" الصراع بين الفرد والمجتمع "
ان الصراع الذي يحدث في المجتمع بين فردانية الفرد واجتماعيته , ينعكس على طبيعة الحكم الذي يحكم المجتمع , فضلا عن تأثيره في الأفكار والأيديولوجيات السائدة .
........................ارسطوطاليس
ولد الإنسان وهو يعايش صراع مرير بين نزعته الفردية والفطرية " الأنا " التي تدفعه لرفض كل أشكال القيود الاجتماعية والنفسية والفكرية , وحاجته للمجتمع والاختلاط به , وبالتالي التخلي عن تلك النزعة الفردية لصالح الجماعة , فالرغبة في الحرية المطلقة لدى الذات المتفردة , تقابلها حرية مشروطة في القالب الاجتماعي , ورفضه لكل أشكال القيود والتنظيم في النزعة الفردية والفطرية , تقابلها القوانين والتنظيمات والتشريعات التي تقيد وتمنع وتكبح جماح تلك النزعة في البيئة الاجتماعية وإطار الدولة .
وبما ان الإنسان يولد في نظام اجتماعي ,- أي – ان كل كائن بشري في كل مرحلة من مراحل التاريخ او حتى ما قبل التاريخ قد ولد في مجتمع – ونقصد به – الأسرة - , فهو اقرب الى ثقافة قبول التنظيم والمشاركة والاندماج منه الى الفوضى والهمجية , في المقابل وبالرغم من انه تربى على قبول القوانين والتنظيمات الاجتماعية منذ صغره , يمكننا التأكيد على ان تأثير النزعة الفردية " الأنا " المتمردة واللااجتماعية تطغى عليه في كثير من الأحيان نتيجة العديد من العوامل المؤثرة في تفكير وثقافة الفرد , ولان الميول الغرائزية لدى الإنسان أقوى بكثير من الميول العقلانية الواعية والاجتماعية .
وبالتالي فان الحقيقة التاريخية تؤكد بانه لا توجد هناك حرية طبيعية في الأصل الفطري , ( فالحرية بوصفها مثلا أعلى لما هو أصلي وطبيعي لا توجد كشيء طبيعي او أصلي , بل ينبغي السعي للحصول عليها ونيلها , وذلك بعد عملية تهذيب وترويض هائلة للقوة الأخلاقية والعقلية (بالرغم من ان الحالة الطبيعية للنفس البشرية وليس النشأة الإنسانية هي في أصلها نزعة نحو الفردية والغرائزية أكثر منها نزعة الى التنظيم الاجتماعي , وبالتالي فان النفس الدنيا تنزع الى رفض كل أشكال القيود والتنظيمات في مقابل رغبتها النفسية الى كل ما من شانه سبيل الى إرضاء الغرائز الطبيعية .
وهكذا يمكن التأكيد على ان الإنسان اجتماعي في أصله ونشأته ولكنه فوضوي غرائزي في طبيعته ونفسيته , وبالتالي لا يستطيع ان يعزل نفسه عن المجتمع ولا يمكنه دون ذلك المجتمع من التغلب على تلك النزعة نحو الفردانية والغرائزية , وهكذا فان على المجتمع ان يجعله أليفا وان يساعده بقدر المستطاع على توفير البيئة والوسائل السليمة والمناسبة لإشباع دوافعه البيولوجية ومن ثم التي لا يمكن استئصالها .
فالإنسان في حاجة ماسة الى الجماعة والمشاركة والاندماج والاختلاط , ( ليس لكي يعيش في أمان فقط , ولكن لكي يثقف نفسه ويصل الى منطق الروح العليا , والواقع ان الجماعة قادرة دوما على إظهار قوة يعجز عنها الفرد منعزلا ومن هذا المنطلق فانه يلزم باحترام الجماعة والتنظيم والتشريعات المنبثقة عنها وحمايتها كضرورة لكرامة الجميع وسعادتهم , و- بمعنى آخر – ان ذلك الفرد وبدخوله الى الجماعة وخروجه عن الحالة الطبيعية والغرائزية – أي – سعيه للتخلص من " الانا " , وتكوينه للشخصية الاجتماعية نتيجة حاجته لذلك فانه يقبل طوعا او مرغما لقوانينها وضوابطها وتشريعاتها .
وطبعا فانه بذلك سيواجه التهديدات الاجتماعية التي تفرض باسم الجماعة والتي ستحرمه من العديد من الرغبات الشخصية والأهواء الفردية والتوجهات الذاتية , ( لذلك نجد انه يعمل ويكافح من اجل استعادة بعض تلك الحقوق والحريات التي سلبت منه باسم المجتمع في كثير من الأوقات , وهذا النضال يولد ولادة وعيه الذي يتغير ويتطور وفق الظروف الاجتماعية )
وهنا نشير ونؤكد الى ان ذلك القبول الثنائي بين الفرد والمجتمع , والذي يفرض ويحتم على قوة الجماعة ان تنمي وتحمي كرامة الفرد باحترامها إياه , والذي يفرض بدوره إدانة كل تطرف في عقيدة الجماعة , نجد – وللأسف الشديد - في العديد من الأوقات والأماكن ما يخالف هذه الضرورة المنطقية والحتمية الواعية من خلال انتشار ما يمكن ان نطلق عليه بقمع فردية الإنسان , وهو ما وجدناه في العديد من المجتمعات والدول المعاصرة , وخصوصا تلك التي تتسلط فيها قوة الجماعة على الفرد من خلال العنصرية والمذهبية والشعوبية , وتتسلط فيها الدول المحكومة دكتاتوريا على إرادة المجتمع ومؤسسات المجتمع المدني .
وبصورة عامة نستطيع ان نقول بان هناك علاقة ترابط وتبادل وتأثير وتأثر بين الفرد والمجتمع , فمن غير المقبول ان تطغى الأنا والغرائز والشهوات الفردية على إرادة الجماعة , فنجد ان رغبات وشهوات الفرد تتمرد وتخالف إرادة المجتمع ورؤيته للشكل ومضمون الفكرية والثقافية والاجتماعية التي يسعى لتحقيقها , كما انه ومن غير المقبول استغلال الجماعة لحاجات الفرد الاجتماعية للاندماج والمشاركة من خلال حرمانه الكلي من حاجاته ورغباته الفردية والغرائزية تحت شعارات المصالح العليا للمجتمع .
وبالرجوع الى التاريخ نجد ان العامل الأساسي لانهيار المجتمعات والدول والأفكار وقيام الثورات وحركات التحرر هو التعسف والدكتاتورية وقمع فردية الإنسان , كما جرى على سبيل المثال لا الحصر مع الفكر الشمولي السوفيتي في أواخر القرن العشرين , لذلك وجب ان يكون هناك توازن في العلاقة الجدلية بين فردية الفرد واجتماعيته , والعناية بإيجاد نوع من التوازن في العلاقة بين الذات الإنسانية الغريزية النازعة الى الفردية والأنانية , والبيئة الاجتماعية التي يعيش فيها بالذات , - أي – بين النظام الطبيعي ألغرائزي والنظام الاجتماعي العقلاني , وهذا الأمر لا يمكن ان يتحقق سوى من خلال سلطة ضبط تمارس باسم الجماعة والمجتمع والدول , وهذه السلطة هي ما يطلق عليها تسمية " القانون " , فالقانون هو " سلطة وقوة تمارس باسم الجماعة لعقلنه التصرفات وضبط الغريزة الفطرية للأفراد , فالقانون بصورة عامة هو العقل البشري للأمة والحضارة ( لأنه يحكم شعوب الأرض قاطبة , وليست قوانين امة من الأمم إلا حالات خاصة لتطبيق هذا العقل البشري ).
وباختصار وكما يؤكد ذلك سبينوزا , فان ( غريزة السيطرة وإخضاع الآخرين ضرورية لنشوء الحضارة واستقرارها , ولكن وفي نفس الوقت فان التفريط فيها يؤدي الى انهيار تلك الحضارة , وهذه الحالة كحالة الترف عند ابن خلدون , فكما يرى ابن خلدون الحضارة لا تنشأ بدون ترف , ولكن الترف الزائد يؤدي الى انهيار وسقوط الحضارة ) . .
لذلك فانه ما من وسيلة مناسبة لعقلنه تلك الحالة الطبيعية وذلك الصراع بين فردانية الإنسان وشهواته وحاجته الى المشاركة الاجتماعية وبالتالي فقدانه للكثير من طبيعته الغرائزية بحكم ذلك الاندماج وانصياعه لطبيعة التوجه الاجتماعي وحكم القوانين التي فرضتها الجماعة , سوى وجود قوانين وأنظمة دستورية وإنسانية تنظم وتحكم تلك العلاقة الحتمية , و- بمعنى آخر - فانه ولكي يعيش الناس في أمان واستقرار وحرية , وعلى أفضل نحو ممكن للتقدم والبناء وعمران الحضارة يجب عليهم ان يسعوا الى التوحد في نظام واحد تحت مظلة القانون ( ونتيجة ذلك ان الحق الذي كان لدى كل منهم بحكم الطبيعة على الأشياء جميعا , أصبح ينتمي الى الجماعة , ولم تعد تتحكم فيه قوته او شهوته , بل قوة الجميع وإرادتهم , على انه كان لابد لمحاولتهم هذه ان تفشل لو كان الناس قد أصروا على إتباع الشهوات – والتمرد على الجماعة والمجتمع - ......
وإذن كان لزاما عليهم ان يتفقوا فيما بينهم عن طريق تنظيم حاسم على إخضاع كل شيء لتوجيهات العقل وحده , وعلى كبح جماح الشهوة بقدر ما تسبب أضرارا للآخرين , وعلى معاملة الناس بمثل ما يحبون ان يعاملوا به , وأخيرا على المحافظة على حق الآخرين كما لو كانوا يحافظون على حقهم الخاص , ولكي يكون هذا التحالف متينا ومضمونا وجب إبرامه بشروط معينة , انه لقانون شامل للطبيعة , ان أحدا لا يترك ما يعتقد انه خير إلا أملا في خير أعظم , او خوفا من ضرر اكبر , ولا يقبل شرا إلا تجنبا لشر أعظم منه , او أملا في خير اكبر , - وبعبارة أخرى – يختار كل فرد ما يبدو له أعظم الخيرين واهون الشرين ) .
وكما هو معلوم فان المشكلة الكبرى التي واجهت التنوع الإنساني منذ القديم , والتي أرغمته الطبيعة على ان يجد لها حلا هو الوصول الى تكوين مجتمع مدني يحكمه قانون عام , ولما كان في المجتمع وحده – كما يقول كانت – تحقق اكبر قدر من الحرية , ففيه يتحقق أدق تعيين وتامين لحدود تلك الحرية والعدالة والمساواة التي يمكن بلوغ غرض الطبيعة منها : - أي – نماء كل استعداداتها في الإنسانية , ( إذن فلابد ان يكون ثمة مجتمع ترتبط فيه الحرية , في نطاق القوانين الخارجية الى اعلي درجة ممكنة , وبقوة لا تقهر , - اعني – دستورا كاملا عادلا للمواطنين , فهذا هو أعلى واجب على الطبيعة نحو بني الإنسان , لان الطبيعة لا تستطيع ان تحقق سائر أغراضها من النوع الإنساني إلا عن طريق حل تلك المشكلة وتحقيق ذلك المجتمع )
" الصراع بين المجتمع والدولة "
ان تحقيق التوازن بين النظام الطبيعي والنظام الاجتماعي لا يتحقق كما سبق واشرنا سوى من خلال وجود قوانين وأنظمة وتشريعات دستورية وإنسانية تنظم وتهذب تلك العلاقة الحتمية , وانطلاقا من كل ما سبق ذكره يمكننا التأكيد على ان المجتمعات والأفراد الذين لا تحكمهم قوانين تنظم سلوكياتهم وتصرفاتهم ورغباتهم وشهواتهم ونزعاتهم الفردية والغرائزية , سوف يعانون من الفوضى والانحلال والتفكك , وسوف تنتشر فيهم الجريمة والأوبئة الاجتماعية والثقافية , ويسود بينهم قانون الغاب , كما انه ومن جانب آخر , ونتيجة لازدياد ضغط الجانب الاجتماعي – أي – انتهاك فردية الفرد من الجماعة , او تحت ستار المصلحة المجتمعية يحاول الفرد إنقاذ فرديته , وفي هذه الحالة يتمرد على الواقع ويقوم بالتمرد والثورة لإرجاع استقلاليته وحريته الفردية .
وهنا يأتي دور القوانين , ( فالقانون بوصفه شعورا ملائما , هو سبب صحيح للتوافق مع الطبيعة – وليس مخالفا لها - , وانه ينتشر من خلال كل التجمعات الإنسانية , وهو يخاطب الناس بصورة أبدية , وغير متغيرة للقيام بواجبهم , وذلك عن طريق أمرهم وردعهم من القيام بالأعمال غير الصحيحة وتحريم – وتجريم - هذه الأعمال ) , فالتنظيم والقانون هو الخطوة الأولى من اجل تكوين إنسانية الإنسان , والقواعد القانونية في الأصل تسن للحفاظ على مصلحة الجماعة ككل , وصيانة والحفاظ على الحقوق الأساسية التي دفعت الإنسان في مرحلة ما ولحاجة ما بالتضحية بالعديد من حرياته لأجلها بمجرد قبوله الانضواء تحت مظلة الجماعة والمجتمع والدولة.
اذا فالقوانين لا تناقض الطبيعة الإنسانية او تلغي فردية الذات البشرية الغرائزية بل هي تنظمها وتزكيها وتهذبها لما فيه مصلحتها , ( فالقوانين الصحيحة لا تحكم الناس – او تتحكم بهم كما يصورها البعض من الفوضويين والانحلاليين – القوانين الصحيحة تعمل على تغذية نسيج المسلمات والسلوكيات المنضبطة , التي يحكم الناس بها أنفسهم , وتدمر الديموقراطية نفسها اذا دمرت عادت ضبط النفس , ونكران الذات او الروح العامة ) .
وبالخروج من الحالة الفردية الى الحالة الاجتماعية – أي – تكوين الشخصية الاجتماعية وطبيعة الصراع الذي ينتج عن تلك الحالة , يبرز لنا صراع تعددي اكبر , وهو صراع يتجاوز في طبيعته الانا ورغباتها ونزعاتها الفطرية والغرائزية وحاجتها الى الإشباع النفسي , وما يمكن ان تتسبب به تلك النزعة الفردية تجاه المجتمع الصغير من خلل في النظام الاجتماعي , لينتقل الى صراع اعم واشمل وأكثر خطورة , وهو صراع تفرضه طبيعة التوسع في الغرائز والنزاعات الاجتماعية بين عدد اكبر من الأفراد والمجتمعات الصغيرة , وهنا تبرز الحاجة الى سلطة قانونية اكبر تحتوي السلطة والنزعة الاجتماعية اللاواعية لتلك التجمعات الصغيرة .
فالتاريخ الحضاري هو حصيلة التأثير المتبادل بين الفرد والمجتمع , والمجتمع والدولة , والدولة وبقية دول المنظومة الكونية , لذلك وعندما تتجه الظروف الاجتماعية الى التعدد , وتتجه الحاجات الى ان تتفرع وتتشعب على نحو لا حد له , وكذلك الوسائل والاستماع , عندها يظهر الحاجة الى قوة اكبر من المجتمع لفرض سلطته عليه , فليس بمقدور المجتمعات الصغيرة ان تحتوي رغباتها وشهواتها ونزعاتها دون قوة يد أعلى منها , وهنا تبرز الحاجة الى سلطة الدولة .
وتبرز لنا هنا إشكالية معينة من خلال المفاهيم السابقة , وهي ان سلطة الدولة وقوانينها على المجتمع , ليست هي تلك السلطة والقوانين التي فرضها المجتمع على الفرد , ونقول بان هذا الفهم هو فهم قاصر وان كان صحيحا من جهة ما , فسلطة المجتمع على الفرد تستمد من أمرين , وهما : الأعراف والتقاليد , ومن قوة الدولة وقوانينها , أما الدولة فتستمد قوتها من القوانين التي يفرضها ويؤسسها ويصوغها أفراد المجتمع في المجتمع الأعلى – أي – مؤسسات المجتمع المدني بقصد تنظيمه وتهذيب أفعاله , مع ضرورة ربطها بالتشريعات والأنظمة والقوانين الدولية والأممية – أي - عولمة القوانين - , وهنا نقول : بان الدولة التي تصوغ قوانينها وتنظيماتها وتشريعاتها من خلال المجتمع والقانون الدولي هي دولة " القانون العالمية " .
وعلى ذلك نجد بان التوصيف الأقرب لدولة القانون المنشودة هنا : هي تلك الدولة التي تؤسس قوانينها وشرائعها وتنظيماتها من خلال مشاركة المجتمع بمختلف مؤسساته وفئاته , مع مراعاة عولمتها من خلال سلطة المجتمع الدولي والقوانين والأنظمة والشرائع الدولية , وبالطبع ضرورة مراعاة الخصوصية الداخلية لطبيعة الأمة والمجتمع نفسه , وبالتالي فهي دولة تراعي أهمية التوازن بين تحرر المجتمع المدني نسبيا من الدولة , وضرورة وجود هيبة للدولة كأعلى سلطة على الأفراد والتجمعات , ولكن ليس سيطرتها وسطوتها عليه فيما يطلق عليه بالدولة الشمولية , ومن ثم مراعاة الخصوصية الثقافية والاجتماعية من خلال تلك الدولة .
من خلال ذلك نستطيع ان نتصور بان الشكل المستقبلي لطبيعة العلاقة بين الأفراد والمجتمع والدولة من خلال دولة القانون العالمية , وان كانت تأسس لمؤسسات حرة نسبيا , يؤكد على ( المجتمع المدني لا يتحقق إلا عبر الدولة التي يجب ان تضطلع بمسؤولية المساعدة على حل تناقضاته الداخلية – التي ستبرز من خلال الحرية النسبية التي نالها - , وتتوقع منه إدراك واجبه بالخضوع لسلطتها , و- بعبارة أخرى – فان هذا المجتمع ليس الدولة ولا يحل محلها , ولكنه لا يمكن ان يتمظهر إلا من خلالها ) .
وهكذا لا يمكن بحال من الأحوال ان ينظر الى تلك الدولة على أنها دولة دكتاتورية او شمولية كون قوانينها وسلطتها وسلطانها وسطوتها تنبع من المجتمع الذي اختار بنفسه القوانين والشرائع التي تحكمه وتدير شؤون حياته , فكيف يختار المجتمع ما يمكن يهدد حريته ويسئ إليها ؟ - ونقصد بالمجتمع هنا – هو مؤسسات المجتمع المدني التي تتشارك في بناء وتأسيس القوانين التي تضمن حسن الإدارة الوطنية والتنظيم لمصالحها وثروات الوطن , فالقواعد القانونية التي تؤسس بمشاركة المجتمع تسن من اجل الحفاظ على مصلحة الجماعة ككل , وبالطبع فان خروج او تمرد فرد او تجمع كالقبيلة او مؤسسة بعينها او مجموعة أفراد بعد ذلك على تلك القوانين يعد اعتداء على سلطة المجتمع وهيبة الدولة .
- وبمعنى آخر – بانه ولكي يعيش الناس في أمان وسلام وتعم العدالة والحرية وينال الفرد كرامته وإنسانيته والمجتمع استقراره والدولة هيبتها أمام العالم , لابد ان يتوحد الكل في نظام واحد وتحت مظلة دستور واحد , فالتنظيم هو الخطوة الأولى من اجل تكوين وبناء إنسانية الإنسان , وتحطيم أنانيته وفردانيته واحتواء غرائزه وشهواته , كما ان المجتمع ومن خلال هذا المنطلق الشامل والعام , وبخضوعه لسلطة الدولة فانه لا يفقد حريته , وكذلك الدولة والأنظمة السياسية حين تنطلق من سلطة الجماعة فانه لا يمكن ان تسقط يوما او تنهار او تعاني من التمرد والعصيان الاجتماعي .
فالمجتمع في الأصل ( لا يخضع للتنظيم وينصب على نفسه حكاما ويطيع هؤلاء الحكام إلا من اجل سعادته , ويترتب على ذلك أنهم يجب ان لا ينصبوا على أنفسهم حكاما إلا ليوفروا المزيد من الضمانات لسعادتهم , لذلك فالناس هم الذين عليهم صيانة القوانين , وان أقدموا على انتهاكها فانه بذلك يكونون أعداء لأنفسهم , وكما قيل فانه" بئسا للملك الذي يزدري من القانون , وبئسا للشعب الذي سكت عن ازدراء القانون ) .
اذا وكما أكدنا سلفا على ضرورة وجود توازن بين النظام الطبيعي للفرد والنظام الاجتماعي , ووجدنا ان ذلك التوازن لا يتحقق سوى من خلال قانون المجتمع – أي – الخضوع لسلطان الجماعة , فان الجماعة نفسها , او التجمعات والمؤسسات المدنية بحاجة الى سلطة قانون من نوع آخر وسلطة اكبر ونظام أوسع واشمل يحقق لها ذلك التوازن , وهو ما لا يمكن ان يتحقق سوى من خلال سلطة الدولة وقوانينها المنظمة لشؤونها العامة والخاصة وطبيعة التعامل بين الفرد والمؤسسات والحكومة .
وفي نهاية المطاف لا يمكن تحقيق التوازن العام بين – الفرد والمجتمع والدولة – والوصول في نهاية الى العدالة والحرية الحقيقية للجميع سوى من خلال قوة اشمل واعم – ونقصد – بها الدستور , فالدستور هو عقل الأمة وقانونها وموجهها ومنظم حياتها وسبب قوتها وبقاءها , وان إقامة الحكم على أسس دستورية ترتضيها الأمة ويلتزم بها الحاكم ضرورة حيوية لتأطير العلاقات السياسية والاجتماعية , - وباختصار – وكما يخضع الفرد لسلطة الجماعة , وتخضع المؤسسات والتجمعات لسلطة الدولة , فان الجميع في نهاية المطاف يخضع لعقل الأمة – أي – الدستور .
" النزاعات والحروب بين الدول "
كثيرة هي النظريات والفرضيات التي أثمرت عنها جهود علماء العلاقات الدولية والتاريخية والباحثين المتخصصين في سيكولوجيا الصراع والحروب والنزاعات العابرة للقارات في سعيهم الدءوب للإجابة عن ابرز سؤال يمكن ان يطرح في هذا الجانب وهو : لماذا تخوض الدول حروباً وصراعات ضد بعضها البعض ؟ , ومن خلال متابعة اغلب تلك النظريات وجدنا أنها تنقسم الى جزأين : وهي عوامل داخلية وأخرى خارجية , وذلك بحسب المناهج المستخدمة في الوصول الى النتائج في تلك الدراسات , ما بين المنهجين الكمي والكيفي.
إلا انه - وللأسف الشديد – لم نرى الكثير من الاتجاهات التحليلية التي تتبنى الميول النفسية والغرائزية والفطرية للدول نحو تبني فكرة الصراعات والنزاعات والحروب , بالرغم من ان طبيعة العلاقة بين الدول لا تختلف كثيرا من الناحية السيكولوجية عن تلك العلاقة التي تنشا بين الفرد والمجتمع او بين المجتمعات داخل الدولة والدولة كنظام وحكومة تخضع لها تلك التجمعات الإنسانية الداخلية .
فالكل في نهاية المطاف يسعى لتحقيق مصالحه الشخصية وان كان ذلك على حساب الآخرين , حيث يمكن لفكرة المصلحة " الانا " وحب السيطرة ان توجه الدول نحو الحروب والصراعات كما وجهت الأفراد والمجتمعات الى التمرد والثورات والانقلابات , ويختلف منسوب وقوة تلك النزعة ما بين دولة وأخرى , وهذا لا ينطبق فقط على الدول القوية على حساب الدول الضعيفة , ( فوفقاً لنظرية مباريات التفاعل الدولي ، يمكن لدولة ضعيفة جداً فى ظروف معينة شن حرب ضد عدو أشد منها قوة، خاصة إذا تصورت أن ما ستجنيه من هذه الحرب سيكون كبيراً وأن تكاليفها ستكون منخفضة ) .
ومن هذا المبدأ فان البعض يرى ( إمكانية دراسة الصراعات الداخلية والخارجية بمنهج واحد ومفاهيم واحدة ، لأن منطق الثورة والحرب واحد ومن النتائج القليلة المهمة فى هذا المجال ما توصل إليه – والت- من علاقة بين الثورات المحلية والحروب الدولية ، فاندلاع ثورة يؤدى إلى إعادة تحديد مصدر التهديد الخارجي الرئيسي للدولة ، ومن ثم قد يشجع الزعماء الجدد على استخدام القوة المسلحة فى السياسة الخارجية ) .
وكما برزت ضرورة وجود توازن بين النظام الطبيعي للفرد والنظام الاجتماعي , ووجدنا ان ذلك التوازن لا يتحقق سوى من خلال قانون المجتمع – أي – الخضوع لسلطان الجماعة , والجماعة نفسها , او التجمعات والمؤسسات المدنية بحاجة الى سلطة قانون من نوع آخر وسلطة اكبر ونظام أوسع واشمل يحقق لها ذلك الضبط والتوازن , وهو ما لا يمكن ان يتحقق سوى من خلال سلطة الدولة وقوانينها المنظمة لشؤونها العامة والخاصة وطبيعة التعامل بين الفرد والمؤسسات المدنية والحكومية .
فكذلك الدول في علاقاتها مع بعضها البعض بحاجة ماسة وحتمية الى وجود ذلك النوع من التوازن او النظام الذي يؤطر لحدود الحق الدولي والسيادة الداخلية للدولة وفي نفس الوقت يحتوي تلك النزعة الفطرية والاستعمارية للقوى والدول الكبرى او تلك التي تحاول التمرد واستعراض عضلاتها على بقية المجموعة الدولية , وتكمن الصورة التقريبية في شكل تلك العلاقة الفطرية في النظام الدولي وتشابهه مع النظام الطبيعي في نظرة العديد من دول العالم الى بعضها البعض من خلال قانون القوة والمصلحة .
وهو ما قد يدفع بدوره بعض الدول الى النزوع الى استخدام تلك النزعة الفردية للسيطرة وفرض العضلات كما سبق واشرنا , - وبمعنى آخر – فانا وجود الانا في النظام العالمي والدولي بين الدول يتشابه بدرجة كبيرة مع " الانا " في النظام الطبيعي , إلا ان خطورة نزعة الانا في النظام الدولي أوسع واعم واشد خطر وتأثير من النزعة الفطرية والانا في النظام الطبيعي او الاجتماعي .
فالصراع من اجل القوة ظاهرة شاملة زمانا ومكانا , والتجربة أقامت الدليل على صحة وجودها كونها حقيقة , وليس ثمة من يستطيع ان ينكر ان جميع الدول وعلى اختلاف أوضاعها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية , كبيرة كانت او صغيرة , قد التقت في جميع الأزمنة والأماكن على الصراع من اجل القوة والسيطرة والسيادة والتحكم بدافع المصلحة , ( وبالرغم من ان علماء الأجناس البشرية , قد اظهروا بان بعض الشعوب البدائية تبدو متحررة من الرغبة في السلطان , إلا ان أيا منهم لم يبرهن لنا بعد ! كيف يمكن نشر أوضاعهم العقلية والحياتية على صعيد عالمي , بحيث يصبح في الإمكان إزالة الصراع من اجل القوة – والسيطرة والنزعة الى الاستعمار والتوسع - في المسرح الدولي ) .
وبما ان الإنسان لا يستطيع العيش منفردا , فكذلك الدول لا يمكن لها مهما حاولت التقوقع على نفسها او عزل نفسها والانزواء بعيدا عن الآخرين في المجتمع الدولي , وحتى اذا افترضنا ان مجتمع من المجتمعات لم يكن بحاجة الى التعامل مع الآخرين , وهذا الأمر مستحيل بكل تأكيد , فان المجتمعات الأخرى بحاجة الى التعامل معه , وبما ان الدول جميعها تعيش في بيئة دولية كبيرة , لذلك فان تصرف أي دولة يؤثر في الدول الأخرى , وهذا ما يسمى بالمفهوم السياسي بمنطق الاعتمادية , والتي تعني ان ما تفعله امة ما يؤثر في باقي الأمم في النظام ذاته .
حتى ان المشاكل الداخلية الناتجة عن الخلافات والنزاعات الفردية وتلك التي تحدث في إطار المجتمع داخل الدول وتعتبر نزاعات وخلافات سيادية داخلية , تؤثر بشكل مباشر وخطير في كثير من الأحيان على الصعيد الدولي , وهو ما قد يؤدي الى نقل وتصدير تلك الأزمات والصراعات والثورات الى الخارج , او بقية أعضاء المجتمع الدولي , وبالتالي فان عملية تحقيق التوازن من خلال دستور الدولة يعد صعب ومعقد للغاية في بعض الأحيان بالاعتماد على الحلول والموارد الداخلية , لدرجة ان سيادة الدول نفسها واستقرارها لا يمكن ان يتحقق دون الاعتماد على المجتمع الدولي نتيجة توقفه على الأوضاع السياسية الدولية .
فمثلا ( مشكلة إيجاد دستور للمواطنين وان كان مسالة داخلية لكنها تتوقف على المتغيرات والتحولات والأحوال الدولية الخارجية وخصوصا القانونية منها , ولا يمكن ان تحل بدون هذه الأخيرة , فالروح غير الاجتماعية التي أحوجت الناس الى التجمع وإقامة الدستور هي نفسها السبب في ان كل هيئة او امة في أحوالها الخارجية , اعني الدول في علاقاتها مع الدول الأخرى لا تعمل في حرية مطلقة , ومن ثم يجب ان تنظر كل منها من الأخرى ان تصيبها بالشر الذي حمل الأفراد وأرغمهم على اصطناع وضع قانوني مدني ) .
ونتيجة لتلك الحتمية التبادلية والاعتمادية في العلاقات الحضارية والإنسانية والتاريخية بين الأمم , والتي ( يزعم العديد من دعاة الحرية الاقتصادية – انه أي - التوافق أو الاعتماد المتبادل بين الدول يؤدى دائماً إلى السلام بينها , بالرغم من انه لم يتوصل دارسو الصراع الدولي إلى إجماع حول هذه العلاقة ، بل أصبح الجيل الجديد منهم أكثر ميلاً للتشكيك فيها ) من جهة , وفي ظل التأكيد من خلال الأدلة التاريخية والحضارية على وجود النزعة الفطرية للهيمنة وسطوة الأمم في سيكولوجيا العلاقات الدولية والحضارية من جهة أخرى .
برزت الحاجة الى وجود سلطة مشابهة لسلطة دستور الدولة الداخلي والذي اشرنا إليه على انه السلطان والعقل المنظم لعلاقة ألأطراف داخل الدولة او الأمة الواحدة – أي – الفرد والمجتمع المدني والدولة , لتقوم بتنظيم وإدارة تلك العلاقة المتشابكة والمتشعبة والحتمية بين الدول والقوى الدولية , واحتواء تلك النزعة الاستعمارية والفطرية سالفة الذكر والتي يمكن ان تدفع وتحفز بعض الدول الى شن الحروب والصراعات ونشر النزاعات العابرة للقارات , وهو ما افرز نتيجة لذلك ما أطلق عليه لاحقا من جهة بالسياسة الدولية او السياسة بين الأمم كما يحلو للبعض تسميتها , ومن جهة أخرى ما أطلق عليه بالقانون الدولي .
اذا فالقانون الدولي في إطار السياسة الدولية " يفترض " ان يكون هو الدستور الإنساني والنظام الحقوقي العالمي العادل والحافظ لسيادة الدول وكرامة وإنسانية الشعوب في مختلف أرجاء المعمورة , وعقل الأمم العالمية المنظم والحاكم لشكل العلاقات الدولية بينها , والقوة الرادعة لكل أشكال الاحتلال والاستعمار والهيمنة وانتهاك سيادة الدول .
ولهذا سبق واشرنا على ضرورة ان تؤسس وتبنى الدساتير والقوانين الداخلية للدول في إطار دولي يحقق لها ذلك التوازن بين الحق الداخلي وهو سيادة كل دولة على نفسها وحقها في تنظيم وتشريع القوانين التي تتناسب وطبيعة الأمة الداخلية ورفض التدخل في شؤونها وسيادتها , وذلك الحق الخارجي الملزم للمجتمع الدولي في تسوية النزعات الداخلية والدولية كونها تؤثر في المنظومة الدولية خارج دائرة الصراع بحكم قاعدة التأثير والتأثر او النظرية التبادلية , والتدخل الإنساني في إطار القانون الدولي .
" الوعي الإنساني بين الحرية والقانون "
ان وعي الإنسان بحقوقه وواجباته تجاه المجتمع والدولة , وحتى وعيه بما هو ابعد من ذلك – واقصد – تجاه الإنسانية ككل , ومعرفته بحدود حريته وسلوكه المنظم والحضاري وأسلوبه في المطالبة بحقوقه الإنسانية والاجتماعية والسياسية والفكرية وغيرها , والتي سلبت منه في وقت من الأوقات ودن وجه حق او قانون او حتى تحت شعارات وأيديولوجيات رسمية او اجتماعية , يكفل له الوصول إليها وتحقيقها بكل يسر وسهوله وبطرق دستورية وقانونية وأخلاقية , وبدون المساس والتعدي على حقوق الآخرين ومصالحهم .
اذا فوعي الإنسان الفكري والسلوكي بالقوانين يكفل له الحرية والعدالة والمساواة في اسمي معانيها الطبيعية والإنسانية , فلا حرية ولا إنسانية في ظل الفوضى والانحلال وفساد الأخلاق وحياة الغاب , كما انه لا يمكن لمجتمع او امة من الأمم ان ترتقي بنفسها الى سلم الحضارة والتقدم والمدنية في ظل النزاعات الفردية والاختلافات الجماعية وغلبة الانا , فاتفاق الكلمة هو قوة للجماعة , وبدون هذا الاتفاق لا يستطيع أي فرد ان يتقدم الى الأمام , وان يعيش حياة الاستقرار والحرية , ويؤسس لمجتمع متقدم ومتحضر وراق بمؤسساته وخدماته وتطلعاته وأفكاره .
كما ان فقدان الفرد لهذا الوعي الإنساني والقانوني سينعكس سلبا على حاضره ومستقبله , وسيزيد من إضعاف تلك المؤسسات التي يقوم عليها المجتمع او تقوم عليها الحكومة , ومنها المؤسسات السياسية ( لان هناك علاقة وطيدة بين حضارة المجتمع والمؤسسات السياسية - او بقية مؤسسات المجتمع المدني – وان الوظيفة الأساسية للسلطات العامة هي تعزيز الثقة المتبادلة والسائدة في قلب الوحدة الاجتماعية , وان فقدان الثقة في حضارة المجتمع يخلق عقبات مهمة أمام إقامة مؤسسات عامة ,هذه المجتمعات يعاني فيها الحكم من عجز في الفعالية والاستقرار ويعاني أيضا من ضعف الثقة المتبادلة بين المواطنين في الولاء القومي والعالمي , وفي المهارات والقدرات التنظيمية )
كما ان وعي الأنظمة الرسمية والحكومات بمسؤولياتها الدستورية والقانونية والإنسانية تجاه أفرادها ضروري للغاية , حيث من الواجب ان تدرك أنها مكلفة بان تحكم وتدير نواحي الحياة وشؤونها باسم الشعب , - - وباختصار – فان الدول تعبر عن إرادتها وقوتها وحضارتها من خلال إرادة الشعوب , كما ان المجتمع يعبر عن إرادته بواسطة الدولة , وانه لولا الشعوب ما وجدت الحكومات والأنظمة , فما من حكومة ولا حاكم في الأصل بدون شعب , كما انه وفي نفس الوقت لا يمكن لشعب من الشعوب الواعية والعاقلة والمتحضرة ان يرجو بناء دولة او حضارة بدون قائد مستنير عادل يقوده ويدفع به الى الأمام .
فمهمة الدولة هي ان تقوم بخدمة المواطنين بصورة فعلية وتسهر على حمايتهم ورعاية مصالحهم , وإلا كما يقول أفلاطون : ( فان من أفظع أعمال الرعاة وادعاها الى الخزي , ان كلابهم التي ربوها لحراسة القطيع , تهجم على الأغنام , إما بسبب جوعها او نهمها , فتمزقها بأنيابها , فتكون ذئابا لا كلاب حراسة ..... لذلك كما يرى أفلاطون انه ليس من الضرورة الوقوف عند هذه النقطة , ولكن الأمر الأجدر والأعظم أهمية هو الإصرار على ما قلناه , وهو : ان يتم تهذيب - القادة المستقبليين ومسئولي الدولة – تهذيبا صحيحا اذا أريد بهم الحصول على أعظم مؤهلاتهم للحنان والعاطفة , نحو رفاقهم ونحو الذين يحكمونهم ) .
اذا فالحرية بوصفها مفهوما مجردا من زاوية الفلسفة والقانون التي تؤدي دورا أساسيا في سقوط ونشوء الحضارة الإنسانية , بحاجة الى توازن بين المسؤوليات الاجتماعية والرسمية , ومعرفة كلا الطرفين حدود واجباته وحقوقه تجاه الطرف الآخر , حيث تؤكد على أنها لا يمكن ان تتحقق في ظل مجتمع لا يستطيع الوعي بحقوقه وواجباته تجاه مؤسساته المدنية والحكومية , كما انه يكشف النقاب على ان الحرية الإنسانية لا يمكن ان تزدهر وتنفتح في إطار حياة الفقر والكدح والقمع والكبت والظلم الاجتماعي .
والحرية بهذه الصورة تشكل صراعا جدليا بين السلطة والوعي الجماعي المتحرر الذي يتطور باستمرار لان هذا المفهوم يتعلق بالفكر والأذهان وليس سهلا ان تقع تحت سيطرة أية سلطة , لذلك يخلق صعوبة دائمة أمام السلطة , وكما يقول سبينوزا ( لو كانت السيطرة على الأذهان سهلة مثلما يمكن السيطرة على الألسنة , لما وجدت أية حكومة نفسها في خطر ولما احتاجت أية سلطة لاستعمال العنف , وعاش كل فرد لهوى الحكام , ولما اصدر حكما على حق او باطل , على عدل او ظلم إلا وفقا لمشيئتهم , ولكن الأمور لا تجري على هذا النحو , لان ذهن الإنسان لا يمكن ان يقع تحت سيطرة أي إنسان آخر , اذا لا يمكن ان يخول احد بإرادته او رغما عنه الى أي إنسان حقه الطبيعي او قدرته على التفكير , وعلى ذلك فان السلطة التي تدعي أنها تسيطر على الأذهان إنما توصف بالعنف )
وفي التناول الدولي لمسالة الحرية من الناحية القانونية نجد ان مسالة الوعي حاضرة وبكل قوة , فبينما تدفع الاتفاقيات الدولية المجتمع الدولي الى ضرورة احترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية , وحقوق الدول وسيادتها , نجد وفي الجانب الآخر اتجاهات دولية تنادي ضبط التعبير عن تلك الحرية في إطار القانون , ولقد وضح هذا الرأي في العديد من المواثيق الدولية وكذلك الاتفاقيات والممارسات الخاصة بالدول , ومن ذلك مثلا الاتفاقية لخاصة بالحقوق المدنية والسياسية للإنسان للعام 1966م في مادتها 19 , الفقرة 2 .
وجاءت المادة 20 بدورها لتحظر التعبير عن الرأي في الحالات التي تضر بالمجتمع الدولي , حيث جاءت لتؤكد ممانعتها بحكم القانون كل دعاية من اجل الحرب , وكل دعوة للكراهية القومية والعنصرية والتحريض على التمييز والمعاداة والكراهية , كما وضحت باسم القانون الدولي إطار القيود المفروضة على حرية التعبير , والتي نجد اغلبها تدور حول ضروريات الوعي بالمسؤولية الإنسانية والحضارية , ولهذا استهدفت أغراضا محددة كاحترام حقوق وسمعة الآخرين يحسب المادة 17 , وحماية الأمن القومي او النظام العام او الصحة العامة او الأخلاق والدعاية من اجل الحرب .
كما نجد في نصوص ميثاق الأمم المتحدة ما يدعم ذلك في إطار النزاعات الدولية وسيادة الدول , كما هو منصوص عليه في المادة 2 من الفقرة 4 من الميثاق , والتي تمتع على الأطراف الدولية التهديد باستخدام القوة ضد سلامة الأراضي او الاستقلال السياسي لأية دولة , والفقرة 7 التي تحرم على المنظمة والدول التدخل في المسائل التي تعد من صميم السلطان الداخلي للدولة .
كما أنها – أي – المواثيق والقوانين الأممية وكما كفلت الحريات كحرية التعبير على سبيل المثال لا الحصر كما ورد ذلك في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي صدر عام 1948م , واتفاقية الحقوق المدنية والسياسية للعام 1966م واتفاقية الحق في التصحيح الدولي للعام 1952م , وغيرها من الاتفاقيات الدولية , فإنها كذلك وفي نفس الوقت قد حضت على ضرورة اشرأب شباب العالم السلم والاحترام المتبادل والتفاهم بين الشعوب في الإعلان الصادر عام 1965م وهو على سبيل المثال لا الحصر .
من هذا يتبين ان الحرية مرتبطة بعلاقة عضوية مع المصلحة عندما ينظمه القانون , ويصبح هو – أي القانون - الإطار الذي تمارس فيه الحريات , لذلك وعندما تولد مصلحة جديدة تولد في الوقت نفسه حرية جديدة يتم السعي للوصول إليها في إطار القانون وليس العنف والفوضى , ونتيجة لذلك الصراع بين المصالح والحقوق والواجبات يزداد وعي الناس وإدراكهم – أي – ثقافتهم تجاه ذلك الحق , فمن خلال الوعي الإنساني القائم بين الحرية والقانون في ظل الصراع على المصالح والنزعة الفردية والجماعية وسلطة النظام يتكون البناء السيكولوجي الذي تحتاجه الحضارة الإنسانية للارتقاء والتقدم والوصول الى الحرية الحقيقة , وهو ما يؤكد من جهة ثانية ضرورة وجود توازن دقيق بين السلطة والحريات .
ويعلمنا التاريخ ان مصير الأمم والشعوب منوط بحكم القوانين او بلا معقوليتها , وبقدرة الأفراد والمجتمع والأنظمة على التفاهم والتكامل في إطار وعي شامل بحدود المسؤولية والحقوق والواجبات في ظل دستور إنساني داخلي يراعي فيه الاتفاقيات والتشريعات الدولية , وكما سلف واشرنا على ضرورة ان ينبثق ذلك الدستور من رؤية جماعية تشاركيه بين المجتمع المدني والنظام الحاكم , - بمعنى آخر – سلطة تنبثق من الجماعة على نحو يكون الجميع ملزمين فيه بان يطيعوا أنفسهم لا ان يخضعوا لأمثالهم .
أخيرا فانه يجب ( ان توضع القوانين في كل الدول بحيث يكون الباعث على ضبط الناس هو الأمل في تحقيق خير معين , ويرغب فيه بوجه عام , أكثر من خوف يحيط بهم , وبذلك سيقوم كل فرد بواجبه بحماس كامل , وبما ان الطاعة كما هي معروفة لدى الجميع تدور في إطار تنفيذ الأوامر بالخضوع لسلطة الرئيس الآمر وحدها , فإننا نرى – كما يقول ذلك سبينوزا – ان هذه الطاعة وهذا الخضوع المكروه لا مكان لهما في مجتمع تكون السلطة فيه منتمية الى جميع أفراده , وتوضع فيه القوانين برضا الجميع , ففي مثل هذا المجتمع , سواء ازداد عدد القوانين ام نقص , يظل الشعب حرا لأنه يفعل برضاه الخاص لا بخضوعه لسلطة الآخرين ) .
باحث في الشؤون السياسية
رئيس تحرير مجلة السياسي المعهد العربي للبحوث والدراسات الاستراتيجية
|