كل الثورات العربية، دون استثناء، تستبطن بعداً احتجاجياً ضد المعادلات الاستعمارية في منطقة الشرق الأوسط، بكل مخازيها الممثلة في: اتفاقية سايكس بيكو، وعد بلفور، اتفاقية الحماية مقابل النفط وما نشأ عنها من كارتلات نفطية عابرة للقارات، الوجود الإسرائيلي غير الشرعي في فلسطين، علاقات الهيمنة بين دول ـ المركز ودول ـ الأطراف.
كان واضحاً منذ الأيام الأولى للثورة المصرية أن الإدارة الأميركية تنبّهت الى حركة تحوّل استثنائية تشهدها منطقة الشرق الأوسط، وأن تأثير الدومينو قد يؤول إلى تساقط العروش، وقد يطال الحلفاء والخصوم على السواء. ولذلك بدا الأداء السياسي الأميركي كما لو أنه في حالة لهاث لمواكبة التحوّل المتسارع في المنطقة، فصار الموقف الأميركي يسير مع تطوّر الثورة ذاتها.
نجاة الثورتين التونسية والمصرية من العبث الأميركي قبل سقوط رأس النظام في كل منهما، لم يكف الذراع الأميركية عن الوصول الى مركز القرار الافتراضي المسؤول عن إدارة التحوّل الديموقراطي.
في الثورات العربية الأخرى (ليبيا، اليمن، البحرين) أخذ التدخّل الأميركي شكلاً سافراً: تدخل عسكري في ليبيا أفضى إلى نضوب الحماسة الشعبية العربية إزاء الحدث الثوري الليبي، تقاسم أدوار بين الأميركي والخليجي لناحية ضمان انتقال موجّه للسلطة في اليمن، وتعطيل لأي تغيير ديموقراطي حقيقي في البحرين.
في ليبيا، توارت الثورة الشعبية، وبتنا أمام حرب استنزاف، لإرغام قوى المعارضة الليبية على القبول بشروط التدخل الغربي (ذات الطبيعة الاقتصادية ـ النفطية بصورة رئيسية). وفي اليمن، أخذ مسار الثورة شكلاً ساخراً، فبينما تتوارى رؤوس السلطة عن الدولة، بقيت الثورة في حال لا تشبه النصر على الإطلاق، لماذا؟ ليس، حتماً، بفعل عوامل داخلية، لأن الشروط الداخلية للانتصار مكتملة، ولكنّ هناك قوتين واحدة إقليمية، أي السعودية، وأخرى دولية، أي الولايات المتحدة، ترفضان أي تحوّل ثوري ينقل السلطة الى خارج المسار المقرر له. تصريح لمسؤول أميركي ينصح فيه الرئيس اليمني علي عبد الله صالح بقبول انتقال السلطة تحت إشراف دول مجلس التعاون الخليجي. من وجهة نظر سياسية شديدة البلاهة، إن ثمة تصريحاً كهذا يفترض قدرة استثنائية لأنظمة شمولية مستبدّة على إدارة عملية تحوّل ديموقراطي في بلد يُخشَى من تأثيراته الثورية على الجوار. ومن وجهة نظر ظلامية، وإن شئتم تآمرية، فإن هذا من التصريحات المدفوعة الثمن سلفاً .الأميركيون، شأن حلفائهم السعوديين، غير واثقين هذه المرة من إمكانية التحكّم بنتائج الثورة الشعبية في اليمن، ولذلك فإن المعادلة الماركسية التي أجهضت من خلال توليد مركّب ناشئ من صراع جناحي الرئيس وآل الأحمر، أرجأت لحظة نهاية الرئيس، فعقارب ساعة الثورة يجب إيقافها، ما لم يتم ضمان مستقبل النفوذ السعودي والأميركي في اليمن القادم.
في البحرين، بدت اللغة هابطة حتى بالمقاييس الأميركية، فبينما وهبت وزيرة الخارجية الأميركية كلينتون مشروعية لدخول قوات درع الجزيرة بعد يوم من دخولها البحرين في 15 آذار (مارس) حين قالت (إن للبحرين الحق بطلب المساعدة من دول مجلس التعاون الخليجي..)، ثم توالت التصريحات المهادنة من الرئيس أوباما والوزيرة كلينتون والسفير الأميركي في المنامة آدم إيرلي، والتي تغطّي سياسة التطهير الطائفي عبر استعمال عبارات معلّبة من قبيل حق النظام البحريني في (الحفاظ على الأمن والاستقرار)، مع إشارة واهنة الى انتهاكات حقوق الإنسان، باستثناء تصريح الختام المخزي لعملية قوات درع الجزيرة، حيث طالب الرئيس أوباما بتقديم المتورّطين في انتهاكات حقوق الإنسان للقضاء، وجاء ذلك في سياق تهيئة أجواء الحوار.
من احتواء الثورات الى افتعالها
ما زال مشهد التشارع (شارع في مقابل شارع) حاضراً، كونه يمثّل بدعة في الثورات العربية، إن لم يكن الثورات العالمية، ليس لأن المشروعية الشعبية قابلة للقسمة، ولكن لأن الشارع تحوّل جزءاً من لعبة أمم. لقد بدا مشهد عالمنا العربي مدهشاً في تناقضاته طيلة الشهور الثلاثة الماضية، فبينما ختم الشعبان التونسي والمصري فصول الثورة بصورة حاسمة، قبل أن تتعرض لعملية قرصنة خارجية قبل تنحية (سيادة الريّس)، لجأت بعض الدول الى سياسة الرعاية/الإعالة، فقد اشترت السعودية (يوم غضب)ـها المفترض بـ36 مليار دولار، رغم أن جدلاً واسعاً أحيط بهذا الحجم من (التقديمات الاجتماعية) بخصوص مصادر توفيرها، وتداعياتها الاقتصادية. وجرت محاولات دؤوبة لإطفاء محرّكات الثورة الشعبية في سلطنة عمان والأردن عن طريق المعونات المالية ) الخليجية بدرجة أساسية).
ولكن ما هو أقرب الى المؤامرة هو تصنيع ثورة، في ما يشبه قلب الموج أو طيّه، فبدلاً من أن يكون موجّهاً ضد الهيمنة الخارجية كقابلة لتوليد الاستبداد الداخلي، بتنا نقترب من معادلة استئصالية) تحويل الثورة الشعبية الى حرب أهلية). هذا ما بدا واضحاً في ليبيا، واليمن وصولاً الى سوريا، التي يراد إقحامها في أتون حرب أهلية، في حال فشل المخطط الخارجي المدعوم إقليمياً.
حين التجابه بين الاستبداد والاستعمار، أي بين الحرية والكرامة، لا يعرف الغرب حتى الآن لماذا تصبح الشعوب العربية على استعداد للعيش في ظل الاستبداد، حين يكون البديل عودة الاستعمار بزي جديد، فليس هناك من العرب من هو على استعداد لأن يدفع كرامته ثمناً للحرية.
تدرك الولايات المتحدة وكل القوى الاستعمارية المحدّثة، أن مقاومة نظام الهيمنة مثّل جزءاً جوهرياً من ثقافة الثورة في تونس ومصر واليمن وليبيا والبحرين، ولذلك فإن السماح لتلك الثقافة بالشيوع يعني بداية نهاية أفول نظام دولي قائم على أساس الاستتباع السياسي والاقتصادي (أنظمة شمولية استبدادية تقدّم النفط مقابل الحصول على الحماية)، لتصبح الخارطة الاقتصادية للعالم: دول منتجة للنفط ودولة مستهلكة لبضائع الغرب، بما تفرضه من امتيازات تجارية واقتصادية، والتزامات مالية وسياسية وعسكرية، وتداعيات ثقافية واجتماعية وقيمية.
الخوف على الثورة ومنها
لا يمكن أن نحكم على نجاح ثورة ما لم تحدث تغييرات جوهرية في ميدان الثقافة، لأن الثورة تبدأ هناك قبل أن تطال الميادين الأخرى..
من دروس الثورة اليابانية في منتصف القرن التاسع عشر نتعلّم ما يأتي: ان ما كان يعرف بـ(ثورة الميجى)، تعني الثورة الثقافية، بل ان الثورة بحد ذاتها لا تنطبق، من وجهة نظر ميجوية، سوى على التغيير الثقافي. يقال الشيء نفسه عن الثورة البلشفية في روسيا 1917، والثورة الاسلامية في إيران 1979، اللتين أحدثتا تغييرات جذرية وشاملة بدأت بالثقافة وتالياً أزالت البنى الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والقيمية، بخلاف، حتى الآن، الثورات العربية على الأقل في تونس ومصر، حيث لم يطل التغيير سوى رأس النظام، فيما لا تزال بنى الاستبداد، والزبائنية القائمة على أساس تبادل منافع فئوية، وعلاقات الهيمنة متماسكة، أو قابلة للتأهيل في لحظة أخرى. ولذلك أمكن القول اليوم إن كل الثورات العربية غير محصّنة ثقافياً، وأن لا تغييرات اجتماعية وسياسية ممكنة في ظل نظام ثقافي، وأيضاً نظام قيمي مشدود الى الماضي، أو أنه قادر على أن يعيد إنتاج الماضي في شكل جديد.
الخطر المحدق بالثورات، يكمن في إعادة إدماج وامتصاص القيم الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية المؤهّلة لعودة الاستعمار غير المباشر في الأنظمة ذات الصبغة الثورية زعماً، وهذه المرّة ستكون العملية الاستيعابية عبر صناديق الاقتراع، أي أن يكون الشعب نفسه من يرسي الأساس الشرعي والقانوني للنموذج الاستعماري الجديد.. وحين ينشأ نظام سياسي مغلق، يصبح هامش مناورة الشعب ضيقٌ للغاية، ما يترتّب على ذلك ضعف قدرة النظام الحاكم على تحرير شعبه ودولته.
هل الثورات العربية بحاجة الى (كوكي جاكي) ياباني كيما يوازن بين تبجيل الوطن ومناوأة الأجنبي، مع تخفيف ضراوة النزعة العرقية. ثمة، دون ريب، مهمّات وطنية- قومية، تنتظر الثورات العربية، وتتطلب جهداً طائلاً من أجل تغيير المنهاج السياسي بإرساءاته الثقافية. إذ لا يمكن الحديث حتى اليوم، عن نجاح تام لأي ثورة عربية، خصوصاً مع دخول لاعبين جدد في الداخل والخارج على خط (ربيع العرب). هل ثمة من تساءل عن حقيقة التدخّلات الخليجية في اليمن وسوريا وليبيا.. وللبحرين نصيب أوفى من تدخل عسكري مباشر؟ هل ثمة من تساءل أيضاً عن أهداف الاستثمار الخليجي السخي في مصر، ما بعد الثورة؟ أم هل هناك من أنكر التواطؤ الخليجي - الغربي حيال ما يجري في اليمن وليبيا والبحرين؟
من أخطر ما يواجه الثورة، هو اعتصام طبقة الصفوة القديمة بنظام مصالح خارجي، وهناك، على وجه اليقين، قوى خارجية إقليمية ودولية تسعى إلى توفير نظام إعالة لتلك الطبقة، في محاولة لإعادة تأهيلها كيما تلعب دوراً انقلابياً على الثورة، وإعادة تموضع في سياق الترتيبات السياسية الجديدة. لمعرفة خطورة ما يجري، لا بد من فهم النظام القديم حتى يتسنى لنا فهم مقدار التغيير الذي طرأ على ذلك النظام.
كل ثورة شعبية حين تحدث تغييرات شاملة ثقافية واجتماعية وقيمية تكون لها هزّات ارتدادية مماثلة لحجم التغييرات، وهذه أول مهمة مدرجة على جدول أعمال الثورة المضادة. لا ريب في أن المكابح التي يضعها المجلس العسكري في مصر أمام التحوّلات الثورية، لا تعني شيئاً آخر سوى الحد، قدر الإمكان إن صعب التعطيل، من وتيرة التغييرات التي أرادتها الثورة الشعبية، الشيء ذاته تفعله طبقة مماثلة في تونس. هناك اليوم خطر استنساخ (المجلس العسكري) في تونس واليمن للحيلولة، في البدء والخاتمة، دون بلوغ الثورات العربية نقطة التحرر الوطني الشامل والانتقال الديموقراطي الحقيقي.
التصلّب البيروقراطي، المرض المزمن في الأنظمة السياسية العربية، لا يزال محرّضاً على السخط حتى بعد نجاح الثورة في تونس ومصر. ولكن هناك، في المقابل، عملية متقنة لناحية إماتة الشعور الثوري لدى الشعوب العربية، وإفراغ هادئ لكل شحن التمرّد من أجل العودة التدريجية الى الماضي.. الى النظام الاستبدادي المتواطئ مع الاستعمار.
|