حين اقدم الشاب الجامعي محمد البوعزيزي باشعال النار في نفسه في ديسمبر/ كانون الاول/2010 في مدينة بو زيد الصغيرة شمال غرب تونس العاصمة في لحظة شعوره بالمهانة الشديدة على يد شرطة البلدية ومصادرتهم لعربة الخضار التي يعتاش منها، لم يكن يعلم انه بذلك قد فجر بركان غضب الملايين من العرب من المغرب في اقصى غرب الوطن العربي حتى البحرين في اقصى الشرق. نعم لم تكن الأنظمة العربية، وفي مقدمتها النظام التونسي، الاشهر في قدراته المخابراتية، والتي اطمأنت الى الحكم المديد واخضاع شعوبها، كما لم تكن الاستخبارات الغربية التي ترصد الوضع العربي بدقة، ولا مراكز الدراسات المتخصصة، ولا قوى المعارضة أيضاً تتوقع هذا النهوض الجماهيري والاستجابة التلقائية لدعوة مجموعة من الشباب عبر وسائط التواصل الاجتماعي عبر الفيسبوك والتويتر والمواقع الالكترونية.
يعتبر النظام التونسي نموذجا للنظام الكلي الجبروت، فقد استطاع زين العابدين بن علي ضابط المخابرات السابق، ان يقيم نظاماً احكم قبضته على الحياة السياسية والاقتصادية وعلى المجتمع المدني على امتداد أكثر من عقدين متباهياً بتأمين الاستقرار والنمو الاقتصادي، تاركاً هامشاً ضيقاً للمعارضين والمجتمع المدني لاضفاء تعددية زائفة، وشرعية شكلية من خلال الانتخابات المتواترة، وأقام نظام بن علي علاقات مغاربية وعربية جيدة، و حازعلى دعم غربي قوي باعتباره قد نجح في تصفية القوى الاسلامية وحصن بلاده في وجه ما يدعى بالاصولية الاسلامية والارهاب الاسلامي.
الاحتجاجات التي شهدتها مدينة بوزيد والتي وجهت بالقمع، انتقلت بسرعة إلى مدن الداخل التونسي المحروم، وقيل حينها ان الاحتجاجات لن تنتقل الى مدن الساحل المرفهه، لكن المفاجأة هو انتقالها السريع إلى العاصة تونس وغيرها من المدن الكبرى.
وفي سابقة تاريخية نهض الشعب التونسي، وشل الآلة الاستخبارتية والامنية المرعبة، وهنا اتخذ الجيش التونيسي موقفا وطنيا ورفض قمع المظاهرات، بل ومنع قوى الامن من الفتك بها. واضطر بن علي للهروب في جنح الظلام في 16 يناير/2011. وفتح الطريق امام الثورة التونسية .
على وقع الحدث التونسي، جرت الدعوى عبر الفيسبوك والتويتر للتجمع في ميدان التحرير بوسط القاهرة في 25 يناير 2011 بدعوة من عدة مجموعات شبابية مثل "شباب 6 ابريل" و"كلنا خالد سعيد". وخلافا لسوابق النظام المصري في اجهاض أي احتجاج، وخلافا لتوقعاته في ان الأمر لن يتعدى المئات، فقد تدفق آلالاف من شباب وشابات مصر على ميدان التحرير، ليتزايد اعداد المعتصمين، وليتحول ميدان التحرير إلى مركز دائم لثورة 25 يناير. وكما في تونس فقد ظلت قوى المعارضة حائرة ومترددة تجاه الحدث، باسثناء حركة كفاية والكرامة، لكنها وأمام المدى الجماهيري الكاسح التحقت مختلف القوى بمختلف تلاوينها الاسلامية والقومية واليسارية واللييبرالية بالحركة الاحتجاجية، وكما ابدى عدد من قوى المعارضة في تونس استعداده للمساومة مع أركان نظام بن علي بعد هروبه، والمشاركة في تشكيلات الحكم، فقد اقدمت قوى معارضة مصرية بالتفاوض مع خلف مبارك اللواء عمر سليمان ورئيس الوزراء اللواء احمد شفيق. لكن شباب ثورة 25 يناير ظلوا متشبثين باسقاط حسنيى مبارك وأركان حكمه، واذا كانت المؤسسة العسكرية التونسية قد اكتفت بتأمين الامن ومراقبة انتقال السلطة، فان المؤسسة العسكرية المصري ممثلة بالمجلس العسكري الأعلى التي ينتمي اليها مبارك، قد عمدت الى الامساك بسلطات الرئاسة ورفضت تشكيل مجلس رئاسة من شخصيات وطنية.
لقد استطاعت ثورة 14 يناير في تونس و 25 يناير في مصر، ان تطيحا برأسي النظامين والعديد من أركانهما وعبور حاجز التغيير، ولكن يبقى امامهما الكثير لانجاز متطلبات ومهام الثورة الجذرية الشاملة، ويمكن القول ان ثورة 25 يناير المصرية هي التي اعطت بعداً عربياً لثورة تونس وحولتها من حدث محلي إلى حدث عربي.
وهكذا ومع تواصل احداث الثورة المصرية التي جذبت الاهتمام عما يجري في تونس وقدرتها على الصمود رغم التعرجات، فقد انتشرت عدوى الثورة عابرة الحدود. لكن تجليات الربيع العربي متباينة حسب ظروف كل بلد، ومدى نضوج الاوضاع لتحولات ثورية او اصلاحية عميقة.
دلالات الربيع العربي
يشكل الاعصار الثوري الذي اجتاح الوطن العربي، حدثا لا سابق له في تاريخ العرب المعاصر، ورغم ان موجات احتجاجات سابقة اجتاحت الوطن في احداث تاريخية مثل الهجوم الثلاثي على مصر في 1956 أو حرب اكتوبر1973 لكنها المرة الأولى التي تتجذر فيها حركة الاحتجاج العربية في كل بلد لتتحول إلى قضية وطنية حيث تتواصل الحركة في كل بلد مع الحركات في البلدان الاخرى وتتفاعل هذه الثورات والانتفاضات والحركات في تناغم جميل. ومن أهم دلالات الربيع العربي ما يلي:
1. ان الربيع العربي يعبر عما يربط المواطنين والشعوب العربية من رابطة قومية وتواصل وجداني، اتخذ في الماضي نزوع الى التحرر من الإستعمار وتحرير فلسطين والوحدة العربيه ويتخذ حاليا نزوعاً نحو الحرية والديمقراطية والكرامة. وإلا كيف نفسر التفاعل مع الحدث التونسي ثم المصري ثم البحريني...الخ عبر الوطن العربي، دون الانتقال إلى بلدان اسلامية أو آسيوية أو افريقية رغم تشابه ظروفها معنا ورغم الروبط العديدة التي تربطنا بها، فالربيع العربي هو ظاهرة عربية لانه نتاج أوضاع عربية.
2. منذ سنوات ونحن نشخص النظام العربي بانه نظاماً عاجزاً، لكن الوضع وصل إلى مرحلة لا سابق لها، حيث الانهيار الداخلي في أكثر من بلد عربي والعجز عن النهوض بالمهام القومية والتبعية للعدو الامريكي والصهيوني، فقد بلغت مداها وتتكشف الحقائق عن تحول زعماء عرب إلى عملاء لامريكا واسرائيل وليسوا أصدقاء أو حلفاء.
3. من خلال التطورات طوال العقود الثلاثة والاربعة، فلم يعد هناك فروقات تذكر بين الانظمة الملكية والانظمة الجمهورية التي اضحت "جملكية" حيث الحكم المديد للرئيس لعقود من الزمن ، وحيث التوريث اضحى مفروغا منه . كان التوريث جاهزاً في مصر وليبيا واليمن لولا ان احبط الربيع العربي هذا المسار. هذه مؤشرات انحطاط الأنظمة الجمهورية العربية التي صعدت الى الحكم تحت شعار القضاء على الانظمة العربية الملكية الفاسدة والعميلة، والوعود بالنهضة والحرية والتحرير وحتى الاشتراكية والديمقراطية عند البعض، لكن الحصاد يظهر لنا انها اضحت أسوأ من الملكيات التي اطاحت بها، من هنا فإن عنف الثورة أشد في الأنظمة الجمهوريه منه في الأنظمة الملكية.
4. لقد اوصلت الأنظمة العربية الأوضاع في البلدان العربيه إلى أوضاع مسدودة ألأفق . شخصت تقارير التنمية الانسانية والبشرية الصادرة عن برنامج الامم المتحدة الانمائي وكذلك تقارير الشفافية الدولية وغيرها من التقارير والدراسات التراجع المخيف في الحريات العامة، والتنمية، والعلوم، والحقوق، وأوضاع المرأة والشباب في كل البلدان العربية بدرجات بما في ذلك بلدان النفط الخليجية وليبيا والجزائر.
انه وضع أوصلنا إلى حالة العجز الشامل وانسداد الافاق والامال.
وفي هذا الصدد فقد انحطت النخبة الحاكمة من كونها تعبيراً عن تحالف حاكم إلى عصبة حاكمة ضيقة القاعدة تحتكر السلطة والثروة ولم يعد يتورع الملك أو رئيس الجمهورية ان يدخل في صفقات عقارية وتجارية على حساب المصالح الوطنية.
وفي ظل تآكل الشرعية، فقد اشرعت سلطة الاستبداد والقمع ومصادرة الحريات في عالم طابعه الحريات والديمقراطية والانفتاح. اختزلت الدولة في اجهزة السيطرة على الشعب، واختزلت النخبة الحاكمة في عصبة وأضحى الحكم دون شرعية.
بالنسبة للشعب فقد تراجعت كثيرا الهوية القومية والوطنية الجامعة، حيث عهدت الأنظمة إلى استغلال التمايزات القومية والدينية والمذهبية، وتعميقها واشغال المجموعات المختلفة في صراعات جانبية.
لذلك تصاعدت التوترات القومية والدينية والمذهبية والقبلية والتي ادت إلى الاقتتال بل والحروب. ان تراجع اللّحمة القومية العربية والوطنية هو لحساب تعزز الهويات الفرعية القومية والدينية والمذهبية والقبلية، وفي ذلك عودة لعهد ما قبل تشكل الدولة الوطنية التي وضعت عليها الامال لادماج الشعب ونهوضه.
5. تؤكد الدراسات والمؤشرات ان هناك مفارقة واسعة بين امكانيات الوطن العربي وواقعه السياسي والاقتصادي والعلمي. يمتلك الوطن العربي امكانيات مادية وبشرية عظيمة، وذا موقع استراتيجي، وذا عمق حضاري، ويمتلك قواسم مشتركة من اللغة والتواصل الجغرافي والإرث الحضاري، مما يؤهله ليقيم دولة أو على الأقل منظومة تكامل على غرار الاتحاد الاوروبي. لكن واقع الوطن العربي هو عكس ذلك تماما. فمؤشرات الفقر والبطالة والتخلف والفساد والامية والتصحر مرتفعة جداً لا تضاهيها سوى منطقة جنوب الصحراء الافريقية. يتراجع الوطن العربي بمجموع دوله في الوزن السياسي وفي النصيب الاقتصادي والاسهام العلمي والمعرفي، وأضحى نهباً للدول الكبرى والشركات العابرة القارات.
6. الوطن العربي اليوم مستباح للاحتلال الاسرائيلي والهيمنة للدول الكبرى ونفوذ الدول المجاورة. الوطن العربي يعيش في ظل مخاطر أدت إلى نتائج خطيرة، منها تكرس الاحتلال الاسرائيلي كأمر واقع، وتعمق الإنقسامات العربية وسياسة المحاور والتكتلات واحتدام النزاعات والتي أدت إلى حروب أهلية و احتلالات عربية عربية وحروب عربية عربية.الوحده الداخليه للعديد من البلدان العربيه أضحت مهدده وآخرها انفصال جنوب السودان وتفكك الصومال.
7. النظام العربي ممثلا بالجامعة العربية في حالة شلل وعجز عن حل أبسط القضايا العربية، والتي تترك للقوى الخارجية، ونرى مثلا تعاطي الجامعة العربية مع الصومال والصحراء المغاربية ولبنان، والعراق واخيراً الأوضاع الحرجة في ليبيا واليمن وسوريا، والمحصلة تقدم الدول الكبرى واسرائيل والدول ألإقليمية للتدخل وحسم الأمور لصالحها على حسابنا. هذه هي محصلة العلاقات العربية السلبية والأوضاع المتدهورة في كل بلد عربي بدرجات في السوء.
طرحت قضيه الثورات والإنتفاضات العربية قضيه ألإصلاح بشكل ملح. فعلى امتاد العقدين الماضيين طرحت قضيه ألإصلاح نفسها بقوه. وما اثبته الربيع العربي هو ان الأنظمة العربية عاجزه أو غير راغبة في إصلاح ذاتها. كما بنية المجتمع السياسي وبنية المجتمع المدني وآليات العمل السياسي وتهميش المجتمع المدني لاتتيح إصلاحاً حقيقياً مادام التناوب على السلطة ممنوعاً في ظل احتكار السلطة من قبل عصبة أو أسرة أوحزب واحد. وقد طرحت حركات التغيير مطلب ألإصلاح الشامل والتناوب على السلطة، لكن الأنظمه ظلت تراوغ وتطرح إصلاحات محدودة ودائماً ما كانت متأخرة، بحيث تطورت الأمورإلى خط اللارجعة وطرح شعار "الشعب يريد اسقاط النظام" بدلاً من الشعب يريد إصلاح النظام.
8. ما يميز ثورات وانتفاضات الريع العربي تبنيها خيار السلمية في ألإحتجاجات. ورغم استخدام القوة المفرطة من قبل الأنظمه باختلف الدرجات وصولاً إلى المجازر البشعة وحتى الحرب الفعلية ضد الشعب والعقوبات الجماعية ,إلا ان قوى الثورة أو ألإنتفاضه ظلت متمسكه بسلمية الحركه. حدث هذا في تونس ومصر والعراق ة ، ولا يزال يحدث في اليمن وسوريا، فيما تطور الوضع في ليبيا إلى حرب فعلية. أن ألأنظمة هي من ضيع الفرص لتحول سلمي وهي التي لجأت لى استخدام العنف المفرط، مما يؤدي إلى ألإنزلاق نحو العنف والحرب ألأهلية.
آمال الربيع العربي
بعد عقود من الاحباطات أتى الربيع العربي يثير آمالاً عريضة يمكن لكثير منها ان يتحقق إذا ما احسن استخدام الزخم الجماهيري للتغير وانشغال الغرب في ازمته الاقتصادية. وتكمن الآمال في النقاط التالية:
1. اعاد الربيع العربي الاعتبار للشباب كونهم محركي النهوض الجماهيري وهم بغالبيتهم مهمشون سياسياً واقتصادياً واجتماعياً بفعل النظم السائدة والثقافة العربية والبنية العربيةالمجتمعية التقليدية. أظهر الشباب العربي تمكنهم من تكنولوجيا العصر للاتصالات والتواصل وكسروا احتكار الأنظمة العربية للسياسة والاعلام، واظهروا شجاعة فائقة وقدموا تضحيات جسيمة لم نكن نتوقعها، فقاموا بما عجزت عنه التنظيمات السياسية والنقابية المعارضة رغم اسهاماتها وتضحياتها التي لا تنكر.
كذلك ظاهرة مشاركة النساء بنسبة مرتفعة سواء من حيث مشاركه الشابات في اطلاق وقيادة الثورة والانتفاضة أو مشاركة النساء من مختلف الاعمار في الاعتصامات والاحتجاجات والمظاهرات والاضرابات وسقوط اعداد من النساء شهيدات وتعرضهن للاعتقال والتعذيب أسوةً بالرجال، في ظاهرة غير مسبوقة بهذا الحجم والفعل.
2. كسر حاجز الخوف الذي مكن الأنظمة العربية ان تفرض حكمها المديد، واستطاعت به ان تسيطر على الدولة والمجتمع وتطوع المواطنين، بحيث اضحى اللامعقول معقولاً ومسلماً به. واثبت ان العمل السري في ظل القمع لم يؤد إلى النتيجة بل ان العمل الجماهيري العلني هو الحل.
3. كسرت حلقة الاستعصاء لوضع نهاية للأنظمة المستبدة واللاديقراطية الملكية والجمهورية، من خلال استنهاض الجماهير والتي ابتعدت عن السياسة ولا تنتمي لاحزاب أو نقابات والمتهمة بتخلف وعيها، فأظهرت وعياً متقدماً وحسماً للموقف السياسي وتمسكا بالمطالب المشروعة دون مساومة، وهذا يتضح في مسار احداث ثورة 14 يناير في تونس و 25 يناير في مصر، وكذلك مسار الثوره في اليمن.
4. أعاد الربيع العربي تأكيد الهدف الاستراتيجي الوطني وهو بناء الدولة المدنية الديمقراطية والتي تضمن حقوق المواطنة المتساوية، وان الشعب مصدر السلطات، وانها الجامع لكل مكونات الشعب، وانها الحامي للحريات، وانها المؤطر لطاقات الشعب نحو التقدم والازدهار والعدالة.
5. أعاد الربيع العربي الإعتبار للقضية القومية الأولى قضية فلسطين والصراع العربي الاسرائيلي. ورغم الإنشغال الشديد بالقضية الوطنية و النظام السياسي، الا ان الشعارات التي رفعت في ميدان التحرير اكدت بما لا مجال للشك ترابط قضية الاطاحة بالنظام المصري, نظام كامب ديفيد، المتصالح مع اسرائيل، الخاضع للولايات المتحدة، بقضية استعادة مصر لدورها في الصراع العربي الاسرائيل وتحرير فلسطين وهو الدور التاريخي لمصر.
6. يمكن اجمال الصورة بان الربيع العربي قد اطلق حركة تغيير اجتاحت الوطن العربي من اقصاه إلى اقصاه، واحدثت تغييرات متفاوتة تبعا لظروف كل بلد، وأحيت الأمل في امكانية اسقاط أنظمة أو إصلاحأاخرى والانتقال إلى نظام حكم مختلف، نظام ديمقراطي عصري مدني.
7. انها تفتح الباب أمام نظام عربي مختلف يغادر نهائياً النظام المشلول للجامعة العربية ويؤسس لنظام تكاملي عربي فاعل، حيث تكون المصلحة العربية العليا هي الإعتبار الأول، ولنا في الإتحاد الأوروبي نموذجا رائعاً لكيفية الاندماج التدريجي في كيان واحد لدول وأمم مختلفة، والارتقاء بها جميعا لصالح كل منها ولصالح المجموع.
8. انها تؤسس لنهضة عربيةه جديده تضع العرب مره أخرى على طريق التطور الحضاري واللحاق بمسيره التطور وألأنتماء الى عالم القرن الواحد والعشرين بكل انجازاته وتحدياته والإسهام بقسطها في مسيره البشريه وتحمل مسوؤؤليتها ودورها الذي تستحقه في نظام عالمي عادل.
المخاطر المحدقة بالربيع العربي
تحيط بالربيع العربي مخاطر جمة ومخاوف من تحوله كما طرح البعض الى خريف عربي، أو إلى حمام دم عربي، أو حروب اهلية. كما ان هناك مخاوف من اختطاف الثورة حتى في البلدان التي تخطت عتبة التغيير مثل مصر وتونس. هذه المخاوف جدية، نعم انها جدية، ولا أدل على ذلك من الحرب الاهلية التي تشهدها ليبيا وحمام الدم في سوريا واحتمال حرب أهلية في اليمن، واجهاض الانتفاضة السلميه في البحرين وعمان، فما هي هذه المخاطر؟
1. ان انتفاضة الجماهير العفوية كما حدث في أكثر من بلد عربي، بقدر ما هو ايجابي في اطلاق طاقات جماهيرية هائلة، الا انه يعكس واقعاً سلبياً وهو ضعف وهشاشة المجتمع السياسي والمجتمع المدني بأحزابه ونقاباته ومنظماته. ورغم وجود تعددية سياسة وهامش معقول للحريات كما في المغرب ذات التقاليد السياسية العريقة، إلا ان هيمنة النظام السياسي قوية بحيث تجعل من هذه التعددية غير كافية لتدوال حقيقي للسلطة أو تأمين نظام ديمقراطي حقيقي. عدى ذلك فان غالبية البلدان التي فيها تعددية حزبية شكلية كما في مصر واليمن وسوريا ولبنان والسودان والجزائر والبحرين، وهي تعددية مقيدة وضمن هوامش متباينة لكنها ضيقة ولا تؤدي إلى حراك سياسي قوي، كذلك فإن باقي الدول العربية تفتقد أساساً إلى وجود حزبي أو حتى منظمات مجتمع مدني. وبشكل عام فإن المجتمع المدني ضعيف جداً، وحتى الاشكال الحديثة لتنظيم المجتمع مثل الأحزاب والنقابات والجمعيات الأهلية صيغت احياناً بصيغة قومية أو دينية أو مذهبية أو عرقية، وتراجع دورها كمؤطر لأناس يلتفتون حول برنامج معين، ناهيك عن انسداد آفاق تداول السلطة سلميا. من هنا نرى العجز عن تأطير قوى الثورة وتحالف قواها، بل والشقاق ما بين ما يعرف بقوى الثوره الشبابية من ناحية والأحزاب المعارضة من ناحيه اخرى، كما في مصر وتونس واليمن والمغرب، هذه الوضعية تتيح لقوى ان تختطف الثورة، حيث يتبدى خطر اختطاف الثورة المصرية واليمنية، من قبل قوى تنقض عليها مستغلة هذه التناقضات وانشغال قوى الثوره ببعضها البعض.
ان عقودا من الحكم الاستبداي المديد في اكثر من بلد عربي، وسياسات تمزيق المجتمع، وتهميش المواطنين، وتحويلهم إلى رعايا أضعف كثيراً التنظيمات الحديثة المعبرة عن الطبقات والقوى والمصالح والتكوينات المتباينة للشعب، وبرز ذلك خلال فترة المخاض الثوري، وبالتالي يجعل من ائتلاف هذه القوى حول برنامج مرحلي للانتقال من الإستبداد إلى الديمقراطية مهمة أصعب. من هنا الخوف في ان يتحول التوافق حول شعارات الثورة الأولى من قبل الكتل الجماهيرية إلى شقاق فيما بينها حول برنامج وآليات التغيير كما نراه في مصر أو اليمن وخلافاً واضحاً كما في تونس مثلا.
2. صراعات مكونات المجتمع والثورة
من خلال رصدنا لمسيرة الانتفاضات والثورات التي عصفت بالمنطقة العربية، نلحظ ان مسار الثورة أو الانتفاضة لا يسير بسلاسة أو حتى غيرمضمون النتائج، بل قد يحمل في طياته خطر الارتداد بالأوضاع لأسوأ ما كانت قبل حركة التغيير. في البلدين الذي عبرا عتبة التغيير وهما مصر وتونس لا يزال هناك خطر انزلاق الوضع إلى مواجهة فيما بين مكونات المجتمع التي وحدتها الثورة في مراحلها الأولى. ففي مصر برز السلفيون كقوة خطرة صاعدة وهم الذين لم يسهموا في الثورة وهم حاليا يستهدفون الاقباط والليبراليين والديمقراطيين وشعارهم مصر دولة اسلامية.
الإخوان المسلمون ميزوا انفسهم عن قوى الثورة الأخرى خصوصا شباب ثورة 25 يناير والأحزاب الديمقراطية ويبدوا انهم قد على توافق مع المجلس العسكري ومع الولايات المتحدة لاقامة نظام (اسلامي معتدل) لا يحدث تغيراً عميقاً في الدوله و المجتمع.
في تونس هناك، أيضاً، صراع بين قوى اليسارالراديكالي وعدداً من قوى الثورة، كما ان هناك خلافات بين التيار الإسلامي ممثلا بحزب النهضة وباقي القوى، وان كان حزب النهضة يتصرف بمسؤولية وطنية وواقعية في تعاطيه مع النظام المراد اقامته في تونس .اما، في اليمن فان قوى التغيير موزعة على ثلاث كتل بينها، وهي قوى ميادين التغيير (ثورة 17 فبراير) الجماهيرية ممثلة بالمجلس الانتقالي، واللقاء المشترك لأحزاب المعارضة ممثلا بمجلس الانقاذ الوطني، وتحالف القوى القبلية الذي يقوده حميد الاحمر شيح مشايخ حاشد، وهذه غير متوافقة على برنامج أو حتى خطة للاطاحة بالنظام القديم والنظام البديل والموقف من الساطات وكل له اجندته، ويمكن ان يتطور الوضع إلى مواجهات وخصوصا اذا اقتربت ساعة الحسم.
وعلى خلفية التركيبة القبلية والمناطقية والمذهبية في اليمن، فان ما بدأ كثورة سلمية جامعة لغالبية اليمنيين متجاوزاً السلاح والقبلية والمذهبية والمناطقية، قد بدأ يتحول الى عنف متصاعد. لقد انقسم الجيش اليمني على نفسه، وتجري معارك مابين الجيش وقبائل حاشد، كما تحدث مصادمات فيما بين القوات الموالية للنظام وخصوصاً الحرس الجمهوري وتشكيلات الجيش المتمردة. كما ان وجود حركة الحوثيين المسلحة في الشمال والحراك الجنوبي وتنظيم القاعدة يعقد الموقف.
بالنسبة لسوريا فانها تحتوي على تركيبة دينية ثنائية(مسلمين ومسيحيين) وتركيبة مذهبية (سنة، علويين، دروز، شيعة) وقومية (عرب واكراد) ومن أهم اخفاقات حكم النظام المديد الفشل في دمج مكونات المجتمع السوري، كما ان حكم الحزب الواحد المديد أدى إلى إضعاف المجتمع السياسي والمدني وعدم وجود معارضة منظمة. من هنا نلحظ تشرذم المعارضة وتعدد مراكزها، رغم الإعلان عن لجان تنسيقية للثورة في الداخل كمظلة فضفاضة.
لقد تطور الوضع في سوريا الى مستوى خطير حيث يستخدم النظام القوات المسلحه لقمع الشعب وهي المناط بها حمايه الوطن ومهمه تحرير اراضي الوطن المحتله من قبل العدو الصهيوني . كما عمد النظام إلى استخدام قوات الأمن و ميلشيا مسلحة (الشبيحة) وترتب على ذلك حمام دم من الصعب تجاوزه. هناك خطر استثارة الطوائف ضد بعضها البعض، ، وهناك خطر المواجهة بين الجيش والشعب، وامكانيه تفكك الجيش بسبب هذه المواجهة.
وسوريا كونها على خط المواجهة مع اسرائيل واراضيها محتلة وتشكل جهة الإسناد للمقاومة في فلسطين ولبنان فإن تفكك الوضع الداخلي ينذر بمخاطر وطنية وقومية هائلة.
وفي ليبيا فقد تحولت الانتفاضة السلمية التي انطلقت من بني غازي إلى حرب دموية لها طابع اهلي ايضا، وبقدر ما كانت البداية واعدة بحركة شعبية سلمية تطيح بالنظام فقد تحولت إلى حرب استنزاف مريرة. ومن الواضح ان هناك ولأءات قبلية، يعمل القذافي على استثمارها لصالحه مما قد يجر إلى صدامات قبلية.
أما الخطر الداهم على الثورة فيأتي من دور حلف الاطلسي الذي يعيد الينا كابوس العراق، مما يعني خلاص ليبيا من حكم العقيد المستبد لاكثر من اربعة عقود إلى الخضوع إلى حلف الناتو وتبعاته الخطيرة.
بالنسبة لتجربة الانتفاضة في البحرين، فان العامل الطائفي لعب دور خطيراً في اجهاض الانتفاضة وتعميق الانقسام بين مكوني المجتمع السنة والشيعة.
جاءت الانتفاضة كرد على قصور المشروع الاصلاحي، واستمرار سياسة التمييز المذهبي والتجنيس والفساد والتسلط وطرحت شعار الملكيه الدستوريه الكامله . التمايز المذهبي حقيقة واقعة في البحرين ولم يتحقق الاندماج الكامل بين الشيعة والسنة، فلكل طائفة تمركزها السكاني ومؤسساتها الدينية وارثها التاريخي، وهذا لا ينفي القواسم الجامعة وهي الانتماء الى وطن واحد ودين واحد ونضال مشترك. كما لا ينفي توحد الشعب في منعطفات تاريخية في مواجهة الاستعمار البريطاني، وفي مواجهة اطماع شاه ايران.
لكن دولة الاستعمار بسياساتها عمدت إلى تعميق الانقسام وليس الاندماج. على خلفية المظالم التاريخية والتمييز انطلقت انتفاضة 14 فبراير مؤكدة على السلمية والوطنية الجامعة. ورغم ان قاعدتها العظمى من الشيعة الا ان حركه 14 فبراير وحركة المعارضة عموماً تضم السنة والشيعه.
على هذه الخلفية جرى تعبئه السنة ضد الانتفاضة بتصويرها بانها محاولة انقلاب شيعي سيطيح بالحكم الخليفي وبالسنة في ذات الوقت ويقيم جمهورية اسلامية شيعية. كما ان قيادة الانتفاضة لم تدرك خطورة هذا التوجه ولم تعمل بما فيه الكفاية لطمأنة السنة.
المحصلة هو ان تطور ألإستقطاب الطائفي بين السنة والشيعة وأضحى هناك معسكران معسكر الموالاة ورمزه مسجد الفاتح ومعسكر المعارضة ورمزه دوار اللؤلؤة.
صحيح ان الانتفاضة قمعت بالقوة العسكرية، لكن الصحيح ايضاً ان جزءاً من الشعب بارك وايد هذه الهجمة وما ترتب عليها من اعمال انتقام ضد الشيعة والمعارضة، وتولد شعور طائفة منتصرة مقابل طائفة مهزومة.
في المغرب والذي يعتبر شعبه الاكثر اندماجاً وتعتبر قوى المجتمع المدني الأكثر تطوراً، حيث احزاب المعارضة شكلت أكثر من حكومة، فإن التناقض سياسي بالدرجة الأولى ولم يتخذ انقساماً عموديا. التعارض هو بين قوى الانتفاضة الشبابية حيث لتنظيم العدل والاحسان الاسلامية نفوذ كبير إلى جانب قوى يسارية راديكالية من ناحية وبين قوى المعارضة والحكم من ناحية اخرى. اثبت الملك محمد السادس انه الاكثر ذكاءاً من بين الحكام العرب فقدم تنازلات جوهرية تمثل في اقتراح دستور جديد والتصويت عليه شعبياً في استفتاء في 1يوليو(تموز) وبموجبه يصبح الحكم ملكيا دستوريا برلمانيا. لكن قوى الانتفاضة تعتبر ذلك غير كاف وهي مصره على الاستمرار بالانتفاضة في حين ان قوى المعارضة الأخرى ترى في الإصلاحات الدستورية الطريق السليم، مما جعل المواجهة السياسية مفتوحة بين الطرفين.
اما في الاردن فهناك خطر التمايز الفلسطيني - الشرق أردني في حركة التغيير.الفلسطينيون متهمون بنزوعهم لعدم الولاء للحكم ولذا اختاروا ان يكونوا في خلفية الصورة ، والأردنيون متهمون بالموالاة المطلقة للحكم ولذا تقدموا الصورة لنفي هذه التهمة، واعتقد انه تم تجاوز المشكلة ، لكن الخلاف مستمر بشكل آخر، وهو حول مدى جدية التعديلات الدستورية في احداث إصلاح حقيقي للنظام الملكي.
خطر التدخلات الخارجية
الوطن العربي بدون سياج في غياب نظام عربي فاعل، ولذا فان الأبواب مشرعة للتدخلات الخارجية الاجنبية. ظهر ذلك بشكل واضح في الحرب التي يشنها حلف الأطلسي في ليبيا لصالح المجلس الإنتقالي وضد نظام العقيد القذافي. لا يمكننا الدفاع عن القذافي وجرائمه، لكن حلف الأطلسي له اطماعه والتي تلتقي مع اطماع العدو الصهيوني.
خطر التدخل الخارجي ماثل ايضاً في سوريا، فأمام عنجهية النظام ودمويته تتعالى المطالب بتدخل خارجي لحماية الشعب. أضحى النظام معزولاً عربياً واقليماً ودولياً مما يسهل على اعدائه تسويغ تشديد الحصارعليه وحتى التدخل الخارجي. في هذا الصدد فان تركيا لن تقبل بما يجري في سوريا لأنه سيمتد اليها فوضى ولاجئين وعنف. لذا، فان التدخل الخارجي الغربي قد ينطلق من تركيا حتى ولو لم تشارك فيه بقواتها كما حصل في العراق، وبالطبع ستنتهز اسرائيل الفرصة لتصفي حسابها مع سوريا و حزب الله في لبنان والمقاومة الفلسطينية وقد تجر التطورات إلى حرب ضد ايران للخلاص منها ومن تحالف مايعرف بالممانعه .
وخطر التدخل الخارجي ليس مقتصرا على العرب، ففي اليمن يتزواج التدخل الغربي مع التدخل الخليجي، واذا كانت الدوافع هي الحرص على اليمن من الإنزلاق إلى حرب أهيلية والعبور به بسلام إلى التغيير السلمي، فانها تخفي حرص هذه الأطراف على الابقاء على مصالح جزء من النظام والتحالف القبلي لكي لا تتجذر الثورة .
خطر بقايا النظام السابق
الثورة عملية تغيير شاملة وعميقة في المجتمع والدولة، لكن الأنظمة المطاح بها أو التي تقاوم الاطاحة بها أو حتى إصلاحها سيطرت على الدولة والمجتمع وهي متغلغلة في جميع اجهزة الدولة، ولها نفوذها في المجتمع. من هنا فإن اقتصار التغيير على التشكيلات الفوقيه لن يحدث ثورة ولن يحدث تغييرا. قوى النظام السابق ستعمل على التكييف وتبني شعارات الثورة وفي ذات الوقت اخترافها واحتوائها. ولا ننسى ان الأنظمة الاستبدادية المنهارة قد وصلت إلى الحكم بشرعية ثورية ثم افرغتها من محتواها.
خطر الانهيار الاقتصادي والتفكك المجتمعي
تواجه كل من تونس ومصر واللتان عبرتا عتبة التغيير خطر الانهيار الاقتصادي، ففي ظل حالة الاضطراب وعدم الاستقرار، والاضرابات الواسعة فان البلدين يشهدان تراجعاً اقتصادياً خطيراً وخصوصا قطاعات السياحة والتصدير وعجزاً متزايداً في الميزان التجاري وتآكلاً لإحتياطاته من العملة الصعبة وتوقف ألإستثمارات، واذا ما اقترن ذلك باضطرابات عمالية كما يحدث في مصر وتونس، فإن ذلك سيفاقم الأمور. ذلك يقترن بالتضخم المخيف والتريحات وتقلص فرص العمل وتفاقم البطاله، مما سينعكس وبالاً على الاحوال المعيشية لقوى الثورة والشعب ككل، وقد يقود إلى الفوضى والإنهيار إذا لم يتم تداركه.
ورغم ان دول الثمان الكبرى قد وعدت في قمة دوفيل في يوليو الماضي بتقديم دعم سخي لكل من مصر وتونس دعما للتحول الديمقراطي، إلا ان هذا الدعم لم يتحقق. كما ان دولاً خليجية، وخصوصاً السعوديه وقطر، وعدت بتقديم مساعدات وتسهيلات ماليه لكل من مصر وتونس إلا ان نتائج ذلك غير واضحه.
هذه المخاطر أكبر في بلدان هشه مثل اليمن وسوريا. اليمن كان يعيش أصلا أزمة اقتصادية واجتماعية خانفة، ومع تصاعد الثورة مع ما يصاحبها من شلل اقتصادي، فإن انهياراً اقتصادياً شاملاً قد بدا فعلا.أ اما في سوريا والتي تشهد درجة عالية من العنف، فقد دمر موسمها السياحي وتراجع انتاجها، وستتراجع تحويلات المغتربين السوريين وتتوقف المساعدات من دول الخليج وغيرها مما يدفع بالوضع الاقتصادي إلى الهاوية، لم يبق النظام له الكثير من الأصدقاء . قد يصمد الاقتصاد السوري بضعة اشهر ولكن ليس طويلا.
أما في ليبيا فقد توقف تقريبا تصدير النفط، المصدر الوحيد للدولة والعملة الصعبة ومحرك الاقتصاد، كما ان الملايين من العمالة الاجنبية الذي ينهضون باعباء الانتاج والخدمات غادروا ليبيا مما أدى الى شلل الاقتصاد. المجلس الانتقالي ونظام القذافي سيستنذفان ما لديمها من احتياطي سريعا وبالتالي سيتوقف الانفاق.
هذه جردة سريعة بالآمال والمخاطر، ليس لاحباط الهمم أو اليأس من نجاح الربيع العربي، بل لتدارك هذه المخاطر وتعظيم فرص النجاح.
المصدر: مركز عمان لدراسات حقوق الإنسان 6 آب/أغسطس 2011
|