لم يكن ممكناً لأحد أن يسدي خدمة للبعثيين في العراق كالتي أسداها السيد نوري المالكي حين أطلق حملة اعتقالات بحق المئات منهم (حسب قوله)، والآلاف (حسب مصادر حزب البعث في العراق) متهماً إياهم بالضلوع في مؤامرة تستهدف الحكومة.
فهذه الاتهامات تشير إلى أن ما يقارب من سنوات تسع من الاحتلال والاجتثاث والاغتيال والمحاكمات الصورية وإعدام القادة واعتقال عشرات الآلاف لم تنجح في تصفية هذا الحزب الذي لا ينكر أعضاؤه وأصدقاؤه أنه وقع في سنوات حكمه الطويل بأخطاء وخطايا تحتاج إلى مراجعة نقدية صريحة وصادقة.
وحملة الاعتقالات الواسعة والشاملة لبعثيين من كل محافظات العراق وبيئاته المتنوعة، أكدّت أن كل أجواء الفتن والاحتراب الأهلي والتوتير الطائفي والمذهبي ( التي نجحت خطة الخبير الأمريكي الذائع الصيت في هندسة الحروب الأهلية نغروبونتي في إشعالها في العراق خلال عام من توليه منصبه الحاكم الإداري العام خلفاً لبريمر) لم تستطع ان تمنع بقاء بعثيين في كل محافظات العراق من البصرة والنجف والناصرية في الجنوب والوسط وصولا إلى الموصل والانبار وديالى وصلاح الدين وكركوك في الشمال والغرب والشرق العراقي، وهو أمر يثبت إمكانية قيام أحزاب عراقية وطنية عصيّة على الاصطفاف الطائفي والمذهبي والعرقي.
ما ينطبق على البعثيين ينطبق على ضباط الجيش العراقي الذي اصدر بول بريمر قراراً بحله، قبل أن يفر بمليارات الدولارات من أموال العراقيين إلى بلاده دون أن يجد من يسأله أو يحاكمه في أمريكا أو في العراق أو في المحاكم الدولية التي يتحدثون عنها كثيراً هذه الأيام.
ويرتكب السيد المالكي خطأ إضافياً حين يطالب البعثيين بإعلان البراءة من حزبهم لكي "يعفو" عنهم، فيما يدرك من تجربته الطويلة والقاسية في حزب الدعوة إن الأحزاب المتجذرة في مجتمعاتها لا تتم مواجهتها على هذا النحو، بل على العكس تماماً، فإن قمعها يصبح المغذّي الأول لنشاطها، والمطّهر الرئيسي لصفوفها، والمولّد الدائم لأجيال جديدة من المنتسبين لها، فمن يعلن البراءة من حزبه لا يستحق الانتساب إليه، ومن يستحق الانتساب لا يعطي براءة، إنها معادلة خبرتها كل أحزاب العراق شيوعية كانت أم إسلامية أم بعثية، عربية كانت أم كردية.
وتزداد خطورة حملة السيد المالكي لتلازمها مع بدء الانسحاب الأمريكي من العراق، وهو الانسحاب الذي ما كان ممكناً أن يتم لولا مقاومة الشعب العراقي الباسلة وتضحيات مواطنيه ومواطناته الأسطورية، وبينهم بالطبع بعثيات وبعثيين جنباً إلى جنب مع مواطنين عاديين ومناضلين ومجاهدين ينتمون إلى كل القوى العراقية المخلصة التي رفضت الاحتلال منذ اللحظة الأولى، والتي ينبغي اليوم مكافأتها ومدّ اليد إليها والتعاون معها، لجلاء تداعيات الاحتلال وأثاره بعد جلاء قواته وجيوشه.
فالإدارة الأمريكية التي وجدت نفسها مضطرة لإعلان واحدة من أبشع هزائمها في العالم بعد فيتنام، ستسعى حتماً إلى الثأر من شعب تسببت مقاومته في هزيمة جيشها ومشروعها، وهو ثأر لن يتحقق إلاّ من خلال إذكاء حال الاحتراب والانقسام بين العراقيين، ناهيك عن الدفع باتجاه تقسيم العراق إلى أقاليم، وهو التقسيم الذي وضعت بذوره في دستور كتبه خبراؤها في واشنطن وفرضته قواتها في بغداد.
فإعلان الأقاليم في كل أنحاء العراق، والذي تمهّد له إجراءات كيدية تتخذها حكومة المركز من اعتقالات وملاحقات وطرد تعسفي لأساتذة الجامعات، واغتيالات لضباط وزعماء عشائر، سيضع العراقيين في وجه بعضهم البعض، يتحاربون في كل لحظة، ويتنازعون الأرض فيما بينهم، ويتناتشون الموارد التي حباها الله لهم، بل سيحرمهم هذا الإعلان من أي فرصة حقيقية للنمو والاستقرار والازدهار، كما سيسلبهم أي قدرة حقيقية على صون سيادة بلدهم واستقلاله واستعادة دوره الريادي المعروف، وكلها أهداف خططت لها وما تزال الدوائر الحاكمة في تل أبيب وامتداداتها في واشنطن وعواصم الغرب.
إن ضمانة انتصار العراق على تداعيات الاحتلال وأثاره بعد انتصار مقاومته على جيوش الاحتلال وقواته، يكمن في إقدام كل قواه الفاعلة، أياً كانت مواقعها، على إجراء مصالحة وطنية شاملة لا تستبعد إلاّ من يستبعد نفسه، وعلى اتفاق عراقي – عراقي أشار إليه يوماً أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله عشية الحرب الاستعمارية على العراق وفي محاولة مخلصة منه لتلافيها وتجنب أثارها المدمرة على العراق والمنطقة.
مثل هذه المصالحة لا تتم إلاّ إذا رافقتها مراجعة جدية تقوم بها القوى العراقية، أياً كان موقفها وموقعها السياسي الآن، وعلى قاعدة "من كان منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر" ، وواكبتها مشاركة حقيقية لكل العراقيين في إدارة شؤون وطنهم على قاعدة الاحترام الكامل لحقوق كل مكونات المجتمع العراقي ووفق مبادئ المواطنة والعدالة ، وفي إطار دستور جديد تضعه جمعية تأسيسية منتخبة.
لقد كانت هذه الميمات ( مصالحة، مراجعة، مشاركة) مضاف إليها ميم المقاومة هي عناصر مربع الخلاص الذي اقترحناه منذ أن تعرض العراق لحرب عالمية على مدى 13 عاماً كان فيها العدوان والحصار والتدمير والإفقار والتجويع والترويع، وما زلنا نعتقد أنها تشكل مربع الخلاص للعراق، كما لكل أبناء الأمة والمنطقة.
بهذه الميمات الأربع نتوجه ليس فقط إلى القوى العراقية على تنوعها وتباين مواقعها الإيديولوجية والسياسية، بل أيضاً إلى القوى العربية والإقليمية المعنية والمؤثرة في الشأن العراقي لكي تسارع إلى الإسهام في إغلاق الجرح العراقي النازف، كي لا يزيد الانسحاب الأمريكي من هذا النزيف الذي لن يؤذي العراق والعراقيين بل كل شعوب المنطقة ودولها.
ألا يستحق العراق مثلاً اجتماعات طارئة لجامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي، وكلاهما خذلتا شعبه قبل الاحتلال وبعده، تقرر استكمال مساعي الحوار والمصالحة التي بدأت يوماً في مقر جامعة الدول العربية ولم تصل إلى نتيجة.
إن العراق الموحد المتصالح مع نفسه، ومع أشقائه وجيرانه، هو اليوم أمل كل المخلصين داخل العراق وخارجه.
11/11/2011
|