في 26 سبتمبر الماضي، أرسلت المقال التالي لهذه الكلمة إلى الجزيرة نت، ويعرف كل من يستلم مقالاتي منذ بدأت الكتابة فيها قبل سنوات، لم يبق من أسمائها أحد، بأن مقالاتي ترفق غالبا بجملة "يرجى إعلامي في حال عدم الرغبة في نشره". ولا أتذكر حدوث ذلك. لا لكون هذا المنبر قمة في الديمقراطية، ولكن لأنني أدعي بأنني كنت أعرف جيدا السقف والممنوعات فيه. إلا أن هذا السقف وهذه الممنوعات ما فتئت تزداد، ولا أدري ما هي الأسباب، ولكن بالتأكيد، يوجد خطر فعلي على إحدى نقاط الضوء في العالم العربي، وهذا مؤسف، ومن المهم دراسة الوضع وأسباب الحصار وشخوصه. هل هي مجرد صداقات وعداوات ومحسوبيات إيديولوجية أو شخصية إلخ، أتمنى أن تكون كذلك، فتزول الأسباب بملاحظة لمسببيها أو أكثر في حال التمادي؟ وألا يكون الأمر سياسة جديدة للدولة التي أنجبت الجزيرة. السؤال مطروح منذ أشهر ولا شك بأنه يحتاج إلى إجابة. بانتظار ذلك، أضع هذا المقال بدون تغيير، كونني تسلمت شبه رسالة اعتذار عن نشره بعد 23 يوما؟. وخلال تلك الفترة كنت مشغولا بدورة تدريب فلم أنتبه إلى مرور كل هذا الزمن.
في 22 سبتمبر 2006، وقبيل الإنتخابات التشريعية الأخيرة، نظمت حركة حق ندوة حول الإنتخابات في منطقة البلاد القديم في البحرين، توجهتُ إلى المنطقة لأجد حشدا بوليسيا ضخما مدججا بملابس وأسلحة مناهضة الشغب يحاصر المكان، تابعت المسير إلى وسط تجمع من مئات الأشخاص مُنِعَ من دخول صالة لهذه الغاية، ألقى حسن المشيمع من حركة حق كلمة مختصرة أنهاها هجوم أجهزة الأمن بالقنابل المسيلة للدموع والرصاص المطاطي والهراوات مع تصوير جوي بطائرة هليكوبتر تشرف على العملية من الأعلى، صورتُ قسما هاما من المشهد، ثم حماني بعض المشاركين من قنبلة مسيلة للدموع قبل أن يقتادوني إلى حسينية للنساء بقيت فيها إلى حين هدأت الأمور قليلا. كنت قبل ذلك قد شهدت حرق إطارات أو ملاحقات أمنية صغيرة، كذلك زودني الأصدقاء بصور وأفلام لعدة اعتداءات على متظاهرين، لكنني لم أر حصارا محكما من هذا النوع وهجوما دون سابق إنذار ودون طلبٍ للمنظمين من أجل فك التجمع سلميا حرصا على السلامة العامة. قال لي أحد الأصدقاء بعد الواقعة، اطمئن، ستهدأ الأمور بعد الإنتخابات.
أذكر هذه الحادثة ونحن في فترة قبل انتخابية مشابهة لتلك التي وقعت قبل أربع سنوات، إلا أن الظرف ولشديد الأسف لا ينطبق على سابقه، الوضع المدني مزعزع، والتماسك الوطني يضعف والثقة المجتمعية الداخلية تتدهور والتعبيرات الوسيطة القادرة على لعب دور صمام الأمان تتعرض للخنق أو التحييد. هناك عقلية مؤامرة تخيم على الأجهزة الأمنية والتنفيذية وقسم هام من صناع القرار. كذلك، وعوضا عن أن تلعب دور الجوار دور المركن والمهدئ، ثمة اصطفاف اتوماتيكي مع القرارات والخيارات الأمنية للحكومة. فهل هي عملية كسر عظم ضرورية تسبق الإنتخابات، أم إعادة درامية لسيناريو وهمي "محاولة انقلاب" لم يفكر بها أحد قط، أم حرب استباقية لما يمكن أن يرافق صراعا إقليميا مع الجار الإيراني، باعتبار البحرين ضمن التصنيف المذهبي والعقلية الطائفية، تشكل البطن الرخو لدول الخليج؟
لقد كان قدري أن أشهد، وبمحض الصدفة، اعتقالات ديسمبر 2008 واللقاء بعائلات المعتقلين من كرزكان ودراسة الملف على الأرض، كذلك وبعد تبني الضحايا، الشعور بنوع من الإعتزاز بقرار القضاء البحريني إطلاق سراح المتهمين والاجتماع معهم للإستماع لشهاداتهم، قبل أن تعود القضية بتدخل إداري لنقطة الصفر الإتهامية. كذلك تابعت ملف المعامير وشعرت بحجم التسييس وكأن أجهزة الأمن بحاجة لضبط الأمور عبر أمثلة ردعية.
كذلك تابعت عن كثب توثيق ما يحدث من تعذيب واتصلت في 2009 بأكثر من مسؤول للحديث في الموضوع والبحث عن وسيلة لوقف هذه الجريمة المشينة في القانون الدولي والشرعة الدولية لحقوق الإنسان. وسمعنا وعودا طيبة لكن دون متابعة في الواقع. وقد بدأ هذا العام عام بمواقف متضاربة وأحيانا متناقضة بعضها ضمن منطق أمني وبعضها غير مفهوم البتة. ففي الأيام الثلاثة لسباق السيارات (فورميلا 1) بين 12-14 مارس 2010، وقعت عدة احتجاجات محلية قابلها حضور أمني عالي المستوى وحصار للقرى وزيادة لتواجد القوات الأمنية عند مداخل القرى وبعض أزقتها. وقد رصدت المنظمات الحقوقية قيام أفراد تلك القوات الخاصة "المتوترة" بالإعتداء على العديد من الشباب في بعض القرى واستخدام القنابل الصوتية للتقليل من الحركة. إضافة لاطلاق الغازات الكيماوية الخانقة والمسيلة للدموع، واستعمال القوات الخاصة الهراوات في الإعتداء على المارة كما حدث في قرية سماهيج، فيما أكثرت من استعمال الذخيرة الحية (رصاص الشوزن المستعمل لصيد الطيور) في المناطق التي شهدت شدة في الاحتجاجات.
لكن من جهة أخرى، تشكلت المؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان بقرار ملكي وعهدت رئاستها إلى سلمان كمال الدين من الجمعية البحرينية لحقوق الإنسان وضمت عضويتها عبد الله الدرازي أمين عام الجمعية. وجرى الحديث في صلاحيات فعلية للمؤسسة. كذلك شهدت البحرين نشاطا هاما على صعيد المؤتمرات الفكرية والثقافية وعدة دورات تكوينية لنشطاء حقوق الإنسان في المنطقة. فما الذي جرى؟ ولماذا تدهورت الأمور وبشكل متسارع.
ثمة من يتحدث عن تقدم فكرة المحاسبة القضائية التي تدعمها، على الأقل في الدول الأوربية، ملفات قوية حول التعذيب، فقد وردنا تقارير طبية عدة عن رفض معالجة المصابين بالشوزن أو معالجتهم في ظروف بوليسية قاسية. كذلك تقدم عدد من المحامين بدعوى حول الممارسة المنهجية للتعذيب. ولأخذ فكرة عن هذا الملف، ننقل من المذكرة المقدمة للمحكمة الكبرى الجنائية مقطعا معبرا عن وضع أحد الضحايا: "تعرض الموقوف لمحاولة الاعتداء جنسياً عليه أكثر من مرة، وكان يغيب عن الوعي عدة مرات بسبب شدة الضرب وخصوصا في منطقة الرأس وتتم إفاقته بالماء البارد على وجهه ليجد الشرطة تعاود ضربه في أنحاء مختلفة من جسمه وتعذيبه حتى يغيب عن الوعي مرة أخرى، كان وضعه مقيد الرجلين بحبال من الخلف إلى يديه وهو يتلقى الضرب بهذه الوضعية، بالاضافة الى تناوب رش وجهه بالمادة الحارقة والماء.. كان الضرب بواسطة الأيدي وأيضاً بأدوات صلبة متعددة استخدمها الشرطة مثل وضع أنبوب بلاستيكي بين رجليه وهي مربوطة وضربها، وكان يرمى بشدة على الدرج أو يقذف من أعلى الدرج حتى أسفله وهو مقيد مع ضربه بالأنبوب البلاستيكي وكان ذلك كله لاجبار المتهم على توقيع أوراق لا يعرف مضمونها. تم تعليقه من يديه وشدّه من رجليه وهو معلقّ وتهديده باستخدام الكهرباء إن لم يعترف ويوقع الأوراق ولقد شاهده على هذا الحال المتهمين الثاني والثالث وشاهدي النفي ... بقي 4 أيام في الغرفة التي كتب عليها (مقبرة الأحياء والأموات) معصوب العينين.. كان يتم تقديم الطعام إليه ويداه مقيدتان إلى الخلف وكان يطلب فتح القيد ليتمكن من تناول طعامه لكن بدون استجابة من الشرطة. يتعالج المتهم في مستشفى الطب النفسي نتيجة إصابته بالصرع جراء التعذيب، وسبق أن تقدم الدفاع بمستندات تفيد تردده على المستشفى النفسي للعلاج. في كل مرة يتم تحويله للمستشفى للعلاج كان يتم سحبه قبل اتمام العلاج، مما سبب تدهور حالته الصحية بصورة كبيرة. (ملف الدعوى يحوي صورة بشعة لوجة جراء الضرب ومرفق صور له بعد التعذيب بشهرين مع هذه المذكرة)".
لكن الهرسلة في الملاحقات القضائية الداخلية كانت تضع الضحايا دائما في قفص الدفاع عبر تهم كبيرة وعبر إبقاء ملفاتهم قابلة للجلب.
هناك الفرضية الإيرانية، ولكنها برأينا ضعيفة وغير منطقية، فالمواطنين في البحرين، بما فيه قطاع هام من غير الشيعة، معجبون بحزب الله العربي أكثر من اهتمامهم بأحمدي نجاد، ويتقاسمون هاجسا وطنيا له جذوره التاريخية في طبيعة الحركة السياسية نفسها. والأحزاب الدينية الشيعية لها برنامجها الأقرب للوطنية الديمقراطية بالمعنى التقليدي للكلمة منه إلى دولة دينية أو مذهبية. إلا أن هناك بالتأكيد نفور وعداء للأطروحات والمواقف الأمريكية من إيران، نجده عند حركة "وعد" غير الدينية كما نجده عند "الوفاق". ويتسع نطاق العداء للأمريكيين إلى مختلف التيارات السلفية عندما يتعلق الأمر بالعراق أو أفغانستان. إذن نحن أمام خارطة سياسية بالدرجة الأولى تطبع العديد من النقاشات والخلافات الداخلية بمنطق بحريني وطني أكثر منه منطقَ تبعيةٍ لأحد.
يبدو أن تنظيم ندوة عن البحرين في مجلس اللوردات البريطاني في صيف هذا العام كان القشة التي قصمت ظهر البعير، فاعتقل الدكتور عبد الجليل السنكيس يوم عودته من بريطانيا في 13 آب/أغسطس 2010. وتبع ذلك اعتقالات لشخصيات دينية وسياسية وحقوقية بحيث وصل عدد الموقوفين والمحقق معهم والمعتقلين إلى قرابة 250 شخصا وتعرض الكثير منهم للتعذيب. وقد استخدم القانون رقم 58 لعام 2006 لعزلهم عن العالم وحرمانهم من كل وسائل الدفاع القانونية الطبيعية عن النفس. مع حملة تشهير بأسماء معروفة في أوساط حقوق الإنسان العربية والدولية.
ثم جاءت عملية ضرب الحكومة أحد أهم رموز المجتمع المدني في المملكة: الجمعية البحرينية لحقوق الإنسان. ففي 8 سبتمبر 2010 أصدرت وزيرة التنمية الاجتماعية قرارا بتعيين مدير مؤقت للجمعية البحرينية يدير شؤونها لمرحلة انتقالية يتم فيها تنظيم عملية انتسابات وانتخابات من فوق، تعيد هيكلتها لتصبح منظمة حكومية غير حكومية (غنغو). أغلقت منابر إعلامية عديدة أهمها صحيفة الديمقراطي التي تصدرها حركة وعد (كان موقع وعد الإلكتروني قد أغلق العام الماضي مع حجب قرابة 1040 موقعا) وموقع جمعية الوفاق الوطنية الإسلامية ومواقع إذاعية على الشبكة العنكبوتية، وتم شن حملة إعلامية لا سابق لها للتشهير بشخصيات سياسية وحقوقية في البلاد.
إن القرارات الأمنية الأخيرة تحرق أهم نياشين العزة المدنية والسياسية التي صارت مملكة البحرين نبراسا لها في المنطقة. ومن المؤسف أن دورات التدريب على الحقوق الإنسانية والبناء المدني ومناهضة العنف ومحاربة الطائفية، التي نعتز بالمشاركة بها في البحرين، هي اليوم موضوع استنكار من وزارة الداخلية التي قررت منع من استفاد منها من دخول أراضي المملكة مستقبلا. فهل التأهيل على تكوين الجمعيات المدنية السلمية وثقافة اللاعنف يمكن أن يمهد لحركة انقلابية أو يشكل إساءة لدول الجوار التي أوفدت أكثر من مشارك من هيئاتها الوطنية لهذه الدورات؟
لم يعد ثمة تماسك منطقي في الإجراءات الأمنية، والسؤال المطروح هل هي مجرد حرب استباقية للسيطرة على العملية الإنتخابية، أم أن المنطقة تتجه نحو صراع أمريكي-إيراني مباشر يستلزم خنق وسائل التعبير والنضال الأكثر دينامية في منطقة الخليج؟ وإذا كان ثمة تصعيد من هذا النوع، فلم يدفع المجتمع البحريني الثمن اليوم وتدفع دولة البحرين الفاتورة على المدى المتوسط والبعيد؟
ليس للمرء إلا أن يتوجه مرة أخرى لكل أبناء هذا البلد بالقول: أما ملّت الإطارات من حارقيها، أما ملّت البطالة من وجوه العاطلين المتكررة، وسأم الجميع من تضخيم الرقابة قوائم ممنوعاتها على الشبكة العنكبوتية والمطابع الورقية؟ متى ينتهي مشهد سيارات الأمن على أبواب الأحياء والقرى الشعبية الذي يُشعر كل مواطن بأنه مشبوه بالضرورة، مشاغب بالضرورة، وموضوع ملاحقة محتملة عاجلا أو آجلا. ألم تستوعب السلطة التنفيذية عقم الحل الأمني؟ وأن القبضة الحديدية عنصر تمزيق للوحدة الوطنية وعامل تعميق للشروخ المواطنية. أما من مبادرة حكيمة تضع حدا لهذه السياسة ذات العواقب الكارثية والمدمرة؟
لعل ملك البحرين، الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة، الشخصية التي ما زالت تملك الرصيد الأقوى والأوسع في الوعي الشعبي والمؤسسي، لإصلاح ذات البين، قبل الذهاب بعيدا في تقطيع حبال الثقة بين الحاكم والمحكوم.
|