في العام 1982 عندما احتلت «اسرائيل» نصف لبنان بما فيه عاصمته، انقسم اللبنانيون الى تيارين: واحد رسمي يقوده الرئيس الذي نصبته «اسرائيل» حاكما على لبنان، وآخر تمثل بتيار شعبي التزم المقاومة نهجا للتحرير في مقابل نهج الاستسلام الذي اعتمده الفريق الاول وقاده الى توقيع اتفاقية 17 ايار 1983 التي حاول ان يروج لها بانها لإخراج «اسرائيل» من لبنان، واذا بها تشريع للاحتلال وتنازل عن السيادة وارتهان للقرار اللبناني للغرب بقيادته الاميركية.
في المواجهة، تمكن الشعب بمقاومته ان يتجاوز السلطة المرتهنة للسياسة الصهيو ـ اميركية، فيسقط اتفاقها الاستسلامي، ثم يغل يديها، ويستمر في العمل المقاوم، الذي عرف إحجاماً رسميا عن التصدي للاحتلال، ثم احتضن العمل المقاوم من قبل الجيش اللبناني في السنوات العشر الاخيرة للاحتلال، وتمكنت المقاومة ان تحرر الارض في معظمها وترسي قاعدة «التحرير بالقوة». اما الفريق الآخر وفي مواجهة انتصارات المقاومة فكان يتراجع ويتقهقر الى حد التهميش الكلي في السلطة والضمور الملحوظ شعبيا، الى ان كان اغتيال رفيق الحريري، في عمل اعاد خلط الاوراق واستثمر ضد الفريق الوطني المقاوم، وعودة الفريق الآخر الى الواجهة معززا هذه المرة بشريحة شعبية واسعة، وانتظم الجمع في صيغة سياسية تحت عنوان 14 آذار. ما يعني ان انقسام 1982 ظل قائما وتمظهر في العام 2005 بشكل حاد ادى الى استلام فريق 14 آذار السلطة في لبنان ووضعها كلها بيد اميركا تستعملها لمصلحة المشروع الغربي وفي طليعته «اسرائيل» ما ذكر بالعام 1982 وما بني على الاحتلال بعده.
مرة جديدة يستمر الفريق الوطني المقاوم بمواجهة الموقف بما يملك من قدرات يستعملها وفقا لقاعدة «لكل مقام مقال». واستطاع في السنة الاولى من المواجهة ان يحقق انتصارا على «اسرائيل»، وبعدها بسنتين ان يكسر حلقة الاستئثار الـ «14 آذاري» بالسلطة، تلاه بعد اقل من 3 سنوات خروج كل الفريق الاميركي من السلطة، تماما كما عطلت سلطة فريق «اسرائيل» سنة 1984 ثم اخرجت في العام 1988، ما يعني ان لبنان يعيش اليوم ومنذ العام 2005، مرحلة او طبعة منقحة لما حصل في العام 1982 وما بعدها مع بعض الفوارق الاساسية التي منها:
- انه في العام 1982 كان الانقسام طائفيا (معظم الممسكين بالقرار الاسلامي في اتجاه، ومعظم الممسكين بالقرار المسيحي في اتجاه آخر، اما الشعب في العمق فمعظمه يعيش الشعور الوطني الرافض للاحتلال «الاسرائيلي» والداعي الى المقاومة للتحرير). اما اليوم فان الانقسام قائم بين فريق وطني فيه اغلبية مسيحية مع اغلبية اسلامية (قيادة وشعبا) ويتمسك بالمقاومة وسلاحها ليحمي لبنان ويشكل امتدادا لفكرة المقاومة التي نشأت في العام 1982، في حين ان الفريق الآخر والذي فيه الاشخاص انفسهم الذين عملوا مع «اسرائيل» سنة 1982 استمر على نهجه بالالتزام بما قام عليه ويجاهر بما تطلبه «اسرائيل» وتثني به عليه: «سحب سلاح المقاومة».
- بعد العام 1988 تفكك الاتحاد السوفياتي وكادت اميركا ان تنفرد مستأثرة بحكم العالم. ورغم ذلك لم تستطع ان تحمي فريقها، اما اليوم فان اميركا تتقهقر في مشروعها والعالم على عتبة نظام جديد قائم على نظرية المجموعات الاستراتيجية والتعددية القطبية، وان للفريق الوطني المقاوم امتدادا عاطفيا داعما في معظم المنطقة، الثائرة رفضا لانظمة الحكم فيها والتي تحرس المصالح الغربية بالقيادة الاميركية، فتكون اميركا اليوم اوهن مما مضى في حماية الاتباع.
وبالفعل، يبدو جليا، ان اميركا لا تملك ما يؤمن حماية فعالة لمن يتبعها من «حكام»، وتهاويهم يبدو دراماتيكيا حينا وعقابيا حينا آخر وبشكل معبر، كما حصل مع من كان رئيس حكومة لبنان الذي دخل الى مكتب الرئيس الاميركي «برتبة رئيس حكومة» وخرج منه «بلقب رئيس سابق» مصروف من الخدمة. وكان هذا الحدث رسالة تحسم نتيجة الصراع بين معادلتين: معادلة المقاومة التي تقوم على القول بأن «القوي هو من يتقوى بشعبه» ومعادلة موظفي المشروع الاميركي التي تقوم على القول «بان قوة اميركا هي قوة لموظفيها وحارسي مصالحها». ونتيجة الصراع، وفي المحطة اللبنانية، التي تكررت وجوهها في تونس ثم في مصر والباقي آت في السياق ذاته وان تأخر الحسم وعظمت التضحيات، النتيجة كانت بوضوح الدلالة «من يسلم قراره الى اميركا لا يستحق ان يستلم قرار وطنه والشعب السيد يستعيد القرار» وتطبيقا لهذا الامر استعيدت امانة السلطة من سعد الحريري في لبنان كما انتزعت من زين العابدين بن علي في تونس وحسني مبارك في مصر لان الشعب هو الذي يريد وهو الذي يقرر. ولا تغير في النتيجة محاولة تزوير الارادة الشعبية بمال سياسي يُنْفَق في الانتخابات كما في لبنان او تزوير ثم رشى لبعض الاشخاص ونظام طوارئ كما في تونس ومصر، نقول استعيد اليوم ولا نقول ان الوضع انتهى واستقر، لان محاولات اميركا ستستمر، وبالمقابل يقظة الوطنيين والمقاومين وجهوزيتهم ستستمران ايضاً. ان ما حصل في لبنان من كر وفر في الصراع بين المعادلتين (معادلة الشعب المقاوم، ومعادلة الرئيس المرتهن المقاول) اللتين ثبت فيهما نجاح المقاومة في وجه الهيمنة اكثر من مرة يمكن ان يبنى عليه، وجاءت الانتفاضات الشعبية العربية لتؤكد صحة النتائج في صراع المعادلتين على الارض اللبنانية، لكن الذي لا يمكن ان يتجاوزه المراقب او المتابع لهذا الصراع خاصة في لبنان، هو مستوى الفجور السياسي والقدرة على المجاهرة بالرذيلة عبر المطالبة بتنفيذ مطالب العدو، فضلا عن درجة العمى او الغباء الاستراتيجي الذي يحرك الفريق الاميركي في لبنان. حمق وغباء يدفعانه الى رفع مطالب يستحيل تنفيذها ويعطيان الخصم فرصة النصر السهل عليه، الى الدرجة التي لا يجد فيها ضرورة حتى لنقاشه في ما يطرح، بل جل ما قد يفعل هو التسلية الساخرة وهو يراقب الحركات البهلوانية التي اضحكت حتى الثكالى واثارت الشفقة على طلاب السلطة المستعدين لكل شيء يدفعونه ثمنا لها من تقبيل اياد او خيانة مبادئ او خيانة وطن، والمهم لديهم السلطة والسلطة فقط. وكم يكون جميلاً ان يكون من خلع ثوبه خلع تبعيته، لأن المقاومة جاهزة لإلباسه ثوب القوة والعزة.
وهكذا وكما في السابق سطّر المسرح اللبناني انتصارا جديدا للنهج الوطني المقاوم وثبت المعادلة الابدية: «القوي هو من تقوى بشعبه، والاحمق هو من اتكل على عدوه لينصره».
______
المصدر: موقع "كنعان" الالكتروني 15 آذار (مارس) 2011
|