في مؤتمر برلين الذي عقد في 1884 اجتمعت دول أوروبا الستة الكبرى الاستعمارية وقسمت الدول الواقعة تحت نفوذها فيما بينها. لقد جرى تطبيق معظم توصيات هذا المؤتمر فيما يخص أفريقيا. فرنسا واسبانيا التي لهما مسؤولية تاريخية فيما يجري في المنطقة المغاربية، حصلت نزاعات بينهما فيما يخص المغرب والصحراء الغربية، لكن اتفاقية الدفاع المشترك التي أبرماها أدت لاخماد الثورات التي طالبت بالاستقلال والسيادة. وبعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها كان للدول المنتصرة وعلى رأسها الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي سابقاً أن تستمر بتحكمها بالعالم عبر مؤسسات دولية منها الأمم المتحدة، التي كرست لهذه الدول حق نقض قرارات مجلس الأمن التي لا تناسبها.
وفي الوقت الذي يسعى فيه العالم للوحدة والتآلف بين لغات وعرقيات وديانات، تمارس في منطقتنا التي تتشارك بالدين واللغة والتاريخ سياسة التنازع الاقليمي والدولي وتفتيت السيادة من أجل الهيمنة. أما غياب الرؤيا الجامعة وتغليب المصالح وانحسار دور الجامعة العربية والأخطاء الكبرى التي ارتكبت كان لها أن ترفع من منسوبية الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان العربي. كيف لا ومنطقة الصحراء الغربية تزخر بثروات من الفوسفات والحديد والذهب والنحاس وتطل على حوض سمكي كبير؟ فهل لمثل هذه الثروات أن يتركها لأهلها من استعمر هذه الأرض وإن رحل نظرياً عنها؟
لقد قيض لي بفضل الموآزرين للقضية الصحراوية أن أزور مخيمات تندوف وأشهد ضنك عيش لشعب شرد من أرضه وعاش في ظروف شديدة القساوة. فتساءلت ماذا لو ترك الشعب الصحراوي يقرر مصيره بنفسه ويركن لنتائج استفتاء يتفق عليه محلياً ودولياً بحيث تتحول الصحراء الجرداء لجنات من المزارع والمصانع تضج بالحياة وتزدهر بالاستثمارات ؟ ماذا لو جرى التصالح بعد الانفصال والتمزق، وبني مجتمع سلمي بين مسلمين أخوة، وطويت أحقاد وخلافات الماضي، وأصدر عفو شامل عن كل من قاوم أو حمل السلاح، وترك للبشر أن تفجر طاقاتها الخلاقة لتنعم بخيراتها بدل العيش في أوضاع لجوء وتشرد وضيم حياة؟ فعلى الرغم من المباحثات الدورية التي تجري حالياً بعيداً عن الأضواء الإعلامية بين البوليساريو والمغرب وغيره من مثل اجتماعات مجلس الأمن الدورية والتي كان آخرها في أبريل الماضي يأمل توسيع صلاحيات المينورسو لتشمل مراقبة احترام حقوق الإنسان في الصحراء الغربية، ما زال الحل يبدو بعيداً.
كذلك، فإن هذه القضية إن لم تكن شبه منسية، هي عموماً غير معروفة، خاصة في المشرق الذي يشعر أنه منفصل عن المغرب. عندما كنت أطرحها للنقاش في محيطي الحقوقي كنت غالباً ما أسمع أجوبة من نوع : لماذا التقسيم والدخول في لعبة الخلافات والتجاذبات الدولية والاقليمية بدل المساعدة على الضم والتوحيد على قاعدة المغرب العربي الكبير، خصوصاً في منطقة لم تعرف بعد الدولة المركزية؟ إلا أن المفاوضات الجادة بين الأطراف المعنية وتوفر الارادة للمزاوجة بين الشرعية والعقلانية والموضوعية هي الطريق الوحيد للخروج بحل عادل يرضي الجميع في تقرير مصير الشعب الصحراوي، بشرط أن لا تتدخل الأيادي الخارجية بشكل أو آخر لحرفه عن مساره الصحيح. كمتتبعة عن كثب لانتخابات رئاسية وبرلمانية أعلم كيف تزرع الألغام في سيرورة ديمقراطية وتفبرك النتائج.
وحيث أن القضية الصحراوية لم تأخذ زخماً كافياً في الإعلام عموماً والعربي خصوصاً، يفترض التفكير بشكل جدي بطرق عصرية لاعلام مكتوب ومسموع ولطرق أبواب الاعلام المرئي عبر فضائية مختصة تعرّف بهذه القضية التي مر عليها عقود من الزمن وتوالدت خلالها أجيال منسية ومهضومة الحقوق. إعلام يشدد على المشتركات وليس الفوارق، يهدف لجمع شمل من تفرق، يحشد لرفع الحصار عن شعب يحق له العيش كسائر البشر ولإخراج مساجين من ظلمات لم يكن لهم من جريمة سوى الدفاع عن حقهم وحق شعبهم في حياة حرة وكريمة.
بهذه المناسبة وفي هذا الموضوع بالتحديد، لا بد لي من التنويه إلى أنه رغم إفراج السلطات المغربية المؤقت في 13 من هذا الشهر، بعد 7 أشهر من الاعتقال الاحتياطي في السجن المحلي بمدينة العيون، عن آخر مجموعة من معتقلي قضية مخيم " اكديم إريك " ومظاهرات مدينتا العيون والمرسى، لا زالت مجموعة من الشبان الصحراويين تواصل أمام مقر المقاطعة الخامسة بمدينة كليميم، إضرابها المفتوح عن الطعام منذ 12 أبريل / نيسان 2011. وذلك احتجاجا على التهميش والحرمان من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية ومن العمل والعيش الكريم. كذلك لا زال 10 معتقلين سياسيين صحراويين يخوضون إضرابا مفتوحا عن الطعام منذ 23 و 31 ماي / أيار 2011 بالسجنين المحليين بأيت ملول وتزنيت في المغرب، تنديدا بالنقل التعسفي إلى سجون تبعد مئات الكلمترات عن عائلاتهم. نلفت لآثار هذه الإضرابات المفتوحة عن الطعام على السلامة الجسدية والنفسية وللمضاعفات الخطيرة التي تمس حق المضربين في الحياة.
وحيث أن هذه المداخلة تندرج في حقبة تشهد منذ عدة شهور تحولات كبرى في العالم العربي مع قيام ثورات واشتعال احتجاجات على كيانات ونظم قاسمها المشترك الفساد والاستبداد كما القمع الوحشي للتحركات المطالبة بالتغيير والاصلاح، في حين أن الحق في التحرر من الاستعمار الذي حمل هذه النظم للمنطقة العربية كالحق في مقاومة الاستبداد الداخلي ونشدان الحرية وتقرير المصير، أقول أن المعارك لانتزاع الحقوق والحريات واحدة في كل مكان. أما سياسة اللعب على الوقت والهرب للأمام لا يمكن إلا أن تؤجج الحرائق وترفع من وتيرة الإحباط وتكلفة القمع مع تمرّس الشعوب في أساليب المقاومة السلمية رغم الثمن الباهظ الذي تدفعه من حياتها.
أخيراً، إن التغاضي عن هذا الواقع المرير والتبرير له ضمن آليات دفاعية أبرزها النفي يذكر بمأثورة " قتل امرئ جريمة لا تغتفر، وقتل شعب مسألة فيها نظر". لكن لا يمكن الاستمرار في نهج تغطية الشمس بالغربال ودفن الرأس في الرمالـ، فما كان قبل زمن محجوبا عن السمع والابصار أصبح اليوم اكثر عرضة للانتشار مع تحرك الشارع العربي. لقد بات المجتمع المدني، أكان في العالم العربي أم الغربي، معنياً بمصير بعضه البعض وأكثر حراكية لاحترام القوانين والأعراف الدولية، لاسيما وأنه لا يمكن نشدان الاستقرار والأمان عندما تهدر كرامة الآخر وتتعرض حقوقه للانتهاك.
ومع ذلك، المظاهرات السلمية المستمرة التي يقابلها عنف إجرامي يندى له جبين البشرية لا يعرها الإعلام الموجه أكان غربياً أو عربياً الانتباه إلا بما يتوافق مع مصالح الدول التي تتحكم بتمويله وسياساته الاعلامية. بما يؤكد على المعايير المزدوجة في التعاطي مع حقوق البشر بالنظر لمولاتهم أو ممانعتهم للمخططات الأجنبية وفي مقدمتها أمريكا وإسرائيل. ورغم أن سياسة العنف المفرط في مواجهة الجماهير المطالبة بالديمقراطية والحرية والكرامة قد أدت في بعض هذه البلدان للإطاحة برأس النظام القائم وتوجيه اتهامات له من المجتمع الدولي بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، فما زال هذا النهج هو الأغلب في بقية البلدان التي انتفض شعبها، بمساندة أحزاب الأغلبية الحكومية وأحزاب المعارضة الرسمية ودول ذات فاعلية في النظام الدولي.. فهذه الأنظمة المتكلسة ليست قادرة بنيويا على مواكبة مطالب التغيير والاصلاح واحترام أساسيات التعددية السياسية والتداول السلمي على السلطة.
مداخلة في مدينة اراس الجزائرية في 19/06/2011
|