التعامل مع الرموز الوطنية ( العلم و النشيد الوطنيين، الصورة الرسمية لعاهل البلاد...) و مدى افتخار المغاربة بمغربيتهم
في هذا الحوار يحلق بنا الكاتب و الباحث و المؤطر في مجال التربية على حقوق الإنسان و المواطنة، الأستاذ المصطفى صوليح، نحو جملة من القضايا الهامة و الحيوية بخصوص الرموز الوطنية و تاريخها و مدلولها و مراحل تطورها و نهج التعامل معه. إلا أنه يقف وقفة خاصة على إحداها، و هي الصورة الرسمية لجلالة الملك، حيث يقول: ما أن يسمح للمواطن بفتح الباب و ولوج مكتب إدارة عمومية مدنية، حتى يفاجأ، مثلا، بالملك و هو يرتدي زيا عسكريا و تختبئ نظراته الحازمة خلف نظارات قاتمة، فيعتقد المواطن للتو أن الملك يرمقه و يترصده و يأمره بإبداء تعابير الطاعة و الولاء لخادم السدة العليا الجالس إلى المكتب المريح، و يجبر خاطره، و بألا يرد له طلبا، و بأن يكون عند حسن ظنه، فيستجيب لتحرشاته و لا يجادل في مقايضاته. إنه مع الأسف الشديد واحد من المشاهد الكاريكاتورية الدرامية التي يتردد إخراجها يوميا في معظم مكاتب إداراتنا العمومية،،، لذا اقترح الأستاذ أن تعلق الصورة الملكية في مجال رؤية المسؤول أو الموظف، حتى يتذكر التوجيهات و التعليمات الملكية السامية بخصوص حسن الأداء و خدمة الوطن و المواطنين.
1 ـ ما المقصود بالرموز الوطنية و ما دلالاتها؟
في البداية أشكرك الأخ إدريس ولد القابلة و من خلالك جريدة "الصحراء الأسبوعية" و طاقمها الإداري و التحريري على هذه الدعوة، كما أهنيء الجميع على اختيار ملف "التعامل مع الرموز الوطنية و مدى افتخار المغاربة بمغربيتهم" ليكون موضوعا للتنقيب و الشفافية و التساؤل و التداول و التثاقف و إبداء الرأي و التعبير،،، و ألا تبقى تيماته و مضامينه و حيثياته و ملابساته و غيرها،،، مجرد واحدة من قوائم التجريم المستند إلى سوء التأويل و سوء النية التي ما فتئت أجهزة الإعلام الرسمية و الضابطة القضائية و المحاكم تخضع الأفراد و المجموعات للمساءلة و المحاسبة بناء عليها.
أجدد شكري، و أستلهم قولة لأحد الشعراء الكوبيين، أريدها أن تكون مستفزة ليس فقط للسلطات المعنية بها بل لسائر مكونات الإطار الحضاري للمجتمع المغربي دون أن استثني المتملقين للمخزن و أجهزته و لثقافته التي يسعى إلى تسييدها،،، مفادها أن "الوطن ليس مجرد موقع قدم،،،".
لكن، قبل الخوض في ذلك، لنتحدث قليلا حول ما يطلق عليه تسمية "الرموز الوطنية": إنها بمثابة العناوين الرئيسية التي تختزل المثل العليا المشتركة لشعب الدولة و قيمه التي يعتز بها و يفتخر باستدماجها و يتعرف الآخر عليه عبرها، كما يختزل الغايات التي يروم تحقيقها. و هي، بحسب المجالات الجغراثقافية التي تنبثق منها قد تكون مصممة على شكل بصري أو سمعي أو أيقوني، أو قد تجمع بين بعض هذه الأشكال أو بينها كاملة... و إذا كانت نشأة هذا المفهوم تعود تاريخيا إلى القرن الثاني عشر في أوروبا، فإنه عرف تطورا من الخاص إلى العام، من التعبير عن مثل فئوية أو دينية أو حرفية أو إثنية،،، إلى التعبير عن مثل مشتركة بين عامة الناس في موطنهم، كما و أنه بحسب الاختلافات الملاحظة بين المجالات الجغراثقافية إياها، قد يشمل رموزا مشخصة في أفراد كما هو حال "العم سام" المشار إليه اختصارا بالحرفين اللاتينيين: U S لدى شعب الولايات المتحدة الأمريكية، و "جون بل" لدى شعب المملكة المتحدة،،، أو رموزا مشخصة في حيوانات أو طيور، خرافية أو واقعية، كما هو الحال بالنسبة للديك لدى الفرنسيين، أو الكيوي عند النيوزيلنديين أو الأسد الأطلسي لدى المغاربة أو الكنغر لدى الأستراليين أو التنين لدى الصينيين أو مشخصة في رموز نباتية كما هو حال شجرة الأرز في لبنان أو السيبا في كل من غواتيمالا و الأرجنتين،،،،
غير أنه و بسبب من حاجات سياسية وطنية و في العلاقات الدولية وصل المفهوم حاليا إلى مرحلة أضحت فيه كل دولة تضع لنفسها رموزا وطنية سيادية رسمية، هي التي تميز بها نفسها على صعيد الأمم المتحدة و على أغلفة و أوراق جوازات سفر مواطنيها و بطائق هوياتهم، كما على إصداراتها النقدية، المعدنية و الورقية، و غيرها من وثائقها الرسمية،،، إنها باختصار ما يطلق عليه ثلاثي: العلم الوطني، النشيد الوطني، و الشعار الرسمي.
و هكذا، فعلى صعيد بلدنا السعيد المغرب، إن العلم الوطني الحالي، يعود تنصيبه إلى الظهير الصادر عن السلطان مولاي يوسف بتاريخ 17 نونبر 1915، الذي ينوه على أن العلم الوطني هو "مزين في الوسط بخاتم سليمان ذو خمسة فروع باللون الأخضر"، إلا أن المشكلة هي أن التاريخ الرسمي الحالي للمملكة المغربية على عكس فحوى الظهير إياه، يعتبر أن تلك النجمة ترمز إلى اتصال العرش العلوي بالرسول محمد بن عبد الله و أن فروعه الخمسة هي إحالة على أركان الإسلام الخمسة. فإلى ماذا يمكن الاحتكام هنا؟ أإلى الظهير المؤسس أم إلى التأويل التأريخي الرسمي، هو أيضا، المكتوب؟ و كواحد من المعايير الممكن اعتمادها للحسم في هكذا مفارقة إن الأرضية الحمراء في العلم الوطني قد ظلت تستعمل في جميع الألوية المغربية عبر تاريخه المكتوب منذ 1666 إلى حين انتهاء فترة حكم الأسرة السعدية و بداية عهد السلالة العلوية، و أن النجمة كانت سداسية إلى أن تم فسخها بالخماسية الحالية إثر صدور ظهير مولاي يوسف المشار إليه. و إذا كان الظهير لا يشير إلى ذلك كما لا يبرره، فهناك من يفسر هذا التغيير بأنه جاء إيعازا من المقيم العام الفرنسي الجنرال ليوطي الذي كان مشهودا له بنفوره من السامية.
2 ـ و ماذا عن شعار المملكة المغربية و نشيدها الوطني؟
أما بخصوص شعار المملكة المغربية، فهو شعار تم اعتماده، في 14 غشت 1957، على إثر استرجاع المغرب لاستقلاله الإداري، و هو عبارة عن درع ذهبي يتألف من نفس الأرضية الحمراء، الغير معروفة الدلالة، و نفس النجمة الخضراء و من شمس ساطعة بأشعة يبلغ عددها خمسة عسرة شعاع، و من معالم أخرى تشير إلى جبال الأطلس و أسدين أطلسيين، و تاج ملكي مزركش بلوني العلم الوطني، الأحمر و الأخضر، و من يافطة منقوش عليها إحدى آيات " الجهاد في سبيل الله" القرآنية المدنية المأخوذة من سورة محمد (ص) تتمثل في:"إن تنصروا الله ينصركم".
و أما بالنسبة للنشيد الوطني، فهو نشيد إذا كان اليوم يتكون من معزوفة موسيقية و كلمات فإن ألحان هذه المعزوفة كانت بمثابة نشيد شريفي يؤدى، دون كلمات، كتحية للملك، انطلاقا من عهد السلطان مولاي يوسف و بقرار من الجنرال ليوطي و تلحين من الكابتان الفرنسي ليو مورغان، أما الكلمات التي تحمل عنوان "منبت الأحرار" فقد أضيفت بأمر من العاهل الراحل الحسن الثاني إثر أول تأهيل للفريق الوطني لكرة القدم لنهائيات كأس العالم لسنة 1970 بالمكسيك. و نص قصيدة "منبت الأحرار" هو، على غير ما يشاع، من إبداع مولاي علي الصقلي، و بتصرف من المرحوم الحسن الثاني، الذي فاز في المباراة التي أجريت لتنفيذ الأمر الملكي،،، و لا شك أن المغاربة ما يزالون يتذكرون مدى الإحراج الذي كان فيه اللاعبون المغاربة حين اكتفوا بتحريك شفاههم في ارتباك بئيس، وقت تحيتهم للعلم المغربي بالمكسيك، إيهاما بأنهم يرددون نشيد وطنهم و كأنهم يحفظونه عن ظهر قلب.
3 ـ لكن، كيف تقيمون عموما احترام الرموز الوطنية ( سيما العلم و النشيد الوطنيين و الاعتناء بالصورة الرسمية لملك البلاد) في المغرب حاليا؟ و هل من فرق أو اختلاف في ذلك بين اليوم و الأمس القريب و البعيد؟
لنؤسس أخي الكريم لحديثنا بمحاولة لتحديد كنه عبارة "الاحترام" باعتبارها تكون المفتاح الرئيسي لولوج مغالق الأسئلة التي تفضلت بتفريع موضوع أو بالأحرى مواضيع هذا الجزء من الاستجواب إليها، و ذلك علما بأنها مواضيع لها هي في ذاتها من الدلالة و الأولوية ما يفرض أن يتم في تأملها و مقاربتها و معالجتها تجاوز حدود الحوار الصحفي إلى فضاء البحث العلمي الأكاديمي النظري و الميداني شاملا لمختلف التخصصات ذات الصلة،،، لكن و إلى ننعم بذلك، أقول في عجالة إن الاحترام هو كل موقف أو قول أو سلوك يصدر عن شخص تجاه نفسه أو غيره، سواء بغرض قصدي أو بتلقائية، فيكون خاليا من التهجم أو الاستخفاف بمكامن و شروط الكرامة المستحقة للإنسان بصفته فردا أو مجموعة أو جماعة، و ذلك على أساس أن يكون متبادلا،،، إن الأمر، هنا، لا يتعلق فقط باعتراف متبادل بخصوصيات الآخر، و منها إثنيته، لونه، لغته، لباسه، تاريخه، نسبه، وطنه، عاداته، و إمكاناته التطبيقية،،، إلخ، بل يتعدى ذلك إلى الإقرار بضرورة و أهمية وجوده، و إلى التعاون في سبيل صيانة تلك الخصوصيات و تنمية القواسم الأساسية و الفرعية المشتركة بينهما، و بناء عليه، يكون من الجدير التفريق بين كل موقف أو قول أو سلوك،،، ينشأ عنه تهجم على فرادة الذات أو الآخر، أو حط أو استخفاف بهما، و بين كل موقف أو قول أو سلوك يصدر عن الفرد أو المجموعة أو الجماعة في صيغة أو صيغ انتقادية، حول قضية معينة، مبنية على الأدلة المادية الملموسة أو مبنية، في حالة عدم القدرة على الإدلاء بمثل تلك الأدلة، على المنطق و الحجاج العقلي السليم الهادف إلى إبداء رأي و التعبير من أجل الارتقاء بموضوع القضية ذات الصلة إلى الحالة الأليق بها.
و هكذا، و ربطا بأسئلتك، إنه في اعتقادي أن المغاربة، كما هو حال مواطني جميع أوطان المعمور، لا يخلون عن سبق إصرار و ترصد، و ذلك في معظم الحالات، بالاحترام الواجب للرموز الوطنية، سواء على مستوى الشارع العام أو على مستوى الممارسة السياسية أو على المستوى الإبداعي أو غيره من المجالات و المنطلقات و الأشكال التعبيرية الأخرى.
إن ما يحدث، أي ما ينظر إليه على أنه إخلال بالاحترام الواجب للوطن أو للعلم الوطني أو للنشيد الوطني أو لشعار المملكة أو لشخص الملك من حيث صورته الرمزية (المعنوية) أو الفوتوغرافية،،، ليس في الواقع سوى مظاهر عرضية و بسيطة عن قضايا أخرى جوهرية و عويصة، منها أولا غياب الديمقراطية و معها بالتالي انتفاء التفعيل الحقيقي للمبدإ القائل:،،، نحن متساوون و لكننا مختلفون،،، نحن مختلفون و لكننا متساوون،،، و منها ثانيا غياب توافق وطني حول تلك الرموز الموصفة بالوطنية خاصة و أن تاريخية صياغتها و وضعها كما أشرت إليها سابقا تثبت ذلك، و منها ثالثا الاستغلال بسوء نية للقانون في إلباس الناس تهما بهذا الإخلال، و منها رابعا استفحال سرطان الفساد بين موظفي السلطات العمومية من ذوي الصلة و عدم خضوعهم للمساءلة و المحاسبة في ظل منظومة سياسية و قانونية تمتعهم بامتياز الإفلات من العقاب، بما يتيح لهم فرص التحرر من كل قيود أو تضييقات أو تدقيقات في لف عنق تلك المظاهر العرضية و تقديمها، وفق تفسيرات أخلاقية و قانونية و قضائية ملتبسة، على أنها تهم يجرمها القانون.
4 ـ لكن حدثت تطورات، أليس كذلك؟
في هذا السياق، و في غياب دراسات ميدانية بل و حتى مجرد نظرية حول هكذا موضوع و حول تشعباته، أستسمحك في القول، هنا أيضا، إنه:
أولاـ على صعيد العلاقة بالوطن، فعلى عكس الاعتقاد السائد و الذي كاد يؤدي إلى إفناء ثلثي ساكنة البلاد، خلال الفترة المعروفة بسنوات الرصاص، إن المغاربة قد دأبوا دائما على حب وطنهم المغرب، و هم يواصلون عشقهم لهذا البلد المتفرد. أما المظاهر إياها التي يتم اعتمادها في الحجاج على أنهم يكنون البغضاء و الكراهية له، فهي ليست بالمرة سليمة. أكيد أن تخيير مغاربة بعينهم بين مواصلة العيش فيه و بين تغييره سيختارون مغادرته، لكنها مغادرة قد تطول أو قد تقصر بحسب متغيرات الظروف التي تحكمت فيها. من المؤسف جدا أن يتألف هؤلاء المغاربة المعنيون من شباب هم في الأصل أهم ثروات البلاد لكنها المهملة بالمطلق إلى حد الآن. من المؤسف جدا أنهم بعد إقرار دول الاتحاد الأوروبي لنظام التأشيرة إنما أصبحت نسبة عالية منهم تغادر نحو الموت في غياهب مضيق البوغاز أو تغادر اختناقا داخل مخابئ غير مأمونة لشاحنات أو حافلات عابرة لهذا المضيق، أو تغادر نحو معاقل الاحتجاز في الضفة الأخرى من الحوض المتوسطي، أو تغادر نحو مقر إحدى الفرق الوطنية للشرطة بتهمة الرشوة و تزوير وثائق رسمية،،، إلخ. و بعبارة أخرى، إن المغاربة قد جربوا في الماضي أساليب التعبير العنيف عن رفضهم للأوضاع غير العادلة التي لا ناقة و لا جمل لهم في سيادتها، و هم الآن يجربون أساليب أخرى تجمع بين السعي نحو مغادرة البلاد و بين أشكال الاحتجاج الشعبي،،، و سواء تعلق الأمر بهذه الأساليب أو غيرها فهي جميعا ليست موجهة ضد الوطن بقدر ما هي موجهة ضد سياسات عدم التزام المملكة بتعهداتها الدولية بخصوص إعمال الحقوق المدنية و السياسية و عدم وفائها بمقتضيات الحقوق الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية التي يخولها القانون الدولي لحقوق الإنسان لكل الأفراد.
ثانيا ـ بالنسبة لرموز الوطن، و سأقتصر هنا على صورة الملك، على اعتبار أن باقي الرموز تحتاج، في اعتقادي، إلى توافق وطني حولها يكون متزامنا مع حملة إعلامية و تثقيفية مكثفة، طويلة الأمد، واسعة الانتشار و تهم الجميع دون الاكتفاء بإحالة مأمورية استدماجها على المدرسة وحدها.
5 ـ إذن سيكون التركيز على الصورة الملكية الرسمية؟
نعم، فبالنسبة لصورة الملك من زاويتها الرمزية (المعنوية)، فإنه منذ 1999 لم يتم تسجيل أي إخلال بالاحترام اللازم لهذه الصورة كما يشهر الدستور معالمها الثمانية في فصله التاسع عشر. فباستثناء الرجة التي ألمت بها إبان مطلع سبعينيات القرن الماضي بسبب، و خلال، المحاولتين الانقلابيتين الفاشلتين السابقتين، و هما اللتان نفذتا من داخل النظام السياسي نفسه الحاكم للمملكة، و باستثناء قوس القتامة الذي لفها طيلة الفترة المسماة بسنوات الرصاص ضدا على إشراف الملك الراحل بشكل مكشوف على عمليات الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، و الجدال الذي وازى ذلك حول مدى شرعية ملكية أوتوقراطية، فإن الحركة الوطنية، قبل ذلك بكثير كانت قد رهنت إبداء أي نظر في مفاوضات مع سلطات الحماية حول المستقبل السياسي للمغرب بعودة محمد الخامس، باعتباره ملكا للبلاد، من منفاه إلى عرش المملكة،،،
و إن النقاش المحتشم و غير العلني الذي يدور منذ مدة ليست قصيرة داخل كواليس الأحزاب السياسية حول ما اصطلح على تسميته بالإصلاح الدستوري لا يمس في جوهره المكانة التي تبدو و كأنها مرموقة جدا التي يحددها الدستور الحالي الممنوح للملكية و للملك، بل إن الأقلية جدا التي تعلن عن مطلب "الملك يسود و لا يحكم" إنما تسعى إلى تحديث نظام الحكم في المغرب، بما يحمي الملك، نفسه، من مزاعم بشبهة تحصينه للفساد الحكومي و القضائي و الإداري المستشري في عروق و شرايين الدولة التي قد يدعي كبار الضالعين في هذا الفساد بأنهم يستظلون بها،،، و بما يسمو بمكانته إلى رتبة الحكم المحايد، الموضوعي و الرفيع عن كل تحيز أسري أو فئوي أو جهوي أو سياسي أو إيديولوجي،،، و ذلك بناء على مقتضيات و أحكام دستور يتأسس بطريقة ديمقراطية يضع البلاد، قاطرة و عربات و ركابا، فوق السكة الفولاذية للديمقراطية و لاختياراتها كما يتوافق على مبادئها و معاييرها و خططها و برامج تنفيذها و تقييمها و مسارها مختلف فرقاء الإطار الحضاري للمجتمع المغربي.
و فوق ذلك، فحتى أقلية الأقليات التي تجهر بكونها جمهورية، فهي ما دامت لا تحمل سلاحا و لا تدعو إلى ممارسة العنف في سبيل تحقيق اختيارها هذا، يكون من الأجدر الاعتراف بأحقيتها في التأسيس لوجودها و ذلك لأسباب متعددة منها أن ذلك ليس فيه أية إساءة للملكية أو للملك، و أن الملكية تحتاج في استمرارها و في تذليل عوائقها و استقصاء مدى كفاءة حركية آلياتها إلى من ينافسها لا إلى من تناهضه و تعمل على اجتثاثه،،، و يمكن استجلاء القيم الجميلة عن الاعتراف و الاحترام المتبادلين التي تزهر قريبا منا، من داخل قبة كورتيس المملكة الإسبانية حيث فيما تتجدد دائما تمثيلية الجمهوريين بواسطة الحزب الجمهوري الإسباني فإن الملكية تواصل ممارسة سيادتها دون منازع.
و لأن الاحترام، كما قلت سابقا، إما أن يكون متبادلا أو لا يكون، فإن الاستمرار في فرض تطبيق بروتوكولات تخل بالوفاء بشرط الندية بين الناس، بما هم بشر و ذلك مهما اختلفت رتبهم أو مناصبهم أو مكانتهم، سينشأ عنه لا محالة تهديد للمكانة المثلى للملكية و للملك. إنه في حين لا يوجد أي تحرج من مخاطبة الملك بصاحب الجلالة و بالتالي مخاطبة الأمير بصاحب السمو و الوزير بمعالي الوزير و المدير أو رئيس إحدى المصالح بالسيد المدير أو السيد الرئيس، يكون جديرا بالتقدير مخاطبة المواطن أو الرد عليه، سواء أكان عاديا أو زعيما، سياسيا أو نقابيا،،، أو عالما أو غير ذلك، بالسيد مع استحضار صفته. و إنه في حين تقتضي ظروف الاستقبال تبادل التحية و السلام عناقا أو مصافحة أو بدون أي من ذلك،،، فإن فرض تقبيل اليد، كما كان عليه الحال قبل 1999، بدعوى المحافظة على هيبة المقام ليس في الواقع سوى مبادلة للاحترام بالإذلال، و هو إلى ذلك مس بالكرامة الإنسانية يترتب عنه تفشي الإحساس بالخوف و الرهبة و الاستصغار بدل استحضار الشعور بتلك الهيبة و الوقار لكن في جو من الاطمئنان و الأمان. و غير خاف أن الذين يجتهدون اليوم من أجل الحفاظ على مثل هذه البروتوكولات في بلادنا إنما يستهدفون من وراء ذلك الحفاظ على "هيبتهم" هم التراتبية و الاستظلال بها تحاشيا منهم لأي مساءلة أو محاسبة عن أي من خطاياهم.
و أما بالنسبة للصورة الفوتوغرافية للملك، فسأتجاوز الحديث عن صناعتها و توزيعها و معايير نشرها في الصحافة الورقية أو الإلكترونية و بثها على شاشات التلفزات الوطنية و مداخيلها و صرف عائدات ذلك،،، و سأركز إجابتي على معطيين اثنين يرتبطان باستعمالاتها، من جهة، في الشارع العام، و باستعمالاتها، من جهة أخرى، في مكاتب الإدارات العمومية.
6 ـ هل هناك استخدام خاص للصورة الفوتوغرافية لجلالة الملك؟
لا داعي للإلحاح على التذكير بأن التعبير عن الاعتزاز بالوطن و رموزه لا يكون، مثلا، باستعمال الصورة الفوتوغرافية للملك في غير السياق و الوضع و الموضع اللائق بالملك. و بغض النظر،هنا، عن استعمالات، لم يعد البلد يخلو من أمثلتها في شتى أرجائه، يلجأ إليها مواطنون يستشعرون ظلما إداريا أو عسفا قضائيا يزعمون بأنه قد نالهم فيخرجون في وقفات أو جلسات أو مسيرات أو اعتصامات للاحتجاج سلميا ضده و هم يحملون صورا ملكية أو يثبتونها فوق حاجياتهم في محاولة منهم لضمان سلامتهم الجسدية و سلامة تلك الحاجيات من بطش أمني قد يتربص بهم،،، أكيد أنها استعمالات مجانبة للقانون و تحول الرمز عن مدلوله المستمد من المكانة الملكية إلى أداة أو درع لمواجهة قمع أجهزة الدولة و في أحيان أخرى لمنع تنفيذ مقرر قضائي،،، و لكنها تبقى مع ذلك مقبولة ما دامت قواعد دولة الحق و القانون لم تستتب بعد. غير أن الأدهى هو أن الصورة الرمزية للملك يتم توظيفها، عبر صوره الفوتوغرافية داخل مكاتب الإدارات العمومية، بشكل يجعل الزائر طلبا لخدمة مستحقة يبدو مرهوبا كما لو كان أصلا في حضرة الملك خلال سنوات الرصاص. فعوض أن توضع الصورة الفوتوغرافية للملك فوق المكتب على يمين الموظف، الذي يتقاضى راتبا و تعويضا و ترقيات على الخدمة الإدارية التي يسهر على تنفيذ القانون في شأن تقديمها أو البت فيها،،، و عوض أن تكون قريبة منه بحيث يمكنه بين الفينة و الأخرى أن يلقي عليها بصره فيتذكر المثل العليا للوطن، و يستحضر جملة المشاكل و العوائق و الأزمات التي تؤخر تنمية الدولة و البلاد،،، و يستلهم التعليمات و الأوامر التي ما فتئت الخطب و الرسائل الملكية تصدح بها لتيسير تلك المشاكل و العوائق و الأزمات،،، عوض هذا و ذاك، تختار الإدارة أو مهندس تأثيثها أو كبير موظفيها أو كل موظف على حدة، الصورة الملكية التي تليق بمقامه هو و تخدم هواجسه هو و يعلقها في المكان الذي لا يراها فيه و لا تراه منه. إن اختيار تعليق الصورة الملكية على الحائط خلف ظهر الموظف في مواجهة الزائر ليس بريئا، علما بأن الصورة الملكية ليست بأي حال من أدوات تزيين الجدران. إن هذا الاختيار يعكس حالة نفسية و ثقافية تلتذ بالفساد و جبروته و تجبر المواطنين من طالبي الخدمات الإدارية على إظهار أقسى درجات الخنوع و الاستسلام أما شروط الموظف و مساوماته و تماطله و عدم وفائه بواجبه المهني المؤدى عنه. ما أن يسمح للمواطن بفتح الباب و ولوج مكتب إدارة عمومية مدنية حتى يفاجأ، مثلا، بالملك و هو يرتدي زيا عسكريا و تختبئ نظراته الحازمة خلف نظارات قاتمة، فيعتقد المواطن للتو أن الملك يرمقه و يترصده و يأمره بإبداء تعابير الطاعة و الولاء لخادم السدة العليا الجالس إلى المكتب المريح، و بجبر خاطره و بألا يرد له طلبا و بأن يكون عند حسن ظنه،،، فيستجيب لتحرشاته و لا يجادل في مقايضاته... إنه، مع الأسف الشديد، واحد من المشاهد الكاريكاتورية الدرامية التي يتردد إخراجها يوميا في معظم مكاتب إداراتنا العمومية. لكن، و بالمناسبة إذا كان فن الكاريكاتير الذي يعيش شبه حالة التحريم في بلدنا قد صنع في بلدان أخرى شخصيات ارتقت إلى مصاف الرموز الوطنية، مثل "العم سام" في الولايات المتحدة و "جون بل" في المملكة المتحدة، ما زالت تبصم أثرها الإيجابي في الوجدان الوطني للشعوب و في التربية على الإخلاص لهذا الوجدان الجمعي،،، فإنه يمكن لفنانينا ابتداع شخصيات أخرى معاكسة لتكون محط نظر العيون النقدية لمواطنينا و لذوي الصلة من مسؤولي شأننا العام عسى أن يرتدع الأشباه الواقعيون لهذه الشخصيات التي تستعمل الرموز الوطنية كواجهة لاستصغار المواطنين و إذلالهم و تشجيعهم على أداء الرشوة بل و إجبارهم عليها ،،،.
3 ـ ما هي نوعية العلاقة القائمة بين المُواطنة و احترام الرموز الوطنية؟
إنها، بحسب السياقات، قد تكون كالعلاقة بين الكائن الموجود و اللاكائن المفقود، أو قد تكون كعلاقة ذوبان كما هو الحال بالنسبة لوجهي التبلة (ورقة الوردة) الواحدة حيث يقر كل وجه بعبق الوجه الآخر و يمنحه حقيقته. بعبارة أخرى، إن الأمر يحيل، هنا، بشكل عام على العلاقة بين الحقوق و واجبات، حيث قد تنتفي الحقوق كليا أو ينتقص منها و تسود الواجبات و بالتالي تسود القوانين و الجزاءات الإكراهية و يكون المقصود بالاحترام هو إخضاع المواطن لجبروت الحاكم و رموزه وإذلاله أمام نفسه و على مرأى من الجميع. و حيث قد تسود كل من الحقوق و المسؤوليات فيسود الاحترام المتبادل و لا يقوم القانون سوى بتفسير حالات الادعاء بمدى الإخلال بذلك الاحترام و يجازي عليه في حالة ما تم إثباته فعليا.
و هكذا، فاسترجاعا لقولة "الوطن ليس مجرد موقع قدم،،،"، و اعتبارا أن المواطن ليس مجرد مخلوق حامل لجنسية الدولة و لبطاقة هويتها، و بالنظر، أيضا، إلى أن المواطن هو فرد ذاتي و ليس بأي حال جزءا من جمع لا مفرد له يتمثل في الرعية، و أنه كينونة تاريخية تشمل اليوم كل الأفراد أعضاء المجتمع (رجال، نساء و أطفال)، و هو إلى ذلك كيان قانوني و سياسي مستقل و كيان قيمي إنساني،،، و لأن المواطنة، تبعا لذلك، تعني إمكانية تدخل هذا المواطن في اقتراح وصياغة القرار، وفي تدبير وتسيير كل من الشأنين المحلي والعام، كما في تقاسم السلطة وتداولها والرقابة عليها، وذلك بمساواة في الحقوق و المسؤوليات مع المواطنين الآخرين. و لأن السيادة (بما تستدعيه من نقل للسلطات إلى الشعب و بما تعنيه من أن الدولة و رموزها المتوافق عليها هي للجميع و أن الحكومة هي للتناوب و التداول) و الحرية و الأمان و التضامن هي من أهم خاصيات المواطنة، التي بدونها لا يكون للمشاركة المتساوية، أي المواطنة، أي معنى على أرض الواقع،،، فإنه و بدونها كذلك ستبقى مسألة احترام الرموز الوطنية قضية جنائية في شكل اتهامات جاهزة بالإخلال بالاحترام الواجب لهذا أو ذاك الرمز أو بالمس بهذا أو ذاك المقدس،،، و الله أعلم
جريدة “الصحراء الأسبوعية”. العدد 95. من 04 إلى 10 أكتوبر 2010. ص: 11ـ
|