في أواخر العام الماضي، وقبل فترة الأعياد بقليل، زرت معملا لإحدى شركات الصلب الكبرى بالقرب من العاصمة اليونانية أثينا... سبب الزيارة كان المشاركة في لقاء تضامني مع سبعة وثلاثين عائلة اجتمع أفرادها، بكبارهم وأطفالهم، لمؤازرة معيليهم الذين كانوا يحتلوّن مدخل المعمل منذ أكثر من أربعين يوماً ، بعد أن صرفوا تعسفياً من العمل بحجّة الأزمة التي اجتاحت بلدهم منذ خمسة أعوام مخلّفة دينّاً عاما يقدّر بـ 4. 14 مليار دولار، بعد أن أمّنت ما يقارب ملياراً من الدولارات لمصرف غولدمان ساخس الأميركي، دون أن ننسى مئات ملايين أخرى ذهبت الى جيوب بعض المصرفيين وبعض رجال السياسة اليونانيين المعروفين.
هذا المشهد اليوناني، الذي قطعته من حين لآخر وفود نقابية وشعبية حملت معها بعضاً من دعم مادي والكثير من الدعم المعنوي للمعتصمين، أصبح مشهداً مألوفاً في المناطق الصناعية المحيطة بالمدن الكبرى في البلدان الرأسمالية كلها، بدءاً بحوالي 363 منطقة صناعية في الولايات المتحدة ووصولاً إلى عدد كبير من مدن أوروبا، حتى في الشمال والغرب... أما في المناطق المسماة "جنوب الكرة الأرضية" فلا لزوم للحديث المطوّل حتى نعرف ماذا يجري، مثلاً، في طول القارة الأفريقية وعرضها، أو في بلادنا العربية، فالثورات التي تفجرت في مغرب العالم العربي ومشرقه إنما انطلقت من تراكم المواجهات مع أنظمة برجوازية طفيلية راكمت الأزمات بفعل السياسات النيو ليبرالية المتوحشة التي وضعتها قيد التنفيذ خدمة لمصالح الامبريالية العالمية.
الأرقام في دورانها تحاكي رقصة الموت
ومن يقرأ التقارير الاقتصادية الصادرة في الفصل الأخير من السنة الماضية وكذلك التوقّعات المطروحة للعام الحالي، وبالتحديد للنصف الأول منه، يرى – بالرغم من بعض محاولات التجميل – أن رياح الكارثة تتسارع وأن العاصفة، التي بدا ذات يوم وكأنها انحسرت نوعا ما، ستلف العالم كله مجدداً ولن يسلم من شرّها بلد رأسمالي واحد هذه المرّة، بما في ذلك ألمانيا... وحتى الصين لن تكون بمنأى عن التأثر الشديد بوقعها.
أما التقارير المتعلقة بالأوضاع الاجتماعية فمخيفة، اذ أنها تشير الى بداية تفشي الجوع في أغنى بلدان العالم، بدءاً بزعيمة الرأسمالية الولايات المتحدة، حتى لا نذكر الدول المسماة "صاعدة" حيث أرقام الفقراء، ومعهم الجياع، في ازدياد مضطرد وحيث الجوع وتلوث المياه وانعدام العناية الصحية تقضي على الملايين سنوياً.
فتقرير المؤتمر السنوي لرؤساء بلديات مدن الولايات المتحدة غير متفائل بقرب الفرج. فهو يتحدث عن أن أفق الحل لا تزال مسدودة، في الوقت الحاضر، في أغلبية المدن الأميركية الأساسية البالغ عددها 363 مدينة، ويقول إن اقتصادات 166 مدينة من بين هؤلاء عانت من خسائر مهمة في المشاريع الصغيرة والمتوسطة تتعدّى كل تلك التي لحقت بالاقتصاد الأميركي خلال السنوات العشر الماضية.
ويضيف التقرير أن 311 مدينة أميركية كبرى تعاني اليوم من معدّلات بطالة تتجاوز نسبة 8٪ من مجموع القوى المنتجة وأن 13 بالمائة من تلك المدن لن تشهد تحسناً ولو بسيط قبل العام 2021، خاصة في المدن التي اجتاحتها موجة انهيار سوق البناء وتلقّت فيها المؤسسات الإنتاجية ضربات موجعة، بدءاً بصناعات السيارات والصناعات الثقيلة حيث فقد ما بين 11 الى 16 بالمائة عملهم في تامبا وميامي وديترويت وتوليدو وفلنت وفريسنو وستوكتون وغيرها. هذا، عدا عن العديد من المدن الأصغر حجماً حيث تضاهي نسب البطالة تلك التي سجلت إبان الانكماش الكبير في العام 1929...
أما منطقة اليورو فالانهيار فيها يتسارع نتيجة الارتفاع الكبير في معدلات الدين العام، السيادي، والذي لم تنفع معه – على ما يبدو – كل التدابير المتّخذة من قبل المصارف المركزية والبنك المركزي الأوروبي. إذ تقدّر بعض الدراسات الصادرة منذ بضعة أيام أن رياح الانكماش ستعود لتلفّ الاقتصاد الحقيقي مجدداً وستؤثر، بالتالي، على أوضاع العائلات الأكثر فقراً، إضافة إلى توقّع موجات جديدة من التسريح الكيفي، ليس فقط في الصناعة، بل وكذلك في الخدمات؛ هذا، عدا عن التراجع الكبير في صادرات تلك البلدان. وتضيف الدراسات المذكورة أن المراهنات على مساعدات صينية وغيرها لدعم اليورو غير واقعية على الإطلاق، وأن "المساعدة التي يمكن أن تقدّمها التجارة العالمية للاقتصاد الأوروبي متواضعة من الآن وحتى صيف العام 2012".
الويلات المرتقبة في البلدان الرأسمالية
هذا الواقع المتفاقم سيجعل العديد من بلدان أوروبا، المتهاوية أصلاً، معرّضة للسقوط، وبالتحديد ايطاليا واسبانيا والبرتغال دون أن تكون فرنسا أو ألمانيا بمنأى عن تأثيراته السلبية... وهو سيؤدي الى زيادات كبيرة في نسب البطالة، وبالتالي الفقر المدقع، والى تراجع كبير في الأجور والتقديمات الاجتماعية، بالتزامن مع تصعيد الهجمة على التشريعات التي تحمي حق العمل والتأمينات الصحية والاجتماعية ومع رفع الضريبة على القيمة المضافة الى معدلات غير مسبوقة.
ففي حين تعمد الحكومة اليونانية الى تجريد العمال من بعض ما تبّقى لهم من حماية في مجالي الأجر والعمل، فتخفّض الأجور بنسب تتراوح بين 20 و30 بالمائة، كمقدّمة للخلاص من قاعدة الحد الأدنى للأجور، وتطرح للتعديل المادة 22 من الدستور التي تحتوي على تشريعات حماية عقود العمل، نرى الحكومة الاسبانية الجديدة تتجه إلى زيادة الضرائب عموماً وكذلك – وهنا الخطر الحقيقي – الى تجميد الحد الأدنى للأجور (وهو الأدنى في أوروبا)، بل والأجور (التي جرى اقتطاع 5 ٪ منها)، ووقف التوظيف في الادارات وعدم ملء الشواغر، باستثناء الخدمات في قطاع البوليس وبعض الخدمات المحددة في قطاعي الاستشفاء والتعليم... كل ذلك بحجة السعي لتوفير ما يقارب 16 مليار يورو. أما في فرنسا، فالتدابير الاقتصادية التي حددها ساركوزي منذ بضعة أيام تتمحور، هنا أيضا، حول رفع الضريبة الاجتماعية على القيمة المضافة بنسبة 6. 1 بالمائة وتحرير الأسعار في وقت يجري فيه تجميد الأجور وإعادة النظر بساعات العمل باتجاه زيادتها والتوجه نحو عقد اتفاقات "فردية" بين العمال وأرباب العمل في المؤسسات.
التدابير، إذاً، تتجه كلها باتجاه تحميل العمال والموظفين أوزار تفاقم الأزمة. دون أن ننسى توسّع الحروب الكولونيالية الجديدة والتدخلات السافرة في شؤون البلدان النامية، في أفريقيا والشرق الأوسط خصوصاً، باتجاه زيادة الإمساك بإنتاج الطاقة فيها – بل وزيادة الإنتاج عشوائياً لتأمين أرباح أكبر لبعض الشركات، الأميركية تحديداً – والاستفادة القصوى من كل الثروات المائية والغذائية وغيرها التي تختزنها، في وقت يزداد فيه الفقر والجوع داخلها، وتزداد معه الوفيات . ونضيف الى كل ما تقدّم تدهور التربة والتصحّر والتدمير المتزايد للتنوّع البيولوجي.
كيفية الخروج من النفق
وحتى لا نطيل في شرح واقع نعيش بعضا منه، لا بد من طرح سؤال مزدوج نرى فيه بداية الخروج من هذا النفق المظلم الذي تولده على الدوام الأزمة البنيوية للرأسمالية، أي الموت بأشكاله المتنوعة (الفقر والجوع والحرب). هذا السؤال نصيغه كالآتي : هل هناك من حلول يمكن اعتمادها على المستوى القصير والمتوسّط؟ وهل القوى الحاملة للتغيير موجودة اليوم؟
لقد أدّت السياسات النيوليبرالية المتوحشة ليس فقط الى تدمير عالمنا ومجتمعاتنا، بل الى تدمير المجتمعات التي انطلقت منها، بلدان "المركز"... واذا كانت الرأسمالية قد استطاعت الإفلات من الحساب حتى الآن، الا أن ما يجري اليوم من تحركات في قلب مركزها المالي، في "وول ستريت" تحديداً وكذلك في عودة الحركة العمالية الى واجهة الأحداث، يدلّ على أن المواجهة إلى تطور وأن التراكم الكمي للنضالات يمكن أن يؤدي الى التغيير النوعي الذي أصبح ضرورة ملحّة. فحركة "احتلال وول ستريت"، النابعة من مثال الثورات العربية، تشكل تقدماً مهماً يضاف إلى كل الحركات المناهضة للعولمة ويصب في مجرى التحركات النقابية والشعبية التي اجتاحت، ولا تزال، بلدان أوروبا في مواجهة واضحة وصريحة مع السياسات الجديدة للبرجوازية الأوروبية... خاصة وأن كل هذه الحركات، من "وول ستريت" إلى "ميدان التحرير"، تطرح برامج متشابهة يمكن لها أن تشكل المنطلق باتجاه الخروج من النفق. هذه البرامج نلخصها كالآتي :
أولاً، على الصعيد الاقتصادي، وقف المضاربات والنهب المنظم للأرض، والاستغناء عن كل السياسات الاقتصادية النيوليبرالية واستبدالها باقتصاد جديد مبني على التضامن، بما يعني توزيع خيرات الأرض على جميع البشر.
ثانياً، على الصعيد الاجتماعي، وبالترافق مع ما تقدم، وقف الاستغلال والتمييز ومراجعة كل القوانين باتجاه يحوّل المجتمعات إلى أماكن تسودها العدالة والمساواة.
ثالثاً، الدفاع عن الإنسان، فكرياً وثقافياً، من خلال كبح جماح الذين يتسلحون بما يسمّى منطق "النمو الدائم" الذي بات يهدد الوجود البشري بأكمله.
إلا أن طرح البرنامج المتقدّم لا يكفي لإنتاج التغيير أو، في حال إنتاجه، لا يكفي لتثبيته والبناء عليه. ذلك أن الرأسمالية قد تلجأ، مرة أخرى، إلى الحرب والقمع من أجل الخروج من أزمتها والحفاظ على مكاسبها، وإن تكن الحرب تتخذ، هذه المرة، أشكالاً تتراوح بين المباشر منها والاثني والاقليمي... الخ. لأن الحامل الأساس للتغيير الذي يكمن في الموقع السياسي غير المتوفر حالياً، أو على الأقل غير متبلور بشكل كاف.
ما نريد قوله هو أنه لا يمكن مواجهة ما يسمى بالعولمة الرأسمالية الا من خلال السعي إلى أممية جديدة تستفيد من أخطاء الماضي تقوم على العودة إلى شعار طرحه ماركس وطوّره لينين. شعار "يا عمال العالم وأيتها الشعوب المضطهدة اتحدوا" لبناء مجتمع الغد. فالغد هو الاشتراكية.
المصدر: الأفق، 4 فبراير/شباط 2012
|