نبذتان من مذكرات طوني بلير وجورج دبليو بوش تستحقان التعليق حتى قبل الاطلاع على كامل ما جاء في مؤلّفَيْ الرئيس الأميركي السابق ورئيس الوزراء البريطاني الأسبق.
أفصح طوني بلير في مذكراته، بعنوان «رحلة»، عن أنه وجورج بوش خططا العام 2001 وما تلاه لـ«تدمير الدولة السورية». يجدر التوقف عند مفردتي «تدمير» و«دولة». جرى التحقق من أن العبارة ليست زلة لسان أو خطأ مطبعي. لا يجري الحديث هنا عن «تغيير نظام»، وهو المصطلح الذي شاع آنذاك بالنسبة لنظام صدام حسين. ولم يأت الزعيم «العمالي» البريطاني على خطة لتحقيق «البناء القومي» لسوريا، وهي ترسيمة تحشر هنا وهناك عندما اللغو الإمبريالي تعوزه المفردات المستعارة من تقارير وكالات الأمم المتحدة. ولا كان رئيس الوزراء البريطاني الأسبق يتحدث بالتأكيد عن آخر تقليعة من تقليعات تلك الوكالات وقد باتت تنادي بـ«بناء الدولة» بعدما كان المطلوب إضعاف الدولة، حتى لا نقول تدميرها، من أجل استنهاض قوى «المجتمع المدني» وإعلاء راياتها.
كان في نية ثنائي بوش ـ بلير، بُعيد احتلال العراق، تدمير دولة أخرى من دول المنطقة. يكفي القول بداية إن حديث بلير عن «تدمير الدولة السورية» يشي بأن ما حققه الرجلان في العراق كان تدمير الدولة العراقية تحديداً وتقويضها فوق رؤوس أهلها والمجتمع.
يصعب تصور كيف كان لبوش وبلير تنفيذ عملية التدمير الثانية بالوسائط العسكرية بعد أن راحت «سكرة» النصر على صدام حسين وجاءت «فكرة» الغرق المتمادي في دماء الحرب العراقية. يعلمنا كتاب «سر الرؤساء» للصحافي الفرنسي فانسان نوزيل، أن بوش وشيراك، من دون بلير، توليا هذه المهمة وقد آثرا تحقيق الهدف من خلال لبنان بواسطة القرار 1559 ثم بعده الإجراءات المتخذة رداً على عملية اغتيال الرئيس رفيق الحريري. اقتنع الرئيس الأميركي بنظرية نظيره الفرنسي أنه بديلاً من «صدم» النظام في دمشق وجاهياً، الأحرى «صدمه» من خلال لبنان، ذلك أن لبنان هو «كعب أخيل» النظام السوري... فإن إخراج الجيش السوري من لبنان كفيل بأن يؤدي إلى انهيار النظام في دمشق. صدّق من اللبنانيين مَن صدّق، وشارك وتواطأ ونفّذ، بالنتائج الدموية المأسوية المعروفة. والنتيجة؟ لم تدمّر الدولة السورية، ولم يتغيّر النظام السوري، بل جرى تدمير قسم لا بأس به من الدولة اللبنانية.
يتولى جورج دبليو بوش رواية الفصل التالي من قصص التدمير في مذكراته بعنوان «لحظة قرار». وما ورد فيها عن حرب تموز الإسرائيلية ضد لبنان عام 2006 يستحق التدوين بماء الذهب في سجل الخالدين من رجال الدولة التاريخيين! فالطريقة التي يتحدث بها الرجل عن الحرب لا تترك مجالاً للشك في أنه صاحبها ومخطّطها وقيدومها. ولم يكن ينقص استكمال الصورة إلا ما أفصح عنه أخيراً القائد السابق لقوات الطوارئ الدولية العاملة في لبنان عن وجود «قوة تدخل سريع» أميركية قبالة الشواطئ اللبنانية خلال الحرب وعن طلب أميركي بضم ضابطين من الجيش الأميركي إلى قيادة قوات «حفظ السلام».
الأهم طبعاً هو إعلان الرئيس بوش أن حرب إسرائيل صيف 2006 أصابت نجاحاً إذ هي عززت «الديموقراطية الوليدة» في لبنان.. علماً أن الرئيس الأميركي السابق لا يلبث أن يعترف بقصور تلك الحرب عن بلوغ أهدافها الأخرى. فيعلمنا أنه قدّم المعلومات الاستخبارية إلى إسرائيل لقصف المنشأة النووية السورية المفترضة في دير الزور تعويضاً لرئيس الوزراء إيهود أولمرت عن «الثقة التي فقدها جراء فشله في لبنان»
في نبذتين، وثالثة، من كتب ثلاثة، يتكشّف مشهد خرائبي مذهل في منطقتنا جراء قرارات رجال دولة ثلاثة اتخذوا قراراً بتدمير ثلاث دول، وتقويضها فوق رؤوس سكانها. طبّقوا سياسة التدمير في أفغانستان والعراق بالنتائج المعروفة. أما خطة «تدمير الدولة السورية» فأخذت تتراجع نحو تنفيذ خطة «انهيار النظام من تلقاء ذاته» جراء إخراج الجيش السوري في لبنان. لم تحقق الخطة نتائج مبهرة، ولكن حصد لبنان من «آثارها الجانبية» دورتي عنف علقت الأولى الدولة في معظم فاعلياتها لسنوات، وحملت الثانية من الدمار والضحايا ما شلّ الدولة وأسهم في قسمة المجتمع.
مع هذا، يريدنا الرئيس السابق جورج دبليو بوش أن نصدّق أن «الديموقراطية الوليدة» في لبنان وُلدت عام 2005 وأنها تعززت في عدوان إسرائيل صيف 2006 وعلى إثره!
يمكن الطلب إلى أمانة قوى 14 آذار أن تقدم تقريراً إلى الرئيس الأميركي السابق يفصّل في كيفية ولادة الديموقراطية في آذار 2005 وكيفية تعززها في صيف 2006. وبالمستطاع أيضاً الاستعانة بعلماء سياسة يرشدون الرئيس بوش الأهوج إلى أن «التوافقية الثقيلة» (الدم والوطأة) التي تعززت بعد حربه الفاشلة ومؤتمر الدوحة لم تسهم في تعزيز الديموقراطية الوليدة بل تهدد بإطاحة معظم ما تبقى من مؤسسات وتقاليد وأعراف ديموقراطية في لبنان. وأنها لم تكتف بشل فعاليات الدولة إلى حد أن الحكومة باتت عاجزة عن عقد جلسة عمل، تنتظر متواليات خطة لـ«تدمير» قوى مقاومة ذنبها أنها أفشلت عدوان إسرائيل صيف 2006
ولكن فلنصدّق الرئيس بوش، بشرط أن نفهم وظيفة المفردات في اللغو الإمبريالي الذي تبعه. إنه يستخدم مفردة «ديموقراطية» مثلما يستخدم حكّام عرب، وكثير من رجال الدولة والسياسة، مفردة «فلسطين» (وقضيتها «المقدسة» حيناً و«المركزية» حيناً آخر) عندما يضعون فلسطين على طرف اللسان وباسمها يرتكب القمع والنهب والاستغلال والسجن والقتل والاغتيال والتصفيات.
الفارق أن «الديموقراطية» عند جورج بوش هي التعويذة للإثبات أن عصر الاستعمار والحروب العالمية لا يزال قائماً وأن رحم الرأسمالية لا يزال يتمخض عن مصانع أسلحة دمار وحروب، وأن الحكم في الأنظمة الديموقراطية بات يعني أن تكذب على شعبك، وضحاياك خصوصاً، شرط الاعتراف ببعض أكاذيبك وما يسمّى «أخطاء» كل عقد من الزمن. ولكن بعد خراب الدول والبلدان التي جرى... «تدميرها»
Fawwaz.traboulsi@gmail.com
|