في خضم الأحداث المتلاحقة للحركة الشبابية الشعبية الراهنة، ينبغي أن يتركز الحوار، في جانب رئيسي منه، حول السؤال: ماذا بعد؟ و : ما العمل..؟ ونقدم في هذا المقال الموجز جملة أفكار حول تصور لبرنامج عاجل للإنقاذ الوطني في المجالين السياسي والاقتصادي، خلال الأجلين القصير والمتوسط ، آملين فتح باب للحوار المنتج حول القضايا التي يثيرها.
ومن وجهة نظرنا، تتمثل أهم التغييرات الضرورية للفترة الانتقالية القادمة، في المجال السياسي، فيما يلي :
1) حل جميع الأحزاب القائمة وإعادة تكوينها وإشهارها وفق قانون جديد للأحزاب ، يرفع جميع القيود عن نشاط القوى السياسية .
2) الفصل المتكامل بين الأحزاب وجهاز الدولة ، وهو ما يعنى إنهاء عهد من الدمج القسري بين الحزب المسمى بالوطني الديموقراطي و بين الدولة ، بدء من توليّ رئيس الجمهورية رئاسة الحزب ، مما حّول ذلك الحزب إلى أداة باطشة سياسياً واقتصادياً في يد الدولة القائمة ورئيسها .
3) تغيير الدستور ووضع دستور جديد من خلال جمعية تأسيسية، بحيث يتم تحويل الإطار الدستوري للنظام السياسي من النظام الرئاسي إلى النظام البرلماني . ذلك أن النظام الرئاسي في صيغة المثبتة فى الدستور الحالي لعام 1971 يكرس معظم السلطات السيادية في يد شخص واحد هو رئيس الجمهورية والذي هو، من الناحية الرسمية أيضا، "الرئيس" الأعلى للقوات المسلحة، وللشرطة ، والقضاء ، و هو الحاكم العسكري أيضا، بمقتضى "قانون الطوارىء" ، وهو الحكم بين السلطات ، و الذي يلجأ (في حالة الضرورة) إلى الشعب من خلال إجراء استفتاءات كانت نتيجتها معروفة سلفاً.
4) إعادة النظر في المنظومة التشريعية القائمة ككل ، وخاصة من حيث :
أ - إصدار قانون جديد للانتخابات يحولها إلى الانتخاب بالقائمة النسبية غير المشروطة ، لمراعاة تمثيل جميع ألوان الطيف السياسي في السلطة التشريعية ، بما في ذلك، تمثيل "المستقلين" عن التنظيمات السياسية.
ب- إلغاء جميع "القوانين المقيدة للحريات" والتي صدرت في عهدي السادات ومبارك - خلال الأربعين عاماً الماضية كلها – بما في ذلك "القوانين المكملة للدستور" ، مع مراجعة القوانين القائمة لتنقيتها من كل النصوص التقييدية، وخاصة قانون العقوبات وقانون الإجراءات الجنائية .
ج- عدم إصدار قانون جديد مقيد للحريات تحت أي حجة ولو كانت مكافحة الإرهاب ، اكتفاءً بما تتضمنه نصوص القانون العادي ، ويتم ذلك بالطبع بعد إلغاء حالة الطوارىء المفروضة بشكل دائم تقريبا منذ أكثر من ثلاثين عاما.
يتضح من ذلك أن "إعادة النظر فى المنظومة التشريعية الكاملة لعهدي السادات ومبارك" هى عملية واجبة وجوباً تاماً خلال الفترة القادمة . و إن من شأن النقاط السابقة ، إعادة بناء الحياة السياسية بصورة كاملة وفق مبدأ "السيادة للشعب ، والسلطة كلها في يده" . والمدخل الرئيسي لهذه العملية ليس أقل من إنهاء العهد السياسي القائم، ليتلوه عهد جديد .. فلقد عطل العهد القائم– طوال أربعة عقود – عملية التحول من صيغة النظام الناصري في الخمسينات والستينات، والتي قامت على نمط القيادة السياسية الاستثنائية لشخصية جمال عبد الناصر، إلى نظام وطني تعددي يعوض فقدان القيادة التاريخية.
هذا كله في المجال السياسي الداخلي، أما في مجال السياسة العربية والخارجية فمن المطلوب ما يلي :
1- إعطاء الأولوية في السياسة الخارجية إلى الدائرة العربية فالأفريقية فدائرة العالم الإسلامي بمعناه الحضاري الواسع .
2- وقف كافة أشكال التطبيع التجاري والاستثماري والسياحي بين مصر و إسرائيل،
بما في ذلك السياحة الاسرائيلية داخل سيناء ، وبيع الغاز الطبيعي .
3- إعادة النظر في اتفاقية المعونات الاقتصادية والعسكرية مع الولايات المتحدة الأمريكية
لإزالة كل أشكال "المشروطية" المصاحبة لها ، تمهيداً لإلغائها كليةً .
4- مراجعة اتفاقيات وبروتوكولات التعاون العسكري مــع الولايات المتحدة، والمتضمنة
لإجراء التدريبات والمناورات المشتركة، و المحددة لنوعيات التســليح ، تمهيداً لإقامة علاقات عسكرية متعددة الأطراف مع دول العالم ذات الصلة ، وخاصة روســيا والصين وكذا بعض الدول الأوروبية .
5- إعطاء أولوية خاصة للتعاون الاقتصادي والتجاري مع سائر الدول العربية ، وخاصة من حيث :
أ - تقوية وتفعيل الربط الكهربائي بين مصر وكل من دول المغرب العربي ودول المشرق والخليج .
ب- تقوية وتفعيل مشروع الخط العربى للغاز ، وإمداد كل من لبنان وغزة بالغاز في أقرب وقت ممكن ، وحرمان العدو الصهيوني من كل إمكانية لوصول الغاز العربي إليها – ويرتبط بذلك : تفعيل التعاون مع غزة ولبنان لمواجهة القرصنة الإسرائيلية على منابع الغاز الطبيعي على سواحل البحر الأبيض المتوسط والتي تحاول القيام بها بالاشتراك مع كل من قبرص واليونان ، سعيا منها إلى حرمان مصر وفلسطين وسوريا من حقوقها التاريخية .
ج- العمل على تفعيل "منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى" وإزالة كافة المعوقات من أمامها .
6- إعادة النظر فى علاقات مصر العربية ، للخروج من القوقعة المسماة بمحور الاعتدال العربى الموالي لأمريكا ، وبناء سياسة عربية مستقلة وتوافقية بين الدول العربية ، مبنية على التكافؤ القيادي فيما بينها .
7- إعادة النظر في علاقات مصر مع كل من إيران وتركيا لإزالة عوامل الجفاء مع كل منهما ، وتنسيق المواقف السياسية .
8- إعادة النظر في علاقة مصر مع دول حوض النيل ، وخاصة دول المنبع ، من أجل التوصل إلى صيغة مشتركة قائمة على التراضي والتوافق بين الجميع وتبادل المصالح المشروعة، في إطار قواعد القانون الدولي المرعية .
9- العمل على إزالة "الحساسيات" القائمة مع بعض الدول العربية ، والتى نشأت فى ظروف معينة ، وخاصة الجزائر ، بالإضافة إلى تقوية العلاقة التكافلية بين الحركة الشعبية في مصر وحركة الثورة الشعبية الرائدة في تونس الشقيقة .
10- العمل على تهيئة الظروف لبناء علاقة تكاملية في المجال الاقتصادي والاجتماعي مع كل من ليبيا والسودان ( دول المثلث الذهبي) ، وتفعيل "الحريات الأربع" مع كل منها في مجال حركة الأشخاص والعمالة والبضائع والخدمات والاستثمار .
أما في مجال العلاقة مع إسرائيل تحديداً، فإن من الضروري القيام بما يلي :
1) العمل على تقوية قدرات المسلحة المصرية لبناء قوة ردع حقيقية تشكل ضماناً لتحقيق توازن استراتيجي نوعى مع اسرائيل في المستقبل . ويرتبط بذلك، بناء علاقة فعالة مع قوى التحرر الشعبي العربي المناهضة للعنصرية الاسرائيلية .
2) تهيئة الظروف للقيام تدريجياً بمراجعة هادئة في المستقبل "لمعاهدة السلام" بين مصر واسرائيل، والمبنية على "اتفاقية كامب ديفيد"، من أجل الوصول إلى صيغة معينة –تحت إشراف الأمم المتحدة – لترتيبات عسكرية جديدة في منطقة سيناء ، بما يحفظ السيادة المصرية على كل الأراضي ، ونشر قوات عسكرية بصورة متوازنة على جانبي الحدود المصرية والإسرائيلية ، مع إعادة النظر في ترتيبات مراقبة وقف إطلاق النار التي تعطي للولايات المتحدة دوراً خاصاً في هذا الصدد .
3) إعلاء صورة مصر في المحافل الدولية لنصرة قضايا التحرر العربي والافريقي وفي كافة مناطق العالم ، دون نظر إلى الحجة البالية التي ترى في ذلك تهديداً بالعودة إلى حالة الحرب مع اسرائيل .
هذا كله في المجال السياسي، أما في المجال الاقتصادي فإننا نقترح النقاط التالية، بدءً بالمهام العاجلة.
المهام العاجلة في المجال الاقتصادي :
• إعادة النظر في كل عمليات بيع أراضي الدولة والأراضي الصحراوية والمناطق العمرانية الجديدة، والتي تمت خلال السنوات العشرين الماضية .
• إصدار قانون جديد للاحتكار وإعادة محاكمة المتسببين في رفع أسعار مواد البناء من الحديد والأسمنت .
• وضع قواعد إرشادية أو ملزمة للتسعير بناء على تحديد هوامش أرباح السلع المستوردة والمحلية.
• إعادة النظر في كل عمليات الخصخصة التي تمت خلال العشرين سنة الماضية لاستعادة حقوق المجتمع .
• إصدار قانون ضريبي جديد ، يراعي مبدأ التصاعد الضريبي ، وفرض ضرائب جديدة على الاستهلاك البذخي ، وإعادة النظر في ضرائب القيمة المضافة والمبيعات .
• استعادة الأموال المهربة إلى الخارج باتفاق مع السلطات الأجنبية وخاصة السويسرية .
• وضع برنامج صناعي متكامل ، وتوفير التمويل اللازم له ، وإتاحته وفق قواعد تفاضلية للقطاعات المختلفة، من حيث حجم الائتمان وأسعار الفائدة و معدلات الضريبة والدعم .
• وضع قانون جديد للتعاون والائتمان الزراعي يعيد الدور المحوري للتعاونيات في الريف .
• وضع سلم جديد للأجور و برنامج لرفع مستوى المهارات للشباب الباحثين عن عمل .
ومن المفترض أن يتم كل ذلك في إطار مخطط للإصلاح الاقتصادي الوطني خلال المرحلة الانتقالية من أجل بناء اقتصاد متعدد القطاعات ( عام ، خاص، تعاوني) مؤسس على برنامج تنموي ، صناعي و زراعي و خدمي منتج ، تضعه الدولة وتوفر له التمويل الائتماني اللازم، وعلى أن تسانده حزمة من السياسات والإجراءات اللازمة.
المصدر: الطليعة العربية al-taleaa@gmx.com
|