قبل الدخول في ماهية هذا المقال أودّ الإشارة إلى أنه كان بإمكاني أن أضع حول قلمي طوق النجاة وأنا أتحدث عن سياسة نظام الاستبداد في سوريا، وما آلت إليه هذه السياسة المعجونة بالنرجسية والاستحواذ على كل شيء من تدمير للحجر والبشر.. كما أنه كان بإمكاني أن أكتب بالهمس واللمس أو بالغمز واللمز عن انتهاكات حقوق الإنسان وسياسة الانتقام التي مارسها نظام القهر والطغيان على أبناء الشعب السوري البطل.. غير أنني اخترت أن أكتب هذا المقال على الطريقة البوذية وأشعل النار في قلمي دون أن أخشى امتداد الحريق إلى جسدي، بعد أن طال الحريق أجساد الشرفاء والأحرار على امتداد تراب الوطن طولاً وعرضاً وارتفاعاً وعمقاً، وخاصة أولئك الثوار الأبطال الذين زلزلوا عرش المستبد وأعوانه من المجرمين قتلة الأطفال والنساء والشيوخ .. فتحية لكم يا من أعدتم الكرامة المستلبة.. وانتزعتم الحرية المغتصبة.. وعلمتم العالم معنى التضحية من أجل أن يكون وطنكم أكثر عدلاً وأنسنة.. تحية لكم أيها الثوار السوريون في كل مكان.. أما بعد
لأنني عشت في ربوع سهل حوران في حالة حرب حقيقية، وفي قرية تعرضت لإطلاق الرصاص مرات عديدة راح ضحيتها مجموعة من الشباب الأبرياء، ولأنني أمضيت عطلتي الصيفية في حالة خوف ورعب مع زوجتي وأبنائي، بينما أصوات الرصاص المنبعث من الرشاشات الخفيفة والثقيلة يحيط بنا من كل جانب.. ولأنني شاهدت الصلف والتحجر والجبروت الذي مارسه نظام الاستبداد على أبناء حوران.. واستنشقت رائحة الموت التي فاحت في المكان مرات عديدة.. كنت أتساءل بعد كل مجزرة من المجازر التي ارتكبها نظام الاستبداد: كيف يصل الأمر بكائنات بشرية إلى حد ارتكاب مثل هذه الفضاعات ؟ كانت تبدو لي بعض الانفلاتات غير مفهومة ويبدو منطقها عويصاً.. كنت أتحدث مع أصدقائي عن الجنون القاتل والجنون الدموي والجنون المتوارث.. كنت متأكد أن هناك جنون.. إذ عندما تتحول سلطة عاقلة - كما كان يُروج لها - بين ليلة وضحاها إلى سلطة قاتلة.. فهناك جنون بالتأكيد.. كنت سابقاً لا أظن أن حب السلطة يؤهب للقتل وسفك الدماء.. ولكن يكفي أن نراجع أحداث الشهور العشر الماضية من عمر الثورة، لنكتشف أن مغتصبو السلطة عندما يتعرضون للخطر يرتكبون أسوأ الفضاعات، لأنهم مقتنعون أن السلطة حق إلهي يجب ألا يُنازعهم عليه أحد.. ولأنني لا أرغب بالمجازفة في تقديم شرح كامل لكل المذابح التي ارتكبها النظام على عموم الأرض السورية، ولا أرغب في اقترح دواء معجزة ، فذلك لأنني أعلم أن الحالة السورية حالة معقدة لا يمكن تفكيكها بمفك البراغي، وخاصة بعد أن تأكد لنا أن الممسكون بالسلطة قد تحولوا إلى مجرمين وقتلة بسرعة البرق تحت ذريعة الدفاع عن الوطن والمواطنة كما يدعون، مع التأكيد أن مفهوم المواطنة الخاطئ الذي كرسه نظام القهر في المجتمع السوري، كان واحداً من أهم العوامل التي أدت إلى هذا الحراك الشعبي الذي نشهده اليوم في عموم الجغرافيا السورية، فالمواطنة من وجهة نظر النظام هي أن يُسبح المواطن ويُقدس رأس النظام الحاكم.. وما تلك بمواطنة..!!
إن من إيجابيات الثورة السورية إنها كشفت لنا كيف يختزن حكامنا المستبدون في عقولهم وقلوبهم كراهية عميقة لشعبهم، وازدراء حقوقهم وحرياتهم وكرامتهم، فقد قرأنا وسمعنا ورأينا على مختلف وسائل الإعلام ما يرتكبه نظام الاستبداد من جرائم يطفح بها تاريخه، وهو يسعى لإذلال الإنسان السوري وكسر شوكته وامتهان إنسانيته، والقضاء على كل مصادر المقاومة لديه، من الكلمة إلى لقمة العيش مروراً بدواء الجريح.. هذا إلى جانب الدعاية المزيفة التي يبثها إعلام المستبد وأعوانه، عبر مجموعة من الطبالين والزمارين وكتبة التقارير.. وإن شئت الدقة صعاليك الاستبداد وأكباشه كما وصفهم المفكر السوري علي وطفة.. كنت أتساءل دائماً: هل دفاع أولئك الصعاليك عن قتلة الأطفال والنساء والشيوخ والمواطنين الأبرياء يُعد واجباً وطنياً ؟ وكنت أُجيب دائماً إنه إذا كان الأمر كذلك فبئساً لهم ولواجبهم الوطني، وللوطن الذي يحتضن أمثالهم..
لقد أصبح واضحاً لمن يفهم ولمن لا يفهم أن هذه الموجة الهولاكية التي تُمارسها قوات الأمن والشبيحة على الثوار السوريين، ما هي إلا محاولة لتعويض إخفاقها في القضاء على الثورة، فبالرغم من جسامة التضحيات التي شهدتها الساحة السورية، فإن نظام الاستبداد لم يقتنع بعد أن هدفه لن يتحقق مهما أسال من دماء الشهداء الطاهرة، ومهما كثف من اعتقالات ودمر من عُمران وموروثات حضارية وتاريخية.. لقد مارس نظام الاستبداد أبشع صور العدوان بمختلف مآسيها على الثوار المنتفضين ضد القهر والاستلاب والحرمان لأكثر من تسعة أشهر، ومع ذلك لم يستسلم الشعب لهذه الهجمة الهولاكية، بل لم يعد يقبل أن يكون هذا النظام وصياً عليه وعلى مستقبله، بعد أن أدرك حقه في حياة كريمة عزيزة خالية من الظلم والاستبداد، وبعد أن بدأ يردد قول الشاعر:
لا تسقني ماء الحياة بذلة
بل فاسقني بالعز كأس الحنظل
لقد بات معروفاً إن ما تُمارسه وحوش الغابة السورية من كوارث هو أكثر بكثير مما تُمارسه وحوش الغابة في أي نظام استبداي في العالم، فمنذ الأيام الأولى للثورة التي فجرها أطفال درعا في سهل حوران يزداد توحش النظام بهدف القضاء على الثورة والاستمرار في السلطة. من أجل ذلك يقوم في هذه اللحظة واللحظات التي سبقتها بالقتل والتدمير ومحاولة تركيع الشعب الثائر، مقتحماً درعا وريفها متابعاً هجومه على حمص وبقية المدن المنتفضة في محاولة للقضاء الساحق على شعب ومجتمع ودولة، مُبرراً تلك الاعتداءات وارتكاب جرائم الحرب بعبارته المكرورة المكروهة: ملاحقة العصابات المسلحة التي تقتل المواطنين وتروع الآمنين. تلك هي الذريعة الرئيسة التي يُبرر من خلالها نظام الاستبداد الحرب الكاسحة على المدن السورية، وهي حرب بكل وسائل القتال الحديثة المروعة التي تمتلكها القوات المسلحة، مدعومة بقطعان من الأمن والشبيحة التي هدمت المساكن وسفكت الدماء، واعتقلت الشباب والأطفال والشيوخ، وأبادت المتاجر والمخازن الغذائية لتجويع البشر وإذلالهم.. وما المجازر التي ارتكبها نظام الاستبداد في المدن السورية كافة والتي استنكرها العالم، إلا أعمالاً بربرية أشد هولاً ورعباً مما ارتكبته النازية والفاشية من فظائع وجرائم في حروبها المختلفة، تلك الجرائم التي رأت فيها الأمم المتحدة والمجلس العالمي لحقوق الإنسان ملامح واضحة لما يمكن أن يوصف بأنه جرائم حرب ضد الإنسانية.
وفي مواجهة وحوش الغابة تقف الحكومات العربية موقف المتأسف لما يجري، داعية إلى وقف القتل والعنف من الطرفين، مكتفية بتوقيع برتوكول الموت السيئ الصيت والسمعة، الذي لم يُنهي قتلاً ولم يوقف تدميراً، فلا تزال نيران البنادق والدبابات تكتسح المدن والقرى السورية شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، مخلفة ورائها مئات الضحايا من المدنيين والعسكريين، ولا زالت تلك الحرب القذرة تتواصل جرائمها لكسر شوكة الشباب السوري المنتفض ضد القهر والطغيان، وضد كل من يتعدى الخطوط الحمراء التي ترسمها وحوش الغابة الكاسرة. مع ملاحظة أنه مهما قيل عن تحركات الوزراء العرب، فإنها لم تتعد في نهاية المطاف أو في أحسن الأحوال إبراء للذمة. مما يُذكرنا بقول الشاعر نزار قباني في مثل هذا الموقف العربي:
نامت خيول بني أمية كلها خجلاً
ولم يبقَ إلا النحو والإعرابُ
ولذلك أتساءل: إلى متى لا نطالب بصورة جماعية ومن خلال المجتمع المدني في أقطارنا العربية بمحاكمة وحوش الغابة على ارتكاب تلك الجرائم؟ ألم تكن الجرائم التي تُرتكب بحق الشعب السوري الأعزل مشابهة لما جرى في صبرا وشاتيلا عام 1982؟ ألم يحن الوقت - بعد أن تجمعت الأدلة والوثائق على ما ارتكبته قطعان الأمن والشبيحة من جرائم الحرب - لكي تتحرك منظمات حقوق الإنسان والمثقفين في أرجاء الوطن لعقد مؤتمر عربي يتقدم بطلب جماعي لمحاكمة أركان النظام على تلك الجرائم، ومناشدة المفوضية الدولية لحقوق الإنسان في نطاق الأمم المتحدة لإجراء تلك المحاكمة على أي صعيد دولي؟ لقد بدأنا نشعر بأننا نمر بمرحلة بيات خريفي.. وبحالة من اليأس والإحباط أو الموات.. وأصبحنا نعيش في أجواء كأجواء من فقدوا عزيزاً لديهم بعد أن تنتهي مراسم الدفن والعزاء.. نعاني من الحسرات والوجوم والابتئاس والشلل. وإن تحركنا فحركتنا لا تتعدى عواصف صغيرة في فناجين صغيرة..لا بد أيها المثقفون السوريون من تنظيم حركة جماعية غاضبة عاصفة، حتى تصبح كما يقول أبو حيان التوحيدي: الحركة في الهواء ريح، وفي النار لهب، وفي الأرض زلزلة.. نريد أي حركة تبدد هذا السكون المريب.. حركة هادفة ولو من قبيل المطالبة بتقديم أركان النظام المجرم إلى محاكمة دولية.. أم علينا أن ننتظر ما تحمله لنا وحوش الغابة من مصير يزداد قتاماً واستبداداً وهيمنة.. وهل طويت الصحف، وجفت الأقلام أيها المثقفون، وأجهضت العزائم، وفُقدت العزة، وهانت الكرامة أيها المسلمون والمسيحيون..؟ ألا تعلمون أيها المثقفون والأساتذة الجامعيون أن التاريخ لن يرحم يوماً من يُفرط أو يخون.. نحن أيها الأحرار نعيش في لحظة تاريخية مرعبة، فهل من فكر جديد وإرادة صلبة من أجل استرداد حقوقنا وحريتنا وكرامتنا؟
|