" الطفل ليس زجاجة ينبغي ملؤها بل نارا يجب إشعالها "
مونتيني
لطالما تناول المفكرون أوضاع الأطفال ومشكلاتهم بالدراسة والتحليل، فأبانوا حجم المعاناة الإنسانية التي يكابدها أطفال العالم، واستطاعوا عبر تقصياتهم العلمية استكشاف حدود هذه المعاناة الاستلابية لحقوق الأطفال الطبيعية عبر التاريخ. وتأسيسا على هذه الصورة الاغترابية للطفولة نادى أصحاب الفكر الحرّ بضرورة التأسيس لقانونية إنسانية رصينة تضمن الحقوق المستلبة للطفولة وترعاها، وقد أثمرت جهودهم الفكرية النضالية في ترسيخ القوانين والعهود والاتفاقيات الدولية التي وضعت لحماية حقوق الأطفال ورعايتها (وطفة، 1998) . وتشكل اتفاقية حقوق الطفل التي اعتمدت من قبل الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة في 20 نوفمبر 1989([1]) تتويجا لمسيرة طويلة من النضال الإنساني في تاريخ حقوق الأطفال، كما تأتي ثمرة طيبة للنضال الفكري الذي بدأه جان جاك روسو وكوكبة من المفكرين الرواد في عصر التنوير.
ولم تكن هذه الاتفاقية قفزة في الفراغ، بل جاءت تتويجا لاتفاقيات ومواثيق كانت قد صدرت في هذا الميدان، أبرزها ميثاق حماية الأطفال Charte pour la protection des enfants، وهو الميثاق الذي أعلنه يانوش كوزاك (1984، Korczak ) في عام 1920. ومن أهمها إعلان جنيف لحقوق الطفل Déclaration de Genève في مايو 1923، وهو الإعلان الذي تم بمبادرة من الاتحاد الدولي لحماية الطفولة، وقد ركز هذا الإعلان على دعم ومساندة الأطفال وضمان حقوقهم وقد اعْتُمِدَ هذا الإعلان وأُقرَّ في الجمعية العامة لعصبة الأمم المتحدة في سبتمبر عام 1924.
لقد مهدت هذه الاتفاقيات والمواثيق وغيرها لعقد الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل في 20 نوفمبر عام 1989، وهي من نوع الاتفاقيات التي تفرض مشروعيتها على الدول التي وقعت عليها وصادقتها. وتعد هذه الاتفاقية في غاية الأهمية نظرا لأوضاع الأطفال المتردية في العالم، حيث تبين الإحصائيات الرسمية معاناة ملايين الأطفال في العالم من الفقر والعوز والحرمان، فهناك حسب الإحصائيات الدولية 15 مليون طفل من فئة الأطفال الذي تقل أعمارهم عن خمس سنوات يموتون في كل عام نتيجة لغياب العناية الصحية، وهناك أكثر من مئة مليون طفل يعيشون في الشوارع، وأربعمائة مليون طفل يتعرضون للاستغلال في سوق العمل. ففي إفريقيا، على سبيل المثال، هناك أكثر من خمسين مليون طفل خارج المدرسة، وهذا الرقم في ازدياد مستمر عاما بعد عام.
ومن المؤسف له أن البلدان الغربية المتقدمة، كغيرها من البلدان النامية والمتخلفة، تشهد تناميا كبيرا لظاهرة الاتجار بالأطفال واستغلالهم، وهي تجارة تتعاظم باستمرار، كما تشهد حالة من الاستغلال المرعب والمخيف للطفولة والأطفال، حيث تنمو ظاهرة التحرش الجنسي بالصغار مع الزمن، وتزداد وتائر ممارسة العنف ضدهم، وغير ذلك من المظاهر التي يندى لها جبين الإنسانية خجلا. ومن المحزن أيضا، أنه وبعد مرور أكثر من 20 عاما على مرور الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل، أن تزداد مظاهر البؤس والعنف والشقاء والتسلط والاستغلال ضد الأطفال في مختلف أصقاع العالم.
طبيعة الطفل وحقوقه:
تشكل الجهود التي بذلت في مجال حقوق الطفل تعبيرا عن حالة رفض للمظالم التربوية والإنسانية التي عاناها الأطفال في مختلف أصقاع الدنيا على مرّ التاريخ الإنساني.
لقد كان يانوش كورزاك Janusz Korczak -ملهم حقوق الطفل – من أكثر المفكرين نقدا ورفضا للممارسات السلبية ضد الأطفال، تلك التي تفتّ فيهم وتكسر أجنحتهم عبر مختلف أشكال العنف والابتذال والإكراه والتسلط والاستغلال ضد الطفل والطفولة(1979، Korczak ).
يرى كورزاك، أن العنف الذي يقع على الطفل، ينجم عن نظرتنا الخاطئة إلى طبيعته، وهي النظرة التي تُرِيْنا الطفل راشدا صغيرا يتأصل الشر بين جناحيه، أي كائنا يحمل سمات وخصائص الراشد نفسيا وعقليا ولكنه يصغره في الحجم والجسد(1979،Korczak ) . والطفل ليس راشدا صغيرا ولا يمتلك نزعا شريرا في أعماقه أو في طبيعته، كما يرى كورزاك . وتلك هي رؤية كل من جان جاك روسو وبستالوتزي وفروبل، فالطفل ليس راشدا صغيرا بل هو صغير الراشد الذي تتأصل فيه براءة الأطفال وعفتهم وطهرهم إذ تتميز طبيعته بالخصوصية وتشذ عن طبيعة الراشدين في المستوى الذهني والعقلي والأخلاقي. ومن الطبيعي أن يحضّ هذا التصور الجديد لطبيعة الطفل على رعاية الطفل وحمايته وضمان حقوقه وتوفير أمنه ووضعه في المكان المناسب له في مختلف مستويات الحياة الاجتماعية والتربوية، وهذا يوجب على الكبار تغيير فلسفتهم ونظرتهم إلى الطفل من كونه راشدا صغيرا إلى كونه صغير الراشد، أي بوصفه طفلا له حاجاته وخصوصياته الإنسانية المختلفة عن هذه التي نجدها عند الكبار والراشدين. وقد شكلت هذه الرؤية الجديدة لطبيعة الطفل المنطلق الحيوي لتأصيل حقوقه كمقدمة أساسية لرفض كل أشكال القهر والتعذيب والتسلط التي يعانيها الأطفال في مختلف أنحاء العالم.
في زمن كورزاك -حيث انطلقت فكرة حقوق الطفل -كان من الضرورة بمكان التأكيد على خصوصية الطفولة وحرية الطفولة، وكان كورزاك من أوائل الذين أكدوا على هذه الخصوصية، فسجل نفسه بين كبار الكتاب الذي كرسوا أنفسهم لحقوق الأطفال وحريتهم، لقد اقر بوجود ثقافة خاصة بالطفل، أي ثقافة تتناغم مع حاجاته وميوله وتطلعاته، وبيّن أن الطفل ليس راشدا صغيرا نعرفه عن ظهر قلب، بل كائنا يتميز بخصوصية تقتضي منا أن نفهمها علميا وإبيستيمولوجيا. وهكذا فإن الراشد عندما يدرك معنى الطفولة وخصوصيتها، سيتمكن من أن يعطي دلالة ومعنى لكل أفعال الطفل ونشاطاته المتنوعة التي تسهم بطبيعتها في تنمية الطفل وإعداده للمستقبل بعيدا عن إرادة الكبار ورغباتهم.
لقد أكد إدوارد كلابارايد Édouard Clararède على أهمية الطفولة وخصوصيتها عندما أسس بيت الصغار La Maison des Petits في جنيف ليترجم عبر ذلك طموحات كورزاك وتوجهاته التربوية فيما يتعلق بحقوق الطفل، حيث كان الشعار الذي رفعه كلابارايد: يجب تكون المدرسة المكان التي يفعل بها الأطفال ما يرغبون ويرغبون فيما يفعلون، وهذا يعني تأكيدا على أن الرغبة يجب أن تكون سابقة للفعل وأن يكون الفعل ترجمة للرغبة، وهذا تعبير صارخ عن حرية الطفل وحقه في الوجود والحياة وفقا للصورة التي يراها في ذاته (1931، Claparède).
لقد أكدت أفكار الرواد الأوائل من المفكرين في مجال الطفولة، ولاسيما روسو وبستالوتزي وبياجيه وفروبل وفرويد، على أولوية الحاضر على المستقبل لدى الطفل، إذ يجب ألا نضحي بحاضر الأطفال من
أجل مستقبل لا نعرف عنه إلا قليلا كما يقول : جان جاك روسو، وهذا يعني أنه يجب ألا ينظر إلى الطفل على أنه إنسان قد أنجز تكوينه الإنساني، بل ككيان ما زال في طور النمو والتطور، وهذا الإنجاز الإنساني الكامل لم ولن يحدث يوما حتى في طور الراشد، فكيف إذن هو الحال في مرحلة الطفولة أي عندما يكون الطفل في طوره الإنساني الأول، أي : في طور التفتح والنمو الذهني والأخلاقي.
مما لا شك فيه أن هناك اختلافا بين ذهنية الراشد وذهنية الطفل، حيث تنمو ذهنية الطفل بصورة بنائية مستمرة كما يبين لنا جان بياجيه وفيكوتسكي، ولكن هذا التطور الذي يحدث في عقل الطفل ليس تطورا خطيا صاعدا بل هو تطور دينامي متحرك متأثر بمختلف الظروف التربوية والسيكولوجية للطفل.
ووفقا لهذا التصور فإن الاتفاقيات الدولية حول حقوق الطفل تنطلق من فكرة أساسية أن الطفل لا يمكن اختزاله إلى مجرد راشد صغير، وكذلك فإن الطفل كائن نشط فعال يتميز بخصوصيته وتفرده. فالطفل وفقا لهذا التصور كيان في صيروة مستمرة. وهذا التصور بجملته يهدف إلى القول بأن للطفل حقيقة بذاتها مختلفة عن هذه التي سكنت وعينا وتصوراتنا القديمة. والطفل وفقا لهذه الصورة لا يمكنه أن يكون أو أن يختزل إلى ما يعادل رغبتنا في أن يكون، إنه ليس كذلك أبدا ولن يكون. وهذا يعني أنه يجب علينا ألا نعامل الطفل أبدا كأداة أو كوسيلة أو كشيء نرضي به أنفسنا وغرورنا بل كغاية إنسانية تتصف بسموها ورقيها.
مساجلات تربوية:
عدد كبير من الانتقادات التي وجهت إلى الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل، ويتمركز أكثر هذه الانتقادات أهمية حول حق الطفل في التربية والتعليم. فالاتفاقية تنطوي على بندين غير متوافقين: فهي من جهة تؤكد على حق الطفل في الحماية لما يتميز به من ضعف وهشاشة - إذ جاء في نص الاتفاقية: الطفل يحتاج إلى النضج الفيزيائي والعقلي كما يحتاج إلى حماية خاصة وعناية خاصة- ، ومن جهة أخرى تؤكد حق الطفل في التعبير عن نفسه . وهنا يبرز التناقض الكبير ما بين التصورين: فالطفل لم يصل إلى نضجه العقلي والجسدي بعد، ويبنى على ذلك أنه غير قادر على التعبير عن نفسه ، فكيف يمنح الطفل حق التعبير وحرية الرأي وهو غير قادر على ممارسة هذا الحق بسبب قصوره وضعفه ، فحرية التعبير والرأي تتطلب أن يكون الطفل ناضجا وقادرا على ذلك، والطفل كما تنص الاتفاقية هو كائن ضعيف لم يصل إلى نضجه الجسدي والعقلي.
وفي هذا المجال يمكن توجيه نقد كبير إلى الراشدين الذين يعترفون بحقوق الأطفال وبعدم قدرة الأطفال على ممارسة حقوقهم في الوقت الذي لا يبذلون فيها أي جهد لتربية أطفالهم على حقوقهم.
ترى حنا أر ندت Hannah Arendt في هذا السياق بأن التربية تقوم بأمرين معا أو في آن واحد : فهي تعمل على دمج الطفل في الحياة بطريقة منظمة وموجهة من جهة ، وهي تعمل على حماية الطفل من تقلبات الزمان والمحافظة على قدرته على الابتكار والتجديد من جهة ثانية. وفي دائرة هذه الشروط التربوية يبدو من غير المنطقي الاعتقاد بأن الأطفال يمكنهم اختيار ما يجب أن يتعلموه: فالأطفال يتوجب عليهم أن يتعلموا لغة آبائهم والأنظمة المدرسية القائمة الضرورية لتنميتهم وتربيتهم. إذ يجب عليهم بالضرورة أن يخضعوا لتربية الكبار وتوجيههم كما تقول أرندت(1972، Arendt ). وهنا تبرز ضرورة استكشاف الحدود الفاصلة بين الطفل والراشد، لأن الطفل ليس راشدا صغيرا بل هو صغير الراشدين. فالراشد يكون مسؤولا عن أعماله بالضرورة، ويمكنه أن يشارك في اتخاذ القرارات السياسية لمجتمعه وهذا ليس هو حال الطفل الصغير الذي لم يصبح راشدا بعد.
فالجميع يتفق على أن الحق الأول للطفل هو الحق في التربية والتعليم، والجميع يوافق أيضا على أهمية تحضير الطفل لممارسة حقوقه، ولكن الخلاف يكون دائما حول طريقة تحضير الطفل لممارسة هذه الحقوق كما يكون حول الكيفيات التربوية التي يمكن اعتمادها لتربية الطفل على تمثل هذه الحقوق.
هناك اتجاهات متعددة متضاربة تتعلق بطبيعة تأهيل الطفل حقوقيا، فهناك من يرى ضرورة تربية الطفل على المبادئ الأساسية الضرورية لتحقيق نموه وازدهاره وضمان تمثله للقيم الحرة التي تسمح له بامتلاك الشعور بالحرية. وهناك من يرى بأنه تربية الطفل على الحرية تكون من خلال الممارسة التربوية للحرية، وهي الممارسة التي تنطلق من القيم الحرة وترسخها في آن واحد. وهناك من يعتقد بأنه عندما يراد للطفل أن يكون كما يرغب المربون في أن يكون – أي كائنا واعيا يشعر بالمسؤولية، قادرا على إصدار الأحكام – فإن هذه التصور المثالي غير الواقعي يمنع الأطفال من تحقيق حريتهم ويعطل حيويتهم الإنسانية.
هناك من يعتقد بأنه لا يمكن تحضير الطفل للحرية عبر القسر والإكراه وأنه يجب تأخير عملية التدريب على المسؤولية. وأيضا هناك من يرى بأن إخضاع الأطفال للنظام يمكنه أن يكوّن لديهم الإرادة الضرورية لممارسة الحرية والمواطنة في المستقبل، وهناك أيضا من ينادي بمبدأ مشاركة الأطفال في النشاطات التربوية التي تسمح لهم باكتشاف ذاتهم والتمرس بالقانونية الضرورية التي تؤهلهم للمسؤولية وممارسة الحرية. ويمكن التمييز بصورة عامة بين هؤلاء الذين يرون أنه يمكن تربية الطفل على الديمقراطية وحقوق الإنسان من خلال التعليم، وبين هؤلاء الذين يعتقدون بأنه أن لا يمكن تربية الطفل على الديمقراطية إلا من خلال الديمقراطية ذاتها. ومثل هذه الرؤى والتصورات المتناقضة تجعل من الصعوبة بمكان تبني تصور موضوعي يتعلق بالكيفية التربوية التي يجب أن تعتمد لتربية الأطفال على حقوقهم وممارسة حرياتهم.
ويمكن القول هنا بأن العهد الدولي لحقوق الطفل la Convention internationale des droits de l’enfant قد تناول هذه المسألة وأكد على حق الطفل في التعليم، وقد جاء في أحد بنوده ما يؤكد على أهمية وضرورة تربية الطفل على احترام والديه، والشعور بهويته، واحترام لغته وقيمه الثقافية، واحترامه للقيم الوطنية للبلد الذي يعيش فيه، والإيمان بالتنوع الثقافي في المجتمع الذي يحتضنه. ويؤكد العهد الدولي بأنه يجب على التربية أن تحضّر الطفل للعيش في مجتمع حرّ وفقا لقيم التفاهم والسلام والتسامح والمساواة بين الجنسين ومن منطلق محبة الشعوب وتقبل الجماعات الإثنية القومية والوطنية واحترام السكان الأصليين. وفي الوقت نفسه فإن الاتفاقية تؤكد أهمية تربية الطفل على القيم حيث تنص المادة 12: "أنه يجب على الدول أن تضمن للطفل القادر على التعبير حقه في التعبير الحرّ عن رأيه حول مختلف القضايا التي تتعلق به ".
وهنا تبدو إشكالية الازدواجية في وضعية الطفل إزاء حقوق الإنسان، فهو يشكل موضوعها من جهة وذاتها من جهة أخرى، فهو موضوعها حيث تتوجب حمايته ضد كل ما يمس حقوق الإنسانية، وهو ذاتها عندما يجب عليه أن يمارس حريته وحقوقه المعلنة. فهو من حيث المبدأ يحتاج إلى قوة خارجية هي قوة الكبار لحمايته وحماية حقوقه، وهو من جهة أخرى يحتاج إلى الطاقة الذاتية للتعرف على حقوقه واتخاذ الموقف المناسبة ضمن ما يتيحه وضعه الطفولي والحالة الاجتماعية التي تحتضنه.
وهناك اليوم من يعطي الأولوية لحقوق الطفل في الغذاء وفي الصحة والعلاج وفي الحماية ضد العنف وضد التحرش الجنسي والاستغلال في العمل. وقلما يشار إلى حق الطفل في المشاركة في إبداء الرأي أو التمرس في إبداء المواقف وممارسة الحرية. وبالطبع هذا رأي السواد الأعظم من أبناء الطبقات الوسطى في مختلف المجتمعات الإنسانية. وغالبا ما ينظر إلى حق الطفل في المشاركة وإبداء الرأي على أنه أمر تربوي يتعلق ببناء الشخصية وتنمية المشاعر الوطنية والقومية ولا يتعلق الأمر بنسق الحقوق الإنسانية للطفل.
ومما لاشك فيه أن الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل تشكل منطلقا حقيقيا لمناقشة العلاقة بين سلطة الراشدين والحرية التي يجب أن تمنح للطفل. وهنا يعلم العارفون بأن تخلي الراشدين عن سلطتهم لا يمكن أن يؤدي في أي حال من الأحوال إلى تعريف الأطفال بحقوقهم ، فالراشد عندما يتمسك بالسلطة بوصفها امتيازا فإن ذلك يؤدي إلى الخلط ما بين التربية والإخضاع، وبالتالي فإن هذا سيعزز الشعور بالخضوع والميل إلى التكتم والخداع أو الازدواجية لدى الطفل. فعندما يتخلى الراشد عن دوره الضروري في عملية تحويل المعرفة فإنه بذلك سيؤثر بالضرورة في البنية التربوية للطفل ويحرمه من القدرة على المواجهة والتكيف مع مستجدات الحياة العاطفية والأيديولوجية والمادية التي تتقاطر عليه من كل حدب وصوب. وهنا يجب على المربي في حقيقة الأمر أن يدرك بأنه يجب عليه أن يرفض العنف والتسلط كي يسمح للطفل بأن يحقق نماءه وازدهاره (وطفة،1999). وهذا يعني أنه يتوجب على الراشد أو المربي أن يميز ما بين السلطة والتسلط، فالسلطة تعني توظيف قوة المربي في النهوض بالطفل وتنميته أم التسلط فيعني العنف والقهر والتدمير في كل الأحوال. فعلى المربي أن يستخدم سلطة من غير تسلط وأن يوظف طاقته وقدرته في حماية الطفل وتحقيق ازدهاره. وهنا ومن جديد يجب على المربي أن يعي دائما الغاية من الفعل التربوي ، وأن يأخذ بعين الاعتبار المصالح العليا للطفل. كما يجب عليه أيضا أن يتجنب إكراه الطفل على تمثل المعرفة واستبطانها بطريقة القسر والإكراه الخارجي.
فالرغبة في التفاعل مع الآخر وقبوله أمر يخضع للنزعة الذاتية والرغبة العفوية، ولكن هذا لا يعني أبدأ أنه يجب على الطفل أن يترك نفسه على سجيتها وعفويتها، فالطفل ينمو ويعرف ويدرك ويتفاعل مع الآخر ثقافيا وإنسانيا. وهذا يوجب تعليم الطفل المنهجية التي تمكنّه من الخروج من بوتقته الذاتية ليتفاعل مع العالم الخارجي وفق معايير عقلانية هادفة.
يصف المربى الشهير فيريير A. Ferrière صاحب كتاب "التربية الفعالة L’école active" التعسف التربوي الذي يعانيه الطفل عندما لا يستطيع الراشدون فهم طبيعته فهما حقيقيا فيقول: “إن الطفل يحب الطبيعة، ولكننا نحبسه في عرف مغلقة، وهو يحب اللعب، ولكننا نطلب منه أن يدرس ويجتهد، إنه يحب أن يرى نشاطه يتجسد في أداء خدمة معينة، ولكننا نحاول أن لا يكون لنشاطه أي غاية أو هدف. إنه يحب أن يمسك الأشياء بيديه، بيد أننا لا نفسح المجال إلا لذاكرته، هو يحب الكلام ولكننا نكرهه على الصمت. وهو يود أن يحاكم الأمور ونود نحن أن يحفظ، يحب أن يبحث عن العلم فنقدمه له ممضوغا جاهزا، ويهوى أن يسير على هواه فنخضعه لنير الراشد. إنه ينزع إلى أن يتحمس للأمور، فنبتكر له العقاب جزاء له، ويؤثر أن يقوم بخدماته عفو الخاطر بملء حريته ونعلمه الطاعة السلبية (1946، Ferrière) . وهذا كله يتعارض مع حقوق الطفل الطبيعية أي الحقوق التي تستند إلى طبيعته وخصوصيته الإنسانية.
فالتربية كما يعتقد فرويد هي “المهنة المستحيلة"“ Métier impossible ”. وهي مستحيلة لأنها ترتهن بعدد غير محدود من العناصر والمتغيرات والقدرات والكفاءات المتداخلة على نحو كبير(وطفة ،2004). إنها مهنة مستحيلة لأنه يتوجب على المربي أن يأخذ بوضعيتين متناقضتين بالنسبة للطفل حيث يقول المربي للطفل: إنني أفعل كل شيء من أجل نموك وازدهارك، وبالتالي فإنني لن أستطيع أن أفعل شيئا ما لم تفعله أنت نفسك بنفسك لأنك في النهاية الوحيد المعني بما أنت عليه وبما تستطيع أن تقرره حقا.
وهذا الموقف يتصف بالصعوبة والتعقيد لأن موقف متناقض بحديه. وبالتالي فإن البيداغوجية التربوية تقدم لنا حلا يتمثل في الممارسة الفعلية التربوية عبر الزمن والتي تتيح لنا تجاوز هذه المعضلة بتناقض حديها. فالمربي يواجه هذه المعضلة النظرية بالعمل المستمر لبناء آلية يمكنها أن تخرجنا من هذه الدوامة التربوية، وهذا يكون بأن نمكن الطفل من مختلف الشروط الحيوية التي يمكنها أن تساعد الطفل في عملية نموه وازدهاره ، وهذا يتضمن أن نوفر وضعية تمكن الطفل من الانخراط في نشاطات اجتماعية جديدة. وأن يجد الوسائل التي تمكنه من تحقيق ما يصبو إليه، وأن يمتلك الأسس والمرتكزات التي تنمي لديه الإرادة والمواظبة وأن تمكنه من السيطرة على مختلف المواقف لمواجهة مختلف المستجدات الاجتماعية التي تحيط بها. والآلية التي نعنيها تتمثل في بناء منهجية جديدة تمكن الطفل من تجاوز التناقض الكبير بين التربية على الديمقراطية بطريقة القسر والإكراه وبين تربيته على الديمقراطية بطريقة الممارسة الديمقراطية ذاتها، وهذا يكون من خلال العمل على توليد الظروف والشروط الموضوعية التي تؤدي إلى استحضار الكفاءة والقدرة على تمثل القيم الديمقراطية: أي القدرة على التفكير الذاتي في مكونات الوجود الذاتي نفسه، وهذا يتضمن أن يتعلم الطفل كيف يبتعد عن الأحكام الجارفة والمسبقة والمتحيزة وأن يرفض القوانين القديمة مثل قانون البقاء للأقوى وقانون الغاب.
وضمن هذه الفعالية التربوية يمكن للطفل أن يكون قادرا على استكشاف القوانين الضرورية للحياة الاجتماعية، وعلى أن ينهض بذكائه وبقدرته على فهم العالم الذي يعيش فيه.
وليس من الضروري هنا أن يلتزم المربي موقف الصمت أو أن يلجأ إلى ما يسمى الإدارة التربوية الذاتية التي تترك الحبل على الغارب للأطفال ليعملوا على اكتشاف الوقائع وبناء القوانين، حيث يترتب عليه أن يتدخل دائما لتصويب المسار وتوجيه الفعالية التربوية بطريقة تتصف بالمرونة والذكاء، ولكنه في كل الأحوال يجب أن يتجنب استخدام التسلط والعنف في نشاطه التربوي، وعليه في سياق ذلك ألا يتصرف بنوازع شخصية للهيمنة والسيطرة لأي سبب أو حال. وعليه أيضا أن يعلم الأطفال، أو أن يجعلهم يدركون، بأن النواهي والممنوعات تفرض لأنها تمكنهم من النمو والتكامل والانسجام.
وباختصار يمكن القول بأن القواعد التي تمنع الطفل من التصرف على سجيته وهواه قد شُكلت من أجل الحفاظ على حقوق الآخرين. فالراشد عندما يحترم القانون فإن الطفل سيقتدي به وفقا لقانون التماهي والاقتداء. وهذا يدل في النهاية على أن التماهي والمحاكاة التربوي هي الأكثر نجاعا في تنشئة الطفل على مبادئ حقوق الإنسان، حيث يتوجب على الطفل أن يواجه الآخرين في مجرى حياته وان يتفاعل معهم بطريقة مباشرة تؤدي في النهاية إلى توليد وعيه المتنامي بالحق الإنساني في دائرة التفاعل الإنساني وبعيدا عن النواهي والأوامر والنصائح والإرشادات.
هناك ثلاثة شروط يجب على المربي أن يأخذها بعين الاعتبار من أجل القيام بمهمته التربوية في مجال تربية الطفل على حقوقه الإنسانية:
1-عليه في البداية أن يوفر للطفل مناخا آمنا لا يتضمن أية صيغة من صيغ العنف أو التهديد.
2- وعليه ثانيا وفي ظل هذا المناخ الآمن أن يمكّن الطفل من إيجاد نوع من التحالف مع الكبار، أي مع مربين يؤازرونه في مختلف الظروف والمستجدات الحياتية التي تواجهه.
3-وعليه ثالثا وأخيرا أن يُغني هذا المناخ بتنوع الفرص التفاعلية، التي تشجع الطفل وتحفزه، ومن ثم تأمين العناصر الأساسية التي تساعده على ممارسة حقوقه الإنسانية.
وهكذا يتوجب على الطفل أن يتعلم وأن ينمو في الآن الواحد، وهذا أمر مشبع بالتحدي ومحفوف بالخطر، ومن هنا تأتي ضرورة تأمين الحيّز الآمن لوجوده ضمانا لشروط النمو والتعلم في آن واحد.
فنحن ندرك جيدا، منذ عهد أفلاطون وأرسطو، بأن عملية التعلم تعني القيام بأمر لا نعرفه ونريد معرفته. وهذا يعني أنه يجب أن نبدأ الخطوة الأولى: الخروج من القوقعة، أن نجرب، والتجربة تكون ذاتية صرفة، وهذا يعني أنه يجب على الطفل أن يتلمس طريقه، أن يخاطر بالسقوط والتعثر والإخفاق دون أن يخشى سخرية الآخرين ولومهم.
فحق الطفل في التربية يكافئ حقه في الحياة، ولذا يجب أن يحاط بأسوار الأمن والاستقرار بعيدا عن كل أشكال الخوف والقلق والتهديد. وهنا ندرك بأن غياب التهديد لا يكفي وحده لنمو الطفل، إذ يحتاج إلى الأمن الذي يوفره الراشد لمساعدته وحمايته من مختلف الوضعيات الصعبة التي يمكن أن يواجهها. وهنا يجب على الراشد حماية الطفل من مختلف الصعوبات الذاتية النفسية مثل: الخجل والانطواء والثرثرة والخضوع والتسلط والعدوان، كما يجب مساعدته على التخلص من الشوائب التي فرضتها الجماعة مثل النزعة إلى الامتثال والانصياع والخوف؛ ومن أجل مواجهة هذه العيوب والشوائب يحتاج الطفل إلى حليف وصديق مؤتمن قد يكون المعلم أو المربي الحقيقي.
فالحق في التربية يتضمن حق الطفل في الحصول على مربي يساعده في بناء ذاته والتحرر من عذاباته الداخلية وآلامه الدفينه، مربي يساعده في عملية التكيف الإنساني والاجتماعي في كل موقف يُشكل عليه ويتجاوز حدود قدرته.
وهنا يمكن القول بأن الاعتراف بالطفل على أنه ذات مشبعة بالخصوصية ـ بمعنى أنه غاية لا وسيلة ـ يشكل خطوة أساسية ضرورية في مجال تربيته على الحق الإنساني. فالطفل بوصفه "ذاتا" يتوجب عليه أن يتعلم فن التكيف والدفاع والمقاومة وتجنب الدهاء القائم في المجتمع، أي أن يقرر ويرفض وأن يتخذ قرارا وأن يفكر ويكون قادرا على ممارسة النقد. ولكنه مع ذلك يبقى كيانا "ذات" لا يمتلك القدرة على أداء هذه الفعاليات من غير مساعدة الراشد والحصول على دعمه وعونه، ولاسيما إذا كان الكبار هم أنفسهم الذين يضعون الشروط ويفرضون القواعد ويرسمون القوانين في مجال العملية التربوية برمتها، وهذا يعني أن الكبار هم الذين يتحملون المسؤولية كاملة في نهاية الأمر حول التنشئة الحقوقية لدى الأطفال.
وهنا يجب علينا أن نأخذ بعين الاعتبار أن سلطة الراشد على الطفل لا يمكن إهمالها بل وعلى خلاف ذلك تفرض هذه السلطة نفسها في قلب العملية التربوية الهادفة إلى تمكين الطفل من ممارسة حقه وترسيخ وجوده، إنها السلطة التي تساعد الطفل على النمو والازدهار والتكامل وهي التي تؤسس لقدرة الطفل على أن يعلن عن حقوقه وأن يمارسها في المستقبل القريب بوصفه مواطنا وإنسانا.
المراجع:
وطفة، علي أسعد (1998) التربية وحقوق الإنسان، الكويت : دار السياسة.
Korczak , Janusz (1984). Colonies de vacances. Paris: La Pensée universelle.
Korczak , Janusz (a) (1979). Comment aimer un enfant. Paris: Éd. Robert Lafont,.
Korczak , Janusz(b) (1979).,Le droit de l’enfant au respect. Paris, Éd. Robert Lafont.
Claparède. Edouard (1931). Jean-Jacques Rousseau et la conception fonctionnelle de l’enfance », Revue de métaphysique et de morale (Paris), 1912, XX (3), 391-416. Repris dans L’Éducation fonctionnelle, 1931.
Arendt, H(1972). La crise de la culture, Paris: Gallimard, Folio (La question éducative.
وطفة ،علي أسعد (1999). بنية السلطة وإشكالية التسلط التربوي في الوطن العربي، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.
.Ferrière, A. (1946). l’école active , Paris: Delachaux et Niestlé.
عبد الدايم، عبد الله (1978). التربية عبر التاريخ، بيروت: دار العلم للملايين.
وطفة، أسعد وطفة(2004). المضامين التربوية لسيكولوجيا فرويد في مجال الطفولة المبكرة، مجلة الطفولة والتنمية العدد 12.
[1] - اعتمدت وعرضت للتوقيع والتصديق والانضمام بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 44/25 المؤرخ في 20 تشرين الثاني/نوفمبر 1989 - تاريخ بدء النفاذ: 2 أيلول/سبتمبر 1990، وفقا للمادة 49.
*[*] نشرت هذه المقالة في مجلة الطفولة العربية مجلة بحثية محكمة صادرة عن الجمعية الكويتية لتقدم الطفولة العربية - المجلد الثالث عشر -العدد 50 مارس 2012 صص 82-90 .
|