DATE \@ "dd/MM/yyyy" 03/02/2011
مدرسة للطغاة؟
هل يذهب الطغاة الجلادين إلى مدرسة واحدة؟ أو هم يعملون وفق كتيب إرشادات واحد؟
أو أن ما يحكم سلوكهم هو أنهم أفظاظ، غلاظ القلوب والأفئدة، ولكن في العمق جبناء مجردين تماما من أي نخوة أو شهامة؛ هم في الواقع مجرمون شديدي الأنانية ومجردون من الإنسانية، فينتهون إلى اعتماد السلوك نفسه في الظروف ذاتها. فينزعون إلى تخرِّيب البلد التي حكموا بالحديد والنار ونهبوا سنين طوال عندما يتأكد لهم أن الشعب قد عقد العزم على التحرر من تسلطهم وإجرامهم.؟
انظر في كيف أمر الرئيس الذي كان مغتصبا للسلطة في مصر، باعتباره الحاكم العسكري، بفرض حظر التجول يوم جمعة الغضب (28 يناير) قبل أقل من ساعة من بدء نفاذه بما لم يسمح للجيش ألذي أوكل له المسئولية، بالانتشار لتحمل مسؤولية حفظ الأمن وحماية البلد.
انظر أيضا في كيف أن طلائع الجيش، من الحرس الجمهوري، قد أُمرت قبل أي شيء بحماية قصر الطاغية ومقر السفارة الأمريكية، ومقر الإذاعة، صوت الطاغية المزيف للحقيقة والواقع والمجمِّل لوجه الحكم التسلطي شديد البشاعة. وقد كان من مزايا محاولة الإعلام الرسمي خلال أيام الثورة استنطاق البعض لتأييد نظام الحكم التسلطي ورئيسه أن كشف عن الضحالة الفكرية والوطنية، حتى لا نقول التخلف الذهني، لنجوم العهد البائد ممن يسمونهم الفنانين، وهم في الغالب مغنون سوقة، أو لاعبي كرة قدم. هذه كانت ثقافة الحكم التسلطي واهتماماته الحياتية(انظر في الاهتمام البالغ لإبني الرئيس بتشجيع مباريات كرة القدم إلى حد المشاركة في الوقيعة بين شعبي مصر والجزائر بسبب التنافس في لعبة كرة القدم)
انظر كذلك في جريمة إصدار الأوامر للشرطة بالانسحاب من جميع المواقع قبل أن يتسنى للجيش أن ينزل للشارع. والجدير بالتذكر هنا هو أن رئيس الدولة، وفق الدستور المعيب القائم، هو رأس السلطة التنفيذية، والوزراء بنص الدستور مجرد معاونين، ومن ثم يتحمل الرئيس مغبة قرارات مرؤوسيه.من الوزراء الذين يعيَّن لمساعدته.
ثم انظر في كيف عاثت الشرطة السرية، من الشقاة الصعايك الذين كانوا يواجهون المتظاهرين بالعنف غير المبرر، سلبا ونهبا وإحراقا وترويعا للمواطنين، وإطلاقا للمساجين، في جميع أنحاء البلاد بينما امتنع جهاز الشرطة بكامله عن حماية أمن الوطن والمواطنين، في محاولة الإساءة للانتفاضة الشعبية الشريفة والكيد للخصوم السياسيين باتهام الاخوان المسلمين، و"حماس" و"إيران"، افتعالا لفزاعة محاولة التيار الإسلامي السيطرة على البلد.
ألم يفعل "زين الهاربين" كل ذلك حرفيا تقريبا من خلال جهاز أمنه الرئاسي؟
ولكن تفوق عليه جلاد مصر بمحاولة الوقيعة بين الشعب والجيش وجهاز البطش البوليسي التابع لوزارة الداخلية المؤتمِر بأوامر وزيرها المجرم الذي أصدر الأوامر بالانسحاب والتخريب ثم انسحب ليحتمي بقلعته الحصين في مقر الوزارة والذي ظل قناصته يطلقون منه الرصاص الحي على المتظاهرين معملين فيهم القتل والإصابة.
وفي النهاية انظر في كيف حرص الطاغية على حماية الوزراء الذين ظلوا ينفذون أوامره سنين طوال في إفقار الشعب وقهره، بطلب استقالتهم، كي يصطنع آخرين مثلهم من رجالاته، على حين كان الواجب تقديمهم للمحاكمة، وكيف تنافس أقطاب النظام في حزب الحاكم. ورئيس مجلس شعبه المزور في إلقاء اللوم على تلك الحكومة التعيسة التي يعلم القاصي والداني أنها لم تكن إلا سكرتارية تافهة وباهتة للمتسلط الأكبر تنفذ تعليماته بالحرف.
كما اختفى من الصورة تماما طوال الثورة الشعبية حزب الحاكم الذي كان يدعي وجودا فاعلا في الشارع المصري وعضوية تربو على أربعة ملايين، وأكثر من 90% من عضوية مجلس الشعب المزور. ولم نسمع عن نجل المتسلط الأمين العام المساعد للحزب ولا عن أمين التنظيم الذي كان قائد أوركسترا تزوير إرادة الشعب، وزعيم أغلبية حزب الحاكم في المجلس التشريعي والذي كان يقوم على تمرير قوانين تكرس حكم الفسادوالاستبداد، اللذان كانا يفرضان علينا طوال الوقت. ولم يتردد عن الأخير خبر إلا محاولة هروبه من البلاد مع عائلته، ثم قبول "استقالته"!
إرحل ياخنزير
"إرحل ياخنزير" هو ما كانت تقوله سيدة متقدمة في العمر متواضعة الحال شاركت، متجهمة، في جمعة الغضب المصري (28 يناير 2011) عبر لوحة مكتوبة بخط اليد حملتها في صمت بليغ بيد وهي تحمل في يدها الأخرى كسرة خبز. وفي موقف هذه السيدة، وفي الاشتراك الواسع لجميع فئات العمر ولبنات مصر العظيمات في الدعوة للثورة والمشاركة المتعاظمة فيها، دليل قوي على المشاركة الواسعة لقطاعات عديدة من الشعب المصري في ثورة الغضب، ومن دون وقوع أي حادثة إساءة سلوك أو تحرش جنسي أو نزاع طائفي. فقد صهرت الثورة الشعب في وحدة وطنية رائقة تعالت على جميع الانقسامات والنزاعات التي كانت تتأجج في ظل الحكم التسلطي القمعي والفاسد. وفيها دليل قوي كذلك على أن جمهرة المشاركين في التظاهر، كانوا يمثلون جمهور الشعب المصري، تمثيلا صادقا، ما يبطل حجة المشككين من النظام وأنصاره من غياب قيادة واضحة ومحددة للمتظاهرين، بل في هذه الخاصية إثبات الطابع الشعبي الغامر للثورة. وفي اتساع المشاركة ايضا دليل على أن المشاركين كانوا يعلمون طبيعة نظام الحكم التسلطي، ومن كان المسئول الأول عن جرائمه في حق الشعب، كما يدل على حقيقة مطالب الثورة الشعبية التي كان عليها توافق واسع في أوساط الحركة الوطنية قبل اندلاع التظاهرات. والاستنتاج المباشر من كل ذلك هو أن محاولات الاسترضاء الشكلية التي أقدم عليها المتسلط الأكبر، مع الإبقاء على جوهر الحكم التسلطي، وهو على رأسه، لم تفلح في كبح جماح الثورة الشعبية عليه وعلى نظام حكمه. فماذا كان رد فعل المتسلط الأكبر؟
كان رده أن أعاد مصر سياسيا أكثر من خمسين عاما إلى الوراء بتشكيل الطاغية لنظام حكم عسكري يتستر وراء ارتداء عسكريين سابقين للبزة المدنية. فالإصلاح الذي تفتق عنه ذهن المتسلط الأكبر اليائس هو تعيين نائب له من المؤسسة العسكرية (رئيس جهاز المخابرات الذي كان يتولى مهمة إخضاع المقاومة الفلسطينية، على الأغلب لطمأنة إسرائيل والغرب) وتكليف قائد سابق لسلاح الطيران بتشكيل حكومة جديدة.
وفي أول ظهور علني له منذ بدء ثورة التحرير الطاهرة، اختار المتسلط الأكبر أن يكون في مركز عمليات القوات المسلحة وكأنما مصر الرسمية في حالة حرب، حربه مع شعب مصر. وأتبع ذلك الإعلان بتحليق طائرات مقاتلة ومروحيات عسكرية على ارتفاع منخفض لترويع "الأعداء".
وبهذه العقلية العسكرية العقيم ظلت مصر محرومة من الاتصال بالعالم الخارجي لأطول من اسبوع بقطع شركات تقديم الخدمة جميع وسائل الاتصال بشبكة الإنترنت تنفيذا لأوامر السلطات التي تدعي التمسك بالتقدم والحضارة، بينما أعادت مصر إلى العصر الحجري تحقيقا لأمن الحكم التسلطي وفق مفهوم متخلف وقاصر. وكان من أولى قرارات نائب الرئيس "المصلح"، الذي إدعي هو ورئيسه الجلاد الأكبر، الحرص على حريةالتعبير، وقف تلقي إرسال قناة الجزيرة والقبض على موظفيها بمصر.
وظل الطاغية يرفض الاستماع لصوت العقل، محدثا تغييرات شكلية لا تفي بمطالب الثورة الشعبية في إسقاط نظام الحكم التسلطي الذي جثم على صدور الناس، اغتصابا للسلطة، أطول من ثلاثة عقود، مفضلا أن تدمَّر البلد أمنا واقتصادا، حابسا المواطنين في أكبر مدن البلد خلال حظر تجوال طال باطراد من 13 إلى 15 ثم إلى 16 ساعة يوميا، محولا البلد إلى سجن ضخم، عن أن يتنحى ويقي البلد شر الفتنة والدمار.
وبلغ به الاستنطاع أن أعلن عن حكومة جديدة (الرئيس هو من يشكل الوزارة) غالبية أعضائها من الحكومة المقالة، التي أدانها جميع أركان النظام، والجدد بينهم من الطينة ذاتها، فبدت كمحاولة ساذجة وحمقاء للالتفاف على المطالب الشعبية بالتغيير الجذري وإسقاط النظام القمعي الفاسد.
الساعات الأخيرة
بدت علامات النهايةن وبشارات سقوط الحكم التسلطي، في يوم التظاهرة المليونية التي أعلن عنها شباب مصر "اللي زي الفل" في فاتح فبراير (حين بلغ هلع النظام مداه بإيقاف حركة القطارات تماما وإغلاق الطرق الموصلة بين مدن التظاهر الأساسية والقاهرة في محاولة يائسة لمنع تلاقي المتظاهرين في ميدان التحرير الذي استحق اسمه بجدارة) عندما تكرر إعلان الجيش المصري عن موقفه النبيل القاضي بالاعتراف بمشروعية مطالب الثورة وعزمه الامتناع عن استعمال العنف ضد الشباب الثائر، وبدأ نائب الرئيس المعين الإعلان عن تكليفه بالحوار مع المعارضة شاملا أمورا كانت تبدو من مستحيلات النظام، مثل تعديل الدستور لتحقيق الديمقراطية والتخلص من أعضاء مجلس الشعب الذين أنجحهم النظام بالتزوير الفاجر، واكتملت علاما النهاية بالإعلان عن إرسال الإدارة الأمريكية لمبعوث كان سفيرا في مصر ليبلغ الطاغية رسالة تحرَّج الرئيس المريكي من إعلانها علنا هي رسالة السيدة المصرية التي بدأنا بها الجزء السابق من هذا المقال ذاتها.
الخنزير العجوزالمراوغ
عندما تعاظم الضغط من أسياده في الخارج ولم يبد الشباب المصري أي بادرة تنازل عن مطلبي رحيله وإسقاط النظام، في يوم التظاهرة المليونية، لم يجد الجلاد بدا من الاستجابة لكنه استمر في التسويف والمماطلة. فعرض ألا يرشح نفسه (بعبارات تنم عن النية في الماضي، وليس العزم أو الوعد ودون أن ينفي إمكان ترشح نجله) لمدة رئاسة سادسة (!) وأن يتعهد بالإشراف على تحقق بعض الإصلاحات الدستورية والتشريعية والسياسية التي طالما طالبت بها الحركة الوطنية وأكدها شباب ثورة الفل الشعب (ومنها تخفيف القيود في شروط الترشح للرئاسة (المادة 76 سيئة السمعة)، والمادة 77، لقصر ولاية الرئيس على مدتين متتاليتين فقط، ولكنه لم يتعرض للتخلص من القيود على الحرية التي أدخلها في قلب الدستور ولا لإلغاء السلطات المطلقة التي يكفلها الدستور المعيب القائم لرئيس الجمهورية، ما يعني الإبقاء على جوهر الحكم التسلطي في الدستور) ومغزى هذا الموقف أن يحتفظ الرئيس بصلاحياته المطلقة لمدة تزيد على سبعة شهور أخرى، ويبقى أي من يخلفه في سدة الرئاسة قابلا للتحول إلى متسلط مطلق، وهذا هو الخطر الأعظم. ومن المهم ملاحظة أن هذه الإصلاحات التي عرض، ظل هو نفسه أطول من ثلاثين عاما من حكمه يلتف حولها وينقلب عليها بل ويشرِّع لضدها، كما عرض أن يجري حساب المفسدين شاملا من تسبب في الفجوة الأمنية التي أدت إلى اندلاع أحداث النهب والتخريب يوم الجمعة 28 يناير، ، وهل من غيره مسئول عنها؟ وكل ذلك في المدة الباقية من ولايته الحالية!! إن الخشية، كل الخشية، أن يستغل العجوز المراوغ سلطاته المطلقة في الشهور القادمة وتجييش من يأتمرون بأمره لشن ثورة مضادة لثورة الفل مما يوقع الفرقة، وربما الاقتتال بين شباب ثورة الفل والجيش وبين مناصري الطاغية المأجورين وقوات أمنه. والحق أن ثورته المضادة قد بدأت فعلا في اليوم التالي لخطابه مباشرة ما يدل على اكتمال المؤامرة التي كانت مبيته على الثورة الشعبية ويحجب الثقة عن الرئيس ونظامه.
ولا يمكن منطقيا استبعاد دور تصلب الشرايين في إنتاج هذا النمط من السلوك المتباطئ والعنيد، والرجل في عقده التاسع.
لمن، في مجملها، وفي سياقها، هذه العروض ليست إلا محاولة يائسة للمراوغة ولشق صف المعارضة وصفوف الثورة الشعبية كسبا للوقت. والأهم أن الحكم التسلطي المطلق لا يؤمن، من حيث المبدأ، جانبه أبدا.
وبعد خطاب التنحي المشروط أكدت القوات المسلحة ثانية حرصها على أمن وسلامة المواطنين وأنها "لن تلجأ لاستخدام القوة ضد هذا الشعب العظيم"، ما يوحي بأن هناك في القوات المسلحة، ربما في جيل القيادات الأصغر سنا، من يتعاطف مع استمرار الثورة
إلا أن الخشية، كل الخشية، أن يستغل الرئيس المتصلب المراوغ سلطاته المطلقة في الشهور القادمة وتجييش من يأتمرون بأمره لشن ثورة مضادة لثورة الفل مما يوقع الفرقة، وربما الاقتتال بين شباب ثورة الفل والجيش وبين مناصري الرئيس المأجورين وقوات أمنه. والحق أن ثورته المضادة قد بدأت فعلا في اليوم التالي لخطابه مباشرة، بإدخال شقاة صعاليك مأجورين- من صنف ما اعتاد نظام الرئيس توظيفهم في سياق ظاهرة البلطجة الدنيئة التي أدخلها نظامه على الشارع السياسي في ظل الفكر الجديد لحزبه في حقبة صعود نجله أمين السياسات بذلك الحزب- بغرض الاشتباك العنيف مع شباب الثورة في ميدان التحرير، ما يدل على اكتمال المؤامرة التي كانت مبيته على الثورة الشعبية قبل إعلان مشروع الرئيس، الأمر الذي ينفي أي مصداقية لمقترح الرئيس ويحجب أي ثقة عن الرئيس ونظامه، نهائيا.
لقد اختار الرئيس مواجهة الشعب بالعنف الخسيس، ويبدو أن المشيئة قد قضت بحرمانه من خروج كريم.
فهل تؤدي بوادر التنحي المتتالية إلى الهروب الملتاع ذاته الذي أقدم عليه "زين الهاربين" ؟
وهل تتسع قصور الضيافة في جدة لجلاد فار آخر؟ ومتى؟
|