أثار الإعلان عن أن الجيش المصري ساعد في عزل مبارك ويدفع من أجل الاصلاح الدستوري الفوري، الأمل في أن تتطور مصر سلميا وبسرعة الى بلد حر وديمقراطي. المجلس العسكري الأعلى الحاكم الآن في مصر فوّض لجنة من الحقوقيين لاصلاح الدستور المصري في الاسبوعين المقبلين، ويتوقع أن يسلم البلاد الى السيطرة المدنية في غضون ستة أشهر. وتم إدخال أعضاء من جماعة الاخوان المسلمين في الجهود الرامية للتعديل الدستوري.
ولكن الكثير يعتمد على ما سيفعله الجيش المصري الذي ينظر اليه بوصفه من بين القوى الحديثة في الشرق الأوسط ومعظم ضباطه تلقوا تدريبهم وعلومهم في الغرب إلى حد كبير، وخصوصا بعد توقيع الرئيس الأسبق أنور السادات اتفاقيات كامب ديفيد مع اسرائيل في 1978. عمليا ساهمت معظم الأسر المصرية في انضمام الضباط أو المجندين الى صفوفه، ويبلغ عدده ما يقارب نصف مليون جندي في الخدمة ونفس العدد تقريبا في الاحتياط. كما يتولى الجيش أدارة ورعاية العديد من النوادي الرياضية الأكثر شعبية في البلاد.
لكن على الرغم من دور الجيش البارز ، فالجمهور المصري لا يعرف في الواقع سوى القليل حول كيفية عمله. ذلك لأن الكتابة عن الجيش محظورة على الصحافة منذ فترة طويلة. السرية تبدأ بالميزانية العسكرية، والتي تقدرها مؤسسة جينز للدفاع بحوالي 5 مليار دولار، ومع ذلك، فقد قدّر أحد الباحثين المستقلين أن النفقات العسكرية الفعلية يمكن أن تكون أربعة أو خمسة أضعاف ذلك. تدخل في الميزانية المساعدات العسكرية الاميركية المقدرة بحوالي 1.3 مليار دولار سنويا لتمويل أنظمة الأسلحة الرئيسية في مصر. (يشترط في التمويل ان يتم انفاقه على الأسلحة والخدمات الأميركية، وبالتالي هو دعم فعال لمقاولي وزارة الدفاع الامريكية.) أما اللجنة البرلمانية في مجلس الشعب المسؤولة للإشراف على هذه النفقات، فهي مزروعة بضباط الشرطة والجيش، وآفاق توفر رقابة مدنية ذات مغزى تبدو قاتمة.
ثم هناك دور ملحوظ للجيش في الاقتصاد، اذ أنشئت المصانع العسكرية للمرة الاولى في عام 1820 لإنتاج الزي العسكري والأسلحة الصغيرة بداية، وتم توسيع دورها في الاقتصاد الموجه من الدولة منذ أوائل الخمسينيات، ودمجت الصناعات لتشغيل مئات الآلاف من الجنود بعد قرار تقليص عديد القوات المسلحة وفقا لاتفاقية السلام مع اسرائيل. (عند هذه النقطة ، بلغ عدد الجيش حوالي 900،000 جندي في الخدمة) حاليا يدير الجيش العديد من الشركات القوية في مجموعة واسعة من الصناعات الرئيسية، بما في ذلك المواد الغذائية (زيت الزيتون والحليب والخبز والماء)؛ الاسمنت والبنزين، وإنتاج السيارات (مشاريع مشتركة مع جيب شيروكي ولإنتاج رانغلر،) والبناء، وكذلك فوائد التمكن من تشغيل المجندين خلال الأشهر الستة الأخيرة من خدمتهم. هناك مصدر آخر لثروة الجيش يتعلق بسيطرته على واحدة من أهم وأثمن السلع في هذا البلد المكتظ بالسكان: الأراضي العامة ، والتي يتزايد تحويلها إلى تجمعات سكنية مغلقة ومنتجعات. وللجيش ومزايا أخرى: إنه لا يدفع الضرائب وليس لديه مشكلة في التعامل مع تعقيدات البيروقراطية التي تخنق القطاع الخاص.
هناك تقديرات متباينة حول نطاق حجم ونوعية امبراطورية الاعمال العسكرية. اذ يقول أنطوني كوردسمان في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية انها أقل نسبيا من تلك التي لعبت من قبل جيش التحرير الشعبى الصينى فى الصين. ويقول أيضا أنها قد تقلصت في السنوات الأخيرة. لكن بول سوليفان، أستاذ الجامعة الوطنية للدفاع الذي أمضى سنوات في مصر ، يقول انها ضخمة، ويقدّر نسبتها على الأرجح بــ 10 ٪ إلى 15 ٪ من الاقتصاد المصري المقدّر بــ 210 مليار دولار.
تساعد هذه العائدات من الروافد المختلفة للجيش في الحفاظ على نمط حياة مرفّه اعتاد عليه الضباط، بما في ذلك شبكة واسعة من النوادي الاجتماعية الفاخرة وكذلك رواتب تقاعد مريحة -- وكلها تساعد على ضمان ولاء الضباط.
تعرّض هيكل القوة الاقتصادية والرعاية للتهديد من محاولات جمال مبارك، نجل الرئيس والوريث المفترض، لإصلاح مصر على طول الخطوط التي تتجاوز الجنرالات. وتذمر الجيش ينتابه الغضب ولا سيما أن حليف رئيسي لجمال ، أحمد عز، كان قادرا على اقتناص أصول الصلب المملوكة للدولة، وتعزيز موقفه القيادي في هذه الصناعة. و أضحى عز منافسا ومحتكرا رئيسيا للصلب ليقلص من عائدات الجيش.
والسؤال المطروح هو اذا كان الجيش سيقبل التخلي عن بعض امتيازاته التقليدية من أجل الانتقال إلى نظام أكثر ديمقراطية؟
هناك بعض القلق نظرا لسرعة وتيرة الإصلاح الدستوري المطلوب والمخطط له. في حين أن البعض في المعارضة رحب بالجدول الزمني السريع كدليل على أن الضباط كانوا حريصين على تسليم السلطة إلى السلطة المدنية، والبعض الآخر، مشيرا إلى أن الجيش حتى الآن استبعد المدنيين من الحكومة الانتقالية، وتساءل عما إذا كان الجدول الزمني يقدم إشارة على عكس ذلك تماما . يشعرالبعض بالقلق من ان الجيش قد يكون بصدد محاولة لاستغلال الأحداث للحفاظ على قوته من خلال التسرع في العملية، وحرمان الأحزاب السياسية والمرشحين الوقت الكافي لتنظيم الصفوف، لاجراء انتخابات نزيهة ذات مغزى يمكن أن تؤدي إلى انتخاب حكومة مدنية قوية .
والحقيقة أن الجيش في مصر يستفيد من الوضع الراهن الذي أنتجه الرئيس المخلوع حسني مبارك بعد توليه السلطة من أنور السادات الذي اغتيل في عام 1981. حيث انتقل كبار الضباط من حياة عسكرية متواضعة، الى العيش الآن مثل الباشوات، مع رواتب إضافية أعلى من رواتبهم الرسمية. أضف الى هذا الهرم من الإمتيازات العسكرية -- توفر فرص كسب المال لأقارب كبار ضباط الجيش وحمايتهم، وكذلك الأمر مع الضباط ذوي الرتب المتوسطة الذين لا يمكن أن تتعزز مكاسبهم إلا بدعم من أسيادهم ممن يرتدون الزي العسكري. والنتيجة هي فئة من الذين لا يريدون حقا لمصر الإصلاح ، فأعداء الإصلاح والديمقراطية في مصر -- وفي كل مكان آخر في العالم العربي -- ليس فقط الحاكمين وأسرهم ولكن أيضا الشهية للحفاظ على الإمتيازات وتوقعات القوات المسلحة.
على الرغم من أن القوات المسلحة المصرية وقفت غالبا مع المتظاهرين في الشارع خلال الاحتجاجات الأخيرة، فموجة الديمقراطية التي حلت أخيرا في العالم العربي، من بين أمور أخرى، هي حركة احتجاج مدنية. والنزعة العسكرية الحديثة في الشرق الأوسط ، ممثلة بالزعيم الراحل جمال عبد الناصر والتي اجتاحت العالم القديم ووعدت بالنهضة القومية العربية، تم سحقها كحركة سياسية جديدة بهزيمة عام 1967 أمام الكيان الصهيوني. ورغم الصحوة المحدودة في عام 1973 خلال المرحلة الأولى من حرب تشرين، تحولت بعدها غالبية الجيوش العربية ألى أدوات أمنية لحماية الأنظمة وتفتقر الى الروح الوطنية الهادفة والعقيدة القتالية، واصبحت منغمسة في هموم تحسين أحوالها المالية والمعيشية.
والسؤال هو إذا كان كبار ضباط الجيش المصري يؤمنون حقا في تحول إصلاحي وديمقراطي؟ أم أنهم يخشون من أن مصر ديمقراطية ستضغط من اجل جيش أصغر حجما، وأكثر تواضعا من دون امتيازات؟ ويمكن أن تفكر حكومة إصلاحية قوية باعادة الضباط العسكريين بعضا من ثرواتهم المتراكمة؟ والحقيقة هي أن الجيش ناور في الأحداث الأخيرة للحفاظ على مواقعه في الحياة المصرية.
كيف سيتعامل أوباما وادارته مع الوضع الجديد؟ أمريكا لا تزال تملك مصادر قوة مالية كبيرة على المؤسسة العسكرية في مصر، وستستمر في استخدامها لممارسة التأثير على مستقبل التطورات هناك. التأكيدات التي أعطاها المجلس العسكري لدعم الاتفاقات الإقليمية والدولية (أي مع إسرائيل والولايات المتحدة) هي النتيجة المباشرة لمثل هذا التأثير.
وجاء مؤشر آخر من كبار المسؤولين الامريكيين العسكريين خلال جلسة لمجلس الشيوخ يوم الاربعاء حيث أكدت القيادة العسكرية الأميركية أن الفوائد التي تجنيها الولايات المتحدة من المساعدة العسكرية السنوية التي تقدمها لمصر لا تقدر بثمن. وقال رئيس هيئة الأركان المشتركة للقوات الأميركية الأدميرال مايكل مولن في جلسة استماع عقدتها لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ الأميركي إن هذه المساعدة جعلت الجيش المصري يتميز بالقدرة والمهنية.
واضاف مولن ، "إن اي تغيير في تلك العلاقات فيما يخص المساعدات أو الدعم يجب أن يتم بحذر شديد مع الأخذ بعين الاعتبار رؤية على المدى البعيد وليس في ضوء مشاعر متسرعة أو بهدف التوفير." واكّد أن "المساعدة التي تبلغ سنويا 1.3 مليار دولار التي نقدمها للجيش المصري سنويا ساعدت على جعله قوة مهنية وذات قدرة. وفي هذا الإطار فإن هذه المساعدة لا تقدر بثمن."
من جانبه اشار وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس في الجلسة ذاتها إلى أن المنطقة العربية تشهد حالة من عدم الاستقرار وقال "بالنسبة لي إن من الصعب تخيل الظروف التي يمكن لنا أن نرسل قوات أرضية في مثل تلك الأوضاع التي تشكل لنا تحديا دبلوماسيا،" غير أنه أكد ما قاله مولن وقال "إن فوائد مساعدتنا للجيش المصري خلال الثلاثين عاما الماضية قد ظهرت في سلوك الجيش المصري خلال الأسابيع الثلاثة المنصرمة لناحية المهنية التي تعامل بها مع الوضع" في مصر.
18 شباط / فبراير 2011
|