مذبحة قانا وقضية الرهائن في جنوب لبنان

د. فيوليت داغر

في الأدب والأسطورة الشرقيين، ترمز عناقيد العنب للسعادة والمحبة والصحة. ولم يحدث أن استعملت كلمة العناقيد لا من قبل الجيش ولا من قبل المتطرفين على اختلافهم.

فمن وجهة نظر نفسية، أرى في استعمال مصطلح ((عناقيد الغضب)) لوصف عملية عسكرية تستهدف العقاب الجماعي للمدنيين، محصلة تفكير عصابي واضطراب في مقومات الشخصية قائم على الكره الأعمى للأخر، مع الضرب بعرض الحائط بكل الأعراف والمواثيق الدولية وعدم الشعور بالذنب، طالما أن الآلة العسكرية الإسرائيلية تشعر في عنفوان قدرتها التقنية وتحوز على دعم الحكومة الأمريكية لها. هذا ما بدر لذهني عندما بدأ الاعتداء الإسرائيلي الأخير على جنوب لبنان. 

هذا الاعتداء الذي يصعب تصنيفه عقلانيا في نطاق العمليات العسكرية ذات الجدوى، تعطيه جملة المؤشرات المرافقة له سمة باثولوجية واضحة. من اللحظة التي تصبح فيها السياسة في إسرائيل ممارسة قائمة على الإنتاج العملي للحقد في صفوف المجتمع الإسرائيلي والمجتمع العربي بآن، يصعب العثور على أي تعريف منطقي ومقنع لكلمة السلام عند الممسكين بزمام الأمور في هذا البلد.

في كل محاكمة لوضع ما، يضع المدافع عن حقوق الإنسان نصب عينية كلمات ثلاث : الشرعة والمشروعية والشرعية.

أما الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، أي جملة ما صدر من مواثيق دولية ضامنة لحقوق الإنسان منذ الإعلان العالمي لهذا الحقوق، فقد صدرت لتؤكد على ما لجميع الأسرة البشرية من كرامة أصيلة فيهم ومن حقوق متساوية وثابتة. ويبدأ العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية بالقول : ( لجميع الشعوب الحق في تقرير مصيرها). وتشدد المادة الثالثة في المادة المشتركة في اتفاق جنيف الأربع الخاصة على تحريم ما يلي في كل وقت وفي كل مكان : الاعتداء على الحياة وسلامة الجسد، أخذ الرهائن، الاعتداء على كرامة الأشخاص. وذلك بحق كل شخص لا يشارك مباشرة في الاعتداءات بما فيه العساكر الذين ألقوا سلاحهم. وهي روحاً ومضموناً ضد أي شكل من أشكال احتلال الأراضي والاستيطان والاعتداء على المدنيين في حالة الحرب أو جعل المدنيين هدفاً لعمليات عسكرية أو ضحية لإجراءات ردعية.

أما المشروعية، فهي المحصلة المنطقية والأخلاقية لجملة عوامل أعطت رد فعل بشري على انتهاك واضح وجسيم لحقوق الإنسان. بمعنى أننا وإن كنا ضد ممارسة العنف من حيث المبدأ، إلا أن هذا المبدأ لا يجعلنا نضع الميليشيات الفاشية في فرنسا والمقاومة في سلة واحدة. أو أن نخلط قوات الاحتلال بمن يقاوم الاحتلال في جنوب لبنان. فوجود قضايا عادلة مخنوقة بموازين قوى غير عادلة لا يمكن إلا أن يعطي أشكال مقاومة لا يمكن حسبان شكلها مسبقاً.

أما الشرعية والدولية منها، لغياب أية اتفاقية إقليمية رسمية منذ رودس في مطلع الخمسينات، فأهم معاييرها قرار مجلس الأمن 425 الذي يطالب إسرائيل بالانسحاب الفوري والشامل من جنوب لبنان. وبشأنه نسأل الدول الدائمة العضوية دون إطالة شرح: ماذا لو كان القرار يتعلق بالعراق أو إيران وليس إسرائيل ؟

لن أتعرض لوقائع مجزرة قانا. فمن الحاضرين من عاش هذه المأساة، وهو دون شك أقدر على وصف ما رأى. لكن ما سأحاول فعله، هو تحليل ما حدث من وجهة نظر اجتماعية نفسية من ناحية، وجيوسياسية من ناحية أخرى. أي في ظروف موافقة الصراع العربي الإسرائيلي على مبدأ تسوية سلمية لهذا الصراع.

في حالة الخوف، يلجأ الأفراد إلى أكثر الأماكن أمناً. ومفهوم الأمن نسبي ومرتبط بالزمان والمكان. وقد تعارف الناس على وصف المكان الآمن هذا بالملجأ.  يأخذ الملجأ أهميته إما من اعتبارات معنوية أو من اعتبارات مادية أو كلاهما. فلجوء معارض   سياسي إلى سفارة أجنبية يعطيه الحماية لأن للسفارة حصانة معنوية. و لجوء السكان إلى أقبية الأبنية أثناء القصف يعطيهم حماية مادية نسبية. ويكتسب لجوء مواطني قانا العزل إلى ملجأ لدى قوات الأمم المتحدة بعداً رمزياً غاية في الأهمية. فرغم أنهم قد شاهدوا أو سمعوا كيف مرت الدبابات الإسرائيلية من قرب هذه القوات دون أن تحرك ساكناً في 1982 يوم احتلال بيروت، ورغم أنهم يعرفون سقف وإطار مهمة قوات الأمم المتحدة، إلا أنهم لم ييأسوا من صورة هذه المنظمة العالمية وحضورها. لقد أرادوا، بوعي أو بغير وعي، أن يقنعوا أنفسهم، بأن إسرائيل التي لا تلزم نفسها بأي قانون في علاقتها بالإنسان العربي، ما زالت تحترم الأمم المتحدة بشكل أو بآخر ولن تتجاسر على ضرب المدنيين العزل الذين التجأوا لهذه الأخيرة.

الإحساس الطبيعي الثاني، هو الإحساس بالظلم وغياب العقوبة. وقد تجلى أيضاً هذا الإحساس من جديد في مجزرة قانا. فرغم استنفار بعض المثقفين الموالين لإسرائيل في الغرب للدفاع عن هذه المجزرة بحجة انتظار نتائج التحقيق وجرائم حزب اللـه، ورغم الصورة التي سعى أحدهم لإعطائها عن الجيش الإسرائيلي في فيلمه الأخير " تساحل "، كانت الحقيقة أمر وأقسى من العبقرية الخطابية والفنية. لقد كذّب أطفال الجنوب بدمهم أسطورة الجيش المؤدب والمتحضر. ومع ذلك بقي الصمت العالمي المتواطئ أقوى من الجريمة. ولم ينجح للأسف، حتى المدافعين عن حقوق الإنسان على الصعيد العالمي ولو في تنظيم حملة محدودة الأثر لمعاقبة المعتدي.

إن أي مدافع عن حقوق الإنسان، خاض و يخوض معركة غياب العقاب في أكثر من خمسين بلداً في العالم ، يتألم لهذا الوضع الشاذ الذي يعطي المعتدي الإسرائيلي امتيازات على حساب الحقوق الإنسانية المعترف عليها عالمياً. ماذا بإمكاننا أن نقول نحن المدافعين عن حقوق الإنسان لأطفال جنوب لبنان إذا ما سألونا غداً : ماذا فعلت منظمات حقوق الإنسان العالمية من أجلنا. نعم، كان فعلنا أقل من جسامة ما حدث.  ليس هناك أقسى من رمزية اللا عقاب في الوعي الجماعي لشعب.

أما على الصعيد الجيوسياسي، فاختيار السلام له مستحقاته. وكلنا يعلم أن اتفاقيات كامب ديفيد لم تنجح في إقامة سلام مجتمعي بين مصر وإسرائيل. وها نحن بعد أكثر من 13 عاماً نجد من الصعب على كاتب مصري أن يذهب إلى إسرائيل دون إدانة شبه عامة من الوسط الثقافي والشعبي في مصر. وذلك لأن إسرائيل والسادات أرادوا اتفاقية مفروضة من فوق ولم يكن لمن عارضها يومذاك من منبر سوى المعتقل. والسلام عملية تتجاوز الحكومات إلى الشعوب. لو أخذنا مثل فرنسا وألمانيا، نجد الدولتين قد خاضتا معركة بناء أوروبا بعد أقل من عشر سنوات على انتهاء الحرب الكونية الثانية. هناك خلل في تعامل إسرائيل مع الحقوق العربية من منظار الأمم المتحدة، و ليس فقط من المنظار العربي. هذا الخلل لم توضع نهاية له إذا ما بقيت إسرائيل محكومة بسياسة الدولة المتفوقة عسكرياً. هذه السياسة القصيرة النظر وذات الأبعاد الكارثية على مستقبل اليهود في المنطقة. فكيف يمكن للسياسي والمثقف أن يقنع ابن الشعب بأن شمعون بيريز رجل سلام يطمح لبناء شرق أوسط جديد مزدهر وهو يستقبل تباشير هذا الشرق الجديد بقصف الطائرات الإسرائيلية لمنزله ؟

ما يزيد الطين بلة، هو أن إسرائيل لا ترد على السلطة الوطنية الفلسطينية أو على الحكومة اللبنانية عندما تقوم بعملياتها الانتقامية، وتخلط عمداً بين الدولة والميليشيا والمجتمع وفئة مسلحة منه. إنها تتناسى أن للدولة مفهوم اعتباري وحقوقي مهما كانت درجة العسف التي تمارسها. وهذا المفهوم يقوم على جملة التزامات داخلية وخارجية. ولعل من أهم الالتزامات المعاصرة، المعاهدات الناجمة عن آلام ومآسي الحرب العالمية الثانية والمعروفة بقوانين الحرب والتي تحظر هجمات الردع ضد السكان المدنيين وتمنع أعمال الانتقام ضد الأشخاص المحميين وممتلكاتهم ومنع التوقيف العشوائي للسكان ونقلهم للبلد المحتل " المادة 51 "6" من البروتوكول الأول والمادة 33 من اتفاقية جنيف الرابعة ". وليس من المقبول قانونياً ومنطقياً وضع الدولة والمليشيا في موقع اعتباري واحد، وإن كانت الالتزامات الإنسانية واحدة.

قال عقيد في الجيش الإسرائيلي لمراسل النيويورك تايمز : " في جنوب لبنان، لا أحد باستثناء اللـه القدير يمكنه ايقافك ( أي ايقاف الجيش الإسرائيلي عن عمل ما يشاء ). السؤال الوحيد الذي تطرحه على نفسك ( كجندي أو كجيش إسرائيل ) وأنت في طريقك لنسف بيت أحدهم هو هل ستستعمل خمسين أو 25 كيلو ديناميت " (النيويورك تايمز 31/3/1996 ).

هل يمكن أن نقبل ضمن المفهوم الحقوقي للدولة أن تلخص هذه الجملة ممارسات ضباطها، خاصة إن كانت الدولة المعنية ثاني قوة عسكرية في حوض المتوسط وتنال منحا عسكرية أمريكية سنوية قيمتها 1.8 مليار دولار ؟

لقد عرف جنوب لبنان الأشكال الأساسية لعنجهية القوات الإسرائيلية. فقطاع هام منه محتل، والقطاع الآخر رهينة للقصف وهدم البيوت والمحاصيل وخطف الأشخاص والقتل والتهجير الجماعي المؤقت والتهجير المتتابع للبنى التحتية. وإن كان سجن الخيام يعطي الرمز الأقسى للاحتلال، فالمدنيون يشكلون الرهينة الجماعية لسياسة المحتل الإسرائيلي. يكفي استرجاع صور عمليتي " تحميل المسؤولية " (1993) و " عناقيد الغضب " ( 1996 ) والاعتداءات الإسرائيلية بينهما مع ما وقع من ضحايا، لأدرك ما نعنيه بالرهينة. أي الأشخاص الذي لا يشاركون مباشرة في العمل العسكري والذي يحاول عبرهم أحد أطراف الصراع تغيير ميزان قوى معين دون أي اعتبار آخر.

يخرج لبنان الجريح من حروب داخلية وخارجية قاسية تركت بصماتها في كل شبر من أرضه وكل خلية من خلايا أبناءه. فما من بيت إلا وفيه أسير أو مخطوف أو فقيد أو مفقود أو مهجر أو مهاجر. و إن كان هم إعادة البناء هم مشترك، فكرامة الإنسان بعد كل ما حدث تبقى الهاجس الأكبر. وحده الإنسان المواطن الذي يعتبر نفسه أغلى قيمة ويعتبره وطنه كذلك قادر على خوض معركة لبنان الجديد الديمقراطي والإنساني. إن أي اعتداء خارجي على حقوق الإنسان في هذا البلد جريمة مضاعفة، لأنها اعتداء على شخص جريح وبلد جريح، وليس في العالم مذهب أو شرعة تبيح الاعتداء على جريح.

في مطلع الستينات، قامت إسرائيل بمحاكمة ايشمان، المجرم النازي المسؤول عن تصفيات جماعية مخيفة لليهود في محاكمة لا يمكن إلا أن نصفها بالعادلة .. ومهما كان تعريفنا وموقفنا من عمليات المقاومة الإسلامية، ألا يحق لنا أن نتساءل لماذا لا تقوم إسرائيل بمحاكمة المقاومين محاكمة عادلة والتوقف عن سياسة الخطف والاغتيال والعقاب الجماعي المناهضة لكل الأعراف الإنسانية ؟ ربما يخشى القاضي الإسرائيلي أن يتحول في عيون العالم إلى متهم.

خلال 48 سنة من تاريخ إسرائيل، كانت غاية حكامها إقناع العالم بالاعتراف بدولتهم. لكن ألا يتطلب الاعتراف بأية دولة أن يتوقف حكامها عن التصرف كعصابة ؟ وهل ينسى اليوم من اضطهد بالأمس معاناته عندما كان الاضطهاد بأبشع أشكاله يمارس بحقه ؟ أم أنه يحاول معالجة آثار ذلك على تكوينه النفسي باللجوء لنفس الأساليب باضطهاد ضحاياه يفرغ فيهم كل شحنات العدوانية الكامنة لديه والممزوجة بالخوف منهم ؟ إنه يتناسى كما يبدو أن تحول الضحية إلى جلاد قاعدة تتكرر كلما جاوز القهر حد الاحتمال.