إنها لمفارقة غريبة حقاً أن تكون فلسطين أكثر بلاد العرب هدوءاً اليوم، مع أنها ظلت طوال أربعين عاماً تقريباً أكثر المناطق صخباً واشتعالاً وتأثيراً في أحوال المشرق العربي. وما نشهده اليوم في طول البلاد العربية وعرضها، مع اختلاف الشدة هنا وهناك، هو، بلا شك، انبعاث جديد للإرادة العربية، ومن الصعب، بعد الآن، رد عقارب الساعة إلى الوراء. وهو، في الوقت نفسه، تحرر مزدوج من الاستبداد الذي طال ليله كثيراً، ومن الفساد الشامل الذي نخر الحياة اليومية في البلدان العربية، وشوّه علاقة المواطن بالدولة، وأورث هذه المجتمعات الخوف والركود والاستكانة وتغليب السلامة على الكرامة.
الراجح أن هذه الثورات المتنقلة ليس من غاياتها تحقيق المهمات المجهضة التي سعت حركات التحرر الوطني العربية لتحقيقها منذ خمسينيات القرن العشرين، والتي كان في مقدّمها الخلاص من الاستعمار. لكن ربما تتمكن هذه الثورات من ردم الفوات التاريخي الذي علق العرب في شراكه جراء النكبة الفلسطينية في سنة 1948 وجراء هزيمة 1967 أيضاً، فتستطيع حينذاك مجاراة العصر والانخراط الإيجابي في العالم المعاصر، وفي الحداثة الكونية التي تتضمن قيم الحرية الفردية والجماعية، واحترام إرادة الشعب، وتأسيس ديموقراطية تامة كنظام سياسي يقوم على فصل السلطات وتداول السلطة بالانتخاب، وتعزيز قدرة المجتمع المدني في الدفاع عن مصالح الناس الأحرار. وفي سياق آخر، ربما لا تتمكن الإرادة الشعبية المنتفضة اليوم من تحقيق جميع غاياتها في هذه المرحلة لأسباب كثيرة. لكن، في الوقت نفسه، ما عاد في الإمكان اليوم، وبعد هذه التجارب العربية المجيدة، لوي عنق التاريخ إلى الوراء على الاطلاق، لأن إرادة الشعب الحرة تولد اليوم وهي متسربلة بالدهشة، والأمل ببزوغ الحرية، وهي ولادة جديدة للعالم العربي كله، بما تعنيه هذه الولادة من إعادة بناء جديدة للنظم السياسية والاجتماعية العربية على أسس ديموقراطية معاصرة، وعلى أنقاض الهياكل العتيقة والرثة التي عاشت طويلاً.
جميع الثورات العربية السابقة، من ثورة عرابي في سنة 1882 إلى الثورة المصرية في سنة 1919، مروراً بالثورة السورية الكبرى سنة 1925 التي قادها سلطان الأطرش، وبالثورة المصرية العظيمة التي قادها جمال عبد الناصر في سنة 1952، حتى ثورة الجزائر في سنة 1954 وجميع ثورات التحرر الوطني في المغرب وتونس واليمن، وصولاً إلى الثورة الفلسطينية المعاصرة في سنة 1965، كانت كلها موجّهة ضد الخارج، أي ضد الاستعمار. وفي أحيان قليلة أخرى ضد النظم السياسية المتهالكة والمتحالفة مع هذا الاستعمار (مثال ذلك النظام الملكي في مصر الذي قضت عليه ثورة 23 يوليو 1952). لكن الثورات العربية الحالية موجهة، بالدرجة الأولى، إلى النظم السياسية في الداخل. وهنا تكمن قوتها وقدرتها على ابتداع أساليب غير متوقعة في سعيها إلى التغيير الديموقراطي العاجل. لكن حتى هذه القدرة لها حدود، ويعتورها الضعف أحياناً، ومنشأ هذا الضعف هو أن الثورة ضد المستعمر كانت توحّد الشعب كله خلف الثائرين. لكن الثورة ضد الحاكم المستبدّ ربما تؤدي إلى حروب أهلية متمادية، فلهؤلاء الحكام قاعدة اجتماعية تضيق أو تتسع بحسب أحوال كل بلد وتكويناته الاجتماعية. وهؤلاء الحكام ليسوا عصابة كما يتردّد في الدعايات السياسية، بل يمثلون شبكة من المصالح المتداخلة ومن الولاءات السياسية المتعددة الوجوه، ومن الانتماءات العشائرية والطائفية، ويديرون مصالح أمنية وسياسية إقليمية، الأمر الذي يجعل التغيير شأناً عسيراً أحياناً، ومدخلاً إلى زعزعة البنى المستقرة، وإلى ما يجعل تحكّم الخارج بالداخل أمراً يسيراً. ويحصل ذلك في ما يسمّى عادة «الدول الرخوة». والدول الرخوة لا علاقة لها بالقوة المالية أو الديموغرافية أو الجغرافية، إنما هي تلك الدول التي تصدر مؤسساتها الدستورية القوانين، لكن كبار القوم فيها يستطيعون دائماً خرق هذه القوانين والتهرب من تبعات ذلك جراء قوتهم المالية. وهذه الحال ترغم من هم أدنى مرتبة على خرق القوانين أيضاً بوسائل أخرى كاستخدام الرشوة مثلاً. أي ان الدول الرخوة هي، في نهاية المطاف، ذات مستوى عالٍ من الفساد، والسلطة فيها تحتكرها فئة محدودة من رجال الأمن ورجال الأعمال والسياسيين، بينما الحريات فيها معدومة، والنظام السياسي غير ديموقراطي، ويعاني الشعب الفقر والبطالة واتساع الفجوة بين طبقات المجتمع، وتسلّط أجهزة القمع على حياة الناس، والترقي الاجتماعي أو الاقتصادي محصورة بالدولة وحدها.
لن يكون العالم العربي، بعد هذه الثورات المتلاحقة، كما كان قبلها. لكن، هل ستغير هذه الثورات موازين القوى مع اسرائيل؟ لنلاحظ أن ثمة كسوفاً للقضية الفلسطينية في خضم هذه الثورات، مع أن تعبير «انتفاضة» هو اختراع فلسطيني حديث، وهو يختلف عن مصطلح «الانتفاضات» الذي نجده في الكتب القديمة التي تتحدث عن انتفاضات الفلاحين مثلاً في القرن التاسع عشر أو في النصف الأول من القرن العشرين. ومن غير المعروف، بدقة، لماذا يظهر المشهد الفلسطيني ساكناً في هذه الأيام إلا من تحركات متفرقة هنا وهناك. ويمكن القول، من باب الترجيح، إن النضال المرير الذي خاضه الفلسطينيون طوال أكثر من أربعين سنة متواصلة، وخصوصاً منذ انطلاق الكفاح المسلح في 1/1/1965، قد استنفد بعض قواهم. وكانت النتيجة أن العالم العربي، ولا سيما بعد الخروج الفلسطيني من لبنان في سنة 1982 أو بعد حرب الخليج الأولى في سنة 1991، أدار ظهره إليهم، ما مكّن إسرائيل من توسيع مستعمراتها في الأراضي الفلسطينية، واختراق بعض الدول العربية علناً، وقطع الطريق على إمكان تأسيس دولة فلسطينية مستقلة، والحصول، في الوقت نفسه، على دعم لا متناهٍ من الولايات المتحدة الأميركية.
هل يلوح أي أمل في إمكان اندلاع انتفاضة فلسطينية على غرار الانتفاضات العربية المحتدمة؟ الجواب يتحوّل، فوراً، إلى تساؤل: انتفاضة ضد مَن؟ ضد فتح أم ضد حماس أم ضد إسرائيل؟ وإذا كان المطلوب من فلسطينيي الضفة الغربية وقطاع غزة القيام بانتفاضة جديدة، فماذا عن بقية الفلسطينيين في سورية والأردن ولبنان ودول الشتات الكثيرة؟ ما دور هؤلاء في النضال الفلسطيني الجديد، وفي صوغ معالم المرحلة الجديدة؟
بالطبع لا جواب، بل همهمة تعكس الحال السديمية للقضية الفلسطينية. لكن الواضح في هذا الميدان أن حلّ الدولتين الذي سعت له منظمة التحرير الفلسطينية منذ سنة 1988 على الأقل، يتهادى حقاً، ولا خيارات مضمونة في أيدي الشعب الفلسطيني حتى الآن. ومبادرة السلام العربية لفظت أنفاسها في سنة 2009 جراء العدوان على غزة، وجراء تخلي معظم الدول العربية عن قضية فلسطين، وتحولها إلى مجرد دول متبرعة فحسب.
إذا كانت مبادرة السلام العربية ماتت، وحل الدولتين يتهادى، والوعود الأميركية خُلبية، فإن الخيارات السياسية الأخرى المتاحة ساذجة أو بدائية. فالذهاب، على سبيل المثال، إلى مجلس الأمن، على أهميته السياسية والاعلامية، لا يجدي نفعاً، لأن «الفيتو» الأميركي في الانتظار. والعودة إلى التفاوض والظهر عارٍ لا طائل منه. والدعوة إلى حل السلطة الفلسطينية لا تقدم أي مكسب سياسي للقضية الفلسطينية او للشعب الصامد تحت الاحتلال.
إذا صرفنا الانتباه عن الاحتمالات السياسية التكتيكية، الممكنة أو المستحيلة، إلى ميدان الثورات الشعبية العربية السلمية، المدهشة والمجيدة، وإلى تأثيرها المباشر في فلسطين، فإن الشعب الفلسطيني يمتلك، بدوره، خياراً استراتيجياً مهماً هو الثورة المدنية الشاملة ضد الاحتلال، وضد الانقسام، وضد الفساد، وضد تخلي الحكومات العربية عن قضية فلسطين. والثورة المدنية تعني، في جوهرها، استعمال القوة لا استخدام العنف، أي تجنيد طاقات الشعب الفلسطيني ومناصريه من العرب وشعوب العالم لتنظيم حملة مديدة ومنسقة ومتضافرة ضد الاحتلال الاسرائيلي، على أن تتضمن هذه الحملة الاعتصامات المفتوحة، والتظاهرات اليومية التي لا تهدأ، وتنظيم الجهد القانوني والإعلامي والسياسي في عواصم العالم المختلفة، علاوة على المقاطعة الاقتصادية والأكاديمية لإسرائيل، والفضح اليومي لممارساتها القمعية، وتمويل الدعاوى القضائية في العالم لمحاسبتها، وفي الداخل للحدّ من مصادرة المنازل أو بيعها في القدس ويافا وعكا، ودعم المزارعين الذين أُتلفت محاصيلهم، والمواطنين الذين هدمت منازلهم، ومساعدتهم على البقاء والصمود. ومن المؤكد أن ثمة خوفاً إسرائيلياً جدياً من إطلاق حركة حقوق مدنية عالمية لمناصرة الفلسطينيين على غرار حملة الحقوق المدنية للسود في الولايات المتحدة الأميركية في ستينيات القرن العشرين، أو على غرار حملة مكافحة العنصرية في جنوب افريقيا ومقاطعة الحكومات العنصرية، لكن بزخم أكبر بكثير هذه المرة. فمن يتصدّى لهذه المهمة الجديرة بأن يفكر فيها المفكرون والباحثون وذوو التجربة والخبرة السياسية ملياً، وأن يُنعموا النظر فيها جدياً وعلمياً وعملياً في
|