لا تزال معالم البنية السياسية للأنظمة الحاكمة في دول العالم العربي بشكل عام ودول الشرق الأوسط بشكل خاص غير واضحة. حيث ليس من السهل تحديد طبيعة هذه المنظومات الحكومية فيما إذا كانت مدنية أم دينية، فبيمنا تنصّ أغلب دساتير دول الشرق الأوسط على أنّ دين الدولة هو الإسلام – عدا سوريا ولبنان – نرى غياب لتطبيق فعلي وشامل للشريعة الإسلامية على غرار الوضع في كل من السعودية وإيران. إلا أنّ ذلك لا يعني غياب تأثير الدين على التشريعات القانونية وعلى أنظمة الحكم في دول الشرق الأوسط، وهذا ما يبدو بشكل واضح في قوانين الأحوال الشخصية المستمدة بشكل أساسي من الشريعة الإسلامية بالنسبة للمسلمين ومن القانون الكنسي بالنسبة للمسيحيين. ومن هنا تبدأ عملية فرض الدين على الآخر غير المؤمن بالديانتين الإسلامية أو المسيحية كالعلماني مثلا أو حتى البهائي وغيره من المنتمين إلى أقليات دينية غير معترف بها رسميا والذي يجب أن يتبع في أوراقه الشخصية لأحد هاتين الديانتين بخرق واضح لمبد الحرية الدينية المنصوص عليها في العديد من الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان.
ويُضاف إلى ذلك ما تسببه هذه التشريعات الدينية من تفكك للمجتمع نتيجة لتطبيق قوانين مختلفة على أبناء الدولة الواحدة، والتي تمنعهم في بعض الأحيان هكذا تشريعات من إبرام عقود الزواج المختلط وهو ما يشكل بدوره خرق واضح للقانون الدولي لحقوق الإنسان. حيث تنصّ المادة 16 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أنه : للرجل والمرأة متى بلغا سن الزواج حق التزوج وتأسيس أسرة دون أي قيد بسبب الجنس أو الدين، ولهما حقوق متساوية عند الزواج وأثناء قيامه وعند انحلاله. كما جاءت المادة 16 من العهد الدولي الخاص بالحقوق السياسية والمدنية لتؤكد على أهمية مؤسسة الزواج حيث كرست لها حق التمتع بحماية المجتمع والدولة في الفقرة الأولى من المادة 23، كما نصّت الفقرة الثانية من نفس المادة على أن"يكون للرجل والمرأة، ابتداء من بلوغ سن الزواج، حق معترف به في التزوج وتأسيس أسرة".
إلا أنّ هده المواد، التي من المفروض أن تُلزم دول الشرق الأوسط باحترام مضمونها، لم تلق صدى في تشريعات الأحوال الشخصية التي تنصّ في أغلبها على بطلان زواج المسلمة بغير المسلم وكذلك على بطلان زواج المسلم بغير المسلمة ما لم تكن كتابية. كما أنّ أغلب قوانين الأحوال الشخصية الكنسية تنصّ أيضا على تحريم الزواج بين أتباع الديانات أو حتى الطوائف المسيحية المختلفة.
في الحقيقة، إن حظر الزواج المختلط يترتب عليه آثار اجتماعية وقانونية سيئة جدا كإنجاب أطفال خارج إطار العلاقة الزوجية وأيضا الغش على القانون وذلك بإقدام الراغبين بالزواج على تغيير الدين لغاية الزواج فقط، كما أن الكثير من جرائم الشرف تعقب حالات الزواج المختلط التي غالبا ما يرفضها المجتمع لأسباب عديدة منها نتيجة تكريس القوانين لهذا التحريم. أضف على ذلك أن الزواج المختلط ذو أهمية بالغة خاصة لتحقيق الغنى الثقافي للمجتمع والقضاء على الطائفية. إن تقييد حرية الأشخاص في اختيار شريك الحياة يؤدي إلى القضاء على أسمى العلاقات الإنسانية من حب وتوافق عاطفي وبناء أسرة متماسكة كما إنّ هذا التحريم يتعارض أيضاً مع المعاهدات الدولية لحقوق الإنسان.
بالتأكيد ما ذكرناه أعلاه عن منع الزواج المختلط ليس إلا مثالا لا أكثر عن انتهاكات حقوق الإنسان في مؤسسة الزواج الديني بشكل خاص وفي قوانين الأحوال الشخصية الدينية بشكل عام. فيكفي أن نشير إلى عدم المساواة بين الزوج والزوجة وبين المسلم وغير المسلم في هده التشريعات، وكذلك إلى التعقيدات والآثار الناجمة عن سهولة تطليق الرجل لامرأته بالنسبة للمسلمين، وعن استحالة الطلاق بالنسبة للأشخاص المنتمين لبعض الطوائف المسيحية وهو ما يدفعهم في بعض الأحيان إلى تغيير ديانتهم إلى الإسلام لغاية فقط ألا وهي الحصول على الطلاق وبالتالي الزواج مرة ثانية. وهذا ما يؤدي بالتأكيد إلى التشجيع على النفاق وزعزعة الاستقرار القانوني الذي يعدّ من أهم عوامل السلم الاجتماعي. أمّا بالنسبة للطرف المسلم، فإنّ تغيير ديانته يترتب عليه آثار سيئة جدا في ظل هذه التشريعات التي يمكن أن تجرد المرتد عن الإسلام من حقوقه السياسية والمدنية وتقتضي كذلك بتفريقه قصرا عن شريكه في الزواج، وهذا ما يشكل بدوره خرق واضح للحرية الشخصية التي تفترض عدم تدخل الدولة في معتقدات الأشخاص وخاصة الدينية.
وبالتأكيد ليس من المعقول أن نطالب بالإلغاء الكلي لقوانين الأحوال الشخصية الدينية المطبقة حاليا، حيث إنها تشكل خيار للكثيرين من الأشخاص الذين يقبلونها بمحض إرادتهم وحريتهم، ولكنه ليس من المعقول أيضا أن نقبل ببعض نصوصها التي تتعارض مع حقوق الإنسان كزواج القاصرات. كما أنه من غير المعقول أن نفرض هذه القوانين على أشخاص لا يؤمنون بها ولاسيما وأنّ مشرّع هده القوانين هم رجال دين وليست الدولة الممثلة للشعب والتي من المفترض أن تكون صاحبة الحق الأساسي والحصري بالتشريع. ولابدّ من التذكير هنا بأن الدين في مجتمعات الشرق الأوسط يُفرض على الشخص في أغلب الأحيان نتيجة لولادته في أسرة تنتمي لطائفة او لدين معين من دون أن يتمكن في وقت لاحق من اختيار قوانين مدنية تنطبق على وضعه العائلي رغم عدم إيمانه بالقوانين الدينية أو بالسلطة الدينية التي تطبق هكذا قوانين.
يخلص مما سبق بأنّ الإبقاء على تشريعات الأحوال الشخصية دون غيرها يشكل عقبة أمام تطور مجتمعات الشرق الأوسط كما يتضمن تكريسا للطائفية ولسيطرة المؤسسة الدينية على المجتمعات. لهذا لابدّ أن يتم صياغة قوانين أحوال شخصية مدنية خالٍية من كافة أشكال التمييز مع مراعاة ما ورد في الاتفاقيات الدولية وخاصة العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة واتفاقية حماية حقوق الطفل. كما أنه من الضروري أن يتم إقرار قانون يتيح الزواج المدني للمواطنين بصرف النظر عن انتمائهم الديني فجميعنا أبناء الإنسانية أولا والوطن ثانيا. ورغم صعوبة إلغاء واستبدال تشريعات الأحوال الشخصية الحالية بقوانين علمانية في الوقت الراهن، فإن المطلب الأساسي يبقى باستصدار قانون مدني مع المحافظة على قوانين الأحوال الشخصية لكل طائفة، وبذلك يكون أمام أي شخصين راغبين بالزواج حرية الاختيار ما بين القانون المدني أو الديني أو حتى الاثنين معا كما هو الحال في أغلب الدول المتقدمة.
إنّ إقرار هكذا تشريعات مدنية مستلهمة من حاجات العصر وتنطبق على الجميع بصرف النظر عن طوائفهم ومللهم، هو حق لكل مواطن يؤمن برفعة الدين عن السياسة. لا بدّ من التذكير أيضاً بأنّ إنجاح هكذا مطلب في مجتمعات الشرق الأوسط يتوجب عليه اتخاذ بعض الخطوات الضرورية كتعميق ثقافة حقوق الإنسان والمواطنة وذلك بتعديل المناهج التعليمية الحالية التي لا تخدم على الإطلاق هذا الغرض. فيكفي أن نذكر على سبيل المثال ما شنّه الدكتور عمر سليمان الأشقر من هجوم على الزواج المدني في الغرب الذي بفضله تمكّن الأوربيون من العيش بسلام بعيدا عن سيطرة الكنيسة على الدولة وعلى القوانين. فيقول الدكتور سليمان، في كتابه الواضح في شرح قانون الأحوال الشخصية الذي يُدرّس في كلية الحقوق في الجامعة الأردنية، إنّ « الحكم في الزواج المدني للبشر الذي يجلسون على كراسي الحكم في البرلمان يحلون ويحرمون بأهوائهم، لقد حرم الغربيون تعدد الزوجات في (برلمانتهم)، و أباحوا الزنا واللواط والسحاق وقتل الأجنة في الأرحام. والمستغربون يريدوننا أن نسير سيرة العلمانيين وننبذ ديننا وشريعتنا كما فعلوا في دولهم التي هدمت الأسرة فيها، ودمّرت الأخلاق و تهاوت القيم». هذا و للأسف لم يتحدث الدكتور سليمان عن مساوئ الزواج الديني الحالي الذي يعمّق الفكر الطائفي و يزيد من ظلم المرأة والتمييز بين أبناء الوطن الواحد. كما أن إدخال هكذا مصطلحات، في كتاب يدرّس للمسلمين وللمسيحيين على السواء، لن يؤدي إلا لتعميق مشاعر الكره والعداء ضد الغربيين وتبني فكرة مغلوطة عن حضارتهم وثقافتهم بدلا من الاستفادة من تجربتهم في إقصاء سلطة رجال الدين على السياسة وهذا ما سيؤدي بشكل حتمي إلى بناء دول ديمقراطية مدنية عصرية.
وبالنهاية، نقول بأننا اليوم في أمس الحاجة وأكثر من أي وقت مضى، في المساهمة في تعميق ثقافة العيش المشترك والتسامح الديني و المواطنة، ولذلك لا بدّ من أن نطالب حكومات الشرق الأوسط من السير بخطى فعاّلة نحو بإصدار تشريعات مدنية تنطبق على جميع المواطنين بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية، لكي نستطيع استئصال جرثومة الطائفية التي ازدادت بشكل ملحوظ بعد الأحداث الأخيرة في منطقة الشرق الأوسط وخاصة احتلال العراق. فنحن نحتاج لقانون مدني يسهم في بناء الدولة المدنية التي نطمح جميعنا إليها وهو ما سيؤدي إلى تفعيل دور المواطنة والانتماء إلى الوطن بدلا من الطائفة و العشيرة، إلخ. وحريّ بنا أن نتجه كبقية دول العالم الى تعديل تشريعاتنا بشكلٍ يمكّن المواطنين من التمتع بالحقوق الأساسية والعيش بكرامة ومساواة وليس بإصدار تشريعات جديدة مغايرة تماما لذلك، كما لاحظنا في مشروع قانون الأحوال الشخصية السوري الذي صدر في الشهر السادس من عام 2009. ولذلك ندعو كافة أطياف ومؤسسات المجتمع المدني في الشرق الأوسط بتكثيف حملاتها وجهودها من أجل استئصال التمييز من قوانين الأحوال الشخصية الحالية من ناحية والمساهمة في العمل على إصدار تشريعات أحوال شخصية مدنية عصرية من ناحية أخرى.
د. نائل جرجس
|