لم تكن إطاحة مبارك نقطة النهاية في الثورة. فانتصارات الثورة المصرية لا تزال تتوالى. انتصارات كانت بعيدة حتى عن الأحلام، عندما كانت أقصى طموحات المعارضة أن يتدخل القدر لإنهاء حكم مبارك. وآخر تلك الانتصارات يطول الرؤوس الكبيرة : مبارك وعائلته في أقفاص الاتهام، وحزبه الذي اكتسح آخر انتخابات برلمانية منذ شهور قليلة، أصبح على هامش التاريخ. إجراءات ما كانت لتُتخذ لولا استمرار التعبئة الجماهيرية التي خلقتها الثورة، حتى في اللحظات التي تنسحب فيها قوى بحجم الإخوان المسلمين وغيرها، لكن القفزات العظيمة التي أحرزها الشعب المصري بتضحيات الثوار لا تزال تدور في فلك التغيير السياسي وتوجيه المجتمع نحو الديموقراطية، وإن على نحو جذري يتناسب إلى حد ما مع اللحظة الثورية، لكن النظام الاقتصادي والاجتماعي الأساسي، الذي بناه مبارك خلال سنوات حكمه الثلاثين، لم تقترب منه الثورة بعد. وكل ما يجري على الصعيد الاقتصادي يتعلق بقضايا الفساد المالي والإداري للمتنفّذين في عهد مبارك، لا بصلب النظام الاقتصادي، الذي يمنح مزايا غير محدودة للمستثمرين من دعم صادرات ودعم طاقة وإعفاءات ضريبية وتسهيلات وغيرها. من الصعب جداً التفكير في أنّ الملايين التي انطلقت في الثورة، وقهرت جهاز القمع الرهيب لمبارك، ولم تتردد في التضحية والمواجهة، ستقبل أقلّ من تغيير حقيقي في حياتها وظروف معيشتها. فهل من المنطقي أن يعود الشعب الثائر من ميادين الثورة بعد إطاحة مبارك إلى العشوائيات والمقابر ويستمر في الوقوف في طوابير الخبز والبطالة والاكتواء بالأسعار، مكتفياً بما حققه من منح قادة المعارضة الحق في الترشح والفوز في انتخابات رئاسية وبرلمانية؟ الإجابة تأتي حتى قبل طرح السؤال.
فقبل الثورة وأثناءها وبعدها، انطلقت في مصر موجة نضال عمالي واجتماعي من أجل تحسين الأجور وظروف المعيشة، لم تشهد البلاد مثلها، منذ أربعينات القرن الماضي. وقررت الحكومة ووسائل الإعلام أن تطلق عليها أخيراً، مصطلح « الاحتجاجات الفئوية »، في محاولة منها لإخفاء طابعها الكفاحي وتصويرها كحركة « خارج نطاق الثورة »، لكن من ناحية أخرى، لم تتردد الحكومة في إطلاق الوعود برفع الحد الأدنى للأجور وتحسين الأوضاع الاجتماعية، إلّا أنّه إلى أي مدى يمكن أخذ تلك الوعود بجدية؟ الواقع أنّه مع تأكيد الحكومة الدائم على حفاظها على نظام اقتصاد السوق، وجذب المستثمرين وتحفيزهم، ورفضها إجراءات من قبيل فرض ضرائب تصاعدية على الدخل بحجة أنّها ستؤدي إلى هروب المستثمرين ومراجعة صفقات الخصخصة، واسترداد المشاريع التي بيعت بصفقات فاسدة، أو أي إجراءات أخرى تمثل خفضاً للامتيازات التي حصل عليها رجال الأعمال في عهد مبارك، تثور الكثير من الشكوك بشأن فهم الحكومة لمعالجة قضية العدالة الاجتماعية. فما تطرحه الحكومة اقتصادياً، حتى الآن، لا يختلف عما ظل يحدث على مدار العقدين الماضيين، وهو أنّ جذب المستثمرين عبر خفض الضرائب والتسهيلات والحوافز والدعم سيؤدي بالضرورة إلى تنشيط الاقتصاد، وبالتالي إلى خلق فرص عمل جديدة، ورفع مستويات المعيشة. ما حدث أنّ سنوات تطبيق تلك السياسة كانت سنوات الإفقار والبطالة وارتفاع الأسعار وتدهور مستويات المعيشة، فضلاً عن النتائج المتواضعة في جذب الاستثمارات. والحقيقة أنّه لا يمكن تحقيق إصلاحات اجتماعية واقتصادية جادة، تنعكس إيجاباً على معيشة الفقراء، إلا عبر إعادة توزيع الناتج القومي بدرجة معينة من العدالة. فتحقيق أي إصلاحات اجتماعية لن يكون إلا بتخفيف الأعباء عن الفقراء، وزيادة الإنفاق على الصحة والتعليم والسكن، وزيادة دعم السلع الأساسية والخدمات والمرافق، ورفع مستويات الأجور وخلق فرص عمل وصرف إعانة بطالة. وهو ما لا يمكن أن يحدث إلا عبر توفير موارد مناسبة، دون الضغط على الموازنة العامة للدولة، بالعجز أو الديون.
الطريق الممكن لتوفير التمويل المناسب للإصلاحات الاجتماعية هو تحويل الدعم الموجه إلى المستثمرين، مثل دعم الصادرات والكهرباء والغاز والبترول للشركات، إلى دعم للفقراء. فليس من المنطقي أن تظل قيمة الدعم الموجّه إلى السلع التموينية 13.6 مليار جنيه، وهو الدعم الذي يستفيد منه عشرات الملايين من الفقراء، بينما تدعم موازنة الدولة كبار المصدرين بأربعة مليارات، ويصل دعم المواد البترولية إلى 74 مليار جنيه أيضاً، يستفيد من معظمها أصحاب الشركات وكبار المستثمرين. كذلك، لا يساعد النظام الضريبي، الذي يساوي في نسبة الضرائب بين من يحصل على دخل سنوي قيمته 40 ألف جنيه، أي أقل من 3400 جنيه شهرياً، ومن يحقق أرباحاً بمئات الملايين. إذ يضع القانون نسبة موحدة للضرائب، هي 20% على الدخل لأربعين ألفاً فما فوق، بدون حد أقصى، مع إعفاءات تصل إلى عشر سنوات لمشاريع رجال الأعمال.
الاختيار ما بين تحسين أوضاع الفقراء وتدليل المستثمرين أمر حتمي، ولا يمكن الفرار منه بعبارات من قبيل « التمسك بسياسات السوق الحرة مع مراعاة البعد الاجتماعي ». العبارة نفسها التي ترددت على مدار سنوات حكم مبارك، ولم تنتج سوى الإفقار. إذا لم تتدخل الدولة على نحو مباشر من أجل تحقيق درجة من العدالة في توزيع الدخل عبر الضرائب والدعم والأجور والإنفاق العام، فسوف تتجه الأوضاع نحو الأسوأ، ولن تظل حتى في وضعها الحالي. فأسعار الغذاء العالمية تسجل، وفقاً للفاو، مستويات قياسية، وكذلك أسعار البترول التي ألهبتها الثورات العربية، ما يهدد بموجة شديدة من ارتفاع الأسعار محلياً. والثورات المشتعلة في المنطقة بدأت تعيد أعداداً من العاملين المصريين في الخارج، مؤثّرين بذلك في التحويلات القادمة من الدول الأخرى، كما أنّ نسبة البطالة في الداخل والأزمة الاقتصادية العالمية، تضعان حدوداً لحجم الدعم والمساندة الواردين من الخارج، كما أنّ تجربة دعم اليونان من جانب الاتحاد الأوروبي مقابل خطة التقشف ليست ملائمة لمجتمع لا تزال ثورته تتفاعل بقوة، كالمجتمع المصري. أضف إلى ذلك تردد رؤوس الأموال في الاستثمار في مصر حالياً، وتأثر السياحة بأحداث الثورة.
عوامل الأزمة تتجمع وتطرح سؤالها الرئيسي : من سيدفع ثمن الأزمة، الفقراء كالعادة، أم أنّ الثورة قد غيّرت بما يكفي لتعفي الفقراء من بعض المعاناة؟ كما قلنا، لن تكفي أبداً العبارات المرنة والمطّاطة للإجابة عن سؤال كهذا، اليوم، بل التوجهات المباشرة والصريحة والتغيير في السياسة الاقتصادية، وهو ليس بالأمر السهل بالمرة، فالشعار الذي ردده كل المصريين في الثورة هو « إيد واحدة »، للتعبير عن وحدة الجميع في مواجهة الدكتاتور ورجاله، لكن عندما تبدأ المطالب الاجتماعية تفرض نفسها فإنّ الأمر يصبح مختلفاً. فهناك عمال يريدون زيادة في الأجور وأصحاب أعمال يقاومون، وهناك سكان العشوائيات الذين يريدون حياة أفضل، ومستثمرون يريدون الاحتفاظ بامتيازاتهم. وهناك أيضاً الحكومة الجديدة، التي ستضطر إلى الاختيار عاجلاً أم آجلاً. لا يمكن فهم الوضع كما يجري تسويقه أحياناً، بأولوية الإصلاح السياسي والديموقراطي، لإعطاء فرصة للنمو وتحسين الأوضاع لاحقاً. فتجاهل الإصلاحات الاجتماعية، في حد ذاته، إهدار للديموقراطية. وليس غريباً أنّ موجة الهجوم على الاحتجاجات العمالية والاجتماعية، ووصفها بالحركات الفئوية، قد أعقبها إصدار قانون لمنع الإضرابات ومعاقبة من يمارسها أو حتى يدعو إليها بالحبس والغرامة. قانون لم يصدر حتى في أسوأ عهود الاستبداد. وبالفعل، إذا لم تتوجّه الحكومة نحو حسم تحسين الأوضاع الاجتماعية وتلبية مطالب القطاعات الفقيرة، فليس أمامها حلّ آخر سوى قمعهم، مجهِزةً بذلك على أي مكاسب ديموقراطية للثورة. الخيارات تبدو واضحة جداً، لكن مثال من التاريخ قد يبين طبيعة تلك الخيارات. عندما وضع نظام عبد الناصر خطته التنموية الأولى في 1957، أسند 60% من الخطة إلى القطاع الخاص، وهي الخطة التي فشلت بامتياز، بسبب إحجام الرأسمالية عن المخاطرة في مجتمع يتغير، ما دفعه إلى إصدار قوانين يوليو/ تموز الاشتراكية في 1961. وبغض النظر عن تقويم التجربة والموقف منها ونتائجها، فإنّها توضح مدى جدوى الاعتماد على الرأسمالية، مع الفارق طبعاً بين الوضع الجماهيري في عهد عبد الناصر واليوم، الذي يجعل الرأسمالية أكثر تردداً.
المصدر: موقع الأفق الالكتروني / 12/05/2011
|