بينما كان الرئيس المغدور رفيق الحريري يحكم لبنان اقتصادياً بمعاونة أمراء الحرب والمال والطوائف، كانت السلطات الدولية تمارس وصاية من نوع خاص. لم تبق وزارة أو مؤسسة عامة أو مشتركة بين القطاعين الخاص والعام إلا خضعت لإشراف صناديق وبنوك وشركات دراسات واستشارات دولية تسيطر الولايات المتحدة على معظمها. وكان الأمر يجري على قاعدة أن لا مؤهلات تتيح للبنانيين إدارة برامج التنمية والإعمار وحدهم.
في تلك الفترة، لم يكن بمقدور الحريري وصحبه من أمراء المال والحرب والطوائف الإمساك بالأمن والعسكر. كانت سوريا المسؤولة الأولى عن إدارة هذا الملف، لكن المسؤولين في الدولة كانوا يتناتشون حصصاً في هذا الجهاز أو ذاك، بغية توفير خدمات لهم، مباشرة أو لجماعاتهم. أما القضاء، فكان مقتسم النفوذ: ما يتصل بالملفات الاقتصاديّة للحكومة متروك للحريري وأعوانه وشركائه، وما يتصل بالملفات الأمنية ـــــ السياسية متروك لسوريا وأعوانها. إلى أن جاء اغتيال الحريري كي يُمسك ورثة الحريري الشخصيون والسياسيون بالسلطتين القضائية والأمنية، بإشراف غير ملتبس من الهيئات الدولية على اختلافها، وبوصاية أميركية لا تحتاج إلى شريك أو تمويه.
هكذا كانت الجريمة الأولى عندما وافقت حكومة فؤاد السنيورة على آلية عمل مع لجان التحقيق الدولية التي أُتيح لها الإمساك بكل ما هو موجود لدى القضاء اللبناني ولدى أجهزة الأمن اللبنانية، من دون أي نقاش. واستمر الأمر على هذا النحو حتى قيام المحكمة الدولية التي حظيت باتفاقية تعاون مع لبنان وبنشاط السنيورة نفسه، تتيح لها الوصول إلى حيث ترغب على صعيد المعلومات وعلى صعيد الأشخاص. وهكذا تحولت النيابات العامة وقضاة التحقيق، والأجهزة الأمنية ومؤسسات الإحصاء ووزارات عدة تعمل في خدمة المحكمة الدولية وفريق المدعي العام.
تطور الأمر من مستوى طلب معلومات ومموّن تحقيقات، وتنفيذ اعتقالات وتوقيفات وتوفير الحماية والدعم لأشخاص بحجة أنهم مستهدفون أو هم من الشهود، إلى استخدام مرافق الدولة على أنواعها «للوصول إلى الحقيقة». وحصلت الإساءات إلى لبنان وسوريا، وإلى المواطنين والمسؤولين في البلدين بسبب هذه الوصاية. وعُطِّلت علاقات ومصالح، وقتل أبرياء، وشُوِّهت سمعة آخرين، ومورست كل أنواع الترهيب على من يعارض عمل اللجان الدولية أو الفرق اللبنانية والعربية والغربية العاملة معها.
في وقت لاحق، طلبت المحكمة الدولية معلومات مفصلة ومفتوحة عن كل الاتصالات الهاتفية، الثابتة أو الخلوية في لبنان كله، التي ترد إليه من الخارج أو تخرج منه. ثم طلبت لوائح بأسماء جميع طلاب لبنان، ولوائح بأسماء الذين تقدموا بطلبات انتساب إلى الجامعات اللبنانية وتوزعهم الطائفي والمذهبي والسكني وفئاتهم العمرية وأنواع الاختصاصات. ثم طلبت المحكمة لوائح وداتا كاملة بهويات اللبنانيين جميعاً، وبكل ما يتصل بالأوراق التي تتضمن معلومات شخصية وبصمات وصور تعود إلى جميع المواطنين اللبنانيين. ثم طلبت المحكمة قوائم بأسماء الوافدين إلى لبنان أو المسافرين من مرافقه البرية والبحرية والجوية. ثم طلبت قسائم تخص المرضى الذين دخلوا المستشفيات في لبنان، وكذلك معلومات عن الأوضاع المالية وحسابات أفراد وجماعات وهيئات.
بلمار يمارس كل أنواع الوصاية، وتخضع له كل السلطات الأمنية والقضائية والملفات الشخصية للمواطنين. يجري ذلك في وقت لا تزال فيه جهات أمنية وقضائية لبنانية تعمل لخدمة هذا الفريق، وفي الوقت الذي تتولى فيه الجهات الدولية مراقبة المعابر الحدودية للبنان وتراقب سواحله والمعابر البحرية، وتحاول من خلال وسائل مختلفة الوصول إلى معلومات مفصلة عن الواقع الجغرافي والسكاني، ومعلومات عن مفقودين والحمض النووي لأشخاص من هنا أو هناك.
وبعد، لا تكتفي هذه الأدوات العاملة بإمرة الوصاية الأميركية بالعمل العلني، ومتى تعثرت خطواتها كانت بعض الأجهزة الأمنية العربية في خدمة هذه الوصاية من خلال برامج عمل خاصة. ولا يتوقف العدو الإسرائيلي عن العمل في كل مجالات الاتصالات والطاقة وغيرهما من المسح الجوي لكل أبنية لبنان وشوارعه.
في هذه الأثناء، تفتح البلاد لمشاريع تنمية ودعم برامجي تقودها الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي، وتعمل من تحت ستارها كل أجهزة استخبارات العالم. فهل يعرف اللبنانيون مثلاً، أن داتا المغتربين التي استخدمت في الانتخابات النيابية، ثم جُمعت من لبنان أولاً، ومن خلال المنظمات غير الحكومية المدعومة من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بحجة توفير تواصل بينهم وبين أهاليهم وحثهم على الإسهام في بناء بلدهم، وقد جرى العمل على التدقيق فيها بالتعاون مع سفارات لبنان في بعض الدول من خلال داتا إضافية، صدف أنها توافرت لدى وزارة الداخلية في لبنان؟
هل المطلوب أن يبرق كلٌ لبناني إلى دانيال بلمار بواسطة أي سفارة أجنبية في لبنان آخر نشرة طبية له، أو جدولاً يبيّن كيفية دخوله منزله أو مغادرته وفواتير الكهرباء والبنزين والأطباء والمدارس، وأن يبرق أيضاً شارحاً أنه باشر بشراء حفاضات لمولوده الجديد؟
ثم يحدثونك عن الحرية والسيادة والاستقلال!
المصدر: صحيفة الأخبار ١ تشرين الأول ٢٠١٠
|