قراءة في الواقع العربي
هناك من يتحدث عن الربيع العربي بوصفه أهم حدث في القرن الواحد والعشرين. قد يكون كذلك، فقط لو ترك لهؤلاء المنتفضين والثوار أن يذهبوا بانتفاضاتهم وثوراتهم لما طمحوا إليه عند إشعالها.
للدخول مباشرة في صلب الموضوع ورسم إطار موضوع البحث لا بد من البدء بالتأكيد على أن المنطقة العربية، التي هي نقطة وصل بين قارات ومحيطات والتي تدفع ثمن أطماع غربية واقليمية في مواردها النفطية كما في ثرواتها المائية التي تنهبها أيضاً على يد أزلامها ومقاوليها في المنطقة، لن يترك لأبنائها شرف تقرير غدهم طالما أن لهذه القوى اليد الطولى في مقدراتها. هناك عملية تفتيت جرت وما زالت تجري بشكل ممنهج لاعادة صياغتها ضمن مشاريع تفتيتية، منها مشروع شرق اوسط جديد يشغل الكيان الصهيوني الغاصب قلبه كقاعدة امريكية متقدمة، إلى جانب القواعد الأخرى المزروعة في أماكن عدة في المنطقة.
لقد تعرضت هذه المنطقة لحرب شرسة على الأرهاب استهدفتها في الصميم وكأنها فصلت على مقاسها في مراكز القرار الصهيونية والامبريالية. علاوة على ما تدفعه من أثمان باهظة لأزمة مالية عالمية هجرت من هجرت من شبابها الباحث عن مكان تحت الشمس، وابقت الكثير من الباقين عاطلين عن العمل في ظل تزايد سكاني كبير. ثم تأتي الحكومات والشخصيات التي تولت مقاديرها ورصدت مبالغ هائلة على الأسلحة، التي تصدأ في المستودعات إلا عندما تصوب لصدور الشباب الثائر، لتفرض سياسات كان من نتيجتها تراجع الانتاج الصناعي وتعثر النمو الاقتصادي والإفقار المتسارع والتفريط بالموارد البشرية. ذلك خاصة بعد ما خلفته الأزمة الاقتصادية للرأسمالية العالمية في 2008 من ويلات على الفئات الشعبية بفعل تبعية البرجوازية العربية لتلك الرأسمالية وتنفيذها للتوجهات النيوليبرالية المتوحشة التي ضربت القطاعات الانتاجية وزادت من حدة الفساد والسرقة والاثراء غير المشروع، إضافة لتخزين وتكديس الثروات المالية وتهريبها للخارج، بما قد تعجز قوى الثورة عن استرداد النذر اليسير منها.
دور العمالة هذا والفساد الذي استشرى في هذه البلدان كان يفترض بالتالي استبداداً محلياً وقبضة حديدية للسيطرة على الوضع وخنق الأصوات الاحتجاجية.
وهكذا، فبعد حقبة الامبراطورية العثمانية تبعت مرحلة الهيمنة الكولونيالية على المنطقة مع تقاسم بريطانيا وفرنسا كيانات المشرق العربي. وكانت اتفاقية سايكس بيكو في 1916 التي تلاها وعد بلفور بإقامة الكيان الإسرائيلي فوق أرض فلسطين، ومن ثم استفادة الاستعمار من واقع التعدد الطائفي لإبقاء عوامل التفجير وتهديد هذه الكيانات حين الحاجة. طوال هذه العقود لم تفلح مرحلة التحرر من الاستعمار من محاربة التهميش والتخلف السياسي والاجتماعي والإقتصادي، كون من ائتمنوا على مصالح الشعوب كانوا مشغولين بمحاربة مشاريع النهضة وتوظيف عائدات النفط ضد مصالح الأمة. إلى أن انفجرت الأوضاع عبر حركة احتجاجية عمت معظم بلدان المنطقة العربية داعية لاسقاط انظمة الفساد والاستبداد ومنادية بحتمية ارساء الحرية والعدالة واسترداد الكرامة المستباحة.
مع سقوط حاجز الخوف عند الجماهير، سجلت لحظة مفصلية تحمل رياح تغييرات جوهرية في التوازنات القائمة. لكن قوى الثورة المضادة عملت على استرداد انفاسها بسرعة لتطويق مسار التحركات وكي لا تطال التغييرات النسبية جداً التي تحققت في تونس ومصر البلدان المنتفضة الأخرى. بانت قوى الهيمنة والاستعمار باشكاله الجديدة حاضرة بقوة لدوزنة التغيير على مقاسها وبما يتوافق مع مصالحها. وكان لجوء السلطات السياسية والأمنية للعنف الشديد والجرائم ضد الانسانية للتمسك بامتيازاتها في الثروة والسلطة رغم سلمية التظاهرات وسقوط الكثير من الضحايا. أو للالتفاف على الثورات التي نجحت في التخلص من رأس الكيانات القائمة، عبر استراتيجيات تفضي للتأليب على القوى الساعية للتغيير وعودة نهج الماضي وإن بآليات مختلفة وأشخاص آخرين.
القاسم المشترك لجميع هذه التحركات أوضاع سياسية واجتماعية واقتصادية متردية ونشدان تغيير أنظمة أو بالأحرى تجمعات مصالح سقطت في معركتي التنمية والديمقراطية وحكام خانوا الشعوب التي ائتمنتهم على مصالحها وأجروا صفقات مع أعداء الأمة ثم عملوا جاهدين لتوريث الحكم لابنائهم. تجمعات المصالح هذه، التي تدور في فلك عائلة حاكمة وبعض متحلقين حولها متحكمين بالقرارات السياسية وممسكين بالامكانات الاقتصادية، ما كان منها إلا أن صادرت الدولة وألغت مؤسساتها وحورت الارادات بتزوير الانتخابات، كما شنت حرباً شعواء على المواطنة بفرض قوانين استثنائية وحالة طوارئ دائمة واطلاق يد الأجهزة الأمنية لاستباحة الحقوق والحريات والكرامات وزرع غريزة الخوف في نفوس البشر كي لا يتمكنوا من تغيير واقعهم. الأنكى من ذلك أن هذه الطغم الحاكمة التي سطت على المال العام واشاعت الخصخصة والفساد والرشوة والواسطة والانتقائية في تولي الوظائف العامة، باعت نفسها للشيطان وقبلت بلعب دور العميل الذي رهن مصالح الأمة لنظام دولي متجبر ولكيان غير شرعي سرق أرض فلسطين وما زال يطارد شعبها ويفرض مشيئته على تطلعاته المشروعة بالتحرر.
وفي حين تظهر تقارير لويكيليكس وغيرها دور ال «سي آي ايه» والموساد في تجنيد العملاء والخونة المحليين وعلى أرفع مستوى (على سبيل المثال تنقل إحدى الوثائق وعلى لسان السفيرة الأمريكية السابقة بالقاهرة مارجريت سكوبي موافقة الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك ووزير داخليته حبيب العادلي على التجسس لحساب المخابرات الأمريكية. وتظهر الوثيقة بالأدلة هذا التعاون الوثيق) في كل مفاصل الحياة السياسية والاعلامية والاقتصادية في الدولة العربية، يستعان بخبراء محليين وأجانب ليس فقط لدفع سلطاتها للاقتراض الدائم وإثقال كاهل الشعوب بالمديونية، وإنما أيضاً في اخفاء الأرصدة البنكية للرؤساء والقابضين على مقدرات البلدان وتحويل العمولات غير الشرعية التي تدفقت علي أرصدتهم (على غرار ما فعله يوسف بطرس غالي لصالح مبارك). وهنا نتساءل كيف يمكن لهذه السلطات الجديدة -لو فعلاً أرادت استرداد الأموال المنهوبة- أن تعمل في ظل تكالب دول الغرب على مصالحها والاحتفاظ بهذه الودائع رغم أنف المطالبين بها.
إذن، من مقولة الصمود والتصدي في وجه المؤامرات التفتيتية إلى مقولة الشرعية الدينية أو الملكية، برزت القوى المضادة من الداخل لتطويق الثورات التي نجحت في مرحلتها الأولى وللإبقاء على التوازنات القديمة أو إعادة صياغتها بأشكال جديدة. تجمعات المصالح هذه، ناورت على بعض التنازلات الفرعية لإبقاء نفس السياسات والتلاعب بمهام المرحلة الانتقالية وترك الوضع يسوء وجعل الشعوب تخاف على غدها وأمنها ولقمة عيشها. يتم ذلك باثارة المصالح الشخصية والمطامع الفردية وتدوير المال المنهوب واللعب على العصبيات المختلفة، كما ببعث الفرقة بين القوى التي حضنت الثورة، من أجل تكفير الشعوب بثورتهم.
الرهانات الصعبة عبر بعض النماذج
في الملكيات، رغم أن الاحتجاجات طالبت باجراء اصلاحات وليس اسقاط النظم أو التداول على السلطة، فالسلطات لا تبدو أنها استفادت من الدروس لالتقاط الفرصة واجراء تغييرات حقيقية وعميقة طال زمن انتظارها بدل زر الرماد في العيون باجراءات تجميلية. في ملكيات كالمغرب والاردن ألحقت بمجلس التعاون الخليجي لتحصينها ضد الثورة، ما زال المحتجون يسيّرون المظاهرات بشكل دوري للتأكيد على شرعية مطالبهم وفرض الإسراع في تنفيذها، وما زالت السلطات تراوغ وتلعب على عامل الوقت. أما في البحرين فكان للمعارضة التي بدت لها الغلبة في البداية أن تذهب للجحيم مهما كان الثمن. تم اللجوء بمساعدة قوات درع الجزيرة للبطش الأمني الأعمى والاعتقالات التعسفية والمحاكمات الجائرة لوقف الاحتجاجات منذ بداياتها، (لا ننسى أن الحركة الاحتجاجية كانت هامة ومتواصلة منذ سنوات)، وتقديم العبرة لمن تسول له نفسه رفع الصوت. أسهمت هذه الاستراتيجية بتعزيز اتجاهات متشددة وتحريض على الفتنة الطائفية، كما خلفت حقداً طائفياً بين مكونات هذا الشعب محدثة جرحاً عميقاً في المجتمع البحريني لن يندمل بسهولة وسيحتاج لأكثر من اصلاحات لترميم الخراب الذي طال البنيان المجتمعي.
في تونس، جرت محاكمة بن علي وزوجته غيابياً بالسجن 35 عاماً بتهم الاختلاس والاستيلاء على المال العام، علماً أن هذه التهم ليست كل جرائم هؤلاء، كما أن استرداد الأموال المنهوبة والمهرّبة للخارج مسألة أخرى. بقايا النظام المخلوع ما زالت في السلطة وهي تراوغ لتربح الوقت وتخفي جرائمها وتغيب الحقائق، في حين أنه من دون محاسبة حقيقية تطال الذين أوغلوا بدماء الشعب وتطهير مؤسسات الشرطة والصحافة والقضاء لا يمكن بناء ديمقراطية. فوق ذلك، قوى الردة تعمل جاهدة للعودة إلى مراكز القرار عبر استراتيجيات وآليات منها ايضاً الديمقراطية كالانتخابات التي ستشهدها تونس في الثالث والعشرين من تشرين الأول لاختيار المجلس الوطني التأسيسي الذي سيتولى تسيير شؤون البلد مؤقتاً وصياغة دستور جديد. يتم ذلك بتحكم من يملك المال والحضور الكمي بالنتائج عبر شراء الأصوات والذمم واطلاق الحملات الاعلامية المضللة. يبدو المشهد الحالي في تونس وكأنه صراع محموم لتقاسم الكعكة بين أحزاب وقوى لم تكن معظمها معروفة وموجودة على الساحة التي كانت مفرغة من كل حي ينبض (هناك اليوم حوالي 115 كيان سياسي سجل رسمياً بعد سقوط الطاغية مقابل 9 في السابق). في حين أنه من شروط نجاح الثورة والتأسيس الجيد لمرحلة التغيير هو توحيد الصفوف على اسس تتجاوز الحواجز الايديولوجية وتعلي نكران الذات والصالح العام وتفسح المجال لكل المكونات المجتمعية بالخوض في معركة البناء والتحول.
يظهر استطلاع للرأي يعود للنصف الثاني من شهر اغسطس أن نصف المستجوبين التوانسة من عينة تمثيلية لا يرى ملامح الوضع السائد في بلده. اكثر من النصف يعربون عن عدم رضاهم عن الأوضاع الأمنية والاقتصادية، والثلثين يظهرون مواقف سلبية تجاه الأحزاب الموجودة على الساحة ويرون أنها لا تمثل مواقفهم، كما لا يعرفون بعد لمن يقترعون (هناك 1500قائمة انتخابية وآلاف المرشحين وهذا وحده كفيل بأن يخلط الصالح بالطالح ويجعل المشهد ضبابياً). الأنكى من ذلك أنه بعد عودة تفجر الوضع الأمني في وسط وجنوب غرب تونس، أعطى رئيس وزراء الحكومة الانتقالية الباجي القايد السبسي تعليمات بتطبيق حالة الطوارئ بالكامل في البلاد (وهي التي أقرها بن علي قبل فراره بعدة ساعات في 14 يناير 1911). وذكّر السبسي بأن هذا القانون يمنح مسؤولي المحافظات صلاحيات من مثل منع الإضرابات العمالية والاعتصامات وتحجيم الاجتماعات التي من شأنها الإخلال بالأمن العام ووضع الأشخاص الذين يشكلون خطراً عليه تحت الإقامة الجبرية. فكيف سيبرر استمرار هذه الحالة عند حصول انتخابات المجلس التشريعي على سبيل المثال؟ أضف لذلك أنه في تونس ما بعد سقوط رأس النظام والتي لم تتوقف فيها اعتداءات البوليس المتكررة ضد المتظاهرين ولا التوقيف التعسفي ولا التعذيب، يمنع 11 مدوناً فلسطينياً من غزة والضفة والداخل الفلسطيني من الحصول على تاشيرة تجيز لهم المشاركة في اللقاء الثالث للمدونين العرب والذي انعقد قبل ايام حول الدور السياسي للمواقع الاجتماعية في الانتفاضات الشعبية.
في مصر، وحيث أن الثوار لم يمسكوا بمزمام المرحلة الانتقالية مباشرة، يظهر المجلس العسكري والحكومة المؤقتة وكأنهما يعملان بجهد وكد ضد ما ناضلت الثورة من أجله وهي التي حملتهم للحكم. تبدو السلطة الانتقالية في هذا البلد، كما في تونس، وكأنها تحمل الكثير من سمات الطاغية المخلوع من : سوء إدارة وتفرد بالقرار والتقاعس عن إقامة البنى الجديدة المأمولة لبلوغ غايات الثورة أو سد الأبواب في وجه من يرمي لاختطافها. فباعلانه الدستوري انتزع المجلس العسكري في مصر لنفسه سلطات رئيس الدولة المطلقة في الدستور الذي أسقطته الثورة، واضاف إليها سلطة التشريع من طرف واحد دون اللجوء للاستشارة الشعبية، مع منع المساءلة والمحاسبة الشعبية. كما قام بتوسيع حالة الطوارئ لتجريم "نشر الشائعات" والتضييق على حقوق التعبير والتجمع السلمي. وفي حين هناك كم هائل من المدنيين، غالبهم من شباب الثورة، قد أحيلوا أمام محاكم عسكرية_ أحياناً لمجرد الظن بارتكابهم مخالفات، جرت محاكمة حسني مبارك وأولاده وبعض أعوانه حسب قوانين المحاكمات المصرية والتي لا تنص على الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبت ضد المتظاهرين. بما يمكن، بموجب هذه القوانين التي تغيب فيها النصوص العقابية الملائمة، أن تؤدي المحاكمة للحكم بالبراءة.
وحيث تقاعست السلطة الانتقالية عن تطهير الحلبة السياسية من بقايا نظام الحكم السابق، فقد سهَلت لفلوله إعادة تنظيم أنفسهم ضمن كيانات حزبية جديدة. كما ساعدت التيارات الإسلامية المتشددة على تصدر المشهد السياسيي، وذلك على الرغم من أن قانون الأحزاب الجديد قد نص على عدم جواز قيام أحزاب على أساس ديني. الأمر نفسه ينطبق على أصحاب رؤوس المال، حيث لم تضع قوانين المجلس العسكري أي حد للإنفاق الانتخابي. في الوقت عينه بدأ المجلس العسكري ببناء الجدار العازل حول غزة وتحصين السفارة الإسرائيلية وإعادة رفع العلم الإسرائيلي، وكأنه يريد بذلك طمأنة الإسرائيليين وتهدئة مخاوفهم من غضب الشعب المصري ونقضه اتفاقية كامب ديفيد. يحدث ذلك في الوقت الذي أقدمت فيه تركيا على طرد السفير الإسرائيلي، وجمدت الاتفاقات العسكرية مع تل ابيب، وأعلنت حرباً بحرية ضدها، وطلبت اعتذاراً رسمياً منها وتعويضات عن قتل 9 أتراك، وذلك تعبيراً عن كرامة وطنية استبيحت.
لكن أية قوة صلفة لا تستند لدعم الشعب لا يمكن أن تؤسس لشرعية تحميها من ثورة جديدة تطيح بها مهما طال زمن اختطافها للإرادة الشعبية. فالشعب، الذي كسر حاجز الخوف ودفع كبير الأثمان للحصول على الحرية والعدالة والكرامة، وهو مصدر الشرعية، يفترض أنه يمنحها ويمنعها متى شاء. لا بل هو يؤكد أن زمن الهزيمة والانكسار قد ولى وأنه صاحب الموقف الوطني الذي يليق بدماء الشهداء والمساند فعلياً لحركات المقاومة العربية.
في المثل السوري، يسوّق أن الخطر الذي يتهدد السلطة السياسية هو خطر على تماسك المجتمع وعلى وحدة الدولة، كون السلطة ابتلعت الدولة وأوكلت لقواها الأمنية حمايتها من شعبها بدل حماية الشعب من اعدائه المتربصين به. بالمقابل، القيادات المعارضة التي كانت مطاردة أو مغيبة عن الفعل السياسي تبدو منقسمة على نفسها وفيما بينها، والمؤتمرات السورية التي عقدت في الآونة الأخيرة خير دليل. يأتي من لدنها من يطالب بالحماية الدولية ليذهب بالشعب "من الدلفة لتحت المزراب". في حين تشدد أخرى على رفضها الشديد لهذه الحماية وللتدخل الأجنبي، على أساس أن الامبريالية لم تكن يوماً مناصرة لمطالب الشعوب في التحرر وبناء الدولة الديمقراطية، وإنما هي فقط وفية لمصالحها. هذه التجاذبات السياسية الحادة بين تيارات سياسية تطمح لإدارة البلد بعد سقوط النظام كفيلة بقضم المكتسبات التي سبق وتحققت أو ابطاء المد الثوري الذي اجتاح هذا البلد وأنزل المحتجين للشارع. أما عملية تشكيل قيادة موحدة من المعارضة فقد خضعت لضغوطات خارجية كون "الضغط الدولي يتطلب معارضة منظمة"، كما سبق لوزيرة الخارجية الأمريكية أن أشارت اليه. لكن هذه القوى ليست بالضرورة هي من يمثل كل الأطراف التي نزلت إلى الشارع أو التي لم تكن من السلطة أو معها، بل وقفت بعيداً عن التجاذبات بانتظار نضوج الوضع. كذلك لا يمكن الوثوق بتكوينات تأخذ بعين الإعتبار التطمين الخارجي أكثر من التمثيل الداخلي. فكي لا تسرق الثورة أو تقع في المصيدة يجب تقديم الأهم على المهم والتضحية بالمصالح الذاتية من اجل المشتركة، كون التدخلات الخارجية لها أشكال عدة بما فيها التي تمر عبر تمويل الجمعيات المدنية وإثارة شهوة السلطة عند الانتهازيين الذين يجيدون لعبة القفز فوق الحبال وتلقف الفرص، وكأن دماء الأبرياء ما سالت إلا لتغيير الواجهة دون المضمون.
في اليمن ما زالت الثورة، التي قدمت بعقلانيتها وسلميتها أجمل الدروس لشعب يعيش حالة اقتصادية مزرية، غير قادرة على الحسم. وكأن الذين يمسكون بخيوط اللعبة يريدون من هذا الصراع أن ينهك جميع الأطراف. إلى أن أتى تفجير مصلى قصر الرئاسة للقضاء على عبد الله صالح وكبار معاونيه من قادة عسكريين ورموز سياسية ووجاهات قبلية ليعزز نزعة الثأر وجر البلاد للعنف القبلي والتهديد بانفراط هذا البلد الذي يتهدده التمزيق. فالأوطان باتت للبعض برسم البيع بالمزاد دون مبادئ أو أخلاق، وهل من أخلاق في السياسة التي تعلي المصالح على الحقوق؟
أما الحالة الأجدر بالاهتمام اليوم فهي ليبيا، حيث يطل علينا الاستعمار مجدداً من باب "حماية المدنيين". لقد استباح أرواح وممتلكات وثروات آلاف الليبيين، في الوقت الذي بقيت فيه لعقود مناشدات الفلسطينيين "لحماية دولية" من جرائم الاحتلال الصهيوني تصطدم بفيتو الدول الكبرى. ذلك أننا أمة من سوء طالعها وجود النفط في أراضيها. عبارة وليم سايمون أحد وزراء الخزانة الامريكية واضحة بمعانيها عندما يقول عن سكان الخليج "أنهم لا يملكون النفط بل يعيشون فوقه". الأمر الذي يلقي مزيداً من الضوء على عملية تقطيع الحركة الاستعمارية لهذه المنطقة منذ نهاية القرن التاسع عشر بالسيطرة المباشرة ومن ثم بإحلال قيادات توظف عائدات النفط ضد مصالح الأمة وتفشل اي مشروع نهضوي.
قرار مجلس الأمن الذي قضى بأن يتخذ حلف الناتو ما يلزم لحماية المدنيين في ليبيا سيبقى ساري المفعول بعد سقوط القذافي وبناء نظام جديد. وهذا ما تكشفه وثيقة (مقدمة الوثيقة الفقرة 8) إيان مارتين، أحد كبار مستشاري الأمين العام للأمم المتحدة، بشأن إعادة بناء ليبيا. فوفقاً للتسريبات بين الأجهزة المتنافسة قدم مارتن تقريره للأمين العام لاعتماده قبل أن يقابل المسؤولين في المجلس الانتقالي ويأخذ طلبات ورغبات أصحاب الشأن من ممثلي الشعب الليبي بعين الاعتبار. يكشف التقرير كذلك أن جهاز مكافحة المخدرات وبرنامج الأمم المتحدة للتنمية UNDP ومنظمة الهجرة الدولية وصندوق النقد الدولي وغيرها أبدت رغبة في أن يكون لها دور في ليبيا الجديدة. بما أدار جدلاً في وسائل الإعلام الأميركية بخصوص مصداقية الأمين العام للأمم المتحدة وجهازه المختص بالشؤون السياسية والتابع مباشرة له، كما حول حقه بالتدخل إلى هذا الحد في شؤون الدول الأعضاء من باب المساهمة في حل أزمات ما بعد الحروب والنزاعات الداخلية. وهذا الجهاز نفسه كان قد أثار أزمة سياسية وإعلامية في مصر بزيارته لها مباشرة بعد سقوط مبارك والعروض التي تقدم بها للمجلس العسكري.
السباق إذن على ما يسمى بالكعكة الليبية مستعر وإعادة التوزيع أو التشطير قد يتكرر على النمط الذي حدث في العراق. هو يقوم على مبدأ « القيادة من الخلف »، أي أن تترك واشنطن للأطلسي، أو دول بعينها مهمة التدخل العسكري وفقاً لإملاءاتها أو تحت إشرافها. « فقيادة أميركا صعب أن تثبت نفسها بدون حضور على الأرض ...وأوباما يجب أن يعيد النظر في تأكيده أن قدماً أميركية لن تطأ أرض ليبيا...»، يقول رتشارد هاس رئيس المجلس الأميركي للشؤون الخارجية الذب يرى أن الحد الأدنى للتدخل هو أن يكون الغرب مستعداً لارسال مئات من المستشارين العسكريين، والحد الأقصى هو قوة عسكرية تتشكل من عدة آلاف من الجنود. وهذا النموذج قد يصبح مثالاً يحتذى للتدخل الأميركي في الخارج والذي قد يتبناه الفكر الاستراتيجي والعسكري الأميركي في المستقبل في بلدان أخرى. فليبيا دولة تفتقر للمؤسسات ومهمة بناء دولة جديدة بمقاييس غربية قد يكون اسهل فيها من غيرها، مع ذلك لا بد من رصد التطورات على الأرض.
هكذا إذن تكون ليبيا قد خرجت من عهد الوصاية لتعود اليه بعد بضعة عقود من الاستقلال (هذا إن كان فعلاً تصنيف استقلال يجوز في هذه الحالة من حكم القذافي ومن التنازلات المجانية التي قدمها لواشنطن وباريس ولندن منذ 2004 والتي منها التنسيق الاستخباراتي بين ليبيا وأمريكا والاتفاقات الممنوحة لبريطانيا والولايات المتحدة بخصوص التنقيب عن النفط واهدار المليارات من أموال الليبيين على صفقات السلاح مع أوروبا وعلى غيرها لتثبيت حكمه. ثم إن الحرب على ليبيا لم تنته بعد، وقد تكون بداية لمخطط يهدف لتفتيت هذا البلد بالاعتماد على تعدد القبائل والإثنيات، على غرار ما حدث في العراق والسودان، وما قد يحدث في أوقات لاحقة في منطقة شمال أفريقيا ووسطها والتي تحوز على ثروات طائلة منها المعادن الثمينة والغاز والنفط والأراضي الصالحة للزراعة والخزانات المائية الجوفية.
معارك السطح والعمق
يقدر تقرير لمجموعة جيوبوليسي للاستشارات أن كلفة الربيع العربي 50 مليار دولار منها 20 خسارة في الناتج المحلي في مصر وتونس وليبيا وسوريا واليمن والبحرين و35 مليار على المالية العامة. هناك في اليمن تراجع في الايرادات بنسبة 77% وفي ليبيا 84%. هذا عدا الخسائر البشرية والاضرار في البنية الاساسية وخسائر الاستثمارات الاجنبية. لكن الربيع العربي عاد بالفوائد على البلدان المنتجة للنفط التي لم يصل لها، خصوصاً الامارات والسعودية والكويت. ففي الامارات ازدادت عائدات الميزانية العامة 31% وفي السعودية 25%.
من ناحية أخرى، إذا كان الحراك الذي يجري في مجتمعات موحدة بتكوينها الاجتماعي يختلف في برامجه وآلياته عن ذاك الذي يحصل في مجتمعات متنوعة في مكوناتها الاجتماعية، فهناك مشتركات كثيرة فيما بينها كونها تنتمي لجغرافيا وتاريخ وموروث ثقافي ولغة مشتركة كما وتخضع لنفس الأطماع، بما يتطلب قبل كل شئ تحصين الوعي الشعبي والشبابي خصوصاً بما يخطط لهذه الأمة. من المعلوم أن إسقاط اي نظام يتطلب إنضاج عدة عوامل منها:
1. توفير إجماع وطني على ضرورة تغيير النظام وتوليد قناعة بخلق بديل مرحلي موثوق به يشرف على عملية الانتقال السلمي لنظام جديد شرعي ومنتخب ديموقراطياً.
2. تدعيم الانتفاضة الشعبية بجبهة وطنية عريضة مؤلفة من أحزاب وتكتلات لها وزن في الشارع.
3.تفكيك السلطة المركزية بإحداث انشقاقات تعطل فعالية أجهزتها الأمنية وتخلق فراغاً بداخلها.
4.ضمان حياد الجيش كذراع أمني للسلطة السياسية في الصراع الداخلي، بحال لم يتوفر تعاطفه أو إعلانه عن دعم الحراك الجماهيري الهادف للتغيير الديمقراطي.
5.الاحتفاظ بنفس طويل وقناعة بأنها معركة تستوجب الكثير من التضحيات وعدم سلق المراحل، بغض النظر عن استئساد قوى الردة للالتفاف على المكاسب التي حققتها الثورة.
الجميع يجمع أن كسب الرهان يحتاج لوقت ولبذل مزيد من التضحيات الجسام من أجل معركة التغيير. وإذا كان من شأن إجهاض الاصلاحات أن تؤجج الاحتجاجات، لن يكون لهذه الثورات من فرصة نجاح إلا باستمرار اليقظة الثورية والمثابرة على الفعل لفرض التنازلات والتغييرات التي قامت هذه الثورات من أجلها. هذه التكوينات الاجتماعية، التي راكمت اشكالاً عديدة للمقاومة المدنية وتجارب سابقة للتغيير، لم ولا يمكن أن تستكين مهما كان المسار شاقاً وطويلاً قبل إعادة تشكيل البنى الاجتماعية والسياسية وتوزيع اركان السلطة والثروة على أسس تتسق مع تطلعاتها للتنمية والديمقراطية.
ففي كل مكان من هذه الأرض العربية المنتفضة ما زالت القوى الوطنية تناضل كي لا تسرق ثورتها وهي التي قدمت في ميادين التحرير والقصبة والتغيير وساحات أخرى عديدة ومن مختلف الفئات العمرية والاجتماعية والدينية نماذج رائعة لأخلاق عالية وسلوكات راقية كانت على مستوى الحدث. لقد رأيت المنتفضين في كل من مصر وتونس يعملون زمن اسقاط الرموز عبر لجان شعبية على تنظيم الحياة اليومية وحماية المكان من الفراغ الأمني وتطبيب الجرحى واسعاف الضحايا. ورغم قساوة الأوضاع وأشهر طويلة من الصمود وتحركات يومية مكلفة جداً بالضحايا والأوضاع المعيشية، هم ما زالوا يؤكدون في سوريا واليمن على سلمية التحركات رغم بعض الاستثناءات. ورغم الأصوات المستغيثة والمستنجدة بالتدخل الخارجي، لعلهم أكثر عدداً من يدركون أن إجهاض الثورات يتم عبر عسكرة الحراك الشعبي والتدخل الأجنبي واستدراج المجتمعات لحروب أهلية وصراعات عرقية وطائفية وجهوية. ثم إن من ينتفض على القمع والاستبداد وسفك الدماء البريئة، لا يمكن إلا أن يرفض مشاريع التفتيت والتفكيك للأقطار العربية.
إذا كان من البديهي القول أنه في سائر المجتمعات يوجد تنوع في الشرائح البشرية والثقافات الجزئية واختلافات في أنماط السلوك والتفكير تتراوح بين طرفي نقيض، من المشروع التساؤل إن كان يمكن تجنب تزييف الوعي في ظل الهيمنة الخارجية على هذه المنطقة ودعمها الهادف للدكتاتوريات والابقاء على شبه غياب للمؤسسات الديمقراطية وللصحافة الحرة ولجمعيات المجتمع المدني وثقافة حقوق الإنسان ومفاهيم المواطنة الحقة والسلطة المضادة؟ إن كان بعض من تربي في ظل جو من الاستبداد والافساد يمكنه أن يتحول بين ليلة وضحاها لديمقراطي بممارساته، حيث أن المفاهيم تحتاج نظرياً، حتى لمن تعرف عليها أو تلقنها، لوقت لتتحول لوعي ومن ثم لسلوكات ؟ وإن كان للحاضنة الاجتماعية التي لم تحضر لثقافة بديلة، وهي المنغمسة حتى اغمص قدميها في علاقات تقليدية وغير صحية، أن تتجنب وحول التحالفات القائمة على اسس عائلية وعشائرية وطائفية وعرقية والتي يكفي إشعال فتيل فيها ليتداعى البنيان المجتمعي من داخله؟ ثم هل لثقافة الفساد أن تتجنب تغليب المصالح الآنية الضيقة وتغييب الكفاءات ومنح الامتيازات لمن ليسوا أهلا لها، في حين أن الحقوق الفردية هي في الأنظمة الديمقرطية الحقّة مضمونة وغير قابلة للتصرف؟
من ناحية أخرى، إذا كانت الثورات تطيح بالتوازنات السياسية والاجتماعية القديمة لصالح معادلات جديدة، فإرادة الشعوب لا تتجلى إلا في الشارع ومن خلال حركات الاحتجاج والضغط على السلطات. كي نحمي هذه الثورات من الإجهاض لا بد من التحصين من التضليل وتزييف الوعي. والتزييف الإعلامي يبقى من أهم مظاهر هذا التضليل. لقد شهدنا كيف يجري تركيز قنوات محددة على أحداث وبلدان بعينها في حين أنها تتغاضى لحد كبير عن بلدان أخرى وأحداث لا تقل أهمية. كيف يتم استضافة ألوان إيديولوجية ومذهبية محددة وإبراز شخصيات لاتجاهات معينة مع التعمية على غيرها وكأنها غير موجودة في الساحة الفكرية والنضالية. بما يطرح السؤال عن الموضوعية والتجرد والحيادية في نقل الخبر. ولو دققنا في التفاصيل لوجدنا دون كبير عناء أن المنظومة الإعلامية على تنوعها، وهي المرشحة للتكاثر مع اطلاق قنوات جديدة في الأشهر القادمة، تكاد تدار من غرفة عمليات واحدة بحيث يمكن أن نستعيض بواحدة من هذه الفضائيات ونتجنب التنقل فيما بينها.
يبدو أن "شعبة التضليل الإعلامي" التي أقامها البنتاغون في 2003 قبل الهجوم على العراق (نذكر كيف أن سقوط بغداد الإعلامي كان قد أعلن قبل احتلالها الفعلي)، وإن تغيرت تسميتها اليوم فهي ما زالت تقوم بنفس المهمات. فهل أن الضائقة المالية الحالية كافية لتفسير تأثير التوجه السياسي للممولين خاصة من سياسيين ومتنفذين على هذه الوسائل؟ كيف نفهم التدخل الخارجي في سياساتها الاعلامية وبرامجها وحتى مفرداتها؟ أشير هنا لما سرب عن عملية وضع اليد على وسيلة الاعلام المرئية الأكثر شهرة في العالم العربي والتي كانت عندما نشأت في أواخر 1996 قد احدثت انقلابا ًبالمشهد الاعلامي نسبة لما كان يبث حتى تلك اللحظة في وسائل الاعلام الرسمية. فقد كشفت إحدى الوثائق المنشورة حديثاً لموقع ويكليكس أن الاستخبارات العسكرية الأمريكية كانت تقدم تقريراً شهرياً لمدير شبكة الجزيرة، (وضاح خنفر)، توجهه فيه عن أخطائه وسلبياته، وما يجب بثه وما لا يجب. بعد ذلك علمنا باستقالته من ادارتها.
في دراسة له أصدرتها "مؤسسة راند" الصهيونية في 2005 بعنوان "هل استراتيجياتنا لمواجهة الإرهاب تضاهي التهديد؟"، كان (بروس هوفمان) قد اقترح على الحكومة الأمريكية أن تستغل قناة الجزيرة لترسل من خلالها رسالة للعرب والمسلمين لمواجهة التصورات الخاطئة لديهم على حد وصفه وكجزء من الاستراتيجية الأمريكية لمواجهة ما يسمونه بالإرهاب الإسلامي، بدلاً من التعويل على محطة الحرة أو راديو سوا غير المقبولين من الجماهير العربية الإسلامية. مما جعل تلك التغطية محكومة بسياسات إعلامية ورقابة أمريكية دقيقة تكرس لنقل وجهة النظر الأمريكية وليس الحقيقة. مما أضرّ بالجمهور العربي الذي يعتمد على الجزيرة في فهمه لما يجري من أحداث تمس المجتمعات العربية.
تعزيز حقوق الإنسان في الفعل الثوري
بالنظر لمجمل ما تقدم، يبرز السؤال: ما العمل كجمعيات مجتمع مدني للمساهمة بتأسيس المستقبل وإعادة البناء على أسس صحية وصلبة تقي انحراف مسار الحراك لما ليس في مصلحة الشعوب؟ إذا كنا قد شخصنا الحالة لاستقراء خارطة طريق، نقر بأن الطموحات والآمال والأحلام لا تلغي الاحباطات والنكسات والأوهام، وأن المعركة طويلة والثمن باهظ. لكن لا بد من دفعه حيث لا عودة للوراء بعد تقدم هذا المد الثوري الذي طال انتظاره واجتاح المنطقة وفي طريقه لعوالم أخرى.
أعتقد أن ورشة العمل يجب أن تنطلق على عدة أصعدة وبالتوازي على محوري الخارج والداخل:
1/ استمرار، لا بل تصعيد الضغوط الشعبية عبر التظاهرات والاحتجاجات والعصيان المدني لاسقاط الطغاة وتغيير النظم التي فصلوها على مقاسهم والدفع بالمد الثوري لإحداث نقلة نوعية وتغييرات جذرية في البنى السياسية والاقتصادية وإجراء الإصلاحات الدستورية والقانونية والاجتماعية التي آن أوانها لتحقيق الديمقراطية وإعلاء شأن حقوق الإنسان وارساء فصل السلطات والحكم الرشيد والعدالة الانتقالية وسيادة القانون واستقلال القضاء والمحاكمات العادلة والانتخابات الحرة النزيهة.
2/ الوعي بالأخطار المحدقة بالأمة العربية والمؤامرات التقسيمية يفترض في نفس السياق العمل لتحرير فلسطين وكل الأراضي المحتلة من الكيان الصهيوني ومواجهة الوجود الاسرائيلي الغاصب باعتماد سياسات لا تنتهج التطبيع وطأطأة الرأس أمام الهجمة الشرسة على الأرض والمقدسات، بل الوقوف بحزم ضد خطط التعاون مع اعداء الأمة من الداخل والخارج لتكريس الوضع القائم. وهذا هو دور الصحافة الملتزمة والأحزاب الوطنية وجمعيات المجتمع المدني في عملية التوعية.
3/ مواجهة جبهة الامبريالية ونهبها المنظم للثروات العربية التي هي سبب كوارثنا تتطلب الاعتماد على تنمية اقتصادية وزراعية. كذلك وبمعزل عن ارتهان الأنظمة المحلية للمصالح الأجنبية علينا مواجهة المشاريع التقسيمية بالعمل للوحدة العربية والسوق العربية المشتركة التي ترفع الحواجز الجمركية وتجمع ما بين الامكانات المالية والأراضي الزراعية والخبرات البشرية من أجل تنمية مستدامة مع استخدام النفط كوسيلة ضغط بدل أن تكون مدخل للابتزاز.
4/ توحيد الصفوف والاتفاق على قواسم مشتركة وبرامج عمل يجتمع حولها الثوار والنخب والمؤهلات من أهل الاختصاصات لبناء المجتمع بعد فترة ركود وتراجع على عدة مستويات، كما العمل لاسترداد الأدمغة والطاقات المهاجرة ودعم القوى الشبابية التي هي قلب الأمة النابض.
5/ الاسراع بتحريك عجلة الاقتصاد واطلاق مشاريع الاعمار والتنمية وتشجع الابتكار والابداع وتطليق سياسات اللبرلة الاقتصادية التي أمعنت في تهميش وإفقار الأغلبية لحساب أقلية مجرمة، بالتوازي مع فتح آفاق التعاون الاقتصادي مع دول صاعدة إقليمية ودولية، وتخفيض الاعتماد على الولايات المتحدة بما فيها ايفاد البعثات الجامعية.
6/ ترسيخ تقافة حقوق الإنسان بترجمة الاتفاقيات الدولية لنصوص ملزمة، وارساء الآليات والمعايير الكفيلة باحترام الإنسان بوصفه مواطناً وفرداً حراً متميزاً عمن عداه وليس كجزء من جماعة ينظر لها كأكثرية أو أقلية دينية أو عرقية.
7/ وضع حد للاعقاب والتشديد على مبدأ المحاسبة وتمكين دولة القانون بدءاً باجراء محاكمات فعلية وعلنية لمن أوغلوا في دم الشعب وسرقوا المال العام، كما الاستفادة من العلاقات والقوانين والاتفاقيات الدولية لاسترداد الأموال المنهوبة والمهربة للخارج.
8/ فصل الدين عن الدولة لتأسيس دولة مدنية ديمقراطية الشعب مصدر سلطتها، وتحييد السلطات الدينية التي تفرض قراءة متخلفة للدين السمح عن مراكز القرار والتأثير، خاصة تلك التي تعتمد على ثروات نفطية وتوظف إعلاماً موجهاً يخدم الرؤى الرجعية بشراء الذمم وتزييف الوعي.
9/ تغيير صورة المرأة في الوعي الجمعي للنهوض بالمجتمع، وذلك عبر تعديل المناهج التربوية واقامة المنتديات والدورات التدريبية والبرامج التلفزية وكل ما من شأنه تحويل المفاهيم لوعي ولسلوكيات ديمقراطية.
10/ تنظيم مخيمات ودورات تدريبية للشباب العربي لتعريفه بواقعه وشد أواصر ما يجمع وتعزيز الشعور بالهوية العربية العابرة للحدود الضيقة. بالوقت عينه، تبادل الآراء والخبرات والتجارب واعتماد التشبيك والتآزر مع شبكات التضامن الدولية، بما فيها المنظمات الشعبية في بلدان حوض البحار الثلاثة (المتوسط، الأسود ، قزوين )، لتقوية جسور التواصل بين المجتمعات المدنية بهدف إعادة رسم العلاقات بين المنطقة العربية والمجتمع الدولي ومواجهة واقع التبعية والوصاية الحالي.
دور تركيا تجاه الثورات العربية
في الجزء الأخير من هذه المداخلة، وللجواب على السؤال المطروح حول واجب الأطراف الدولية و الاقليمية لاسيما تركيا تجاه هذه الثورات، أقول أنه ما من دولة مهما طغت وتجبرت تبقى بمأمن من أزمات طاحنة وثورات شعبية، خاصة مع الانهيارات المالية وأزمة الديون العالمية التي أخلت بالتوازنات القائمة، مبشرة بإعادة صياغة هذه النظم والتحالفات على أسس جديدة. لنتأمل قليلاً ما يجري من حراك اجتماعي في القوة الأعظم في هذا العالم والتي تنبئ بأنها لا محالة ستشيخ كما شاخ غيرها في أمد ليس ببعيد. كما أن الربيع العربي لن يتحول بجهود المتربصين به لخريف، لا بل سينتشر خارج المنطقة العربية وسيفضي لمخاضات قادمة تعيد رسم الخارطة الدولية وليس الشرق الأوسطية كما بشرونا.. فالنظام العالمي الذي قام بعد الحرب العالمية الثانية هو اليوم في طريق الانهيار، وسيفسح المجال أمام نظام عالمي جديد لم تظهر ملامحه بوضوح. بالتالي، ما هو دور وما هي آليات العمل مع القوى الاقليمية الناهضة لإرساء توازن لا يكون على حساب الأمن القومي العربي ولا الأقليات التي هي مكوّن أساسي من هذا الوطن العربي؟
إن كان من البديهي أن السياسة الخارجية التركية لها حساباتها بما يخص دورها في المنطقة والتي أملت تنسيقاً مع الغرب وحلف شمال الأطلسي في قضايا عدة من الدرع الصاروخي إلى الموقف من ليبيا أو سوريا، فبرأيي أنه من الأجدى لتركيا عندما يكون دورها في المنطقة قائماً على أساس من علاقات حسن الجوار . واتساءل إن كانت قد حسمت خياراتها مع اسرائيل، كونه يصعب فهم أن تكون جزءاً من بنية السياسات الغربية في المنطقة وفي الوقت عينه ضد اسرائيل. فتركيا، رغم الضجيج الاعلامي حول موقفها الأخير الصارم من هذا الكيان، كانت قد قامت بعدد كبير من المبادرات تجاهه، وكررت اللقاءات بمسؤوليه، ومنعت سفينة «مرمرة» من المشاركة في «أسطول الحرية 2»، ولم تفتح تحقيقات قضائية دفاعاً عن ضحايا "اسطول الحرية 1"، ووافقت على تشكيل لجنة بالمر رغم علمها بطبيعة رئيس اللجنة ونائبه وبموقف الأمين العام للأمم المتحدة من إسرائيل والغرب. فهل لو حصلت على الاعتذار الإسرائيلي لكان أسهم ذلك في تعزيز العلاقات الاقتصادية والعسكرية مع هذا الكيان؟
نحن كديمقراطيين عرب لا نطالب تركيا بمعاداة الغرب او القطيعة معه، خصوصاً بعدما فرضت حكوماتها السابقة كل ما من شأنه أن يظهر الاسلام نقيصة والتغريب فضيلة، بل أن تكون طرفاً نزيهاً ووسيطاً على مسافة واحدة من كل الأطراف، وبنوع خاص أولئك الذين اغتصبت حقوقهم، بهدف تقريب وجهات النظر والمساهمة بحل فتيل الأزمات الخانقة التي تعصف بهذه المنطقة. تركيا التي باتت قوة اقتصادية وصناعية ذات وزن يمكن أن تستفيد من صعود اسهمها الدولية بأن لا تخسر مع ثورات الربيع العربي ما كسبته من صداقات في هذه المنطقة.
كثر هم في المجتمعات العربية من يرون أن رئيس الوزراء التركي أصبح الرجل الأكثر صدقية واحتراماً بين زعماء المنطقة, وقد كان لي شخصياً شرف مقابلته يوم قدمت من أوروبا مع مجموعة نشطاء لمساندته ضد من جاروا عليه يوم كان رئيس بلدية هذه المدينة. فهل سيكون صوتي مسموعاً عندما أطالبه والمسؤولين السياسيين بتأمين الحماية للاجئين السوريين في الأراضي التركية، مثلما أطالب بعدم ترك أي فصيل تركي عرضة للقتل والتشريد وامتهان حقوقه وحرياته مهما يكن نوع المسوغات؟ أناشد المسؤولين الأتراك العمل لحل عادل لمعضلة المياه المترتبة على سياسات تركيا المائية والتي تلحق ضرراً فادحاً في اقتصاديات العراق وسوريا، كما لبلورة دور يدعم الاستقرار السياسي لهذين البلدين والتوقف عن استباحة الحدود العراقية وقصف القرى الآهلة بالسكان بدعوى ملاحقة عناصر حزب العمال الكردستاني.
أما بما يخص هذه الثورات، نحن نرنو لأن يكون الموقف التركي متقدماً عن الموقف الاميركي، وليس متناغماً معه لتوطيد الدور التركي وتحقيق طموحاته على حساب آلام ومآسي الشعوب العربية والاسلامية، بعدما جرى كسب عواطفها وثقتها في فترة سابقة. وإذا كانت الحكومات العربية مطالبة اليوم بالارتقاء لمستوى الدماء التي سالت في ما سمي بالربيع العربي، وبإحداث التغيير في السياسات التي درجت عليها لضمان أمن واستقرار الأجيال القادمة، فالنظام الجديد الذي يفترض أن ينبثق من هذه التغييرات الكبرى يجب أن يكون عامل توحيد للمجال العربي. ذلك بدءاً بقدر من التبادل الاقتصادي والتواصل الثقافي والتنسيق السياسي، بما يشكل مدخلاً لتوازن إقليمي بين العرب، والفرس، والأتراك، حيث لا يمكن أن يستتب أمن كيان جار عندما يتمدد على حساب الآخر.
· مداخلة لمؤتمر اسطنبول الدولي حول الحاكمية والثقافة ومشاكل إعادة الهيكلة المشتركة في دول حوض البحار الثلاث ( المتوسط / قزوين و البحر الأسود ) من 13إلى 16 أكتوبر 2011
|