تتبع دولة إسرائيل نظام فصل عنصري يمتد بشكل طولي تاريخي من تأسيسها وتعريفها لذاتها كـ"دولة اليهود"، وبشكل عرضي بكافة المجالات الحياتية واليومية، بين كل ما ومن هو فلسطيني، وما ومن هو يهودي في هذه البلاد. جدار الفصل العنصري قائم، وإن لم يكن مرئيا دائما، وإن لم يكن ملموسا أو مصنوعا من الإسمنت. سياساتها وتعاملها مع الفلسطينيين يتحدد تباعا لذلك. ينعكس الأمر في السياسات التي تطبق على أرض الواقع والقوانين التي تسن في البرلمان، والقرارات والأحكام التي تتخذها المحاكم ضد الفلسطينيين، وفي اللغة التي تتحدثها هذه القوانين والممارسات والتي تتغذى من الأجواء العنصرية سواء في البرلمان ام في الشارع الإسرائيلي. حيث تؤكد إسرائيل مرة تلو الأخرى أن اللغة التي تستعملها في تعاملها مع الفلسطينيين ليست حيادية ولا ساذجة، بل تأتي لترسم معالم سياسات عنصرية تبغي «تطهير المكان والزمان» من كل ما هو فلسطيني وتعمل على تهويده وتلغي أوتوماتيكيا كل من هو ليس كذلك وتميز ضده.
أركز في هذه الورقة في قضية السجناء السياسيين، سجناء الحرية الفلسطينيين الذين تسميهم إسرائيل سجناء أمنيين، وأحاول أن أبين كيف أنها تعمل من خلال ذلك على تجريد النضال الفلسطيني نحو الحرية من بعده السياسي ودمغه بدمغة أمنية. إضافة للتمييز ضد هذه المجموعة على أساس قومي جماعي وفردي، وكيف أنها بتعريفها هذا تمييز ضدهم مرتين، مرة على أساس فردي ومرة على أساس جماعي.
إن لغة القانون والمصطلحات القانونية المستعملة في إسرائيل، تعكس هويات وسياسات تطبق على أرض الواقع في هذه الحالة ضد السجناء السياسيين من الفلسطينيين أيضا. يتحدث فانون في كتابه «بشرة سوداء، أقنعة بيضاء» عن العلاقة بين اللغة والكولونيالية، وعن قدرة اللغة، لغة المحتل، على القمع من جهة، وعلى قدرتها على التحرير، لو ملكها الإنسان الواقع تحت الاحتلال وسخرها لنفسه من الجهة الأخرى
اللغة السائدة في الشارع الإسرائيلي هي لغة عنصرية، كذلك الأمر في البرلمان والقانون. والأمر لم يكن أبدا غير ذلك، الفرق الأساس هو في تكثيف اللغة العنصرية والحالة العنصرية وتلاشي الروادع الأخلاقية او القانونية التي من الممكن أن تحدها، خاصة أنها أصبحت عنصرية علنية مكشوفة، تنعكس في الشارع كما في البرلمان1. فالدولة منذ أن عرفت نفسها قانونيا على أنها دولة اليهود، تحاول أن تفرض اليهودية بالقوة على كل شي. فهي بذلك تنفي مباشرة الوجود والتعريف والحق الفلسطيني في هذه البلاد، والانتماء التاريخي اليها ويتحول كل من هو خارج هذا النطاق - التعريف الى «عدو داخلي» يهدد «يهوديتها» إن هو طالب بتغيير هذا التعريف وهذا الطابع للدولة، وتعتبره خطراً امنياً يجب مقاومته.
تحاول الدولة أيضا ان تلغي فلسطينية الفلسطيني الباقي على أرضه في حدود 48، التي حولتها الدولة الى إسرائيل، وتبغي أن تلغي هويته الوطنية وانتماءه القومي أيضا، من خلال فرضها مصطلح «عربي إسرائيلي» واستعمالها لهذا المصطلح في أدبياتها، وهو نوع من الكيان المشوه، فليس هناك شيء اسمه عربي إسرائيلي على أرض الواقع الا في قاموس مصطلحات الدولة، وهي بذلك تحاول ان تلغي انتماءه القومي وجذوره التاريخية كجزء من شعب عريق. فالفلسطيني وفق التعريف الإسرائيلي هو ساكن الضفة والقطاع في غزة فقط.
وتستعمل التقارير الرسمية والصادرة من البرلمان الإسرائيلي ومن مؤسسات رسمية مصطلحات "اليهود" و"غير اليهود" للتميز بين اليهود والفلسطينيين، حيث يصبح اليهودي وفق هذا المفهوم وهذه السياسية هو القاعدة والأساس وكل ما هو ليس كذلك.
إن سياسة "تطهير المكان من العرب" مستمرة منذ قيام الدولة، ينعكس الأمر بمصادرة الأراضي مباشرة أو بوضع خطط لتهويد البلدات، والذي يأخذ أيضا أشكالا متعددة كخطط علنية لتهويد الجليل والنقب وتجميع العرب بمجمعات سكانية مسيطر عليها خارج التواجد اليهودي وفصلها عن المفارق والشوارع الرئيسية وإخفائها عن مستوى النظر، أو بتغيير أسماء البلدات العربية وأسماء الشوارع وتغيير التوازن السكاني فيها لصالح اليهود بالتضييق على العرب وعدم إعطائهم إمكانيات بناء او بالهدم المباشر أو بتفعيل برامج ما يسمى التطوير والتحديث، أو بالدعوة المباشرة لطرد العرب وعدم السماح لهم بالسكن بين اليهود الأمر الذي دعت إليه مؤخرا بشكل علني عشرات من رجال الدين اليهود (الحاخامات)، وهم موظفو دولة، وذلك من خلال إطلاق فتوى دينية تحرم تأجير مساكن للعمال والطلاب العرب، كما حدث في مدينة صفد الجليل. بينما قام تنظيم يسمى «لاهف» بتوزيع شهادات طهارة / صلاحية "كشروت"، على الأماكن التي لا تشغل عربا. يضاف إلى الدعوة العلنية لطهارة المكان، الدعوة لطهارة العرق التي تطلق بين الحين والآخر هنا وهناك، وفقط مؤخرا قامت عشرات من زوجات الحاخامات بإطلاق التظاهر في عدد من المدن اليهودية داعيات هن ومؤيديهن الفتيات اليهوديات لعدم إقامة علاقات مع شباب عرب.
ويشهد البرلمان الإسرائيلي موجه من مقترحات القوانين العنصرية، بعضها قد أقر، التي تبغي تحديد المواطنة بالولاء وتوسيع هذا الاشتراط الى مساحات إضافية، وتضيق الخناق على المنظمات التي تفضح الممارسات العنصرية للدولة. هذه الأجواء تجد انعكاسها أيضا في المحاكم وفي الإجراءات القانونية التي تسبق إصدار الأحكام.
لغة المحاكم والتحقيق ـ مسارات مختلفة للعرب واليهود
يمتد الخط الفاصل بين ما هو يهودي وبين ما هو عربي الى أروقة المحاكم الإسرائيلية. فنجد ان القانون والمحاكم أيضا، فيها هويات وسياسات، كما لو أن الجهاز ينقسم استعاريًا الى جهازين مختلفين. هناك رسائل سياسية توجّه عبر قنوات القانون والقضاء، تشدد على هوية الدولة اليهودية وتجرم كل من يحاول أن يمس بذلك، وتتعامل بمعيارين مع من هو عربي ومن هو غير عربي. حيث نجد أن نسبة إدانة العرب أعلى بما لا يقارن من نسبة إدانة اليهود في البلاد ، في كل خانة ذات خلفية جنائية وفي جميع أنواع المخالفات وفي جميع الأجيال.2
تؤكد المحامية عبير بكر على وجود سياسة انتقائية تنتهجها سلطات تطبيق القانون في الدولة حين تقوم بتقديم لوائح اتّهام، وإجراء تحقيقات متعلقة بالاعتداء والقتل. وتشير أن هناك سياسة للعرب، وسياسة لليهود. وتصل الى استنتاج أن « إنّ سلطات تطبيق القانون التي ترى أن دورها كمَن يقوم بحماية المصلحة العامّة فقط عندما يكون العربيّ مشتبهًا فيه، بينما تتجاهل دورها عندما يكون الأخير ضحيّة، هي سلطات لا يُمكن أن تحظى قراراتها بالشرعيّة».3
تدل الإحصائيات الرسمية الإسرائيلية على أن نسبة الإدانة في القضايا الجنائية تصل الى 96%. وهي نسبة يعتبرها محامون وحقوقيون عالية جدًا، بل تخرج حتى عن إطار المعقول. للمقارنة، فإن نسبة الإدانة الموازية في ولاية نيويورك الأميركية تبلغ 50% فقط. أما في القضايا المسماة أمنية، يمكن القول بتأكيد أننا لا نسمع عن اي حالة تبرئة بهذا المجال! هذا الوضع، وفقًا لمختصين، هو ما يفسّر الى حد كبير تفضيل الكثير من المتهمين في قضايا أمنية أن يوقعوا على صفقات ادعاء مع النيابة.4
وقبل الإدانة هناك المسار القضائي، أي المحاكمة، والذي يتأثر بالأجواء السياسية السائدة، حيث لا قضاء منفصلاً عن الجو السياسي كما يتضح في الحالة الإسرائيلية. وقبله مسار التحقيق غير المنفصل عن الأجواء التحريضية العنصرية، وعن كون المحققين بأنفسهم جزء لا يتجزأ من هذا الجهاز. فهم أيضا ينظرون للعربي المتهم بتهم «أمنية» كقنبلة موقوته وعدو داخلي يجب استخراج اعترافات منه حتى بالقوة والتهديد والتعذيب. هو ليس اليهودي إبن المجموعة القومية الواحدة، بل إنه العدو / الآخر وفق هذا المنطق.
والتحقيق مع من اتهم بتهم «أمنية» ممكن أن يشرَّع وفق القانون وبحماية القانون كل أساليب التحقيق معه، وتطلق المحاكم الإسرائيلية يد أجهزة الأمن ـ ولرجالاتها، للاعتقال والتحقيق المتواصل لساعات مكثفة تصل أياما متواصلة، واستعمال أساليب تعذيب وضغط نفسي، ابتزاز وإرهاق جسدي كالمنع المتواصل للنوم، ومنع الحمام، وتقييد الأرجل والأيدي وعصب العينين. بل ويضاف الى ذلك إقرار أوامر منع نشر ومنع لقاء مع محام، لاستخراج اعترافات من المتهمين، كل ذلك بتغطية قانونية، بل وباسم القانون.
دل تقرير أصدرته مؤسسات إسرائيلية ـ بتسليم وهموكيد ـ على استعمال هذه الأساليب وعلى التغطية القانونية التي يحظى بها المحققون، وعلى عدم إدانة المحكمة لأي محقق تم تقديم شكوى ضده لاستعماله هذه الإجراءات.5
وفي المحكمة هناك الأدلة السرية التي تعتمدها النيابة والتي لا يكون بإمكان محامي الدفاع الإطلاع عليها ولا على مضمونها. فبالتالي ممكن تجريم المتهم بتهم أمنية ـ حسب القاموس الإسرائيلي ـ بناء على أدلة سرية!!
نجد أن التعريفات المستعملة في أروقة المحاكم غير حيادية هي أيضا. إن تعريف المخالفات الأمنية في قانون العقوبات فضفاض جدًا، ويمكن بموجبه اعتبار كل تصرّف بمثابة "مس بالأمن"... فممكن أن يحمل تعبير مثل "نقل معلومات خطيرة" مضامين ومعلومات في متناول يد كل إنسان عادي، معلومات لا تمتّ للسريّة بصلة، ولكن يجري تعريفها رسميًا كمعلومات سرية خطيرة! وممكن أن يحمل تعريف قانوني كلقاء مع عميل أجنبي، مضمونا مفاده لقاء بين فلسطيني من الداخل وعربي من إحدى الدول العربية. وبذلك تخدم المصطلحات القانونية سياسات وهويات تبغي تجريم اللقاء والتواصل العربي ـ العربي والذي لا يدخل من بوابة التطبيع بل يناهضها... التعريف بهذه الحالة هو جزء من القضية ويخدم سياسات عنصرية. وبالتالي فان قرار التوصل الى صفقة ادعاء يكون بمثابة أهون الشرور أو على سبيل مكره أخاك لا بطل، حيث يكون البديل حكما سنوات طويلة، يمكن ان تصل إلى السجن المؤبد، على تهم مضامينها مفرغة من السرية والخطورة، غُلِّفت بتعريفات أمنية..
جدار فصل زجاجي للسجين السياسي الفلسطيني
ان الخط الفاصل بين ما هو عربي وما هو يهودي والانقسام الاستعاري في الجهاز القضائي بين ما هو عربي وما هو يهودي، بين من يُجرِم بمخالفة جنائية وبين من يجرم بمخالفة أمنية، يستمر داخل السجون ويتحول الى انقسام عملي لا استعاري. ويتحول الحاجز غير المرئي الى حاجز مرئي ومحسوس وقائم.
وفق القانون الإسرائيلي تصب المخالفات السياسية والتي يسميها القانون "أمنية"، وغالبيتها العظمى هي ضد عرب، ضمن مجموعة المخالفات الجنائـية، الا ان التطبيقات من قبل مصلحة السجون تتعامل بشكل مختلف مع «السجناء الأمنيين»!. وتضع تعليمات خاصة حول كيفية التعامل معهم بمفهوم التضييق عليهم ترسِّخ التمييز البنيوي ضدهم.
وترفض إدارة السجون والمحاكم استعمال مصطلح «سجين سياسيّ»، وبالتالي فهي تنكر عليهم كونهم مناضلين لأجل الحرية، يقاومون نظامًا أجنبيا أو نظامًا مستبدّا. وعليه فإنّ معارضة تصنيفهم على هذا النحو هي تنكّر عميق ـ عادة ما يكون مؤسسيًّا ـ لعدالة نضالهم وعليه فالذي يقف خلف التسمية «الأمنية» هو، «قبل كلّ شيء، الرغبة في محو المعنى السياسي، ومن الواضح أنّه لا يوجد أمر سياسيّ أكثر من الرغبة في محو السياسة» كما تؤكد د. عنات مطر.
بناءً على ما تقدّم، تؤكد مطر أنّ التسمية «الأمنية» تدمج فائدتين معًا: فهي تسمح بسلب السجناء السياسيين حقوقهم الأساسية كأفراد يختلف أحدهم عن الآخر، وفي الوقت نفسه تتيح ممارسة اللا-تسييس لأفعالهم، وطمس مطامحهم السياسية. وما يجمع هاتين الفائدتين معًا هو سلب الفردانيّة من السجناء ـ سواء كأشخاص فرديين يستحقّون التعاطي الفردي، أو كلاعبين عقلانيين، أحرارٍ بجوهرهم، ويسعون لتحقيق حرّيتهم. إنّ المصطلح «الأمنيّ» يمحو كونهم أفرادًا ويجعلهم أغراضًا: غرض ـ كحائط منهار، كسطح مشتعل، كحجر مقلاع أو سكّين أو أظفار ـ من شأنه تشكيل خطر أمني، يجب الاحتراس منه حفاظًا على أنفسنا. في المقابل، فالذات، هي سياسية، سياسية على الدّوام. إنّ سلب الخانة السياسية من هؤلاء السجناء وتسميتهم «أمنيين» بشكل جماعيّ يشكّلان، إذًا، سلبًا لإنسانيّتهم على الصعيدين المذكورين: سلب فردانيّتهم وسلب كينونتهم السياسية.
وعليه فإن تطبيق القانون بعد الحكم وإثناءه للمعتقل والموقوف، يبين وجود مسارين أيضا، مسار «للأمني» وآخر للجنائي. والأمني بهذه الحالة عربي وهو من قام حسب الإدانة أو الاتهام بمخالفة ضد ما يسمى «أمن الدولة». وكما عرفناه بقاموسنا السجين السياسي والجنائي بهذه الحالة هو السارق والقاتل والمغتصب. وهناك تعليمات لمصلحة السجون وفق أنظمة مصلحة السجون - تعرف من هو السجين الأمني بشكل منفصل وكيف يجب التعامل معه. وتتحدث عن المسموحات والممنوعات وعن التضييقات وهي الغالبة في هذه الحال. ونجد أن نظام السجن ومبناه وهدفه للسجين الجنائي بعد الحكم، هو التقبل والتأهيل ومساعدة السجين على العودة للحياة خارج السجن، ويضمن له عدم الانقطاع عن العالم الخارجي بما فيه التواصل المباشر مع عائلته، مهما بلغت خطورته ونوعية إجرامه. اما بالنسبة للسجين السياسي/ «الأمني» فإن السجن يهدف الى القمع وتضييق الحريات، والسجن هو حيز للإقصاء والإلغاء والتضييق، تضييق كل إمكانيات التواصل الطبيعي مع الخارج وضمنه العائلة. هدف السجن بهذه الحالة هو العقاب والنيل من السجين قدر الإمكان. ومحو ذاكرته، ذاكرة المكان خارج السجن وخنق أمله بالحرية والتحرر. وأيضا الأهم وفق مفاهيم الأمن الإسرائيلي - ضمان أن يكون الحكم - العقاب والسجن رادعا لغيره.
في حالة السجين الجنائي فهو يلتقي عائلته بشكل حر مباشر في غرفة اللقاء داخل السجن، وله الحق بمكالمات هاتفية للخارج - لخارج السجن وله حق في عطل، واحتمالات أن يحصل على تخفيض مدة المحكومية الى الثلث، واردة وعالية، ان هو أبدى سلوكا حسنا، ويحق له الحصول على كتب وهدايا من عائلته. وبإمكانه بعد فترة من المحكومية العمل خارج جدران السجن.
اما السجين «الأمني»- العربي، فكل القيود مفروضة عليه. فاللقاء هو من خلف فاصل زجاجي يعمل عمل جدار الفصل تماما، فهو يمنع كل إمكانية تواصل مباشر، فالحديث من خلال سماعة هاتف. هذا الحاجز يلغي حاستين من حواس الإنسان الطبيعية: الشم واللمس، والسمع مشوش جراء التشويشات في سماعات الهواتف.
والحديث واللقاء مسموح لأفراد العائلة من درجة أولى فقط، والخصوصية ملغية تماما فالمكالمات مُسَجَّلة، البريد يُقرأ بتفاصيله. عدا عن أن اللقاء محدد لمدة 45 دقيقة فقط مرة كل أسبوعين. أي بالمجمل كل السنة لا تصل ساعات اللقاء الى أكثر من 18 ساعة مجتمعة أي اقل من يوم في السنة. وكون اللقاء يشارك فيه أربعة أشخاص من الأقارب إضافة للسجين نفسه، فمعنى ذلك أن كل شخص منهم خلال المحادثة لا يحظى بأكثر من سبع دقائق للحديث. ولا يراعي في هذه الحالة جيل الأطفال، بل على العكس يميز ضدهم باسم القانون.
القانون الدولي والمعاهدات الدولية، وأيضا القانون الإسرائيلي، يُعَرَف الطفل على أنه من هو دون الثامنة عشرة، لكن إجراءات السجن تميز بين طفل وآخر على أساس الجيل، فقد قررت سلطات السجون، بحالة الأسرى «الأمنيين»، أن من هو فوق الثامنة من الأطفال ممنوع من التواصل المباشر مع والده او أمه من السجناء "الأمنيين"، وله إمكانية لقاء من خلف الزجاج. بالتالي فإن القانون ميز بين طفل وآخر، وألغى حقه الشرعي والقانوني الذي أعطاه إياه القانون، عندما عرفه طفولته بأنها تمتد الى جيل الثامنة عشرة. الا أن المشرع الإسرائيلي لا يعترض على هذا الإجراء وهذا التمييز، رغم أنه يتحدث عن مساواة الجميع أمام القانون! لكن في هذه الحالة يتم التمييز ضد السجين الأمني ويتم التمييز ضد أطفاله باسم القانون.
ومع أن اللقاء يتم من خلف زجاج وإمكانية التواصل المباشرة معدومة تماما، الا أن سلطات السجون لم تعف العائلات من التفتيش الأمني الدقيق والذي يتحول الى تفتيش مهين وجسدي في كثير من الحالات، ويمر أفراد العائلة بمسار تفتيش أولا من خلال بوابة إنذار، ومن ثم تفتيش جسدي وبعدها يتم تجميعهم بغرف انتظار مكتظة خانقة تغلق أبوابها وشبابيكها من كافة الجهات ويتحول من داخلها الى مساجين لدى السجانين لغاية فتح الباب لبلوغ غرفة اللقاء. ولا يمكن أن يكون هدف هذا التفتيش منع تسريب أي مواد للسجين من خلال العائلة، لأن إمكانية اللمس كما نوهت ممنوعة، وبالتالي فيبقى الهدف من هذا التفتيش هو التضييق والإزعاج. حيث يمكن أن يصل أفراد العائلة إلى اللقاء مع السجين بحالة نفسية وجسدية متعبة جراء التفتيش المهين، وبعد طول انتظار في المحطات المختلفة المتتالية من خارج السجن إلى داخله. فينعكس الأمر على السجين ونفسيته.
والسجين "الأمني الفلسطيني" محروم داخل السجون الإسرائيلية من الكتب ومن الصحف العربية الصادرة في الداخل، والمسوق يهودي ويعرقل وصول الكتب للسجناء. مؤخرا وبعد نضال طويل، سمحت سلطات السجون بإدخال كتابين للسجين الأمني من خلال العائلة على الا يراكم السجين أكثر من ثلاثة كتب في غرفته ويكون عليه الاستغناء عما لديه. وقد سُمح مؤخرا أيضا بعد نضال ومواصلة عمل مع الصحف ومن خلال مساعدة مؤسسات حقوقية مثل "مركز عدالة"، بدخول بعض الصحف العربية بينما منعت أخرى حزبية بدعوى انها تحريضية.
أما قائمة الطعام فهزيلة تنقصها مركبات أساسية يحتاجها الجسم كالفيتامينات. والعلاج الصحي محدود وفيه نواقص كثيرة، ويمنع السجناء الأمنيون من الخروج لعلاجات تطلب صورا وفحوصات في المستشفيات كعلاجات الأسنان. ويتم رفض إدخال أطباء مستقلين مختصين لمراجعتهم، من دون توضيح أسباب الرفض، بينما يعطي القانون الحق لأي إنسان، وإن كان سجينا، من مراجعة أي طبيب يختاره. ولا تراعى النظافة في عيادات السجون، فالأدوية توزع بيد مكشوفة وكرسي طبيب الأسنان مكشوفة لا غطاء عليها، إضافة للمماطلة بإجراء فحوصات.
وأما الحيز فضيق جدا، بعض السجون يتم حصر 8 سجناء في غرفة يتقاسمون حيزا - هو اللاحيز. داخل الغرفة طاولة واحدة بلاستيكية لكل الأهداف، للأكل والشرب والقراءة وتحضير الطعام. حيز الحراك غير موجود، حيث يضطر السجين أن يقضي ساعات النهار والليل الباقية جالسا على السرير.
إن الجدار الزجاجي وكل الممارسات المذكورة والتضييقات والتقييدات على السجناء السياسيين من تسميهم دولة إسرائيل أمنيين، هو فقط تأكيد على أن جدار الفصل العنصري قائم بوضوح بين كل ما هو عربي وما هو يهودي بهذه البلاد، وإن لم يكن مصنوعا من الإسمنت. ومن هنا تكمن أهمية ووجوب وضرورة مقاومته ومقاومة السياسات التي تؤدي اليه وفضحها محليا ودوليا، لإلغاء نظام الفصل العنصري الذي يقوم عليه.
هوامش
1ـ ينظر في هذا الأمر القوانين العنصرية التي سنت مؤخراً في البرلمان الإسرائيلي ـ تقارير الرصد السياسي مدى الكرمل: http://www.mada-research.org/?languageld=2&system=category&menuid=31&pmenuid=20&menutemplateid=1&catergoryid=27
خبر ـ صفحة عدالة:
http://aljazeera.net/NR/exeres/810160CB-72CE-49E0-9847-F1340AA62AED.htm?GoogleStatID=9
قانون النكبة ـ صفحة عدالة:
http://www.adalah.org/Article_full_arb.asp?parentID=413&ID=103
2ـ بالاعتماد على معلومات صادرة عن مركز الأبحاث والمعلومات التابع للكنيست.
3ـ عبير بكر. «سياستان لشعبين». مجلة «عدالة» الالكترونية، العدد 49، حزيران 2008: http://www.adalah.org/Page_arb.asp?Category_id=406
4ـ بالاعتماد على أقوال مع المحامي حسين ابو حسين/ مقابلة صحيفة الاتحاد بعنوان: صفقة الادعاء في قضية أمير مخول جاءت من باب «مكره أخاك لا بطل» ـ يوم 29/10/2010.
5ـ تقرير بتسليم بعنوان: Treatment of Palestinian Detainees in the Petah Tikva Interrogation Facility of the Israel Security Agency
http://www.btselem.org/Download/201010_Kept_in_the_Dark_eng.pdf
نشر في السفير اللبنانية 5/05/2011
|