نتائج الانتخابات النصفية للكونجرس الأمريكي أبرزت بوضوح مدى خيبة الأمل الكبيرة التي عاشها الناخب الأمريكي والتي عكسها في صندوق الاقتراع، فقد استطاع الجمهوريون أن يحققوا فوزاً مميزاً وكاسحاً بحصولهم على 50 مقعداً، وكان يكفي لهم 39 ليتمكنوا من تشكيل الأغلبية وبالتالي يتحكموا في قراراته اللاحقة، بل أكثر من ذلك فقد وعد أعضاء حزب الشاي الذين حصلوا على 19 مقعد، من إعادة طرح بعض التشريعات التي اقرها الكونجرس وأهمها قانون التأمين الصحي، وبالمناسبة فهو حزب يميني متطرف يرفض تدخل الدولة وقيامها باتخاذ سياسات وإجراءات تساهم بالحد من الفقر أو البطالة أو تحقيق خدمات اجتماعية لصالح الفئات الاجتماعية المهمشة، بمعنى أنهم يؤمنون بسياسة الخصخصة ومنهجية الليبرالية الجديدة التي تجد قاعدتها في أعضاء الحزب الجمهوري في نفس الوقت والتي تخدم مصالح الشركات الاحتكارية الكبرى.
كان من الطبيعي قيام الناخب الأمريكي بمعاقبة اوباما، وباستثناء إقرار قانون التأمين الصحي الذي يفيد فئات اجتماعية واسعة وعريضة بالمجتمع، إلا انه لم يستطع ان يتصدى للمشكلات الداخلية وفي مقدمتها الأزمة المالية التي يعود أساسها لازمة الرهن العقاري، التي أدت إلى إغلاق عدد كبير من المصانع وإفلاس العديد من المؤسسات النقدية والبنكية، إضافة إلى ارتفاع معدلات البطالة والتي وصلت إلى 9.3% وهي نسبة كبيرة جداً لم يبلغه الاقتصاد الأمريكي منذ سنوات مضت ،إضافة إلى تراجع معدلات الإنتاج وزيادة نسبة المديونية وانخفاض قيمة الدولار، وبالمقابل فقد بقيت السياسة الخارجية الأمريكية لا تختلف كثيراً عن سياسة الإدارة الأمريكية السابقة برئاسة بوش والتي كانت تعكس سياسة المحافظين الجدد فما زالت القوات الأمريكية متواجدة وتخوض حرباً في كل من أفغانستان والعراق، حيث تنفق الإدارة الأمريكية المليارات من الدولارات على التسلح، كما ان الأعمال العسكرية التي تقوم بها القوات الأمريكية على الحدود مع باكستان بلغت ذروتها من العنف القاسي والمبالغ به.
وفي الحقيقة فهناك حالة من الإحباط وخيبة الأمل الشديدة أيضا فيما يتعلق بالمواطن العربي والفلسطيني، فرغم الخطاب التصالحي والمشجع الذي ألقاه الرئيس اوباما في بداية تسلمه الرئاسة في القاهرة وإبراز درجات عالية من التعاطف مع الشعب الفلسطيني لدرجة انه شبه الاضطهاد الذي يحياه منذ عام 48 باضطهاد السود في الولايات المتحدة، إلا انه اخفق في ترجمة هذا الخطاب إلى خطوات عملية ملموسة فقد تراجع بسهولة وبسرعة عن الضغوطات التي مارسها على نتنياهو فيما يتعلق بالاستيطان كشرط لاستئناف المفاوضات المباشرة، وقد تماهي مؤخراً مع توجهاته وحاول ان ينقل الضغط على القيادة الفلسطينية بدلاً من الضغط الضروري على الاحتلال بوصفه المعتدي وأساس الأزمة والتوتر بالمنطقة.
لقد أدار ظهره لوعوده وكذلك لتقرير بيكر هاملتون الذي نصح بحل القضية الفلسطينية ووضعها على رأس أولويات أي إدارة أمريكية، كما أكد التقرير على أهمية لغة الحوار مع كل من ايران وسوريا.
إن التصعيد عبر المقاطعة الدبلوماسية والسياسية والاقتصادية بحق إيران ، وزيادة قوة الضغط والتصعيد بحق سوريا يخالف نتائج وتوصيات هذا التقدير، كما يؤكد عدم قدره اوباما على اتخاذ قرارات فاعلة تتجاوز الخطاب الحماسي إلى أفعال عملية مؤثرة على الأرض بل أكثر من ذلك، حيث نرى تقارباً وتماهياً شديداً بالسياسة الخارجية لكل من اوباما وإدارته الديمقراطية مع الإدارة السابقة بقيادة الجمهوريين والمحافظين الجدد خاصة فيما يتعلق بالشرق الأوسط والقضية الفلسطينية على وجه التحديد.
إن هذا التماهي يبرز بوضوح في استمرارية إدارة اوباما بإتباع منهج سلفها القديم فيما يتعلق بالمنطقة العربية، تلك السياسة المبنية على فلسفة الشرق الأوسط الكبير الذي يرتكز إلى تعظيم قوة إسرائيل العسكرية والاقتصادية وبالمقابل العمل على تجزئة الوطن العربي إلى أجزاء مقسمة، على بعضها البعض عبر تسعير الصراعات الطائفية والعرقية والمذهبية ، حيث نرى حالة العراق الذي اصبح عملياً يتكون من ثلاثة أجزاء " شيعية ، سينية ، كردية " رغم استمرار حفاظه على الوحدة الجغرافية، لقد اثبت التجربة العراقية انه لا يمكن بناء أية ديمقراطية في ظل حراب الاحتلال وفي ظل أجواء مسعورة من الصراعات الطائفية والقبلية والتي تتجاوز فلسفة المواطنة المبنية على مبدأي المساواة وعدم التمييز ، لقد فشلت بامتياز فكرة الديمقراطية المفروضة فرضاً وعبر التواجد العسكري والتي كانت إحدى محاور مفهوم الشرق الأوسط الجديد كما نرى الضغوطات الأمريكية والإسرائيلية تجاه محاولة فصل جنوب السودان عن شماله، هذا الجنوب الذي يكتنز الثروات الطبيعة، وخاصة النفط، كما نرى المحاولات المسعورة، لتأجيج النعرات الطائفية في لبنان واليمن ، والعديد من مناطق النزاع بالوطن العربي كل ذلك في إطار تنفيذ سياسة تجزئة المجزء وتقسيم المقسم المرتكزة لقاعدة الشرق الأوسط الكبير او الجديد، الذي يستهدف تفتيت الهوية العربية الواحدة وإبراز هويات اثنية ، عرقية ، طائفية، على أنقاضها لتعطى الشرعية للطابع العنصري لدولة إسرائيل التي تحاول انتزاع اعترافاً عربياً ودولياً يؤكد الطابع اليهودي للدولة بما يغلق الباب أمام مطلب حق العودة وفق القرار 194 ويفتح الباب أمام أعمال التهجير والتطهير العرقي بحق جماهير شعبنا في مناطق 48 والبالغ عددهم حوالي 1.5مليون إنسان.
إن الدرس الذي من الممكن اسخلاصة من نتائج الانتخابات النصفية للكونجرس الأمريكي ان المواطن الذي صوت لشعار التغير كان يريد تطبيقات ذلك على المستوى العملي في مجالات الصحة والاقتصاد والتنمية الاجتماعية والبيئة والسياسة الخارجية....حيث نرى ان اوباما عاد لتنفيذ سياسية الإدارة الأمريكية التي سبقته فقد فضل الناخب الأمريكي عقابه أولا والتصويت للنسخة الأصلية للسياسة الأمريكية بدلاً من التصويت للنسخة المعدلة التي تتحلى بوجه جديد ليس الا دون تغييرات جذرية بالمضمون أي في إطار الحفاظ على المنهجية القديمة.
لقد بدا اوباما ضعيفاً متردداً في اتخاذ قراراته رغم خطاباته الحماسية ووعوده، وحين يتخذها فلا يجرؤ على تنفيذها، إن قائداً ورئيساً بهذه المواصفات لا يستطيع أن يساهم بفاعلية في تغيير السياسة الأمريكية، بل سيكرس هذه السياسة والمنهجية رغم اختلاف لونه.
والعبرة الرئيسية التي يكمن استنتاجها من نتائج الانتخابات أن الناخب الأمريكي قد قرر أن يقوم بعقاب من يطلق الوعود الكاذبة ؟؟
|