ما يجري الآن على الساحة العربية، خاصة في تونس ومصر، يثير القلق مع علامات استفهام كبيرة حول مصير الإصلاح في هذين البلدين. فقد انتشرت مؤخرا، وعلى نطاق واسع في الصحف المحلية، حالة من التشكيك الذي وصل أحيانا إلى درجة الإحباط بسبب ما أسموه «الثورة المضادة «. فهناك قوى داخلية، تونسية ومصرية، إلى جانب قوى إقليمية ودولية، فاجأها السقوط السريع للنظام السياسي فيهما، ثم سارعت إلى التماسك والعمل المنظم لإفشال الانتفاضات الشعبية أو منعها من تحقيق أهدافها.
صحيح أن إسقاط النظام السياسي في كلا البلدين تم بسرعة قياسية خلال أيام معدودة بفضل الجماهير الشعبية المليونية التي احتشدت في شوارع المدن .
الآن، بعد أكثر من مئة يوم على نجاح الانتفاضتين، تبرز إلى سطح المجتمعين التونسي والمصري أحداث خطيرة تذكر شعبيهما بالممارسات السابقة على سقوط النظامين. وهي تثير قلق المواطنين لأسباب عدة منها غياب الشرطة عن مراقبة الأعداد المتزايدة من البلطجية، وتركهم يمارسون أسلوب البلطجية. كما كانوا في السابق من جهة، أو قمع الشرطة وبعض القوى العسكرية للتظاهرات الشبابية السلمية التي تحاول تصويب مسار الانتفاضة في البلدين من جهة أخرى. وذلك يطرح تساؤلات عدة يصفها بعض المحللين بالثورة المضادة أو المؤامرة الخارجية كما هو مألوف عند من أدمن الكسل الفكري.
1- أعداء الثورة أو الانتفاضة في الداخل، ليسوا من صنع خارجي أو مستورد من الخارج. بل يعبرون عن قوى معادية للانتفاضة لأنها أضرت كثيرا بنفوذهم ومصالحهم الشخصية والطبقية معا. ويأتي في طليعة هؤلاء رموز النظام السابق في كلا البلدين ممن يملكون ملايين الدولارات، وهم على استعداد لدفع الكثير منها تجنبا للمحاكمة والسجن ومصادرة الأموال. ولدى هؤلاء شبكة واسعة جدا مع الحلفاء في القوى العسكرية، النظامية منها والشرطة، وقادرون على التخريب وإفشال الانتفاضات الشعبية التي أخرجتهم من الحكم، وزجت ببعضهم في سجون السلطة التي كانوا من أبرز حماتها لعقود طويلة.
2- تصنف اسرائيل في طليعة القوى الإقليمية المعادية للانتفاضة المصرية التي أدخلت تعديلات مهمة في سياسة مصر الخارجية خلال أشهر معدودة. ففي المئة يوم المنصرمة على نجاح انتفاضة الشباب تبلورت سياسة مصرية جديدة هدفها تحقيق المصالح الوطنية للشعب المصري، وإعادة النظر في الاتفاقيات السابقة مع إسرائيل لتحديد سعر عادل لبيع الغاز المصري المصدر إليها، وفتح معبر رفح لفك الحصار عن غزة، وإبرام اتفاق المصالحة بين الفصائل الفلسطينية بالقاهرة، والعمل على تصويب العلاقات مع إيران، واسترجاع دور مصر في محيطها العربي والدولي، وغيرها. 3- توقعت الشعوب العربية أن تقدم كل من تونس ومصر نموذجا متميزا عن مستقبل الدولة العصرية الديموقراطية في الوطن العربي. لكن جماعات البلطجية المحمية جيدا من بعض الأجهزة الأمنية، إلى جانب بعض القوى الأصولية المتزمتة والمنظمة تنظيما دقيقا عرفت كيف تثير الرعب في كلا البلدين. فقامت بأعمالها الإجرامية تحت غطاء أمني واضح، ومارست الإرهاب المنظم لإدخال البلدين مجددا في سلسلة من الصدامات الدموية على أمل تثبيت الوضع القائم بحيث تستمر القوى القديمة في الســيطرة على نبض الشارع، في حين تبقى القوى العسكرية السابقة في مواقع ثابتة تسمح لها بحماية قوى الفساد والإفســاد. فقد تضررت تلك القـوى جزئيا فقط عند انتــصار الثورة ثم عادت لتشن هجوما مضادا على جميع المستويات، مقرونا بمسلسل طويل من أعمال التخريب الأمني والاقتصادي، والاجتماعي، لمنع القيام بأي إصلاحات جذرية تطول مراكز القوى الاقتصادية والمالية في تونس ومصر.
4- هناك من صفق طويلا لعفوية الجماهير الشعبية التي نجحت في إسقاط النظامين دون أن تكون لها نظرية ثورية، أو قيادة معروفة، أو برامج محددة للتغيير. لكنهم تناسوا الذهنية السائدة في أوساط تلك الجماهير. فقد استندت الانتفاضات، في جانب أساسي منها، إلى الطبقات الفقيرة أو الوسطى التي ينتمي معظمها إلى مجتمع أهلي منفعل كثيرا بالشعور الطائفي والتقاليد الموروثة السابقة على قيام الدولة العصرية. واستخدمت جماعات منها لإخضاع الشعب المنتفض من طريق أجهزة القمع، والبلطجية، والقوى الخارجة على القانون لكنها محمية من رموز النظام السابق، السياسية منها والعسكرية. وما زالت جماعات منها تستخدم اليوم لإرهاب قوى التغيير، وإضعافها ومنعها من تشكيل أحزاب سياسية جديدة تتبنى الديموقراطية أو الليبرالية أو العلمانية. وهي تعيق التنسيق داخل النقابات المهنية، وبين المنظمات والنوادي النسائية والشبابية، والأحزاب الليبرالية ذات التوجه الديموقراطي لبناء نظام عصري في كل من تونس ومصر يشكل نموذجا يحتذى لدول عربية أخرى.
5- أثبتت انتفاضات تونس ومـصر أن الغالبية الساحقة من الدول العربية لا تتمتع بمواصفات الدولة العصرية. ورغم مئـات مليارات الدولارات التي دخلت خـزائن الدول النفطية، لم تســتطع تلك الدول أن تنجز مهمات التنمية البشرية والاقتصادية والاجتماعية المستدامة. كانت الأوضاع أشد سوءا في الدول العربية الفقــيرة. وما ان اندفعت مجموعات قليلــة من الشــباب في تونس ومــصر إلى الشارع تنادي بإسقـاط النظام التسلطي حتى التفت حولها الجماهير الشعبية وحمتها. فسقط بعض رموز النظام دون أن تسقط ذهنيـة الدولة التسلــطية السابقة التي ما زالت حتى الآن تبرز وجهها الحقيقي. فهي دولة قمعــية ذات بنية متخلفة تقوم على الفساد والإفساد، تحمي الفاسدين وتستخدم القوة لمنع الإصلاح أو التغيير الـجذري. وهي مستمرة في قمع أحلام شعــوبها بالتغيير عبر قواها النظامية أو بالتعاون مع قوى سياسيـة ترفض قيام نظام ديموقراطي حقيقي ومنفتح على العلوم العصرية، والتكنولوجيا المتطورة، وقادر على مواجهة تحديات العولمة. وبات نجاح الانتفاضة اليوم رهن بقيام دولة القانون، وتنظيم عمل المؤسسات، ومعاقبة الفاسدين أو الإساءة إلى الوظيفة والمال العام أو استغلالهما لمنافع شخصية، وحسن اختيار أصحاب الكفاءة العلمية والنزاهة الخلقية لتولي الوظائف، وغيرها.
لقد نجح الشباب العربي في إسقاط بعض الأنظمة العربية على أمل بناء مستقبل عربي أفضل. والمواطن العربي في الدول المنتفضة هو اليوم أكثر حرية في التفاعل الإيجابي مع دولته، ويطالبها بفك ارتباطها التبعي مع الخارج، وتبني استراتيجية جديدة تقوم على الترابط الوثيق بين المجتمع السياسي والمجتمع المدني. وتحتل الدولة المركزية العصرية موقعا متقدما في حماية المجتمع المنتفض لدرء مخاطر النزاعات الطائفية والاجتماعية. ولم يعد الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي فيها يحتمل التباطؤ في ظل التفكك القائم داخل الانتفاضات الشبابية من جهة، والتطورات الإقليمية والدولية المتسارعة من جهة أخرى.
|