزل الله به من سلطان، ولا يمكن أن يصح القول: إننا نحكم بما أنزل الله، ما لم يتساو الأمراء وأفراد الشعب ، والأقوياء والضعفاء وما لم تتساو المناطق والفئات الاجتماعية، في كافة الحقوق والواجبات.

 

ثانياً : موقف أركان القيادة :

 

أعلن خادم الحرمين الشريفين في خطابه الشهير لمجلس الشورى مصطلحاً حديثاً، لم يكن هذا المصطلح دارجاًً في القاموس السياسي السعودي وهو عبارة "المشاركة الشعبية" وأكد أن الجميع شركاء في الوطن. ومصطلح "المشاركة الشعبية" يستخدم أول مرة في خطاب رسمي جليل من رأس السلطة التنفيذية ، كان ذلك في 17 / مايو / 2003 م. ماذا تعني المشاركة الشعبية؟ ماذا تعني عبارة الجميع شركاء في الوطن ؟ ألا تعني أن للمواطن الحق الكامل في مناقشة الشئون العامة للمواطن، أليس قيام الفقهاء والمفكرين وأساتذة الجامعات بكتابة خطابات المطالب كبياني ( الرؤية ) و ( النداء الدستوري ) من أرقى أنواع التعبير عن المشاركة الشعبية والشراكة في الوطن.

وإثباتا لهذا المسار استقبل صاحب السمو الملكي الأمير عبد الله بن عبد العزيز بترحاب، أربعين (40) من دعاة الإصلاحات الدستورية، وناقش معهم هدر المال العام، والاستبداد في الإدارة، واستقلال القضاء، والمجتمع المدني، ووعدهم خيراً، ووضحوا له فكرتهم في الفرق بين الإصلاحات الدستورية الأساسية الثابتة،  والإصلاحات الشخصية المحدودة،  وقال لهم: (رؤيتكم عي مشروعي) وذكر لهم أنه نادى بالمشاركة الشعبية في الجامعة العربية،  مما يدل على أنه يؤيد المشاركة الشعبية في الداخل، ما دام ينادي بها للعرب جميعاًً. ولكنه أشار إلى أن الشعب يحتاج إلى إنضاج، لأن الشعب إذا لم يستوعب مفاهيم الإصلاح السياسي الدستوري وآلياته، فلن يكون ظهيراً للإصلاح. وفي يوم 25/1/1425هـ الموافق 16/3/2004 م، فوجئ دعاة الإصلاح الدستوري والمجتمع المدني بسجن ثلاثة عشر شخصاً منهم، وأفرج عن عشرة منهم بعد أن أرغموا على توقيع تعهدات بعدم الدعوة إلى الإصلاح جملة وتفصيلاً، في بيان أو قناة فضائية، أو أي وسيلة إعلامية.

أما نحن فقد قدمت لنا صيغة تعهد، وجدنا أنه لا يجوز شرعاً التوقيع عليها، تنص على أننا أحدثنا فتنة وفوضى، وتحريضاً على عصيان (ولي الأمر) وأن علينا أن لا نتكلم في الإصلاح، أو ندعو إليه في بيان أو قناة فضائية أو أي وسيلة إعلامية، وأن علينا أن لا نجتمع في مكان. وملخص الموضوع تجريدنا من الحقوق السياسية وإلزامنا بالسكوت عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أو ( الإحتساب ) على السلطة .

ولأننا حريصون على استمرار ما لنا من صلات طيبة بالعناصر الإصلاحية في القيادة، ولكون البلاد تمر بظروف عنف تدعو إلى الهدوء، فقد وقعنا على تعهد بأن لا نسعى إلى عقد لقاء عام، لدعاة الإصلاحات الدستورية مستقبلاً إلا بإذن الدولة، وربطنا طاعة الدولة في ما نكتب من بيانات وما نتحدث فيه عبر القنوات الفضائية ووسائل الإعلام بـ (المعروف)كما نص الحديث الشريف وأكد مفهومه شيوخ الإسلام كابن تيمية والغزالي وابن حزم. ولكن يبدو أن بعض عناصر القيادة، وجدوا أن هذا التعهد غير كاف، وكأنهم يريدون أن نطيعهم في المعروف وفي المنكر أيضاً، ولذلك فقد مرت أشهر ولم يفرج عنا، وبذلك أفرغ التعهد من مقتضاه الذي هو الإفراج السريع، فكتبنا بأن التعهد مقتضاه الإفراج وإذ لم يتم الإفراج، فإن التعهد فقد معناه ولم يعد ملزما لنا.

ونحن والدولة تحكمنا نصوص الشريعة وروحها ومقاصدها في ذلك، فليست مفاهيم الفوضى والفتنة والبلبلة وطاعة الإمام مطلقة من الضوابط الشرعية، لكي يطلقها خط المحافظة، بما فيه من  بعض عناصر القيادة والفقهاء والقضاة، على كل عمل لا يروق له، فقد صرح شيوخ الإسلام كابن تيمية وابن القيم والغزالي وابن حزم، ونصوا على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يكون بإذن السلطة أو عدمه، فالتغيير بالبيان والمقابلة الإذاعية ونحوها مسألة لا خلاف فيها، وإلا سقط الأمر الشرعي (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه ) والمواطنون شركاء في هذا الوطن، لكل منهم دوره، فهو على (ثغرة من ثغور الإسلام ) سواء أكان في الصفوف الأمامية أم الخلفية.

وأثناء اعتقالنا شن عدد من عناصر القيادة، حملة لتشويه مطالب الإصلاح الدستورية ودعاتها، وهذه مقتطفات تدل على التفكير السائد لدى بعض أركان القيادة:

 وزارة الداخلية قالت (توقيف عدد من المواطنين للتحقيق معهم فيما نسب إليهم مما لا يخدم الوحدة الوطنية وتماسك المجتمع القائم على الشريعة، وسردت أسماؤنا (الشرق الأوسط 26/1/1425هـ-17/3/2004م)) ووزير الداخلية يقول (المخاطر التي تحيق بالمملكة تجعلها حريصة هذه الأيام، على عدم السماح بأي نشاط تستغله جهات خارجية  للإساءة إليها) وكلامه يوحي بأنها ستسمح لهم بالنشاط إذا لم يستغل خارجياً. ولذلك حذر الناشطين من دعاة الإصلاح (من استغلال أطراف خارجية مطالب الإصلاح، للضغط على الأوضاع الداخلية، والإساءة إلى الوحدة الوطنية) (الحياة 4/2/1425هـ - 24/3/2004م). وهذا كلام عجيب لأن تصرف الدولة مع لجنة حقوق الإنسان الشرعية 1413هـ يدل على أن الدولة لن تسمح لأحد بأي نشاط، وظهور لجنة حقوق الإنسان عام  1425هـ هل يدل على أن الضغوط الأجنبية غير موجودة !!؟ وكأن الإصلاحيين لا القيادة – هم الذين يرحبون بالتدخلات الأجنبية ، في شئون الدولة والمجتمع ، وكأن الوطنية القائمة على الشريعة هي بقاء الظلم المنظم ونهب ثروة الشعب ونفطه، والاستبداد بالإدارة، ولا سيما في القرارات المصيرية، من وراء ظهر الأمة.

قالت وزارة الخارجية تم اعتقال بعض المواطنين الثلاثاء الماضي بسبب تورطهم في أعمال تحريض واستخدام أسماء أشخاص مرموقين ذوي سمعة دون موافقتهم ، بهدف إثارة البلبلة، في موقف أحوج ما تكون البلاد للرؤية الواضحة، والوحدة الوطنية، وتتعرض لهجمات من الإرهاب (الرياض الجمعة 28/1/1425هـ - 19/3/2004م) وقد ذكر وزير الخارجية في مؤتمر صحفي مشترك مع وزير الخارجية الأمريكية كولن باول "أن ما حدث يتعلق بأمن البلاد ، وأن هؤلاء الأشخاص أرادوا الإنشقاق، في وقت تواجه فيه السعودية الإرهاب. والذين أفرج عنهم تعهدوا بعدم الرجوع إلى استخدام أسماء الآخرين، وأما الذين أبوا فقد اختاروا طريق القضاء" ( الشرق الأوسط 29/1/ 1425 هـ - 20 / 3 / 2004م) وكأن هناك تزوير أسماء ؟ وكأن هناك أناساً اشتكوا؟ وكأن القضاء تقدم إليه أحد من ذكرت الدولة أن أسمائهم كتبت من دون إذنهم ؟ وكأنه لا بد من الاعتقال، لمثل هذه الدعاوى الكيدية؟ .

قال وزير الدفاع (هؤلاء تمردوا على آبائهم، وقد أفرج عن عدد منهم، ممن التزموا، ونأمل أن يهدي البقية الباقية) وهدد بالإحالة إلى القضاء، واتهم دعاة الإصلاح  بالانشقاق، وسرد آيات من القرآن الكريم، تؤكد أن هذه التهم لها عقاب شرعي في القضاء الإسلامي.

 

 

 

 

 

ثالثاً : تحليل موقف الرافضين الإصلاح من عناصر القيادة

 

هذه الحملة على دعاة الإصلاح الدستوري والمجتمع المدني، تنبئ عن مؤشرات وظواهر ، تدل على نمط التفكير السائد عند خط المحافظة على الأفكار والآليات الأموية والعباسية ، وخلاصة هذه التصريحات ومضمونها ما يلي:

استخدام عبارات تشوه دعاة الإصلاح السياسي والدستوري، وتصوره إخلالاً بالوحدة الوطنية، وكأن دعاة الإصلاح هم الذين سيفتحون المجال للأمريكان ليبنوا قواعدهم في البلاد، وليتدخلوا في شؤون النفط، وليتدخلوا في أمور التربية والتعليم.

فوق ذلك يتحدث بعضهم عن العلاقة بين المجتمع والقيادة، وكأن الحاكم بل الأمير أب للمواطنين ويجب على دعاة الإصلاح الدستوري بره وطاعته المطلقة، فالقضية ـ عندهم ـ  ليست قضية مواطنين تعاقدوا مع الحاكم على أن يحكم بالعدل والشورى كما قرر فقهاء السياسة في الإسلام، بل قضية أبناء مشاغبين على والد يحكم بـ ( السيف الأملح ) وفي ذلك تجاهل لطبيعة التعاقد الاجتماعي بين المجتمع والقيادة ، الذي تترتب عليه حقوق وواجبات على كلا الطرفين.  وقد قرر الإسلام هذا المبدأ قبل أربعة عشر قرناً من استقراره في الفكر السياسي الأوروبي الحديث.

واضح من ذلك أن خط المحافظة والتشكيك بالإصلاح، بما فيه من بعض عناصر القيادة يستخدم مصطلحات الفتنة والبلبلة والإخلال بالوحدة الوطنية والفوضى والتحريض، وكأنه وحده الذي يقرر المصلحة للأمة، وكأنه أدرى بالمصلحة منها وفوق ذلك هو أدرى بالشريعة لذلك فهم الذين يقررون متى شاءوا أن حقوق الإنسان والدستور من الشريعة أو من العلمنة.

واضح فيها ثقة خط المحافظة وتعويق الإصلاح المطلقة بأن القضاء تابع لهم، وسيجرم من اتهموا، وهذا محتمل مادام ولي الأمر أدرى بالمصلحة ومادام هو القاضي الأصيل، وليس القاضي في المحكمة إلا وكيل، ومع ذلك فإنهم يحاولون علناً التأثير على القضاء بهذه التشويهات، وهم بذلك يصورون القضاء وكأنه أداة في أيديهم، وبذلك يضاف إلى السلاحين الآخرين البوليس والإعلام، ويخنق دعاة الإصلاح بهذا المثلث. إنهم يتحدثون عن إدانتنا في القضاء قبل إحالة القضية إليه وقبل إصدار حكمه، وفي ذلك تدخل وضغط سلطاني وإعلامي على القضاء ،  وفي ذلك أيضاً تشويه للقضاء والقضاة، وكأنهم فزاعة تقمع بها الدولة حقوق الناس السياسية، وهذا يدل على أن خط المحافظة عند بعض أركان القيادة لا يسهمون في استقلال القضاء وتعزيز حياده ونزاهته بل يعملون على عكس ذلك. ومن توفيق الله لمسيرة الإصلاح أن الناس اطلعوا على محضرين من محاضر التحقيق معنا إذ  تسربا إلى الانترنت فكشف المحضران ضخامة المزاعم الباطلة التي يراد بها ضرب الإصلاح الدستوري ودعاته.

 

يتأكد هذا الاتجاه من خلال أسئلة التحقيق، إذ من الجلي أن خط المحافظة على التفكير السائد الذي جسدته هيئة الإدعاء والتحقيق العام للدولة يريد ضرب دعاة الإصلاح بسيف القضاة من خلال أمرين:

 الأول:

  الزعم بأن دعاة الإصلاح الدستوري والمجتمع المدني يهدمون الوحدة الوطنية القائمة على الشريعة، ولعل بعض أركان القيادة ينسى الإعلام الذي يردد أناشيد "دستورنا القرآن" وكأن دستورنا القرآن يبيح الاستئثار بالمال والتحكم في التربية والاستبداد بالإدارة، والتفريط بمصالح الأمة وقمع حرية الرأي والتعبير والإحتساب على السلطة.

الثاني:

 استعداء القضاء وتقديم دعاة الإصلاح على أنهم أناس يشككون في نزاهة القضاة وعدلهم، ونتيجة ذلك المتوقعة أن يصبح القضاة حكاماً وخصوماً في آن واحد، وهذا أمر بديهي إذا كان مركز القضاة محصورا في أنهم وكلاء، وأن القاضي الأصيل إنما هو الإمام، ومادام الإمام أدرى بالمصلحة، إذا كان الأمر كذلك فلا داعي للمحاكمة أصلاً لأن القاضي الأصيل قد أصدر الحكم فسجن وضبط الدعوى والحكم في وسائل الإعلام:-

يا أعدل الخلق إلا في معاملتي                فيك الخصام وأنت الخصم والحكم

ومن أجل ذلك  يطالب دعاة الإصلاح الدستوري والمجتمع المدني باستقلال(نظام) القضاء، ولا يطالبون ببراءتهم إذا كان القاضي مجرد وكيل، فالمشكلة في (النظام) لا في أشخاص القضاة، وهذا أمر شرحته مذكرة (رؤية لاستقلال القضاء) المرفقة.

 

رابعاً: مسئولية القضاء ، تجاه الرأي والتعبير ، فضلاً عن الإصلاحات الدستورية :- 

 

من الواضح أن وزارة الداخلية تستخدم سجن الإستظهار( التوقيف )، لإرهاب  حرية الرأي والتعبير، لكي يتاح لها أن تفصل  وأن تقمع، من دون رقيب ولا حسيب، وقد قمعت مئات من خطباء المساجد وكتاب الصحف والإعلاميين، ودعاة  الإصلاح السياسي جزء من هذا النسيج . وقد وثقت بأن القضاء، سواء كان القضاء العام أو ديوان المظالم ، لن ينبس ببنت شفة. ودليل ذلك ما يلي:

 

1- أن وزارة الداخلية لا تسمح للقضاء أن يتفقد أحوال المساجين، ولا أن يزوروهم في الزنازين، لكي يطمئن القضاة إلى أن السجن (تعويق ) عن الحركة كما قرر الإسلام قبل أربعة عشر قرناً من تنادي الدول الحديثة إلى ذلك وليس بـ(تضييق) يتم فيه تعذيب الأجساد والنفوس.

 

2- ولا تتيح وزارة الداخلية للقضاء أن يتأكد من أن اعترافات المتهمين صحيحة شرعاً، ولا تتيح للقضاء أن  يمارس دوره في التأكد من طبيعة التوقيف ووظيفته، ولا تتيح له الأنظمة والإجراءات العملية أن يرفض اعترافات المعتقلين التي تنتزع بالتعذيب والإكراه.

 

3- ولا تسمح وزارة الداخلية للقضاء أن يمارس دوره، في الأمر بالإفراج عن الموقوفين أشهراً بل ولا سنين من دون  محاكمة ، وعديد من الذين سجنوا في قضايا الرأي والإصلاح، قبعوا في السجون مدداً طويلة، ولم يستطع القضاء، أن يقول في قضية أي سجين رأي أو غيرها: أخرجوه أو قدموه للمحاكمة.

 

من أجل ذلك نطالب القضاء بتفهم قضيتنا وإطلاق سراحنا، وتعويضنا مادياً ومعنوياً، عن ما أصابنا من ظلم ،لأننا لم نمارس عملاً يستدعي سجن استظهار ولا سجن عقوبة. وهذه هي مبررات المطالبة:

استقبل ولي العهد الأمير عبد الله نائب الملك خطاب الرؤية بترحاب وجرى النقاش الصريح في مضمون المطالب،وأقر مشروعيتها عندما قال (رؤيتكم هي مشروعي) ولكن الشعب يحتاج إلى إنضاج، ودعاة الإصلاح الدستوري والمجتمع المدني عندما يمارسون دورهم في تثقيف الشعب، قد أخذوا ضوءاً أخضراً من نائب الملك ،فكيف تجرم الدولة أشخاصاً استقبلهم نائب رأس القيادة،وأعتبرهم معبرين عن مشروعه.

من الواضح من خلال التشويش الإعلامي الذي قام به الجناح المحافظ في القيادة، أن هناك اتهاماً لخطابي (الرؤية) و (النـداء الدستوري) بمخالفة الشريعة،وقد وضح ذلك من خلال أسئلة التحقيق معنا، فإذا كانت الدولة في صلب نظامها الأساسي قالت (دستور البلاد هو كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم) فإذن هي تعرف أن الدستور إطار لتنظيم الأمور وأن الإسلام لا يعارض الدستور. وتعرف أن  الدستور إذا كان منبثقاً من الشريعة، هو الذي يضمن التطبيق الصحيح للشريعة في الدولة الإسلامية الحديثة.

خطابا الإصلاح الدستوري مؤسسان تأسيساً محكماً على الشريعة، ومن الغريب أن يتهم هذا الخطابان أو  يتصور أنهما يعارضان الشريعة، وقد وقعهما أكثر من 25 أستاذاً من أساتذة أصول الفقه والفقه والحديث وعلوم القرآن والعقيدة، البارزين في كليات الشريعة وأصول الدين ومن تولوا رئاسة أقسام وعمادات كليات شرعية أو إدارة جامعات إسلامية، فضلاً عن عديد من المحامين الشرعيين الذين يحملون شهادات عالية أو عليا من كليات الشريعة،  إن تجريم الموقوفين هو أيضاً تجريم للموقعين، ولا فرق بين من وقع وتبنى؛ إن هيئة الإدعاء العام، قد جرمت كل هؤلاء الفقهاء وأساتذة الجامعات واتهمتهم بالعدوان على الشريعة:

إذا كنت لا تدري فتلك مصيبة                     وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم

أننا ينبغي أن نرفع أصواتنا بالإنكار على مثل هذه التصرفات، ونأمل من السائرين على خط الإصلاح السياسي والدستوري الذي دشنه خادم الحرمين الشريفين وولي عهده الأمين سواء كانوا في القيادة أو القضاء، أو مرافق الدولة الأخرى أو وزارة الداخلية وغيرها، أم في المجتمع بكافة أطيافه الاجتماعية والثقافية والإقليمية والمذهبية أن لا يتخاذلوا ونأمل أن يثبت القضاة من السائرين على خط الإصلاح استقلالهم، وأن يلاحظوا أن العناصر التي لا تريد الإصلاح في القيادة تزج بالقضاة والفقهاء لكي تضرب بهم أصحاب الرأي والتعبير والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر عامة والمعنيين بالاحتساب السياسي خاصة من الآمرين بالعدل والناهين عن الظلم في الشأن العام.

إن زج مؤسسة القضاء اليوم بقضية دعاة الإصلاح الدستوري والمجتمع المدني مثل زج هيئة كبار العلماء والإفتاء بالأمس مسيء لهم أشخاصاً وتياراً وله عواقب فظيعة لأنه يصم شريعة العدل بالعدوان.

ونموذج ذلك مسلك الدولة قبل أكثر من عشرة أعوام تجاه جمعية (حقوق الإنسان الشرعية) التي أنشأها ستة من الفقهاء وأساتذة الجامعات، وأحدهم بالأمس هو أحدنا اليوم الدكتور / أبو بلال عبدالله الحامد، وقد قمعتها الدولة بسيف الفقهاء فاستصدرت فتوى من هيئة كبار العلماء بعدم مشروعية اللجنة، وكانت هذه الفتوى أساساً اعتمدت عليه الدولة في فصلهم من جامعاتهم ومراكزهم ،وتشويه مقاصدهم ووسائلهم، من أجل ذلك صدر قرار بفصلهم، مرفقاً بفتوى هيئة كبار العلماء التي جاء فيها أن مجلس هيئة كبار العلماء:

" يستغرب تصرف هؤلاء الإخوة ، في تكوينهم أنفسهم لجنة للدفاع عن الحقوق الشرعية، وإعلانها في وسائل الإعلام الأجنبية ، ويستنكر هذا العمل ويقرر بالإجماع عدم شرعية قيام هذه اللجنة، وعدم جواز إقرارها، لأن المملكة العربية السعودية بحمد الله تحكم بشرع الله، والمحاكم الشرعية منتشرة في جميع أرجائها، ولا يمنع أحد من رفع ظلامته إلى الجهات المختصة في المحاكم أو في ديوان المظالم، وكاتبوا النشرة يعلمون ذلك تمام العلم ، ولما يترتب على وجود هذه اللجنة من أمور لا تحمد عقباها" (الشرق الأوسط . الجمعة 25 / ذو القعدة / 1413 الموافق 14/مايو/1993م)

واتهمتهم بالخروج على الدولة حتى اضطرت فقيهاً جليلاً مثل الشيخ عبد الله الجبرين إلى إعلان طاعته الإمام في العسر واليسر في وسائل  الإعلام وعلى رؤوس الأشهاد وكأن لجنة(الحقوق الشرعية)   تندرج تحت مفهوم الخروج على الدولة.!!!

                وماذا بمصر من المضحكات                        ولكنه مضحك كالبكا

ثم سجنت عديدا من رموز دعاة حقوق الإنسان ومناصريها، من فقهاء وعلماء ومثقفين على خلفية اللجنة.

وأحيل بعضهم إلى القضاء فأصدر القضاء أحكاماً قاسية بتجريم أمور مشروعة أو مباحة، ولو افترضنا أن في بعضها خطأ  على أكثر تقدير لما تجاوز ( الجنحة ) البسيطة لا ( الجناية ) الكبيرة وقد أضعفت هذه الأحكام كما أضعفت فتوى هيئة كبار العلماء الثقة في الفقهاء والقضاة، وأبرزتهم آلة من آلات قمع الشعب، ومطالبه العادلة.

 وفي نهاية المطاف وتحت ضغوط دولية حسب ما يشاع أنشأت الدولة (لجنة حقوق الإنسان الوطنية) بعد أكثر من عشر سنوات من المطالبة بها، فصار إنشاؤها حلالاً مشروعاً أو واجباً شرعياً ، بعد أن كان بالأمس محرماً غير مشروع، والتفت الوزارة على مفهوم لجان حقوق الإنسان الأهلية بإنشاء لجنة ظاهرها أنها (وطنية) و (أهلية) وأعمالها حتى الآن تؤكـد أنها واجهة إعلامـية لوزارة الداخلية.

والفقهاء والقضاة والمفتون وقعوا في ورطة عندما حرموا بالأمس حقوق الإنسان وشرعوها اليوم، وكذلك الفقهاء والقضاة أمام دعوة الإصلاح الدستوري والمجتمع المدني لو فعلوا ما فعلته هيئة كبار العلماء بالأمس، سيقدمون أنفسهم على أنهم غير متعمقين ولا ملمين بالوسائل الحديثة لتحقيق مقاصد الشريعة وكأنهم من الذين يدورون مع السلطان حيث دار، وسيكونون كالذين يحرمون زراعة العنب لأن بعض الناس يعتصرونه خمراً، وسيكونون من الذين يقمعون مقاصد الشريعة والعدل والشورى بتأويل الدين، ويضربون روحها بنصوصها، وكلياتها بجزئياتها، إن دعوة الإصلاح السياسي الدستوري، قد تقدم اليوم على أنها فتنة وإخلال بطاعة الإمام، وفي غد تتضح الرؤية بأنها الوسيلة المناسبة التي تضمن التطبيق الصحيح الشامل للشريعة.

وهذا الأمر لا يسيء إلى القضاة والفقهاء فحسب بل يسيء إلى الإسلام، ويفتح الباب الموارب لسيول العلمنة والهيمنة والتدخلات الأجنبية والفتن الأهلية التي تلوح في الأفق.

 

خامسا: أطلقوا سراحنا أو حاكمونا علانية:

 

من أجل ذلك نطالب السلطة القضائية، من خلال سماحتكم رئيس المجلس الأعلى للقضاء، بإطلاق سراحنا فورا ، ونحن ندرك أ ن الظروف الحالية قد لا تتيح للقضاء القيام بذلك فلا زالت السلطة التنفيذية مجسدة بوزارة الداخلية تحجم دوره، دليل ذلك أن القضاء لم يستطع منذ نشوء الدولة السعودية أن يضمن محاكمات علنية للمتهمين بتهم سياسية.

من أجل ذلك نطالبكم على أقل تقدير بمخاطبة السلطة التنفيذية، بأن عليها أحد أمرين:

 

إما الإفراج الفوري، أو الإحالة إلى القضاء لإقامة محاكمة ( علنية ) ونصر على أن علانيتها هي الإجراء البسيط الذي له علاقة كبرى بعدالتها وشرعيتها للأسباب التالية:

 

1- أن الأصل في المحاكمات الشرعية العلانية، ولا تعتبر المحاكمة شرعية ولا عادلة إذا لم تكن علنية ، وكل محاكمة سياسية سرية هي ظلم وعدوان.

2- نصت جميع القواعد القضائية في الدول العادلة على علانية المحاكمة وقد أخذت الدولة بهذا الإجراء العادل في المادة 155 من نظام الإجراءات الجزائية.

3- أن القضاء إذا اتجه إلى استثناء المحاكمة السياسية من العلانية ، فإنه يأخذ بالاستثناء الذي يهدم به الأصل ، فللقاضي استثناء بعض القضايا من العلانية إذا كان ذلك يساعد العدالة ، ولكن اتجاه القضاء في هذه القضية للاستثناء لا يصب في مصلحة العدالة ، وللأسف فإن عديداً من القضاة لا يرتاحون من حيث المبدأ للشفافية والعلانية، وهذا الإجراء ليس له وجاهة في قانون الشريعة الذي أرسى مبدأ العلانية قبل أربعة عشر قرناً من تنادي الأمم الحديثة إليه للأسباب التالية:

أن السرية مظنة الهوى، فالسرية هي طابع الأعمال التي لا يراد سبر غورها ولا معرفة حيثياتها كما قال الشاعر :

الستر دون الفاحشات ولا                       يلقاك دون الخير من ستر

أن العلانية أمر يثبت به القضاة استقلالهم ، ويثبت أن الدولة ليس ما لديها ما تخشاه أو تخفيه عن أنظار المهتمين بقضية حقوق الإنسان والعدالة في الداخل والخارج، من محامين وإعلاميين ودعاة حقوق الإنسان، واللجوء إلى السرية يعطي انطباعا بأن الدولة لا تنوي إقامة محاكمة عادلة أولاً ، وأنها لا تريد أن يستقل القضاء ثانياً، وأن القضاة غير فعالين في المطالبة باستقلالهم ثالثاً.

أن عناصر المحافظة من القيادة اتهمت مشروع الإصلاح السياسي الدستوري  ودعاته بتهم شتى و شوهت المقاصد والوسائل في الإعلام وما فعلته تلك العناصر يشكل ضغطاً غير مباشر على القضاء وفيه إيحاء للقضاء بنوع الحكم، فصار من حق المتهمين أن يعرف الناس دفاعهم عن أنفسهم إذ ليس من العدل أن تجرم الدولة الأفراد العزل علناً، في قنوات الإعلام، ثم يكون دفاع المتهمين عن أنفسهم سراً.

الدولة تعلن الالتزام بالكتاب والسنة دستوراً، والعلانية إحدى إجراءات العدالة الإسلامية ، وهي أيضاً ملتزمة بما وقعت عليه من مواثيق ، لأن هذه المواثيق تعد من الأنظمة المرعية ، مادامت لا تخالف الشريعة، وهذه الأنظمة التي وقعت عليها الدولة تنص على ما نطالب به، فقد وقعت الدولة على (إعلان القاهرة لحقوق الإنسان في الإسلام) وهو من مواثيق جامعة الدول العربية 1412هـ (1991م) ، ووقعت ثانياً على ( وثيقة مناهضة التعذيب ) سنة 1416هـ (1997م) ، ووقعت ثالثاً ( وثيقة مؤتمر تونس للإصلاح ) 1425هـ (2004م) ، ووقعت رابعاً (وثيقة حقوق الإنسان العربي) الصادرة من الجامعة العربية في شهر جمادى الآخرة 1425هـ (أغسطس2004م) وأودعت وثائق توقيعها لدى الأمانة العامة للجامعة العربية ، وهذه الوثائق تؤكد ما سبق أن أصدره الفقهاء والمفكرون الإسلاميون في المجلس الإسلامي الأوروبي ( ميثاق حقوق الإنسان في الإسلام ) سنة1400هـ(1982م) ، ومقتضى ذلك أن الدولة ملزمة بمحاكمة علنية، لكي يعرف الناس ما يحكم به القضاة أياً كان نوع الحكم.

العلنية هي التي تدلل هل القضاء يعتبر الرأي المسئول حقاً وواجباً أم جريمة؟  وهل يعتبر دعاة الإصلاح السياسي الدستوري، الداعين إلى تعزيز تطبيق الشريعة الإسلامية في المال العام والإدارة والتربية ونحوها دعاة قسط أم مجرمين؟ وهل سيعتبر الفقهاء من أساتذة الشريعة الذين وقعوا على خطابي الرؤية والإصلاح الدستوري جهلة بالدين؟ وهل وزارة الداخلية ستظل على أساليبها السابقة تسجن وتعذب وتجرم تحت تأويل مصطلحات الفتنة والفوضى وعصيان (ولي الأمر) ودرء المفاسد؟ وهل القضاء سيستجيب لها فيخل بالمواثيق التي وقعت عليها ؟                                                            

إن قضيتنا قضية رأي  ونحن إصلاحيون، كما اعترفت الدولة من خلال تصريحات عناصر القيادة، وكما صرح رئيس اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان في قناة تلفزيون العربية مساء الأربعاء الموافق 19/5/1425هـ .

أن في نظام القضاء فجوات تتيح للسلطة التنفيذية التدخل، وتفتح الباب لتجريم الرأي والتعبير المشروعين وأهمها أمران في هذا المقام :

 

الأول : ليس فيه مدونة لحقوق المواطنين في الرأي والتعبير، تحدد ما هو محظور من ما هو مباح من قضايا الرأي والنشر والمطبوعات، فليس فيه سلم لدرجات (الجريمة) أو (الجناية)

في مجال الرأي والتعبير

 

الثاني : ليس فيه أيضاً تحديد أو سلم ( للعقوبات ) وليس فيه قواعد وضوابط للعقوبات، في مجال قضايا الرأي والنشر ، فليس فيه إلا قاعدة التعزير ، وهي قاعدة فضفاضة، تمتد من ضربة بالسوط إلى ضربة بالسيف ، وفيها مجال واسع لانتهاك الحقوق السياسية للمواطن، ولن يستطيع القضاة سد مسارب التدخل ، ولا إثبات حيادهم ونزاهتهم إلا بمحاكمة علانية أمام الناس الذين هم شهود الله في أرضه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، لقد استقر في قديم الدهر وحديثه أن عدالة القضاء النابعة من استقلاله في أي دولة، هي أن يستطيع القضاة إصدار أحكام على الدولة، وأن يستطيعوا أن يبرؤا من جرمتهم الدولة ، وأن يحفظوا حقوق الأفراد العزل من انتهاك الدولة، وأن يحموا المضطهدين ، وأن يخرجوا المسجونين ظلماً .

 وإذا لم يفعل القضاء ذلك فإن ذلك لا يعبر عن ضعف استقلال القضاء فحسب، بل يعبر عن ضعف النظام السياسي أيضاً ، كما أنه يدل على هشاشة خط دعاة الإصلاح الرسمي والشعبي في القيادة والقضاء ووزارة الداخلية والأهالي وذوي المبادرات من دعاة حقوق الإنسان والإصلاح الدستوري والمجتمع المدني.

 ينبغي للجميع أن يتعاونوا على البر والتقوى، وإن إختلفت مناهجهم ومراكزهم وأدوارهم لأنهم يتفقون في الغاية وهي الحرص على حراسة الملة ، وسلامة الدولة ، وصلاح الأمة ، برفع لافتة العدالة.

 

وكل منهم ومنا ومنكم " على ثغرة من ثغورالإسلام فالله الله أن يؤتى الإسلام من قبله " كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم ، ونضعكم أمام تبعتكم الجسيمة ، وكل منا ملاق جزاء عمله في الدنيا والآخرة أمام الله ثم أمام هذا الشعب الذي يتشوف إلى تعزيز العدالة والشورى،

(( وقل إعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون * وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون))

 

وفقنا الله وإياكم ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

 

حرر في الرياض يوم الأحـد15/6/1425هـ ( 1/8/2004م )

 

 

من دعاة الإصلاح الدستوري والمجتمع المدني

 

ا. د / أبو بلال عبدالله الحامد                 علي الدميني             ا. د /متروك الفالح

الأستاذ السابق بجامعة الإمام محمد         أديب وشـاعر           أستاذ السياسة المقارنة

    بن سعود الإسلامية                                                  والعلاقات الدولية بجامعة

                                                                                        الملك سعود                        

 

 

 

الأساتذة المكرمين : وكلاءنا المحامين

نرجو تسليم الخطاب صاحب المعالي الرئيس الأعلى للقضاء وإرسال نسخة لكل من :

خادم الحرمين الشريفين راعي مسيرة الإصلاح

صاحب السمو الملكي الأمير عبد الله بن عبد العزيز

صاحب الفضيلة رئيس المحكمة الكبرى بالرياض

صاحب الفضيلة رئيس لجنة محاكمتنا القاضي محمد بن ابراهيم الخنين

رئيس اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان

 

 

 

 

 

 

 

 

 

بيان صحفي توضيحي..حول ما جرى في المحكمة العامة بالرياض

يوم الاثنين 7/7/1425 هـ

 

 

نشرت بعض الصحف المحلية أخبارا غير دقيقة عما جرى في محاكمة الإصلاحيين الثلاثة الحامد والفالح والدميني وتوضيحاً لذلك ننشر هذا البيان الرسمي المعتمد والوحيد :

توافدت جموع غفيرة نحو المحكمة العامة بالرياض يوم الاثنين الموافق 24/8/2004م وهو اليوم الذي حدد فيه عقد الجلسة الثانية لدعاة الإصلاح الدستوري والمجتمع المدني في السعودية حيث حضر العديد من المنتمين للتيار الإصلاحي من داخل وخارج الرياض ومراسلي وكالات الأنباء ومندوبي

الصحف المحلية والأجنبية إضافة إلى المئات من المتعاطفين مع قضية الإصلاح ودعم الحريات في السعودية وأصدقاء وذوي المعتقلين وأهليهم .

حمل المعتقلون الساعة 9.30 في موكب مكون من خمس سيارات من رجال الأمن إلى المحكمة العامة بالرياض وعند دخولهم أصعدوا من المصاعد الخلفية إلى الدور الثاني عشر وقد لاحظ موكلينا ما لا يقل عن عشرين شخصاً بلباس مدني وأكثر من 15 بلباس عسكري داخل القاعة المخصصة للمحاكمة ووجدوا

أن تلك القاعة لا تتسع للمزيد من غير هؤلاء فناقشوا الموضوع مع رجال المباحث وقالوا إن الذي نفهمه من هذا الإجراء أن هناك (محاولة لتزييف علنية المحاكمة) وحيث أن المعتقلين يعتقدون أن أي محاكمة غير علنية غير عادلة وغير شرعية ومخالفة لهدي الرسول صلى الله عليه وسلم عندما كان يقضي في المسجد وعلى رؤوس الأشهاد.

فطلبوا من رجال (الأمن) أن يسمح لمحاميهم وعوائلهم وأصدقائهم والمتعاطفين مع قضية الإصلاح الدستوري

والمجتمع المدني والذين قدموا من كافة أنحاء المملكة وكذلك رجال الإعلام كي ينقلوا ما يحدث داخل القاعة

للعالم ولاسيما وأن هذه القضية اصبحت قضية شعبية وعلى لسان الكثيرين من المهتمين بالاصلاح السياسي , فقال رجال الأمن لنا بأنهم سيسمحون لهم بعد ذلك فرد عليهم المعتقلون أن القاعة لا تتسع لهم ولماذا عدلتم عن القاعة الكبيرة إلى القاعة الصغيرة وهل المقصود بعلنية الجلسة أن تمتلئ القاعة برجال المباحث والشرط ويحرم منها الجمهور الذين هم شهود الله في أرضه عند ذلك طالب موكلونا بحضور المحامين وبعد أن سمح لأعضاء هيئة الدفاع بالصعود الى القاعة لاحظوا بأن المكان ممتلئ بأشخاص لا يعلم كيف استطاعوا الصعود مع أن كل منافذ الوصول الى الدور الثاني عشر مغلقة سواء عن طريق المصاعد أو عن طريق السلالم التي سدت بجدار بشري من رجال الأمن المدججين بالسلاح عندها تيقن موكلونا-المعتقلون- بأن الهدف هو (

إيجاد جلسة علنية مزيفة ) عند ذلك أصر الإصلاحيون المعتقلون على تمكينهم من حقوقهم بإقامة محاكمة علنية تحضرها عوائلهم وأصدقاؤهم الذين جاءوا من أماكن شتى من المملكة.

عند ذلك سمح رجال الأمن للحاضرين بالصعود إلى القاعة المعدة للمحاكمة .

وبما أن القاعة قد ملأت عمداً قبل صعود الجمهور إليها بغية وأد جلسة علنية حقيقية بكل ضماناتها القانونية

الأمر الذي أحدث تدافعاً وتذمراً من الحاضرين فرجع من لم يستطع الدخول –بما فيهم بعض المحامين_ إلى المعتقلين المعتصمين خارج القاعة واستمعوا منهم إلى الرواية الحقيقية لما حدث من خلال بيان مكتوب وقع عليه الثلاثة وتلاه الأستاذ الدكتور عبدالله الحامد أكدوا فيه بأنهم ماضون في طريق الإصلاح مهما كانت العوائق وأنهم نذروا أنفسهم من أجل هذه القضية العادلة وتفاعل الجمهور بشكل طبيعي مع أفكار هؤلاء الإصلاحيين الذين طالبوا الجمهور بالهدوء للحفاظ على هذا المكسب العظيم الذي يتمثل في علانية الجلسات والذي يحدث لأول مرة في المملكة ولتعزيز الاتجاه الإصلاحي في القيادة السياسية وفي القضاء وللحفاظ على هيبة المحكمة لكن الجمهور أصر على البقاء وعدم الإنصراف والجلوس خارج القاعة وطالبوا بوجود قاعة

كبيرة كالتي عقدت فيها الجلسة السابقة عندها أعلن أحد رجال الأمن للحاضرين بأن الجلسة قد رفعت .

بعدها ذهب رئيس وأعضاء هيئة الدفاع واجتمعوا برئيس الهيئة القضائية المختصة بنظر الدعوى فضيلة الشيخ محمد بن خنين وشرحوا له ملابسات ما حدث وظهر لفريق الدفاع من خلال المناقشة أن رجال الأمن قد زوروا للهيئة القضائية ماحدث و أرادوا تحميل المتهمين مسئولية الخطأ المتعمد الذي أريد به الإلتفات على مفهوم علنية المحكمة وقد تفهم فضيلته ذلك ووعد بأن تكون الجلسة القادمة علنية بكل ضماناتها.

كما التقى فضيلة الشيخ/ عبد اللطيف آل عبد اللطيف عضو الهيئة القضائية بالمتهمين وشرحوا له ملابسات ما حدث وأثر استفزازات رجال الأمن على سير المحاكمة وأنهم تجاوزوا صلاحياتهم بمنع الناس من الوصول الى القاعة المخصصة للمحاكمة مع أنها علنية فطلب منهم تفصيل شكواهم في الجلسة القادمة وسيكون لهم الحق الكامل في بيان ما حدث بكافة الضمانات القضائية العادلة.

كما التقى فضيلته بعائلات المتهمين وفريق الدفاع ومجموع من دعاة الإصلاح الذين تكبدوا مشقة الحضور من كافة أنحاء المملكة وتحاور معهم بكل شفافية وصدر مفتوح وأكد أمام الملأ بأن الجلسة القادمة لم تحدد وأنها ستكون جلسة علنية بكل الضمانات وأن تحقيق العدالة سيكون هدف الهيئة القضائية بكل استقلالية عن كافة الضغوط ولقد كان لكلمات فضيلته الأثر المباشر على الحضور وساهم بإزالة الاحتقان الذي سببه تعسف رجال الأمن مع الحضور وقد شكر عضو هيئة الدفاع المستبعد المحامي عبدالعزيز الوهيبي الهيئة

القضائية على شفافيتها وعلانيتها واعتبرها سابقة تاريخية تسجل لهذه الهيئة فتذكر وتشكر وطالب بأن يكون للهيئة الأشراف على العملية الأمنية في الجلسات القادمة تلافياً لتكرار ما حصل في هذه الجلسة من أخطاء وأعطى فضيلة الشيخ الفرصة للكثير من الحاضرين بالتحدث وبينوا له ما حدث وأن المباحث أرادت الالتفاف على علنية الجلسات بملأ القاعة برجالها وبالتالي حجز المتعاطفين من الحضور بحجة امتلاء القاعة وطالبوا الشيخ بتأمين قاعة تتسع لهذ الحضور لهذه القضية التي يعتقدون أنها قضيتهم وأكدوا على ثقتهم الكاملة بعدالة هذه الهيئة واستقلالها ونزاهتها وتحريها للحق والعدل ووعد فضيلة الشيخ بأن تنظر الهيئة بمطالبهم

بالحدود التي تساعدهم فيها الإمكانات المتوفرة .

تجدر الإشارة في هذا الصدد بأن رجال الأمن وفي سياق تعاملهم غير المنضبط مع الحاضرين قد تعاملوا بشكل سيء وعنيف مع عضو هيئة الدفاع والإصلاحي المحامي عصام بصراوي وحاولوا منعه من دخول القاعة والالتقاء بالحاضرين ...

وهيئة الدفاع إذ تدين هذا السلوك غير الحضاري لتطلب من المسئولين في جهاز الأمن أن يكونوا على قدر هذا الحدث التاريخي وأن يلتزموا بالأسس القانونية والإنسانية في التعامل مع الجمهور وأعضاء هيئة الدفاع.

ورغم كل ما حدث فإن الإصلاحيين المعتقلين يعتقدون بأن ماجرى لا يزال في طور الإيجابيات التي تحسب للمؤسسة القضائية وثمرة من ثمرات الحراك الإصلاحي المتنامي في المؤسسات الحكومية والقيادات الاجتماعية ويأملون بان تستمر عجلة الإصلاح وحماية حقوق المتهمين سارية من حسن إلى أحسن حتى يقطف المجتمع ثمار نضجه ووعية والله ولي التوفيق.

هيئة الدفاع عن معتقلي الإصلاح

شاهد عيان يروي وقائع جلسة الاثنين اليوم لم يكن يوما عاديا في تاريخ المحكمة الكبرى في مدينة الرياض ولا في تاريخ القضاء السعودي بعد الإعلان السابق عن موعد هذه الجلسة المقررة هذا اليوم تدافع عدة مئات من أقارب وأصدقاء المعتقلين ومن جميع أطياف المجتمع السعودي ومن جميع المناطق والتوجهات

ومن جميع المتحمسين والمناصرين والمؤيدين لحركة الإصلاح في المملكة من الرجال والنساء ومن جميع الأعمار والفئات توافدوا جميعا إلى قاعة المحكمة الكبرى في الرياض ,

وما أن اقتربت الساعة التاسعة صباحا وهو الموعد المقرر لبداية الجلسة حتى امتلأت المحكمة بمئات الناس حتى لم يبقى مكان قدم في الأسباب والممرات والطرقات والسلالم وعند المداخل , جميعهم أتوا يملؤهم الشوق والحماس من أجل حضور هذه المحاكمة العلنية وتقديم الدعم المعنوي للمعتقلين وفي هذه الأثناء ومع تزايد أعداد الوافدين إلى المحكمة حتى امتلأت بالحضور ولم يعد هناك موطئ قدم , تفاجأ الجميع بأن الطريق إلى الدور الحادي عشر وهو مكان انعقاد المحاكمة قد تم إغلاقه بالكامل فقد تم تعطيل المصاعد التي تؤدي إلى مكان قاعة المحاكمة وتم وضع العشرات من رجال الأمن على السلالم والطرقات لمنع دخول قاعة المحكمة

, ومع مرور الوقت وتسارع الزمن والجميع ينتظر بالسماح لهم بالدخول ألا أن رجال الأمن أصروا وبقوة على موقفهم ومنع الناس من الحضور فبدأ الناس بالتذمر ورغم محاولات التفاهم مع رجال الأمن ومع المسئولين للسماح بالدخول ألا أن رجال الأمن قد شكلوا درعا بشريا على مدخل السلالم رغم

توسلات عائلات المعتقلين والنساء والأطفال بالسماح لهم بالدخول , مرة فترة من الوقت على هذا الحال واقتربت الساعة من العاشرة والنصف والناس بين شد وجذب مع رجال الأمن وفي النهاية وأمام كل هذا الضغط من الأهالي والمناصرين لم يكن أمام رجال الأمن ألا أن يوسعوا الطريق للجميع من أجل الصعود إلى قاعة المحكمة , بدأ الناس بالتدفق للأعلى من اجل الحصول على مقعد أو يحضوا بفرصة لقاء المعتقلين

ولكن كانت المفاجأة عندما وجدنا المعتقلين الثلاثة أمامنا خارج القاعة فأقبل الناس يهرولون إليهم ويقبلونهم

ويأخذونهم بالأحضان مع العلم بأنه مازال المئات لم يستطيعوا أن يخترقوا حاجز الأمن وقف الدكتور الحامد بكل شموخ وعزة وسط العشرات من المؤيدين وقال لا وقت للسلام وأخرج من يده خطابا وقال سوف

أقرأ ما الذي حدث لنا هذا الصباح قبل بداية المحكمة وبدأ يتكلم والدموع تنهمر من عينيه قائلا بأن رجال

الشرطة قد أحضرونا من السجن اليوم وتم إدخالنا من أحد الأبواب الخلفية للمحكمة وتم اقتيادنا إلى قاعة المحاكمة بدون أن نقابل محامينا وبدون أن يعلم عنا أحد وعندما دخلنا قاعة المحكمة نحن الثلاثة تفاجئنا بأن القاعة ممتلئة بأكملها برجال المباحث المدنيين ولم نشاهد أي شخص ممن نعرف وحتى محامينا لم يكن موجودين , عند ذلك أدركنا أن المحاكمة لن تكن علنية وأنها قد رتبت سابقا وأن رجال المباحث قد ملئوا القاعات حتى يتم حجز الناس من الدخول والحضور بحجة ضيق المكان , وأستمر الدكتور الحامد قائلا

بأننا عندما أدركنا الأمر رفضنا الدخول للقاعة ورفضنا الجلوس وطلبنا حضور جميع محامينا, عند ذلك بدأ الناس بالتصفيق والتكبير انهمرت الدموع من الرجال والنساء جميعا وقام الناس يهتفون جميعا الإصلاح الإصلاح في مشهد عاطفي لا يمكن أن يحس به أو يتصوره أي شخص إلا من حضره وعاش وقائعه

في هذا الجو المشحون والعاطفي لم يكن بدأ من القاضي ورجال الأمن إلا السماح للناس بالدخول فتقدم الجميع

للقاعة رغم ضيقها وصغر مساحتها فلم تكن تكفي لأكثر من خمسين شخصا وكان لي الشرف بأن أكون أول الحاضرين أما بقية الناس فلم يسمح لهم بالدخول بحجة ضيق المساحة وفي هذه الأثناء خرج لنا القاضي بن خنين وقرأ بيانا قال فيه : نظرا للفوضى ولعدم النظام وعدم الترتيب فقد تم رفع الجلسة إلى وقت سوف يعلن لاحقا , ثم أخذ ملف القضية وغادر القاعة تأجيل المحاكمة كان محل امتعاض الجميع ولقى صدى سيئا جدا

عند الحضور وبدأ البعض بالتذمر وخصوصا ممن حضر من خارج مدينة الرياض عندما تم الإعلان عن التأجيل ورفع الجلسة لم يكن أمام المعتقلين والحضور ألا بتنظيم لقاء خطابي في الممرات وأمام المصاعد حيث جلس الجميع على الأرض وأمامهم المعتقلين الثلاثة وجمع من المهتمين والمحامين والناشطين.

وقام الدكتور الحامد وألقى خطابا حماسيا أكد فيه على الدستور والمجتمع المدني والوحدة الوطنية وعلى التلاحم بين جميع أطياف الشعب بجميع مذاهبهم ومعتقداتهم وأنهم متساوون بالحقوق والواجبات , كما ألقى الدكتور الفالح خطابا شدد فيه على التلاحم وعلى حقوق المواطن وعلى أهمية أن يعي الناس حقوقهم وطلب منهم الإطلاع على نظام الإجراءات الجزائية الذي يشرح حقوق المساجين كما كرر شكواه من عدم توفر الرعاية الصحية في السجن وأنه مازال يعاني من مشاكل صحية تستدعي العلاج السريع , كما قال

بأنه شاهد بعض المساجين قد تعرضوا للتعذيب بدون أن يقدموا إلى محاكمة وبدون أن يتم السماح لهم بتوكيل محامي استمرت الخطبة في جو معنوي عالي من المعتقلين والحضور والعائلات وحتى الأطفال الذين تفاعلوا كثيرا مع الأحداث إلى أن حان موعد صلاة الظهر , عندها تفاجأ الجميع بحضور القاضي الثاني في القضية الشيخ العبد اللطيف وتقدم الجميع وطلب من الجميع أن يتجهوا إلى قاعة المحكمة لأنه يريد أن يتحدث مع الحضور عن مرئيات ما حدث أجتمع الجميع داخل قاعة المحكمة وبدأ القاضي الحديث مبررا ما حدث بأنه كان بسبب الزحام الشديد والفوضى العارمة والتدافع وضيق القاعة وأن المحكمة لم تلغي علنية المحاكمة ولكن لا تستطيع أن تستوعب جميع الحضور وأن القاضي يحتاج إلى الهدوء من أجل إصدار الحكم وأن ذلك

لا يمكن أن يتم في هذه الأجواء وأن المحاكم تلتزم الهدوء وليست مكانا للخطابات والتصفيق , وبعد ذلك توالت التداخلات والتعليقات عما حدث من بعض الحضور إلا أن القاضي لم يجب عن استفسار أحد المتداخلين عن سبب امتلاء قاعة المحكمة برجال المباحث قبل بدء الجلسة ولكنه أكد أن حق الحضور مكفول للجميع حسب ما ينص عليه النظام ولكن من حق القاضي أن يوقف التحقيق إذا وجد أي سبب يعكر سير

المحكمة كما أن للقاضي الحق أن يرفع الجلسة إذا وجد أن هناك من الأسباب التي قد تؤثر على الحكم , تم بعد ذلك إغلاق باب النقاش ولم يحدد القاضي موعد الجلسة القادمة وقال بأن ذلك سوف يتم الإعلان عنه قريبا

 

عن صفحة الأنترنيت الخاصة باللجنة العربية لحقوق الإنسان.


الدكتور متروك الفالح

 

متروك بن هايس بن خليف الفالح  من مواليـد مدينه سكاكا منطقة الجوف عام 1/7/1372هـ

الموافق 17/5/1953

تخرج من جامعة الملـكـ سعود كلية العلوم الإدارية – قسم العلوم السياسية -  عام 1977م

حصل على درجة الماجستير في السياسة من جامعه كانساس لورنس عام 1981م , والدكتوراه في السياسة من نفس الجامعة بتقدير امتياز عام 1987م

عمل كعضو هيئة تدريس في جامعة الملك سعود وتدرج في السلـكـ الأكاديمي من أستاذ مشارك إلى أن حصل على الاستاذيه عام 1999م  ناشط سياسي وطني، وأستاذ العلاقات الدولية في قسم العلوم السياسية بجامعة الملك سعود بالرياض، منع من التدريس وإن لم يفصل من الوظيفة    قبل عام ونصف بعد نشره مقالة حول آثار الإصلاح قبل أن تتفكك المملكة وتنهار نشرته القدس العربي وقتئذ كما أصدر كتباً بحثية بالتعاون مع مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت منها المجتمع والديموقراطية والدولة في البلدان العربية . ساهم في كل العرائض الإصلاحية التي قدمت لأقطاب السلطة. التقى وآخرون مع وزير الداخلية في ديسمبر الماضي بعد تقديم العريضة الدستورية، وهدده نايف وزير الداخلية شخصياً بالسجن أمام الآخرين، ولكنه رد عليه بأنه لا يخاف من السجن، وأن غرضه إصلاح البلاد. والفالح شخصية معروفة على مستوى العالم العربي كباحث وكناشط سياسي إصلاحي، كما أن له حضوراً في بعض القنوات العربية التي تناقش مسائل الإصلاح في المملكة   وكان من الشخصيات العربية المختارة لقراءة تقرير التنمية العربية حول الحريات ولم يتمكن من حضور الاجتماع في عمان نهاية مارس بسبب اعتقاله في مكتبه في 16/3/2003


 

 

نُشرت لـه عدة بـحـوث قيمه :

اليابان:القوة الاقتصادية والقوة السياسية .

الصين: الاستقطاب الاجتماعي والسياسي لبرنامج التحديث والإصلاح نشر عام 1989 في مجلة العلوم الاجتماعية جامعة الكويت.

نظريات العنف والثورة ( دراسة تحليليه وتقويميه ).

ابن خلدون ونظريات الثورة ( نظرية الثورة في مفهوم العصبيه ).

الثورة الالمانيه ( دراسة في التفسيرات )

النموذج الصيني للتوحيــد ( الدولة الواحدة ذات نظامين دراسة في الأصول والعوامل والدلالات تم نشرها ي المستقبل العربي عدد 152.

الولايات المتحدة الأمريكية والسعودية 1991 – 1997م دراسة في طبيعة العلاقة واتجاهاتها على ضوء محور الدولة والمجتمع.

التحولات في العلاقات العربية – العربية 1996 – 1997م دراسة مقارنه الإدراك للنخب العربية الحاكمة المحورية تم نشرها في المستقبل العربي رقم 220.

السياسات الأمريكية المصرية تجاه الدولة والمجتمع.

10.أوروبا ومصر في التسعينات – السياسات والعلاقة تجاه محور الدولة والمجتمع.

11. بريطانيا والسعودية 1994 – 1997م جدل العلاقة في إطار السياسات اتجاه الدولة والمجتمع.

12. المستقبل السياسي في السعودية ,نُشر في القدس العربي.

عمل عضواً في المؤتمر القومي العربي 1993م , وعمل أيضاً عضواً في مجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية منذ 1993م . انضم للجنة العربية لحقوق الإنسان في 2004

 

نُشــر لـه عدة كــتــب  منها :

 سكاكا الجـوف في نهاية القرن العشرين ( التحديث والتنمية وتحولات النخب في الريف العربي السعودي ).

المجتمع والديمقراطية والدولة في البلدان العربية دراسة مقارنة لإشكالية المجتمع المدني في ضوء تريف المـدن.

الغرب والمجتمع والدولة في البلدان العربية.

 

 

 

 

 

 


من إصدارات اللجنة العربية لحقوق الإنسان

 

 

فيوليت داغر وجيمس بول: من أجل نهاية الحصار على شعب العراق: نصّان حول العقوبات، 1998

اللجنة العربية لحقوق الإنسان: الحماية لنشطاء حقوق الإنسان في تونس، 1998

اللجنة العربية لحقوق الإنسان: الجزائر: قضية سركاجي من المجزرة إلى المهزلة، 1998

فيوليت داغر: الزواج المدني في لبنان، حق وضرورة، 1998

جمال الهيثم النعال، الحريات الديمقراطية، حقوق الإنسان وأزمة القضاء في الدستور السوري، 1998

عمر المستيري: قراءة في الاتفاقية العربية لمناهضة الإرهاب، 1998

محمد حافظ يعقوب: المحكمة الجنائية الدولية، 1998

أول دراسة صدرت بالعربية عن هذه المحكمة

اللجنة العربية لحقوق الإنسان والمنظمة البحرينية لحقوق الإنسان: مصادرة جمعية المحامين في البحرين، 1998

منصف المرزوقي، فيوليت داغر، عصام يونس، هيثم مناع: سلامة النفس والجسد، التعذيب في العالم العربي، 1998

صدر طبعتان من هذا الكتاب بالفرنسية ونفذت طبعته العربية. أول دراسة متعددة الميادين تجمع بين التحليل النفسي والقراءة الفلسفية التاريخية والشهادات الحية، متوفر على الانترنيت.

فيوليت داغر: العقوبات الاقتصادية على العراق (بعد بعثة تحقيق قام بها عصام الدين حسن مع فيوليت داغر)، 1999

اللجنة العربية لحقوق الإنسان: من أجل الديمقراطية والحقوق الإنسانية في تونس، 1999

هيثم مناع: مراقبة قضائية في محكمة راضية النصراوي والمتهمين بالانتماء لحزب العمال الشيوعي التونسي، 1999

هيثم مناع: مراقبة قضائية في محاكمة جلال بن بريك الزغلامي، 1999   

ناتالي بوجراده: مراقبة قضائية في محاكمة منصف المرزوقي ونجيب حسني، 2000

هيثم مناع: مراقبة قضائية في محاكمة مناضلي الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، 2000

محمود خليلي وأمينة القاضي، الاختفاء القسري والتعذيب في الجزائر، 2000

محصلة سنوات من العمل والنضال من أجل المفقودين وضد التعذيب في الجزائر.

فيوليت داغر: تقرير أولي عن الأوضاع الصحية في ظل الانتفاضة،2000

إثر بعثة تحقيق قام بها ليون شفارتزنبرغ وفيوليت داغر وجان فرانسوا بوارييه لفلسطين في ظل الانتفاضة.

توفيق بن بريك، الآن أصغ إلي، دار الصبار واللجنة العربية لحقوق الإنسان والبرنامج العربي لنشطاء حقوق الإنسان، 2000

توفيق المناضل والشاعر في لحظة إضرابه ومنع كتابه يصدر هذا العمل تضامنا معه

محمد حافظ يعقوب، فيوليت داغر، محمد أبو حارثية: اللاجئون الفلسطينيون في لبنان، 2000

دراسة حقوقية سياسية نفسية واجتماعية عن موضوع اللاجئين الفلسطينيين عبر بعثتي تحقيق ورؤية فلسطينية من الداخل واللجوء.

هيثم مناع، الحرية في الإبداع المهجري، سلسلة براعم، بالاشتراك مع الأهالي، 2001

فكرة عن الإنتاج المهجري في الأمريكيتين بعين حقوق الإنسان والحريات الديمقراطية

منصف المرزوقي، هل نحن أهل للديمقراطية؟  سلسلة براعم، بالاشتراك مع الأهالي، 2001

هيثم مناع : ماذا عن المستقبل: ملاحظات على تقرير الحكومة السورية المقدم إلى لجنة حقوق الإنسان في نيويورك، 2001 دراسة مكثفة عن انتهاكات حقوق الإنسان قبل وبعد وفاة حافظ الأسد

عمل جماعي: تونس الغد. شارك فيه: أحمد المناعي، توفيق بن بريك، راشد الغنوشي، مصطفى بن جعفر، منصف المرزوقي، نور الدين ختروشي، سلسلة الإصلاح السياسي وحقوق الإنسان، 2001 أهم رموز السياسة وحقوق الإنسان يعرضون تصورهم للتغيير الديمقراطي في تونس

مؤسسة الحق، استعمال القوة من قوى الأمن الإسرائيلية، ترجمته للفرنسية نزهة راكيم ساطور، 2001

فيوليت داغر وعشرين باحث سوري، الديمقراطية وحقوق الإنسان في سورية (نوفمبر2001)، بحث جماعي من 520 صفحة عن الحقوق الاجتماعية والثقافية والسياسية والمدنية والاقتصادية والبيئية في سورية في مقاربة متعددة الميادين. صدر بالإنجليزية والفرنسية والعربية.

حبيب عيسى، النداء الأخير للحرية، باريس، 2002. بيروت 2003

هيثم مناع (إشراف) و38 باحثة وباحث، موسوعة الإمعان في حقوق الإنسان، دار الأهالي، دار بيسان، منشورات أوراب واللجنة العربية لحقوق الإنسان، 2000-2002 .

ريتشارد موران، روجر نورمان، جيمس بول، جون رامبل وكريستوف ويلك، العقوبات على العراق، المترتبات الإنسانية وخيارات المستقبل، بالاشتراك مع منتدى السياسات الشاملة(نيويورك) وحماية الطفل (لندن) وعشرة منظمات غير حكومية. 2002 .

مها يوسف، عماد مبارك، مصطفى الحسن طه، القوانين الاستثنائية وحق التنظيم في مصر، 2002.

تقارير مشتركة مع منظمات فلسطينية لحقوق الإنسان عن الأطفال المعتقلين ومحاكمات مروان البرغوثي ومجزرة الدرج-غزة  وبعثات تحقيق حول أوضاع الفلسطينيين في الرويشد والعراق

هيثم مناع، الولايات المتحدة وحقوق الإنسان، باريس، دمشق، جدة، 2003

فيوليت داغر، في جريمة العدوان، باريس، دمشق، 2003.

محمد بن طارية، عباس عروة، يوسف بجاوي، تاريخ التعذيب وأصول تحريمه في الإسلام، جده ، بيروت،  مركز الراية التنمية الفكرية 2003

اللجنة العربية لحقوق الإنسان، نجدة المستضعف، أعمال مؤتمر باريس للجمعيات الإنسانية والحقوقية، باريس، دمشق، الأهالي والمؤسسة العربية الأوربية للنشر 2003

اليوم العالمي للتضامن مع المعتقلين السياسيين في تونس، 2004 باريس. إصدار مشترك مع 25 منظمة غير حكومية.

اللجنة العربية لحقوق الإنسان، الاعتقال التعسفي في أربعة بلدان عربية، بالفرنسية والعربية، 2004 .

فيوليت داغر، حق الصحة، 2004

هيثم المالح، حقوق المستضعفين، سلسلة براعم، 2004

عبد المجيد منجونة، هيثم المالح، هيثم مناع، حالة الطوارئ ودولة القانون في سورية، طبعتان    2003 و 2004.

من أجل مجتمع مدني في سورية، حوارات "منتدى الحوار الوطني". اللجنة العربية لحقوق الإنسان والمؤسسة العربية الأوربية للنشر، 2004

جماعي، حرية الإعلام في العالم العربي والغرب، 2004

هيثم مناع، ومضات في ثقافة حقوق الإنسان 2004

إشراف فيوليت داغر، المرأة والأسرة في المجتمعات العربية، 2004

علي الدميني، نعم في الزنزانة لحن

متروك الفالح، الإصلاح الدستوري في السعودية


 

 

سلسلة براعم

تصدر هذه السلسلة عن اللجنة العربية لحقوق الإنسان

يشرف عليها الدكتور هيثم مناع والدكتور منصف المرزوقي

تسعى للمشاركة في عملية بناء ثقافة حقوق إنسان عالمية المضمون والمبنى في العالم العربي، وتبحث عن نفسها في كنوز الثقافة العربية الإسلامية وتنهل من خصب الثقافات الإنسانية الكبرى.

كما تهدف إلى التعريف بالتراث الحقوقي العربي واستقراء الصفحات المشرقة في الحضارة العربية الإسلامية باعتبارها مكونا أساسيا من مكونات الثقافة الديمقراطية في العالم العربي.

صدر منها:

الحرية في الإبداع المهجري

هل نحن أهل للديمقراطية

حقوق المستضعفين

في جريمة العدوان

الولايات المتحدة وحقوق الإنسان

صرخة قبل الاغتيال

حق الصحة من حقوق الإنسان

حرية الإعلام في العالم العربي والغرب

المرأة والأسرة في المجتمعات العربية

نعم في الزنزانة لحن

الإصلاح الدستوري في السعودية



[1] متروك الفالح " المستقبل السياسي للسعودية في ضوء 11/9/2001 م الإصلاح في وجه الانهيار أو التقسيم " نشرت أساساً في القدس العربي على عدة حلقات ما بين 26 أبريل وحتى مايو 2002 م . نعيد نشرها في هذا الكتاب لتوثيقها .

[2] في ردنا في مقابلة مع تلفزيون المنار في برنامج " ماذا بعـد " الذي يقدمه عمرو ناصف في 14/1/2004م ـ بيروت .

[3] فكرة قيام  " الدولة السعودية الرابعة " المؤسسة على الدستور، هي في الأساس  للدكتور ـ عبد الله الحامد .

[4]  * ابعد نفسه عن المحاسبة والشمولية الواردة في الحديث الشريف وكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ، وأما الشعب والمجتمع فهم الرعية فما عليهم إلا أن يتبعوا ما يريده الراعي "الوالي".

[5]  المصدر " رياض الصالحين .. حققه شعيب الأرناؤوط " بيروت " مؤسسة الرسالة طبعة 3/1422هـ  ـ   2001 م ص 93  .

[6]  المصدر نفسه 93 – 94

[7] المصدر نفسه ص 94

[8] المصدر نفسه ص 95

[9] المصدر نفسه 95

[10] المصدر نفسه  ص 97

[11] المصدر نفسه ص97 ، هامش  # 1 .

[12] صحيح مسلم يشرح النووي " بيروت " : دار ابن حزم ، ط 14231 هـ ـ  2002 م ص 161-163

[13] المصدر نفسه ص 162

[14]  للمزيد في التفصيلات أنظر الجزء الخاص بالدستور .

[15] عن رأي النووي في ذلك انظر صحيح ومسلم ، بشرح النووي " بيروت " دار بن حزم ط 11 ، 1423هـ 2002 م ص 1427 .

[16] وعن رأي  الشيخ السعدي أنظر ، الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي ، تيسير الكريم الرحمن في تيسير كلام المنان ، " بيروت " : مؤسسة الرسالة ط 1 ـ 1423هـ ـ 2002 م .

[17] العلامة شمس الدين أبي عبد الله ، محمد بن القيم الجوزية ، الطرق الحكمية ، قدم له وشرحه وخرج أحاديثه ، زهير شفيق الكبي (بيروت) : دار إحياء العلوم ط 1 1423هـ /  2002م ص 25 .