لعل أطرف ما تسمعه في مؤتمر دوربان (جنوب افريقيا) حول تغير المناخ، وقبله في كوبنهاغن العام 2009 وكانكون 2010، عندما اقر ما بات يسمى « صندوق المناخ » لتمويل التخفيف من غازات الدفيئة والتكيف مع الظاهرة... هو تهرب الدول من ان تصنف « متقدمة ». فموضوع « التقدم »، بحسب الحسابات المناخية، بات يعني ان عليك ان تدفع. انت متقدم، إذا أنت غني، وأنت غني إذا أنت قادر على الدفع. أنت متقدم، يعني انك أنتجت وصنعت وصدرت واستخدمت الكثير من الطاقة وأنتجت الكثير من الغازات التي تسببت بتغير المناخ، وعليك ان تدفع لمعالجة آثار هذا التقدم، للتخفيف من هذه الانبعاثات او للتكيف مع نتائجها. أنت متقدم، اذا انت تسببت بمراكمة الانبعاثات في الغلاف الجوي التي تسببت بكارثة تغير المناخ العالمي، وعليك ان تعوض على البلدان الأقل نموا، او تلك « البدائية »، التي لم تبدأ بعد باعتماد الصناعات الكبرى والآلات الضخمة، والتي لم تستهلك الكثير من الموارد ولا تسببت بتحويل المعادن وتدمير البيئة وتلويث التربة والمياه.ولعل أكثر من بات يتهرب من هذه التهمة هم العرب، ولاسيما البلدان النفطية الغنية نسبيا. « نحن لا نزال نصنف بلدانا نامية، او في طور النمو »، يقول احد المفاوضين السعوديين. ويضيف : « يطلبون منا اليوم ان نساهم في صندوق المناخ، مع اننا بلدان مصنفة نامية ! »مفاوض مصري آخر حسب الضريبة التي يفترض ان تدفعها مصر للاوروبيين، ضريبة الكربون على الطيران المدني المصري والتي تبلغ 9 ملايين يورو سنويا. ولم يعرف كيف يحسبها، أهي ضريبة تأخر أم ضريبة تقدم !ليس العرب وحدهم هم من يتهرب من تهمة التقدم، ولاسيما الدول النفطية « الغنية »، بل الصين والهند والبرازيل... وما يسمى البلدان الناشئة أيضا. وقد اعتبرت هذه القضية من اهم العراقيل لعدم التوصل الى اتفاق شامل وملزم حول قضية تغير المناخ العالمي.أمام هذه الوقائع، بات من الضروري إعادة النظر بالمفاهيم، وإعادة النظر أيضا بالتصنيفات. فما معنى ان تكون الأمم متقدمة او متخلفة؟ التقدم نحو ماذا والتخلف عن ماذا؟ ما معنى النمو، تلك العبارة التي سرقها الصناعيين من المزارعين وأساءوا استخدامها. فالنمو في المفهوم النباتي، لا يعني نموا من غير حدود، بل يعني مرحلة صغيرة يتبعها موت وإعادة نمو ضمن سلسلة دائرية ليس فيها تقدم ولا تأخر، بل دورة حياة وموت. وما نتائج التقدم اليوم الا زيادة في الكوارث التي كانت تصنف حتى الأمس القريب، قبل الثورة الصناعية بـ« الطبيعية ». واذا لم يعد هناك من احد اليوم يريد العودة الى الفلسفة لكي تشرح المفاهيم وتعيد صياغتها لشرح الوقائع، فلنعد الى لغة وأرقام شركات التامين لمعرفة معنى التقدم واكلاف الكوارث الطبيعية اليوم، وتلك التي تنتظرنا مع تغير المناخ العالمي.في العادة، كانت شركات التامين العالمية تبدي الكثير من الاهتمام بالمؤتمرات الدولية المتعلقة بتغير المناخ، لكي ترصد ما هي الاحتمالات والمخاطر، لكي تعرف كيف تقدر وتسعر بوالص التامين. هذه السنة لم نستطع ان نرصد حركة كبيرة لهذه الشركات في دوربان، الا ان إحدى اكبر الشركات للتامين وإعادة التامين السويسرية عادت بعد ايام على انتهاء مؤتمر دوربان وأصدرت تقريرها السنوي للعام 2011 عن كلفة الكوارث الطبيعية لهذا العام والتي قدرتها بما يقارب 350 مليار دولار ! وهي قيمة قياسية بالنسبة الى السنوات السابقة. وقدرت الدراسة ان القيمة التي تدفعها شركات التامين بعد الكوارث ارتفعت الى 108 مليارات دولار اميركي بالمقارنة مع 48 مليارا العام 2010. شكلت الهزة الأرضية التي ضربت اليابان الكارثة الأكبر هذا العام بالطبع (كلفة التسونامي 35 مليارا وحدها)، الا ان التعويضات بعد مثل هذه الكوارث تكون قليلة عادة بالنسبة الى الأفراد المتضررين. ولا تستطيع حتى الدول ان تقدم تعويضات كافية. لذلك، تعتبر شركات التامين أنها اعتادت التعاطي مع الأماكن المعرضة للزلازل والهزات الأرضية، واصبح لديها خبرة في التحكم بكيفية ادارتها، ولكنها تعتبر ان الكوارث الطبيعية الناجمة عن تغير المناخ هي اخطر بكثير ولا يمكن تقديرها. ومثالها على ذلك تلك الكوارث الطبيعية (الأعاصير) التي حصلت العام 2005، لاسيما إعصاري كاترينا وريتا في الولايات المتحدة الاميركية التي كلفت وحدها شركات التامين أكثر من مئة مليار دولار. هذا من دون ان تحسب الخسائر الاقتصادية.فاي كوارث مناخية تنتظر العالم بعد ان عجزت الدول عن اتخاذ اجراءات للتخفيف من الانبعاثات، وما هي الكلفة التي سندفعها من تقدمنا؟
***
بعد زيادة الطلب على الفحم الحجري وانسحاب كندا رسمياً من كيوتو قضية تغيّر المناخ العالمي تتلقى ضربة أكبر من تلك الناجمة عن مؤتمر دوربان
في وقت كان العالم لا يزال يبحث ويحلل في نتائج قمة المناخ الأخيرة في دوربان (جنوب افريقيا)، حصل تطورات وأحداث في هذا الملف، غطت على نتائج القمة. تمثل الحدث الأول في صدور تقرير جديد عن وكالة الطاقة الدولية اكد فيه زيادة الطلب العالمي على الفحم الحجري، مما يعني زيادة في الانبعاثات العالمية بدل تخفيفها... والحدث الثاني انسحاب كندا رسميا من بروتوكول كيوتو، مما سيترك انعكاسات خطيرة على سير المحادثات المناخية ويشكل سابقة يمكن ان تقوض أسس التفاوض العالمي حول اخطر قضية عرفتها البشرية، على مستوى الكوكب وعلى مستوى النوع الإنساني.
صحيح ان مؤتمر دوربان لم ينتج الا مجموعة من التسويات والوعود تم التوصل إليها بعد تمديد فترة المفاوضات 36 ساعة إضافية، لم تستطع ان تضع العالم فعلا على طريق اتخاذ خطوات فعالة وسريعة لمعالجة قضية تغير المناخ... ولم تستطع التوصل الا الى تأكيد المؤكد أصلا بضرورة اعتماد اتفاق عالمي قانوني وملزم وشامل بشان تغير المناخ في اقرب وقت ممكن وفي موعد لا يتجاوز العام 2015، على أن يعتمد ويدخل حيز التنفيذ اعتبارا من العام 2020. وصحيح أن الدول المشاركة عادت وأكدت على ضرورة الحد من الانبعاثات وعلى ان لا تتجاوز درجات حرارة الكوكب أكثر من درجتين مئويتين... إلا أن هذه القرارات التي أريد لها على ما يبدو أن لا تقطع الأمل، عادت واصطدمت بواقع الطلب على الطاقة والظروف الاقتصادية العالمية.
كان التقرير التقييمي الاممي الرابع الذي نشر في العام 2007، أظهر أن ارتفاع درجات الحرارة درجتين مئويتين يمكن أن يكون له تأثيرات كبيرة على إمدادات المياه، والتنوع البيولوجي، والإمدادات الغذائية، ويتسبب بذوبان الجليد وارتفاع منسوب مياه المحيطات وطمر بعض الشواطئ والتسبب بالفيضانات والعواصف والاعاصير... وستكون له آثار خطرة جدا على الصحة العامة بشكل عام... وانه كان على البلدان الصناعية ان تلتزم بتخفيض انبعاثاتها بنسبة بين 25 و40 % عن مستويات العام 1990... الا ان هذه النتيجة أصبحت مستحيلة مع بقاء دول كبرى خارج البروتوكول وعدم التزام الدول الموقعة عليه. ولا ضرورة بالتالي لانتظار التقرير الخامس الرسمي حول تغير المناخ الذي سيصدر العام 2013 لكي نعرف اننا متجهون نحو الكارثة، لاسيما اذا اعتبرنا زيادة الطلب على الفحم وانسحاب كندا من البروتوكول مؤشرا. فماذا في هذه المؤشرات الخطيرة المستجدة؟
زيادة الطلب على الفحم الحجري
بعد يوم واحد على انتهاء المفاوضات الممددة في دوربان حول تغير المناخ العالمي، صدر تقرير جديد عن وكالة الطاقة الدولية يؤكد ان الطلب على الفحم الحجري (الأكثر تلويثا وتسببا بتغير المناخ عند احتراقه) سيزداد في العالم، اقله حتى العام 2016 ، في مؤشر خطير على زيادة الانبعاثات العالمية. وقدر التقرير الزيادة بما يقارب 18%، أي من 5225 مليون طن/كربون العام 2010 الى 6184 مليون طن/كربون العام 2016. وهذه الزيادة في الاستهلاك ستحصل بشكل رئيسي في البلدان النامية والاقتصاديات الناشئة ولاسيما في الصين بمعدل 24% وفي الهند التي ستزيد ما يقارب 40%. في المقابل لن يتراجع استهلاك الولايات المتحدة الاميركية (التي تعتبر المستهلك الأكبر للفحم الحجري في العالم منذ قرن) سوى 1,5 % بين 2010 و2016 ، مع اعتمادها أكثر على الغاز الطبيعي كبديل.
يعرف العالم اليوم ان الصين تعتبر المصدر الأكبر اليوم للبضائع، ولا يعرفون انها تستهلك نصف الاستهلاك العالمي للفحم الحجري المولد للطاقة التي تعتبر دم الصناعة العالمية.
لم يكسر الإجماع العلمي العالمي حول الفحم الحجري كأسوأ وقود يتسبب بانبعاثات تؤثر سلبا على قضية تغير المناخ سوى تقرير حديث لغرينبيس كندا، قبيل انعقاد مؤتمر دوربان، يعتبر ان احتراق الحطب في العالم (الطاقة العضوية) اكثر تلويثا من احتراق الفحم (الطاقة الاحفورية) !
فهل استبق هذا التقرير انسحاب كندا رسميا من بروتوكول كيوتو، معتمدة على مخزونها الخشبي الكبير او على طاقتها الحيوية الاقل تلويثا من الطاقة الاحفورية؟
تفتخر كندا بان مصادر الطاقة من الاشجار تزداد عندها في وقت يتراجع مخزون الوقود الاحفوري في العالم. ففي كندا 33 مصنعا لإنتاج حبيبات الأخشاب. وتعتبر كندا البلد الرابع في العالم في انتاج هذا النوع من الأخشاب، بعد الولايات المتحدة الاميركية والمانيا والسويد. والبلد الثاني لناحية التصدير (1,2 مليون طن تم تصديرهم العام 2010 لاوروبا بزيادة 700% في ثماني سنوات) مع تأكيد وزارة الطاقة الكندية بقدرتها على زيادة الانتاجية اكثر من عشر مرات حتى العام 2020، الموعد الذي حدده الاتحاد الأوروبي لخفض انبعاثاته 20% عن مستويات العام 1990.
انسحاب كندا من كيوتو !
ولعل السؤال الأكثر إلحاحا الذي يطرح الان : ما هو تفسير وتأثير انسحاب كندا من بروتوكول كيوتو؟ انها المرة الاولى في تاريخ المفاوضات المناخية العالمية ان تعلن دولة من الاطراف في الاتفاقية الاطارية لتغير المناخ والتي صدقت على بروتوكول كيوتو، ان تعلن انسحابها رسميا من البروتوكول، الاطار القانوني الوحيد في العالم المتعلق بقضية تغير المناخ والذي نص على إجراءات ملزمة للتخفيف من الانبعاثات المؤثرة على تغير المناخ. هذا الاعلان الذي حصل في اليوم التالي بعد نهاية الجولة 17 من المفاوضات في دوربان في جنوب افريقيا. مما طرح علامات استفهام عدة حول التوقيت وحول الشكل وحول الانعكاسات المستقبلية على البروتوكول والقضية المناخية نفسها.
كانت كندا بين الدول التي وقعت على البروتوكول منذ العام 1997، ملتزمة بخفض انبعاثاتها من غازات الدفيئة بنسبة 6% العام 2012 بالنسبة الى مستويات العام 1990. ولكن بعد 15 سنة على الالتزام ارتفعت انبعاثات كندا 17% عن ما كانت عليه، بدل ان تنخفض. والسبب في ذلك كما يقول الخبراء، هو اكتشاف « النفط الرملي » في كندا (الذي اعتبر ثروة على الاقتصاد ومشكلة على البيئة لصعوبة استخراجه) بقدرة إنتاجية تبلغ الآن 1,5 مليون برميل يوميا والتي يمكن ان تصل الى 3,7 مليون برميل العام 2025.
لم يكن انسحاب كندا من كيوتو مفاجئا، فقد اعلنت عن نيتها بالانسحاب من المرحلة الثانية لكيوتو (2012-2020) منذ اربع سنوات ولاسيما العام الماضي في مؤتمر كانكون، مع اعلان اليابان وروسيا واستراليا عن نيتهم بالانسحاب ايضا. علما انها لم تلتزم كما يجب في المرحلة الاولى (2008 -2012)، كما اسلفنا.
الاقتصاد والبرلمان
في تبريره للقرار، قال وزير البيئة الكندي بيتر كنت الذي اعلنه رسميا في الثاني عشر من الجاري، « إن تكاليف وفاء كندا بالتزاماتها تبلغ 13.6 مليار دولار، أي 1600 دولار من كل عائلة كندية »، منتقدا الحكومة الليبرالية التي أقرته. وأضاف « بالرغم من التكاليف، كانت الغازات ستستمر بالانبعاث لأن الدولتين الأكثر تلويثا للجو، الولايات المتحدة والصين، غير ملتزمتين بالبروتوكول ». معتبرا « أن اتفاقية جديدة تسمح لنا بخلق فرص عمل جديدة وتشجع النمو الاقتصادي ستكون الطريق الى الأمام ».
يذكر ان الحكومة الكندية السابقة كانت قد وقعت البروتوكول ولكن حكومة المحافظين لم ترحب به، مما يطرح السؤال من جديد حول كيفية عقد الاتفاقيات الدولية وكيفية تصديقها من البرلمانات واحترامها.
هل الانسحاب قانوني؟
وكانت كندا قد صرحت قبل أربع سنوات أنها لا تنوي الاستمرار في التقيد بالتزامات كيوتو وقد ارتفع مستوى الغازات المنبعثة فيها بنسبة الثلث منذ عام 1990. وقد جاء هذا التصريح العام 2008 بعد ثلاث سنوات من التزامها بالبروتوكول وهي الفترة القانونية الملزمة والتي يمكن بعدها الانسحاب كما تنص المادة 27 من البروتوكول. وتنص هذه المادة حرفيا، حسب الترجمة العربية المعتمدة في الأمم المتحدة، على التالي : « في اي وقت بعد ثلاث سنوات من تاريخ بدء نفاذ البروتوكول بالنسبة لطرف ما، يجوز لذلك الطرف الانسحاب من البروتوكول بإرسال إخطار مكتوب الى الوديع ». وحسب المادة 23 من البروتوكول، فان وديع البروتوكول هو الامين العام للامم المتحدة. وهذا يعني ان على كندا ان توجه كتابا رسميا خطيا الى بان كي مون من الآن وحتى نهاية هذا العام، اذا كانت تريد ان تنسحب نهاية العام 2012، تاريخ نهاية الالتزام بالمرحلة الاولى لبروتوكول كيوتو.
المعلوم حتى تاريخ كتابة هذه السطور ان الموقف الرسمي اعلن شفهيا ولم يصدر كتابيا بعد. وهذا ما يفسر التوقيت لإعلان الانسحاب، قبل سنة على البدء بالمرحلة الثانية.
على اية حال، لا يتضمن البروتوكول، حسب مراجعتنا، اية بنود تتعلق بعقوبات او تعويضات على الدول المنسحبة، وهذه ثغرة ربما يفترض مراجعتها في اي اتفاق جديد.
الانعكاسات والمخاطر
البعض يقول ان كندا انسحبت من البروتوكول ولكنها لم تنسحب من الاتفاقية الاطارية لتغير المناخ التي ستبقى طرف فيها، وهي ستتابع بالتالي حضور اجتماعات الاطراف كل سنة، الا انها وجهت صفعة قوية للبروتوكول، كونه بحسب رايها، لم يعد مجديا من اجل تحقيق الاهداف التي وضع من اجلها، علها بهذا الموقف تسرع في دفن بروتوكول ميت من اجل احياء اتفاق او بروتوكول جديد اكثر شمولا.
الا ان البعض الاخر تخوف من ان يحدث هذا الانسحاب سابقة خطيرة، من المرجح كثيرا ان تتبعها دول ابدت نيتها بالانسحاب كاليابان واستراليا وروسيا. وستشكل حجة اضافية للدول الملوثة الكبرى كالصين التي لم تكن ملزمة بالبروتوكول. وبالحصيلة تعتبر هذه الحادثة سابقة فعلا تزعزع الثقة العالمية بالاتفاقيات العالمية ومدى احترامها. فما الذي يضمن بعد ذلك التزام الدول بتخفيض الانبعاثات؟
|