على هامش السنودس الذي عقد مؤخرا في رحاب الفاتيكان لتدارس اوضاع مسيحيي الشرق، والعرب منهم خاصة، وفي العراق وفلسطين خصوصا، أجرت فضائية الجزيرة حوارا مع غبطة البطريرك الماروني صفير، كان فيه أبلغ من عبر عن هواجس قطاع من المسيحيين العرب. إذ بدا غبطته قلقا من ثلاث ظواهر : تدني نسبة المسيحيين في مهد المسيحية الاول، وتراجع ادوارهم في مجتمعاتهم، وعدم اطمئنان قياداتهم على حاضرهم ومستقبلهم. والملاحظ انه خلال العقدين الاخيرين تباينت وجهات نظر الباحثين حول مسببات الظواهر الثلاث والمسؤولية عنها ، ولم تخل مقولات بعضهم من ادعاءات غير تاريخية. ما يستدعي الوقوف مع ظواهر قلق هذا القطاع من المواطنين العرب في ضوء حقائق التاريخ ومعطيات الواقع.
وألاحظ بداية أنه صحيح القول بأن للمسيحيين وجودا اصيلا سابقا للاسلام في العراق وبلاد الشام ومصر. غير أن معظم القائلين بذلك يتجاهلون ان الفتح العربي الاسلامي هو ما حرر تلك الديار من سيطرة أجنبية تجاوزت الأحد عشر قرنا، ووضع حدا لمعاناة شعوبها. بدليل ترحيب الاراميين في العراق وبلاد الشام والاقباط بمصر بالفاتحين العرب، واقبالهم على التفاعل الايجابي معهم والاندماج بهم، بحيث برزت للوجود مطلع القرن الرابع الهجري أمة عربية ذات طبيعة تركيبية تضم التنوع ضمن اطار الوحدة. ما ينفي الادعاء بأن المسلمين العرب خارج شبه الجزيرة دخلاء لا اصلاء، ذلك لانهم حفدة بناة الامة على اختلاف اصولهم ودياناتهم.
ويوضح المستشرق البريطاني سير توماس ارنولد – في كتابه : الدعوة إلى الاسلام – عدم وجود اي محاولة مدبرة لارغام غير المسلمين على الدخول في الاسلام ، أو اضطهاد منظم لاستئصال المسيحية . مؤكدا بان الخلفاء لو اختاروا إحدى الطريقتين لاكتسحوا المسيحية بتلك السهولة التي اقصى بها فرديناند وايزابيلا الاسلام من اسبانيا . فيما يقرر د. أدمون رباط – في كتاب : المسيحيون العرب – أن "نظام أهل الذمة " الذي طبق بحق غير المسلمين " كان فتحا في عالم الفكر وابتكارا عبقريا، لأنه لاول مرة في التاريخ انطلقت دولة هي دينية في مبادئها وهدفها الاوحد هو نشر الاسلام عن طريق الجهاد بكل اشكاله المختلفة، إلى الاقرار في الوقت ذاته بان من حق الشعوب الخاضعة لسلطانها ان تحافظ على معتقداتها وتقاليدها وطراز حياتها " . وكان من نتائج حرية المسيحيين العرب بممارسة حقوقهم الدينية والمدنية في صدر الاسلام اسهام مبدعيهم في بلورة النسق الحضاري العربي الاسلامي، مجسدا توليفة متكاملة من تفاعل قيم الاسلام وتعاليمه مع تراث عرب شبه الجزيرة، وموروثات شعوب وقبائل الوطن العربي والنخب التي استقطبها المركز الخلافي العربي الاسلامي أيام غدا مركز الاشعاع الحضاري الاول.
ويذهب د. كمال صليبي – في كتاب تاريخ لبنان الحديث – الى انه حتى نهاية القرن الحادي عشر كان المسيحيون هم الاكثرية في بلاد الشام. والثابت ان الغزاة الافرنج، زمن ما يسمى "الحروب الصليبية "، اضطهدوا المسيحيين الشرقيين الارثوذكس، إذ فرضوا عليهم – كما يذكر المؤرخ البريطاني ار . سي . سميل - في كتاب الحروب الصليبية - الطاعة ودفع ضريبة العشر لرجال الكنيسة اللاتين. كما أنهم منعوا الاقباط من الحج للقدس باعتبارهم "هراطقة " وحولوا كنائسهم بالقدس الى كنائس لاتينية. ولقد شهد قرنا الصراع دخولا كثيفا في الاسلام. يعيده د. صليبي لما يعتبره خروج المماليك عن القاعدة التي حكمت التعامل مع اهل الكتاب في القرون الهجرية الاولى. فيما يرى فكتور سحاب – في كتابه من يحمي المسيحيين العرب ؟ - أن غالبتهم انحازت لبني قومها وليس لبنى دينها، ويقرر بان "المسعى الصليبي كان وبالا على المسيحيين العرب من حيث ظُن او صُور إنه جاء للدفاع عنهم ". ولقد تكرر الامر خلال القرنين الثامن والتاسع عشر بتعرض الكنائس الشرقية العربية ورعاياها لحملات تبشير كاثوليكية وبروتستانتية معززة بدعم استعماري. وفيما عاناه المسيحيون العرب من الغزاة والمبشرين الاوروبيين البرهان التاريخي على وحدة المسيرة والمصير بين العرب مسلمين ومسيحيين.
وبالانتقال لمعطيات الواقع يتضح ان تدني نسبة المسيحيين العرب انما يعود بالدرجة الاولى لكون غالبيتهم بين الاكثر توجها لتحديد النسل، وتأخير سني الزواج، بل والعزوف عنه، ما تسبب بتدني نسبة مواليدهم. ثم إن المسيحيين اعلى نسبة بين البرجوازية الاشد تأثرا بالتقلبات السياسية والمستجدات الاقتصادية، والأكثر اقبالا على الهجرة بحثا عن الفرص. وألاحظ أن السعودية والخليج العربي استقطبا عشرات آلاف منهم، في زمن سبق "الصحوة الاسلامية " ما يرجح محدودية تأثيرها في هذه الظاهرة المقلقة .
ولأن المسيحيين العرب لا يتمايزون عن بني قومهم المسلمين على محاور السلالة واللغة والقيم وانماط السلوك فانهم مهما تدنت نسبتهم جزء لا يتجزأ من النسيج المجتمعي العربي قوميا وقطريا. ولما كانوا غير مهمشين اقتصاديا وثقافيا وفنيا، بل تفوق نسبهم في اي نشاط نسبتهم العددية، فليس علميا اعتبارهم اقلية في اي قطر عربي. وهذا ما وعته مبكرا الكنيسة القبطية لرفضتها "الحماية " التي عرضها كرومر، كما النص على تخصيص مقاعد نيابية او بلدية للاقباط. وذلك ما تواصل في كل المواثيق الدستورية المصرية حتى اليوم.
ثم إن ظاهرة تراجع الدور انما تعود لما شهده المشرق العربي من تزايد الانفاق على التعليم، واقبال ابناء الطبقة الوسطى ومن دونها على الجامعات، وانفساح مجالات التخصص المهني لهم التي كانت شبه قاصرة على النخبة حيث يشكل المسبحبون نسبة عالية فيها تفوق نسبتهم العددية . وبالتبعية اشتدت المنافسة في المجال المهني كما على المراكز الاجتماعية والادوار السياسية . وإن مقارنة بين واقع كل من موارنة وشيعة لبنان في اربعينات القرن الماضي واليوم كفيلة ببيان علة تراجع الدور .
أما عدم اطمئنان القيادات الروحية والسياسية المسيحية على الحاضر والمستقبل، وما يولده من تطلع للحماية ، فمسألة تقتضي اول ما تقتضي تحديد مصدر الخطر الذي يتهددهم لتبين سبل الحماية الافضل ، وذلك ما ساحاوله في المقال التالي.
ما سبل حماية المسيحيين العرب ؟
المسيحييون العرب جزء حيوي من النسيج المجتمعي العربي قطريا وقوميا، وله اعتباره اقليميا ودوليا، والموقف تجاههم الايجابي كما السلبي يرتد على صورة العرب والمسلمين عالميا. وبالتالي فما يستشعرونه من قلق غير مسبوق على حاضرهم ومستقبلهم، وما يبديه بعض نشطائهم من تطلع لحماية خارجية، يمسان في الصميم الامن والسلم الاهلي على مدى الوطن العربي. ما يستدعي البحث المعمق في مصادر الخطر الذي يستشعرونه وسبل حمايتهم وتوفير ضمانات أمنهم وآمانهم والمسؤولية عن ذلك، في ضوء حقائق التاريخ ومعطيات الواقع العربي.
ويبدو جليا ان العدوان الآثم على كنيسة "سيدة النجاة" في بغداد، وتهديد "القاعدة" بمزيد من الهجمات ضدهم، ضاعفا مخاوفهم لدرجة ان مطرانا عراقيا مقيما في لندن نصح مسيحيي العراق بمغادرته. وانني لمدرك تماما خطورة العمليات الارهابية والتهديدات الرعناء التي يطلقها بحقهم رافعو الشعارات الاسلاموية، إلا أن التعاطي مع العدوان الآثم ومقترفيه يفتقر للموضوعية عند التركيز على ما هو طاف على السطح دون تقصي مسبباته والظروف التي برز فيها. ذلك لان "القاعدة " حركة طارئة على الفكر والعمل الاسلامي استولدتها القابلة الامريكية التي تولت منذ خمسينات القرن الماضي تفريخ حركات الارهاب السياسي اليسارية واليمينية، والتي سوقها الاعلام الموجه امريكيا على انها معادية للامبريالية ماضيا والهيمنة "الصليبية" راهنا ، بما كفل لها قبولا شعبيا واسعا. ثم إن "القاعدة " ، وما تفرغ عنها من تنظيمات "جهادية " متعددة الاسماء نتاج واقع عربي مأزوم سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا. ولطالما عرف التاريخ "المغفلين النافعين" العاملين دون وعي في خدمة اعدائهم . والثابت أن ما يحول دون استغلالهم ، وامثالهم من المنحرفين، انما هو معالجة الواقع المأزوم الذي افرزهم، وليس فقط الوقوف عند ادانة جرائمهم وشجب ضلالهم الفكري ، كما هو جار عربيا.
والجدير بالتذكير به أن ما اقترف بحق المسيحيين العرب لم يقتصر عليهم، وانما اقترف مثله واشد بحق المسلمين على اختلاف مذاهبهم في اكثر من قطر عربي، فضلا عن انه ارهاب طارىء على الحراك السياسي العربي . بل إنه من بعض حصاد مرحلة الانكفاء عن التوجه القومي الوحدوي ، واعتماد التنمية المستدامة، والاهتمام بالعدالة الاجتماعية ، منذ مطلع سبعينات القرن العشرين. ما يدل على أن في مقدمة ما يسر اقتناص الغلاة وتحريكهم بالرموت كونترول إنما هو افتقاد النظام الاقليمي العربي المنعة، وتخلف انظمته وعجز معظمها عن الوفاء باحتياجات مواطنيها ، واتساع الفجوة بين الغنى الفاحش والفقر المدقع. وبالتالي فالمسؤولون عن تواصل تخلف المجتمعات العربية عن مواكبة العصر يتحملون قسطا غير يسير عن ضلال وضياع هذه الفئة من شباب الامة.
وحين تقارن حال مسيحيي العراق اليوم بما كانت عليه حالهم قبل الغزو الامريكي يتضح أنه المتسبب الاول بما آلت اليه حالهم . ويقينا ان آخر من كانت تسهدفهم إدارة بوش بغزوها العراق إنما هم مسيحيوه، إلا أن اعتمادها استراتيجية "الفوضى الخلاقة" وتوظيفها في تدمير بنى دولة العراق وتمزيق وحدة نسيجه المجتمعي والتعاطي مع مواطنيه على اسس طائفية وعرقية وإذكاء الصراعات بين قواه الاجتماعية ما يسر تحوله الى ساحة مكشوفة ليمارس فيها الغلاة ارهابهم، ناهيك عن ارهاب مرتزقة "بلاك ووتر " وغيرها من الشركات "الأمنية " التي جاءت في الركب الامريكي. ودائما تكون الجماعات الاضعف هي الاكثر تضررا عند نشوب النزاعات الاهلية، بحيث كان مسيحيو العراق ابرز ضحايا استراتيجية "الفوضى الخلاقة". وهذا ما ينبغي ان تعيه القيادات الروحية والسياسية المسيحية العربية المشدودة ابصارها للخارج.
والثابت انه في العام 1954 دعا بن غوريون الى تمزيق وحدة لبنان باستغلال المشاعر الانعزالية لبعض قياداته المسيحية. ومعروف ان اسرائيل اقامت صلات واسعة وعميقة مع قيادات الجماعات المعتبرة تجاوزا "اقليات" في معظم الاقطار العربية. وحين يصدر سنودس مسيحيي الشرق مؤخرا تقريرا يدمر الاسس التوراتية لاسطورتي "ارض المعاد" و"شعب الله المختار"، فالمرجح أن لا يقف رد الفعل الصهيوني عند فتح ملف علاقة الفاتيكان المدعى بها بالنظام النازي والسكوت المنسوب اليه تجاه المحرقة الالمانية "الهولوكوست" بحق مواطنيه اليهود كما يذهب بعض المحللين، وانما سيمتد ذلك لتحريك الفتن الدينية ضد المسيحيين العرب، الذين لعب ممثلوهم في السنودس دورا فاعلا في كشف الغطاء التوراتي عن ابرز الاساطير المؤسسة لاسرائيل. فهل يعي الزاعقون ضد "الصليبيين" اي جرم يقترفون إن هم استدرجوا للملعب الاسرائيلي بعد غرقهم في المستنقع الامريكي.
ويظل تعزيز الوحدة الوطنية في كل قطر عربي هو ما يمنع استراتيجية "الفوضى الخلاقة " من تمزيق وحدة المجتمعات العربية، وما يترتب على ذلك من فسح المجال لمحاولات الاختراق الخارجية ايا كان مصدرها. وفي مقدمة المطلوب لتعزيز منعة المجتمعات العربية تأصيل خطاب التآلف بين مكوناتها على تعددها، وذلك بالعمل على محورين متكاملين : الأول اسلامي، يؤكد ما قرره الامام ابو حنيفة – في العالم والمتعلًم – بقوله : "إن الله عز وجل انما بعث رسوله ليجمع به الفرقة وليزيد الالفة ، ولم يرسله ليفرق الكلمة ويحرش الناس بعضهم على بعض ". والثاني مسيحي، بالمراجعة الجذرية للفكر الطائفي الذي اصلته مدارس ومعاهد الارساليات التبشيرية، وبخاصة جانبه الرامي الى تغريب الناشئة عن قيم الحضارة العربية الاسلامية وتأليبهم عليها، كما وثق ذلك د. جورج قرم – في كتاب تعدد الاديان وانظمة الحكم –. وتعزيز العمل على المحورين بالتوجه الجاد والصادق لاقامة جبهات وطنية قطرية ملتزمة بالمبادىء القومية الستة المتوافق عليها المؤتمران القومي العربي، والقومي – الاسلامي، ومؤتمر الاحزاب العربية. ودعم مقاومة مخطط التفتيت العرقي والطائفي المعتمد امريكيا لاقامة "الشرق الاوسط الجديد ". وهذه هي السبل العملية لحماية المسيحيين العرب، واغلاق كل المنافذ امام تداعيات ما يستهدفهم على اختلاف مصادره، وتفعيل دورهم في استجابة امتهم للتحدي الامبريالي الصهيوني.
|