تقرير قصير (19 صفحة) ولكنه يكشف عن معضلة تواجهها أميركا في التعامل مع الاضطرابات السياسية التي شهدتها البحرين مؤخرا، معضلة مفادها أن الولايات المتحدة تتعاطف مع الحقوق السياسية لشيعة البحرين وتريد الدفع في اتجاه منحهم مزيد من تلك الحقوق، ولكنها تخشى في نفس الوقت من صعودهم السياسي لاعتبارات أمنية بالأساس تتعلق بتخوف أميركا من تقارب شيعة البحرين من إيران وقضائهم على الوجود العسكري الهام لأميركا بالبحرين في حالة تمكنهم من السلطة.
لشرح تلك المعضلة يتعرض التقرير - بقدرة بحثية مميزة كعادة تقارير خدمة أبحاث الكونجرس الأميركي التي تعد لأعضاء الكونجرس بالأساس - لمعضلة البحرين نفسه، وهي معضلة مركبة يصعب حلها بسهولة وذلك لتداخل أسباب متعددة ومعقدة تاريخية وجيوستراتيجية وديمغرافية.
معضلة البحرين
على الجانب التاريخي يشير التقرير إلى سيطرة ما اسماهم "بمستعمرين فارسين" على البحرين في القرن الثامن عشر حتى جاء آل خليفة (حكام البحرين حتى الآن) من شبه الجزيرة العربية وسيطروا على البحرين لتبدأ فصول قصة البحرين المعاصرة وعنوانها أقلية سنية تحكم أغلبية شيعية (حوالي 70% وفقا للتقديرات الأميركية) وسط صراع عملاق سني (السعودية) وأخر شيعي (إيران) وتحت حماية دولية (بريطانية ثم أميركية).
وهذا يقودنا إلى البعد الجيوستراتيجي للأزمة، فالبحرين دولة صغيرة من حيث المساحة والسكان (503 ألف نسمة)، والميزانية (6 بليون دولار سنويا يقابلها 11 بليون دولار من الديون المتراكمة)، وحجم القوات المسلحة (13 ألف جندي بقوات الدفاع البحرينية و1200 عنصر من قوات حرس الحدود).
وهي محاطة بعملاقين، أحدهما شيعي صاحب مطالب تاريخية في البحرين ولا يتواني بعض قياداته السياسية والإعلامية عن وصف البحرين بأنها المحافظة الإيرانية رقم 14، وعملاق ثاني سني يخشى صعود شيعة البحرين خوفا من تقوية شيعة السعودية (يقدرهم التقرير بحوالي 10% من سكان السعودية).
حتى أن نسخة سابقة من التقرير صدرت في 10 مارس الماضي تحدثت عن مخاوف أو "توقعات باحتمال تدخل السعودية لمنع سيطرة حكومة شيعية على السلطة في البحرين" على أثر الاضطرابات الأخيرة.
أما التقرير الحالي الصادر في 21 مارس فيقول أن دعوة البحرين لتدخل قوات الخليج لمساعدتها في مواجهة الإضرابات جاءت "مخالفة لنصائح إدارة أوباما".
ويقول التقرير أن التنافس الإيراني السعودي على النفوذ في البحرين دفع البحرين دوما للاعتماد على حماية طرف ثالث دولي قوي يوازن الجارين الإقليميين، وبهذا اعتمدت البحرين على حماية بريطانية ثم أميركية.
هنا يقول التقرير مباشرة "أن البحرين – في مقابل ضمانات أمنية أميركية ضمنية – قدمت دعم محوري لمصالح أميركا باستضافة مقر البحرية الأميركية في الخليج لأكثر من 60 عاما وبتقديم مرافق وعدد قليل من الجنود (للمشاركة) في جهود أميركا الحربية في العراق وأفغانستان".
ولتعقيد الأوضاع الجيوستراتيجية للبحرين أكثر يقول التقرير "بالنسبة للقضايا الإقليمية كالصراع العربي الإسرائيلي مالت البحرين لإعطاء السعودية أو قوى إقليمية أخرى القيادة في صياغة العروض أو تمثيل موقف دول الخليج الجماعي".
كما يقول "لدرجة كبيرة - ولكي تحافظ البحرين على جيرانها الأقوياء تحت الرقابة - ربطت البحرين من فترة طويلة أمنها بأمن الولايات المتحدة، وقد استفادت جهود أميركا لمواجهة التهديدات في العراق وإيران وأفغانستان من وصولها للمرافق البحرينية".
وتوضع الفقرات السابقة مدى تعقد التنافس الجيوستراتيجي بين القوى الإقليمية والدولية بالبحرين ومدى تعقد الوضع الإستراتيجي هناك.
أغلبية شيعية
البعد الثالث - وهو الأكثر تشابكا وتعقيدا وحراكا - هو البعد البشري أو الديمغرافي، وهو ناتج عن حكم أقلية سنية لأغلبية كبيرة (حوالي 70%) شيعية، واستئثار الأقلية بمميزات كبيرة تفوق حجمها بالنسبة لعدد السكان كما يبرز التقرير.
على المستوى الاقتصادي يمتدح التقرير البحرين لقدرتها على تنويع اقتصادها رغم ندرة مواردها النفطية بتوجهها نحو قطاع الخدمات المالية (25% من الدخل) وبعض الصناعات، ويقول أن هذا أدى إلى قيام طبقة عاملة ووسطى نشطة، ولكنه يعود ويقول أن الطبقتين السابقتين تتكونان "في الجانب الأكبر من الأغلبية الشيعية والذي يشعرون بالحسد (أو الغيرة) على "طبقة الملكية (المالكة)" وغالبيتها سنية".
وعلى المستوى الأمني يقول التقرير أن "قوات الدفاع البحرينية والشرطة يقوهما سنة بحرينيون، وهؤلاء يدعمون فرقهم بنسب غير معروفة من المجندين السنة من دول مجاورة كباكستان واليمن والأردن، والعراق، ودول وأخرى"، كما يقول أن "الشيعة ممنوعون بشكل عام من الخدمة في القوات الأمنية".
على المستوى السياسي يشير التقرير إلى تحسن الأوضاع السياسية في البحرين في ظل حكم ملك البحرين الحالي حمد بن عيسى آل خليفة مقارنة بوالده الشيخ عيسى بعد إصلاحات سياسية أدخلها الملك حمد منذ توليه الحكم في عام 1999 بعد أن شهدت البحرين فترة من الاضطرابات السياسية في البحرين في منتصف التسعينيات.
وقد تضمنت إصلاحات الملك حمد صياغة وثيقة دستورية جديدة (ميثاق العمل الوطني لعام 2002)، وعقد انتخابات برلمانية دورية كل أربع سنوات، وتعيين وزراء شيعة، وإتباع مبدأ الإصلاح السياسي والحوار بشكل عام.
ولكن يبدو أن تلك الإصلاحات لم ترتق لتوقعات الأغلبية الشيعية لأسباب مختلفة.
إذا يقول التقرير أن انفتاح الملك النسبي وولي عهده قابله تشاؤم بعض كبار أعضاء العائلة المالكة من جدوى تلك الإصلاحات، وعلى رأسهم رئيس الوزراء البحريني (عم الملك) ووزراء آخرون.
ثانيا: الإصلاحات السياسية لم تعط الأغلبية الشيعية سلطة صناعة القرار أو حتى الأغلبية في البرلمان البحريني، فالبرلمان مقسم لمجلس نواب منتخب ومجلس شورى معين يتمتعان بنفس العدد من المقاعد، وقد طالب الشيعة بزيادة عدد مقاعد مجلس النواب المنتخب ولكن ذلك لم يحدث.
كما فشل الشيعة في الحصول على أغلبية مقاعد مجلس النواب البحريني في الانتخابات البرلمانية الثلاثة التي عقدت حتى الآن منذ عام 2002 على الرغم من كونهم أغلبية سكانية، وهو أمر دفع بعضهم لمقاطعة تلك الانتخابات.
وهنا يقول شيعة البحرين أن الدوائر الانتخابية تقسم بشكل يحرمهم من تحقيق الأغلبية، كما يشتكون من حملات اعتقال تطال بعض قياداتهم وزيادة وتيرة التوتر الطائفي والسياسي قبل كل انتخابات، كما يشتكون أيضا من اعتداءات مختلفة على حقوقهم السياسية.
وهنا يبرز التقرير انقسام شيعة البحرين إلى جماعات بعضها أكثر انخراطا في العملية السياسية كجمعية الوفاق وبعضها أكثر تشددا وتشاؤما من جدوى المشاركة السياسية ضمن النظام السياسي الحالي كجمعية حق، وهنا يرصد التقرير فشل جمعية الوفاق من الفوز بأغلبية مقاعد مجلس النواب البحريني في الانتخابات الأخيرة (2006 و2010) وإلى أن نواب الجمعية وعددهم 18 انسحبوا من البرلمان البحريني بعض الصدامات المسلحة التي تخللت الاضطرابات الأخيرة.
ويلاحظ هنا أن الأحزاب السياسية ممنوعة قانونيا في البحرين لذا ينظم البحرينيون أنفسهم وفقا لجمعيات لا أحزاب.
ويقول التقرير أن الإسلاميين السنة تعرضوا لخسائر متزايدة في الانتخابات النيابية الأخيرة (2010) بسبب ميل الناخب البحريني لانتخاب نواب غير مؤلدجين معنيين بالملف الاقتصادي بالأساس وبالتنمية وبإيجاد حلول لمشاكل البحرين الاقتصادية.
مصالح أميركا
في مقابل الرؤية السابقة تقف أميركا موقف مزدوج فهي تشجع حصول الشيعة على مزيد من الحقوق السياسية ولكن تخشى وصولهم للسلطة، ولكي نفهم حقيقة هذا الموقف والذي سوف نشرحه بالتفصيل فيما بعد يجب التوقف عن قضية أساسية وهي مصالح أميركا في البحرين.
وهنا يجب الإشارة إلى مركزية الأمن، أو إلى "مركزية" القضايا الأمنية في العلاقات البحرينية الأميركية كما يؤكد التقرير نفسه في أكثر من مناسبة.
فالبحرين تتمتع بضمانات أمنية "ضمنية" كما يشير التقرير، في مقابل ذلك تحصل أميركا على عدة مزايا، أولها قاعدة عسكرية للأسطول الخامس الأميركي، وهي قاعدة شغلتها قوات أميركية مختلفة على مدى أكثر من 63 سنة، وهي مقامة على مساحة 100 فدان ويقيم فيها 2300 جندي من جنود البحرية الأميركية، كما ترسى بعض السفن العسكرية الصغيرة هناك، وبدأت أميركا في مايو السابق مشروع بتكلفة نصف مليار دولار لتوسيع الميناء لاستقبال سفن أكبر، وينتهي المشروع مع حلول عام 2015، وهذا يؤشر لاستثمار أميركا المستقبلي في تلك القاعدة.
لذا استضافت البحرين قوات أميركية خلال حرب تحرير الكويت (1991) وشاركت في الحرب، كما استضافت قوات وقدمت تسهيلات في حربي العراق وأفغانستان، وتمثل القاعدة البحرية نقطة تنسيق بين سفن حربية أميركية مشاركة في حربي العراق وأفغانستان.
وفي المقابل أيضا حصلت البحرين على مزايا عسكرية لا بأس بها، فقد حصلت على بعض المساعدات العسكرية المادية، وأهم منذ ذلك حصلت على تدريب لقواتها بما يرفع من قدراتها لمشاركة القوات الأميركية في عملياتها العسكرية، مما ساعد على تأهيل 45% من القوات البحرينية تقريبا – كما يشير التقرير - للقتال بجوار القوات الأميركية.
كما صنفت أميركا البحرين أيضا "كحليف استراتيجي خارج الناتو" مما يؤهلها للحصول على أسلحة متطورة.
ويقول التقرير أن أميركا تحتاج البحرين وقواعدها العسكرية هناك لمواجهة إيران وللقيام بدورها الاستراتيجي في الخليج.
وهنا يشير التقرير إلى توتر العلاقات بين البحرين وإيران لأسباب تاريخية شرحناها في التقرير وبسبب اتهام البحرين لإيران المتكرر بدعم الحركات السياسية الشيعية داخل البحرين وتصريحات بعض المسئولين والصحفيين الإيرانيين ضد البحرين، في المقابل سعت البحرين لفتح علاقات اقتصادية أفضل مع إيران، وإلى تبني خطاب أكثر مهادنة تجاه إيران مقارنة بأميركا.
الموقف الأميركي
بناء على ما سبق يقول التقرير أن أميركا في مواجهة الاضطرابات الأخيرة في البحرين وضعت في اعتبارها التطورات الأخيرة في المنطقة العربية وخاصة في "مصر" وموقف أميركا منها، و"مصالح أميركا الحيوية في المنطقة"، وفضلت مطالبة الحكومة البحرينية بعدم استخدام "العنف" ضد المتظاهرين، ولم تطالب "بنهاية نظام" آل خليفة، ودعت جميع الإطراف لاستفادة من دعوة ولي العهد البحريني للحوار، وهو موقف أصرت عليه الإدارة الأميركية رغم معارضتها تدخل قوات عسكرية خليجية في البحرين حتى لا يتطور النزاع الداخلي إلى صراع إقليمي.
وإن كان التقرير يعبر عن مخاوف البعض من أن "قمع المظاهرات (بعد تدخل القوات الخليجية) قد أنهى فرص التوصل لتسوية سليمة من خلال المفاوضات، وأن قد يوسع الصراع إلى منطقة الخليج الأكبر".
ويقول التقرير أن" المسئولين الأميركيين يخشون من أنه في حالة اعتلاء نظام يقوده الشيعة السلطة، فأن نفوذ إيران سوف يزيد إلى درجة أنها قد تنجح في إقناع البحرين بمطالبة أميركا إخلاء منشئات البحرين العسكرية"، وهنا تبرز مخاوف أميركا ومصالحها الأكثر أهمية.
وفي النهاية يرى التقرير أن إدارة أوباما تدعم نوع من الحلول الوسطية والتي تعطي الشيعة مزيد من الحقوق السياسية، مثل تغيير الدستور للسماح بانتخاب رئيس الوزراء من قبل مجلس نواب يمتلك صلاحيات أقوى، أو إعطاء الشيعة مزيد من المواقع الوزارية الهامة خاصة الحقائب الاقتصادية، أو إعادة رسم الدوائر للسماح بالشيعة للحصول على أغلبية مقاعد مجلس النواب البحريني.
ويتضح هنا أن أميركا – كما يوضح التقرير على الأقل – عينها على مصالحها الإستراتيجية التي تخشى من الأغلبية الشيعية عليها، ولا تمانع من إرضاء الشيعة سياسيا ما لم يؤثر ذلك على تلك المصالح.
وفي الخاتمة لا يسعنا إلا أن نذكر القارئ بأننا قد لا نتفق بالضرورة مع الموقف الأميركي، وإنما حرصنا على عرض التقرير الحالي بأكبر قدر من الموضوعية كبداية لفهم موقف أميركا تجاه التطورات الأخيرة بالمنطقة.
|