الإرهاب والمجتمع المشهدي

دخل العالم منذ أحداث الحادي عشر من أيلول منعطفا تاريخيا لا يمكن التكهن بكل نتائجه منذ الآن. إلا أن معظمها سيكون حتما سلبيا بالنظر لما حدث حتى الساعة من حرب وتدمير لبلد فقير كافغانستان. وكذلك من تشديد على الحريات واختيار الحل الأمني في أكثر من مكان ومناسبة في مواجهة الآخر. هذا الآخر الذي يعتبر أنه يشكل خطرا على من يتحكم بموازين القوى، أكان ذلك على مستوى العلاقات بين الدول والشعوب أو داخل البلدان بين الأنظمة والمواطنين.

إلى جانب ذلك تطالعنا بعض وسائل الإعلام بمادة إعلامية فيها من قصر النظر والمنطق التسطيحي للأمور ما يضيف عاملا من عوامل تهييج القلق والعنف عند الأفراد والجماعات الذين يشعرون أنهم مستهدفين دون أن يكون لهم أي باع في ما يحصل لهم أو حولهم.

يلاحظ في الأزمات أنه بدلا من التمعن بأسبابها الفعلية ومحاولة معالجتها بمسؤولية، يتم انتهاج سلوك لا عقلاني يقوم على نقل الذنب للآخر الذي يغدو الضحية بامتياز. من الأجدر في أوضاع توتر كهذه مساءلة الذات على ما اقترفت من ذنوب أدت عند الآخر لتفاعلات يائسة وخيارات لا عقلانية كرد فعل على المنطق التسلطي والأحادي، وانتهاج سياسات مواجهة ذكية ومتعددة الميادين لعلاج الإشكاليات المطروحة على العالم بدلا من صب الزيت على النار ومقابلة الكيل بكيلين.

ما يزيد من شحنات التوتر والتأزم في العلاقات بين البشر هو الجهل بالآخر عند من يتحكمون بموازين القوى وخاصة عندما يكون ذلك على مستوى قوى عظمى. إن في العبث بحقوقه وقصر النظر في التعاطي مع قضاياه ما يمهد حكما لعنف مضاد قد لا يمكن السيطرة على تعبيراته عندما يتغذى من الإحباط والإحساس بالظلم وانعدام العدالة وانتفاء المحاسبة.

السهولة في إعزاء الكل إلى الجزء وتعميم الجزء على الكل في التعاطي مع الآخر المختلف فيها ما هو خطير. ففترات الأزمات تترافق بأزمة على صعيد الهوية الشخصية، حيث الشعور بانعدام الأمان جراء إحباطات الحاضر والخوف مما يحمله المستقبل فيه ما يعزز القلق الدفين في زوايا النفس البشرية. فهو يحملها، في محاولة لترسيخ الشعور بعالم داخلي آمن، للبحث عن كبش محرقة تسقط عليه ما في داخلها من مشاعر سلبية لا تقبلها. والمرء بحاجة أن يتميز عن غيره، خاصة عمن يكون على مسافة قريبة منه، بالعمل على جعل المسافة أكبر. مما يوهمه ببعض شعور بالاطمئنان، في حنين لعالم ولىّ فيه من نسج الخيال ما يجعله أقرب للحلم منه للواقع.

الخطر الأكبر هو في وجود مشاعر عنصرية عند الذين يتحكمون بمقادير الجماعات والشعوب. ذلك كونها تشرّع للعنف وتبرر انفلات التصرفات الغريزية من عقالها، مستهدفة من هم أضعف دون أن يكونوا بالضرورة بعلاقة مع الحدث. في وضع كهذا، تكفي كلمة غير مسؤولة لتأخذ أبعادا لا تحمد عقباها عندما يكون فيها تحريك لمشاعر النبذ للآخر. مما يلقي بظلاله القاتمة على حوار الحضارات وإسهامات الشعوب في التراث الإنساني.

يطرح الحديث عن الإرهاب نفسه بقوة منذ فترة. فبغض النظر عن أنه ينبغي إدانة الإرهاب بشكل كامل لا يقبل الملطّفات- حيث ما من شيء يبرر قتل البشر والتعدي على حقهم في الحياة، خاصة عندما يخول الجناة لأنفسهم التصرف باسم الآخرين أو باسم المصلحة الوطنية- يبقى الانقسام كبيرا بين الذين ينظرون لمقاومة الاحتلال كأعمال مشروعة وبين من يصنفها كإرهاب. ففي القانون الإنساني الدولي يتمتع من يقاوم الاحتلال بحماية، لكن ليس عندما يأخذ السلاح ويقتل المدنيين. مما يفسر عدم توصل المفوضية العليا لحقوق الإنسان واللجنة الخاصة بالإرهاب إلى مناقشة تعريف حقوقي لجريمة الإرهاب بعيدا عن المصالح السياسية الآنية لهذا البلد أو ذاك. لكن بات من الضروري التوصل لفرض تعريف للإرهاب يأخذ بعين الاعتبار مشروعية المقاومة عندما تكون الأعمال موجهة ضد دولة محتلة من أجل تحرير الأراضي وانتزاع السيادة والاستقلال. بذلك ما لا يسمح للولايات المتحدة أو غيرها اعتبار الذين يقامون إرهاب الدول إرهابيون، في الحين الذي تبيح لنفسها إنزال العقوبات بهم وتساند الدولة التي احتلت بلدهم وأجبرتهم على مقاومتها دون أن تعتبرها إرهابية.

هل هناك مسؤول أمريكي واحد يجرؤ على اعتبار نيلسون مانديلا إرهابيا وهو الذي تبنى العنف للتخلص من نظام الأبارتايد ودفع الثمن 27 عاما من الاعتقال؟ للأسف، لم يتوصل صانعو القرار على الصعيد العالمي لتحديد الفرق بين الضحية والجلاد. فمصالحهم الاستراتيجية والاقتصادية تمنعهم من الأخذ بعين الاعتبار للأسباب الحقيقية للجوء إلى العنف في المجتمعات البشرية.

ألم يكن الأمريكيون هم من تحالفوا مع بن لادن عندما كانت مصالح الطرفين تقضي بدحر الاحتلال السوفياتي عن أفغانستان؟ ولماذا اعتبرت الولايات المتحدة محاربة القوات السوفيتية فيها مقاومة ولا تعتبر مجابهة قوات الاحتلال الإسرائيلي كذلك؟ "عندما وصل "الطالبان"، يقول الصحفي روبرت فيسك، وعلقوا على أعواد المشانق كل معارض وقطعوا أيدي اللصوص ورجموا النساء بالحجارة بسبب الزنى، اعتبرت الولايات المتحدة هذه الجماعة المرعبة قوة خاصة من أجل الاستقرار بعد سنوات من الفوضى".

أولم تكن الدول الغربية وأمريكا هي من تحالف مع صدام حسين وعززه بالأسلحة المتطورة ليدفع بها عنهم القوة الصاعدة في إيران؟ استمر الأمر كذلك إلى أن وجدت الطريقة لكسر شوكته بضرب البنية التحتية لبلده وتجويع وإبادة شعبه بحجة التخلص منه والقضاء على حكمه بعدما قدم خدماته ولم تعد هذه الدول بحاجة له. في كلا الحالتين، كان الاعتماد على التوجيه الإعلامي المفرط والضغط على الدول واستعمال القوانين الدولية بما يخدم المعركة من خلال ما تراه الولايات المتحدة متناسبا مع مصالحها، وعشنا صورة فاقعة لما يسميه ديبور بالمجتمع المشهدي في كتابه الذي يحمل هذا الاسم.. وكان قلب الصورة بين ليلة وضحاها ونقل الذنب للآخر عبر حرب نفسية شرسة لتبرير ما يجري من أعمال عدوانية غايتها في النتيجة وضع اليد على منابع الذهب الأسود.

عدم القدرة للتعاطي مع العالم من خارج المصالح المباشرة والرؤية الضيقة لمجموعات الضغط تعيد لذاكرتنا أهوال الحروب السابقة وتجعل الخوف حاضرا من الوقوع مجددا في مطبات وخيمة العواقب. فالمطلوب تدارك عقم هذه السياسات القائمة على منطق الغلبة والقهر. سياسات تمعن في بؤس الشعوب وتغذي استمرارية أنظمة استبدادية تلبس عباءة الوطنية أو الدين أو كلاهما، جاعلة من اللاعقلانية القاسم المشترك الأعلى بين الأقوى والأضعف.

الإرهاب ليس فقط ما يقوم به بعض الجماعات الأصولية أو من يعتبرون إرهابيين. الإرهاب بنظرنا هو أيضا الإرهاب الفكري الذي غالبا ما تلجأ له الدول وبوسائل أشد تأثيرا وظلما للحصول على ما تريد بما يخدم مصالحها المباشرة للبقاء في السلطة أو ما تسميه مصلحة الدولة التي تكون في حقيقة الأمر قد اغتصبتها لنفسها.

باللجوء لبعض الأساليب والاستراتيجيات التي ثبت تأثيرها في حقل علم النفس الاجتماعي، ومن خلال التجارب على بشر كانوا يعتقدون أنهم يملكون ملء حريتهم في اتخاذ مواقفهم، بان أن هذه الحرية لم تكن سوى نسبية أو بالأحرى مزيفة. فقد فعل هؤلاء ما كان يراد لهم أن يفعلوا من قبل آخرين، لهم بعض نفوذ ومشروعية في التحكم بهم. حتى عندما كان المطلوب عكس ما يعتقدون أو ما يمكن أن يضر بهم في نهاية المطاف. أكثر من ذلك، أثبتت هذه الأبحاث أن البشر، وبدافع الحاجة للشعور بالانسجام مع النفس، يمكنهم أن يصروا على مواقفهم التي سبق واتخذوها حتى ولو لم ترتكز على أسس سليمة. وحتى لو كان فيها مسؤولية كبيرة، كأن يتعلق الأمر مثلا باتخاذ قرارات سياسية أو عسكرية أو مالية. فهل بعد ذلك نفاجأ كيف أن الأفراد أو الجماعات يمكن أن تقاد إلى حتفها من قبل ساستها والقيمين على أمورها؟ إنها أحيانا كثيرة تعمل ما يراد لها أن تفعله وتقبل بجرها لمواقع ما كانت لتلجأ لها بمفردها.

أصبح من المتداول الاعتماد على روائز لقياس الإمكانات العقلية والمواصفات النفسية عند طالبي العمل للتأكد من مطابقة أوصافهم للوظيفة بهدف انتقاء الأفضل بينهم. أليس من الضروري اعتماد نفس الأسلوب لاختيار الأشخاص الذين يتولون مقادير الشعوب، وبالأخص أولئك الذين يتحكمون بموازين قوى واسعة التأثير ؟ لو حصل ذلك لما وصل تردي الأوضاع لما هو عليه اليوم.

إن المسؤولية في تفشي الإرهاب مسؤولية جماعية وليست فردية. إنها مسؤولية الكبير قبل الصغير، تنطلق من قمة الهرم الاجتماعي إلى قاعدته، في علاقة جدلية بين السياسي والاجتماعي والأسري. هذا التفاعل يمكن أن يحول المقموع إلى قامع ويعاظم من خطره عندما توضع بين يديه إمكانات كبيرة تخول له ارتكاب ما شاء من فظائع تشفي غليله للانتقام مما عانى منه في صغره. الأخطر من ذلك هو عندما يغدو استعماله الآخرين وإرغامهم بالترهيب والترغيب لتبني قراءته الذاتية للأمور في خدمة مصالحه الشخصية مسألة اعتيادية بإلباسها حلة الموضوعية وبالاختباء وراء المصلحة العامة. بقمعه للآخر يعيد إنتاج ما ارتكب بحقه في تجاوب مع رغبات غير معلنة أو لا واعية أحيانا كثيرة وبعلاقة مع ما توفر له من مثل أعلى يحتذى، من الآباء والمدرسين إلى الحاكمين وذوي النفوذ وأية سلطة تملك رمزيا مقومات المثل.

من هنا ليس من المقبول تناول إرهاب الجماعات فقط والتوقف عند حافة إرهاب الدول. فالأول ليس أكثر خطورة من الثاني وإنما العكس. لكن للأسف المسألة تتعلق بموازين قوى تملي على من عداها الوضع الذي يلائمها. فشريعة الغاب تبيح للكبير أكل الصغير ولو كان ذلك على مستوى الكائنات البشرية والمجتمعات الإنسانية.

كلنا مسؤول، وإن بدرجات متفاوتة، عما يجري من أعمال عنف وإرهاب. فعملية تراكم الإحباط تبدأ منذ الطفولة، من العلاقة مع الأباء المتسلطين في مناخ لا تجد التربية المنزلية اللاديمقراطية أصواتا كثيرة تشكو منها بفعل التبريرات التي يسوقها المجتمع، وكأن الراشدين ينسون ما عانوا منه وهم أطفالا. يتضاعف الشعور بالغبن وفقدان الكرامة مع الحاكم المستبد الذي يعمل لضمان بقائه في الحكم أطول مدة زمنية ممكنة. ويكون ذلك بخلق جو من غياب الحريات الأساسية وتغييب المواطن واغتيال النهضة الثقافية وفشل السياسات التعليمية والبرامج التنموية. جو تعبق فيه رائحة فساد الأجهزة ونهب الأموال العامة لحساب نخب عسكرية وأمنية وحزبية وفئوية أرادت لكلمة المجتمع المدني أن تكون مصطلحا مستوردا وليس سلطة مضادة. القهر لا ينشأ فقط مع ما تفرضه القوى العظمى والبلدان الصناعية من هيمنة على البلدان النامية. وليس فقط لأن عالمنا مترابط ومتداخل تؤثر فيه أسواق البورصة دون حدود على مستوى معيشة الناس ويترك النظام المالي العالمي بصماته فيه على برامج التنمية بتخفيض مستوى معيشة الأضعف ورفع شأن ورفاهية الأقوى. الشعور بالإحباط والمرارة يتأتى خاصة مع ما يفرضه حكام بلدان العالم الثالث على شعوبهم من قمع لحرياتهم وانتهاك لكرامتهم.

هذه البلدان التي لم تعرف بمعظمها آليات الانتقال الديمقراطي للحكم وإنما خبرت الاستيلاء على السلطة أو الاحتفاظ بها باتباع أساليب فيها من العنف وانتهاك لحقوق المواطن ما يجعل من العنف مولدا لا محالة لعنف مضاد. وهذا العنف عندما لا يتسرب ضمن مسارب طبيعية يتحول عن مجراه لأمور أخرى قد لا يكون هناك رابط مباشر بينها وبين مسببها. أليس باسم الحفاظ على الأمن وعبر تطبيق القوانين يتم توقيف المعارضين للحكم في الدول العربية وبالأخص تلك التي تحتل الصدارة في تطبيق الآلة البوليسية والقمعية ضد المواطنين كسوريا أو تونس مثلا؟ لو كانت هذه المعارضة مسلحة وعنفية لكانت التبريرات أسهل أن تقنع من لا يعرف بحقيقة الأمور، لكنها معارضة سلمية سلاحها كلمتها وقلمها.

لمعالجة مسببات العنف والإرهاب لا بد من تغيير الزاوية التي يتم منها النظر لهذه المسألة، وخاصة في هذا الظرف بالذات. فالحلول الأمنية والعسكرية لتبرير مواجهة العنف والإرهاب ليست حلا ناجعا. إن فيها بالأحرى ما يزيد من سعيرها بدل أن يعمل على اجتذاذ جذورها. صحيح أن القانون يجب أن يطبق على الجناة لما ارتكبوا من أفعال بهدف الحفاظ على النظام ولحمايتهم من أنفسهم وحماية الآخرين مما تجني يداهم. لكن المشكلة تبقى في كيفية  استعمال القانون وطريقة تطبيقه وفي التفسيرات والتبريرات التي تعطى لذلك من طرف الفئة الغالبة ضد الطرف المستضعف والمغلوب على أمره.

إن انفتاح العالم على بعضه أصبح يتطلب أكثر من ذي مضى التخلي عن التفرد والانطوائية- التي قد تكون في ناحية منها رد على العولمة الزاحفة بشكلها الحالي. والجواب الأفضل على التغييرات السريعة والتطورات الكبيرة التي تحصل في عالم اليوم يكمن بالتالي في امتلاك هوية عابرة للحدود. هوية تضع ضمن همومها كرامة الآخر وضمان حقوقه، التي فيها وحدها الضمانة الأكيدة لكرامة الذات وحفظ حقوقها وليس العكس.

د. فيوليت داغر

رئيسة اللجنة العربية لحقوق الإنسان