في الدقائق الأولى من بداية عام 2011، وأثناء احتفالات المصريين بأعياد رأس السنة الجديدة، استهدف تفجير إرهابي كنيسة القديسين، التي تقع بحي سيدي بشر المكتظ بالسكان في مدينة الإسكندرية. راح ضحية هذا العمل الجبان والساقط عشرات القتلى والجرحى من المصريين، أغلبهم من الطائفة المسيحية. بهذه الفعلة، يتوّج القتل الأعمى على أبواب كنيسة جملة تراكمات خلقتها البيئة الحاضنة لروح التعصب والتطرف الطائفي واضمحلال الذات عبر كراهية الآخر. وهذه البيئة تترعرع في مصر منذ اغتيال الحلم وتراجع احتمالات تحسن ولو طفيف في الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، إضافة لاستهداف الدستور والسلطة القضائية ومؤسسات الدولة وإجراءات تأميم مجلس الشعب مؤخرا.
لا يتعامل المدافعون عن حقوق الإنسان مع الظواهر كعرض، بل من واجبهم متابعتها السببية، ومواجهتها بما يتخطى الإكتفاء بالشجب والإدانة. فقد شهدت المنطقة العربية شحنا طائفيا مخيفا في معظم دول المشرق العربي. كما أدت التعبئة الجهادية لنظام الحكم السوداني بعد انقلاب 1989 لتحقيق الطلاق الفعلي مع غير المسلمين في جنوب السودان قبل الاستفتاء بسنوات. ولا نعتقد أن المحاصصة الطائفية، التي ابتكرتها "العبقرية" الأمريكية في العراق، بريئة من هدم أكثر من أربعين دار للعبادة الإسلامية والمسيحية واليزيدية. كذلك تتابع المؤسسة الدينية في السعودية وإيران تصدير خطاب مذهبي يهدد بحروب عقيمة ومدمرة لأشباه الكيانات التي ورثناها من تجزئة المستعمر للمنطقة. ولا يمكن تبرئة أيا من النظم التسلطية العربية التي اعتمدت على عصبيات طائفية مهما كان الغطاء الإيديولوجي..
لكن الخطر كل الخطر يكمن في كون المجتمع ونخبه المختلفة باتوا يتعاملون مع الحقد والتعصب المذهبي والطائفي باعتباره أمرا واقعا، لنسقط فيما يسمى ببداهة الشر. لم نعد نسمع استنكارا، بل تصفيقا وتأييدا لمثقف أو صحفي يتحدّث بخطاب طائفي عادي. في حين أن ذلك من حيث المبدأ موضوع محاسبة قانونية في أي بلد يحترم العهد الخاص بالحقوق السياسية والمدنية. ورغم وقوع أحداث خطيرة، بل وانتشار مقالات ومناشير وأفلام تحتقر الآخر أو تكفره، لم يكن هناك أي رد فعل حقيقي لمواجهة هذا الإنزلاق الخطير.
من الكارثي، أن أي عابر سبيل أو جهاز أمن خارجي يمكن أن يقوم في هكذا جو بعملية إرهابية ويحمّل وزرها لمن شاء! كما أن أجهزة الحكومة لا تتعامل مع هذه الظاهرة كفعل تفتيتي، بل توظفها ما استطاعت لمنطقها ومصالحها. فإن أغلقت محطة تلفزيون طائفية، تغلق منبرين معارضين بالمعية. لقد اعتاد الناس على لغة تُشعل نيران الحرائق، في ظل غياب شبه كامل لعناصر الإطفاء من مسئولين ونخب. ومهما كانت مسئولية السلطات عن أسباب وانتشار الطاعون الطائفي، لا يمكن اختزال الموضوع بقوانين الطوارئ وأزمة تراجع الحريات. هناك عوامل وظواهر مجتمعية وإقليمية ودولية تؤثر في إذكاء الحمى الطائفية والتطرف في المنطقة. إننا نعيش حالة من النفاق الاجتماعي ومن عمليات السطو والتخريب الثقافية بحق التاريخ والجغرافيا يتحمل بعض المثقفين ورجال الدين والصحفيين مسؤوليتها ببحثهم عن النجومية الرخيصة. وهذه الممارسات لا تختلف في آليات ومنطق خطابها عن عملية انتاج الإسلاموفوبيا في أوربة. ما يختلف هو أن الديمقراطية الشكلية الأوربية ومؤسساتها تتيح وسائل ضبط ودفاع للجماعات المستهدفة، في حين أنه في المجتمعات ذات الأنظمة التسلطية العنف هو الوسيلة الوحيدة للمبادرة والرد.
ألا يحق لنا جميعا أن نسأل: ما علاقة الدين الإسلامي أو المسيحي بأي مشروع حرب طائفية مدمرة لا منتصر فيها ولا ناج من جحيمها؟ هل يمكن إعطاء تفسير أو تبرير لما يعتبر من الجرائم الجسيمة في القوانين الجنائية الوطنية والشرعة الدولية لحقوق الإنسان والديانات الكبرى؟ لقد انتظرنا وقفة على مستوى الحدث من المجلس القومي لحقوق الإنسان. لكن تقاعس المجلس عن القيام بمهماته يتطلب تشكيل لجنة مدنية مستقلة من نخبة من القضاة والجامعيين والشخصيات الإعتبارية في البلاد بمبادرة من القوى السياسية والمدنية المناهضة للطائفية، مهمتها الأولى رصد التصريحات والمقالات وأشباه الفتاوى ومحطات التلفزة الطائفية لتعريف الرأي العام المصري والعربي والدولي بها، والمطالبة بمحاسبتها أمام قضاء عادي وعادل ومستقل. لجنة كهذه سيكون لها دور صمام أمان مؤقت، يخفف الاحتقان الطائفي، ويعيد للمجتمع المصري اللحمة الضرورية لتجاوز الأزمة. فالمجتمع والدولة أمام أحد خيارين:
1- الخيار الأمني، ويصب في خدمة النظرة الضيقة للسلطتين الأمنية والتنفيذية، ولكنه لا يعالج لا الظاهرة ولا أسبابها.
2- خيار الأمن الإنساني، القائم على اللجوء للمجتمع المصري باعتباره حامل الداء والجهاز المناعي القادر على استئصاله بآن.
تشدد اللجنة العربية لحقوق الإنسان على ضرورة استبدال الخيار الأمني المعتمد بخيار الأمن الإنساني، وعدم وضع الرأس في الرمل والقول: القاعدة أو الموساد أو .. مروا من هنا. وبالرغم من عدم توافق هموم الحاكم مع هموم شعب مصر، ومن الحالة المتردية التي تسود بخاصة هذا البلد منذ الانتخابات التشريعية الأخيرة، يجب إعادة الإعتبار للمواطنة على حساب العصبيات والمحسوبيات، ومواجهة إيديولوجيات حالة الطوارئ بحرية التعبير والرأي والتنظيم، والتصدي للفساد والأزمة الاقتصادية الحادة بمشاريع تنمية جديرة بالتسمية..
باريس في 4/01/2011
|