المستقبل
السياسي في السعودية
(في
ضوء أحداث 11 سبتمبر 2001م)
بقلم
: ا. د. / متروك الفالح
أستاذ
العلوم السياسية في جامعة الملك سعود
بالرياض والذي اعتقلته السلطات السعودية
صباح 16 مارس 2003 وتعتبره اللجنة العربية
لحقوق الإنسان سجين رأي وتطالب بإطلاق سراحه
فورا مع زملائه العشرة
العلاقات
السعودية الغربية وبالذات بطرفها الأمريكي
كانت تتسم بشكل عام بالتميّز طوال العقود
الخمسة الماضية وحني بداية الألفية الثالثة
الميلادية. غير آن ذلك التميّز لم يكن،
بالضرورة علي وتيرة واحدة إذ شهدت العلاقات
الغربية السعودية، ومنها الأمريكية تحديدا،
حالة من التوتر وعدم الاتساق وخاصة في
الفترة لما بعد 1995/1996 حيث تفجيرات الرياض
والخبر ضد القوات الأمريكية والتي أسست
وأرخت لبداية تقلق شعبي من الوجود الأمريكي
وكذلك عدم ارتياح رسمي من التدخل في الشؤون
الداخلية وخاصة في لطار التحقيقات في تلك
الإحداث (1). تلك الحالة العامة من العلاقات
السعودية الأمريكية والتي كانت علي ما يبدو
متميّزة، وان لم تخلو من توتر كما أسلفنا،
بدأت تتبدد على نحو لم يكن مسبوقا من قبل و
ذلك بعد الهجمات المميتة في واشنطن ونيويورك
وبنسلفاينا في الحادي عشر من سبتمبر عام 2001م.
ذلك
الحدث وتوابعه في سياق ما سمي "الحملة ضد
الإرهاب" بما في ذلك الحرب ضد أفغانستان -
ولربما مستقبلا، ضد دول عربية أو إسلامية
وكل ذلك يشير إلي إن المسلمين ومنهم العرب
تحديدا هم المستهدفون بدرجة واضحة من كل تلك
الحملة واتجاهاته- فتح ملف العلاقات
الغربية العربية ومنها السعودية- الأمريكية
تحديدا علي مصراعيه باتجاه إعادة صياغتها أو
تغييرها وعلي نحو بدا أنه يؤسس لازمة ذات
مخاطر علي البلاد العربية عموما ومنها
الدولة والمجتمع في السعودية تحديدا. تلك
المخاطر تبدو هذه المرة مخاطر حقيقية وجدية
وبالتالي تتطلب في المقابل معالجة حقيقية
وجدية ولكن على أسس وصيغ جديدة لتتواكب
وتتعامل مع مرحلة جديدة ومختلفة تماما عن
سابقتها.
إن
ما يهمنا في هذه الورقة ليس معالجة
العلاقات، الأمريكية السعودية بذاتها،
وإنما ملاحظتها في سياق ارتباطها بأحداث
الحادي عشر من سبتمبر لعام 2001م والحملة
الأمريكية علي ما سمي "الإرهاب"
وانعكاس ذلك على أو ارتباطه في المسالة
الداخلية في السعودية آلا وهي علاقة الدولة
بالمجتمع وما يرتبط بذلك بما يمكن تسميته
بالمستقبل السياسي للسعودية. ولكي نصل إلى
هذه وتلك الغاية لا بد من ملاحظة ما يمكن
تسميته بالأزمة في العلاقات الأمريكية
السعودية وعناصرها ومدى صلة ذلك كله بمعادلة
الدولة والمجتمع في السعودية وما هي
المعالجات لها إن وجدت؟ وهل تلك المعالجة
تمثل معالجة سليمة وشافية؟ أم إنها تحتاج
إلى معالجات بديلة أكثر ملائمة مع تلك
التحديات والتطورات وذلك من اجل الإمكانية
والاستمرارية والبقاء للدولة والمجتمع علي
حد سواء. من هنا فان المشاهد للازمة الداخلية
وفي سباق ألازمة الخارجية واحتمالاتها
المفتوحة تحتاج إلى تحديد، بما في ذلك
المشاهد التي تمثل مخاطر حقيقية وكذلك
المشاهد البديلة للخروج من ألازمة علي
الصعيد الداخلي.
في
الحملة الأمريكية علي السعودية وأحداث
الحادي عشر من سبتمبر2001م
هجمات
الحادي عشر من سبتمبر 2001م والتي أسست لأولى
حروب القرن الواحد والعشرين، وما انطوت علية
من مزاعم أمريكية بان منفذيها هم في اغلبهم
من السعودية حيث أشير إلى خمسة عشر شخصا
سعوديا من بين تسعة عشر متهما بتلك العمليات
الهجومية – ولدت توجهات وانتقادات حادة من
قوى ونخب إعلامية وفكرية وسياسية ذات صلة
قوية بمراكز صنع القرار في الولايات المتحدة
الأمريكية ضد الدولة السعودية إلى درجة
التعريض بشخصيات سعودية رسمية كانت خلال
العقد المنصرم وحتى تلك الهجمات تحظى بقبول
واحترام كبيرين داخل الإدارة الأمريكية
وقواها السياسية (2). تلك الحملة الأمريكية
وبصلة بعناصر قيادية رسمية وخاصة في السلطة
التشريعية، بدأت متواضعة في البداية ولكنها
أخذت تكسب زخما وقوة مع مرور الوقت وخاصة
قبيل الحرب الأمريكية على أفغانستان وما
بعدها(3). إن تلك الحملة المناهضة للسعودية
والتي أسست لأزمة في العلاقة مع السعودية
دولة ومجتمعا من جهة، وكشفت عن تراكم أزمة
بين الدولة والمجتمع في السعودية من جهة
أخرى – وتلك الأخيرة حرصت القيادة السعودية
وخاصة بقيادة الأمير عبداللة على محاولة
احتوائها– تمحورت حول عدة عناصر ومنها:
(ا)
الزعم الأمريكي بتورط سعوديين في الهجمات
أنفة الذكر مما فتح باب أسئلة أمريكية جديدة
حول التفريخ السعودي للتطرف و"الإرهاب"
لعناصر مجتمعية ذات توجهات إسلامية تحديدا
ولكن بالإشارة إلي كونها محفوفة بسياسات
حكومية رسمية.
(ب)
ثم لاحقا المطالبة الأمريكية بالمراقبة
المالية وتجميد بعض الحسابات والأرصدة
التابعة لمجموعات إسلامية بما فيها بعض
الجمعيات الخيرية والمطالبة بتعديل مناهج
التعليم في سياقها الإسلامي والتي تزعم
إطراف أمريكية بأنها تحض وتحرض علي التطرف
والكراهية والعداء للأخر وخاصة للغرب.
(ج)
ومع اقتراب الحرب الأمريكية وعدوانها على
أفغانستان بحجة مكافحة "الإرهاب الإسلامي"
كانت الإدارة تطالب بمزيد من التعاون
السعودي الرسمي في السياق العسكري وخاصة
استخدام قاعدة الخرج كمركز للتحكم والسيطرة
والقيادة للعمليات الحربية ضد أفغانستان.
(د)
ترافق ذلك كله بتردد سعودي رسمي تجاه مسألة
الرقابة المالية ومسألة الزج بأسماء
السعوديين في الهجمات دونما تقديم دليل،
وكذلك الحرج من مسالة التعاون العسكري
العلني وخاصة السماح باستخدام قاعدة الخرج
مما ولد ردود فعل عنيفة من قبل القوى
الإعلامية والسياسة الأمريكية تجاه الدولة
السعودية وكذلك المصرية واتهامهما بأنهما
تلعبان أدوارا مزدوجة في التعامل مع حرب
أمريكا علي "الإرهاب"(4).
(ه)
ترافق ذلك كله مع حالة شعبية في السعودية غير
مسبوقة من المناهضة للسياسات الأمريكية
تجاه مزاعمها وكذلك مطالبها الرقابية
المالية وتعديل المناهج وكذلك السخط الشعبي
من الحرب الأمريكية على أفغانستان باعتبار
تلك الحرب كما نظر لها شعبيا ودعمت من علماء
إسلاميين محليين ومن البلاد العربية
الإسلامية (5) على أنها حرب صليبية ضد الإسلام
والمسلمين وفي القلب منهم العرب.
(و)
ومما زاد من السخط الشعبي إن معظم المعتقلين
والمحتجزين داخل أمريكا من باب الشبهة وتحت
ما سمي باستراتيجية البعثرة Disruptive
Strategy
(6) داخل الولايات المتحدة هم من العرب بما
فيهم السعوديين، وكذلك ما لحق "بالعرب
الأفغان" والمجازر التي ارتكبت ضدهم من
قبل الفوات الأمريكية وقوى التحالف الشمالي
الأفغاني وتوابعها لاحقا، بما في ذلك مسالة
الأسرى العرب والمعاملة المشينة وغير
الإنسانية التي تلقوها على أيدي الأمريكيين
سواء في أفغانستان أو في معتقل "جوانتناما"
في كوبا لاحقا.
(ز)
ووصل الأمر بالحملة الأمريكية على السعودية
في منتصف يناير عام2002م بقيام عناصر من
الإدارة الأمريكية (كارل ليفن مثلا)
بالتلويح تهديدا بإعادة النظر بالتواجد
العسكري الأمريكي في السعودية أو بسحب
قواتها استنادا إلى تلميحات بان تلك الخطوة
مرتبطة بوجود رغبة سعودية غير محددة المصدر
والتي لم تدم أو تصمد طويلا إمام تصريحات
سعودية رسمية أو أمريكية علنية بعكس ذلك(7).
إضافة إلى ذلك كله وفي سياقه، ومنذ البداية
وحتى الآن، كانت هناك تصريحات عن وتلميحات
إلى، وتهديدات بمسالة الاستبداد والفساد
السياسي للنظام في السعودية ودعوات إلى
الحاجة لإيجاد صيغ أكثر ملائمة تأخذ
بحسبانها حقوق الإنسان والمشاركة والحريات
وان بشكل تدريجي وتلك الإشارات بدأت منذ
خطاب بوش أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة
في 17/11/2001م وفي كتابات وتعليقات وانتقادات
إعلاميين ومفكرين ودبلوماسيين(8).
ثانيا:
الحملة الأمريكية علي "الإرهاب"
والسعودية: جذور ألازمة الداخلية
الموقف
الرسمي السعودي من إحداث 11-9-2001م وما بعدها،
بدا انه - ورغم إدانته تلك العمليات وتوظيف
بعض التخريجات الدينية من بعض علماء الدولة(9)
يميل إلى التردد وخاصة في مسالة قبول الزج
بأسماء سعوديين وكذلك تجاه التعاون الأمني
والعسكري وكذلك المالي الرقابي(10). ورغم أن
السعودية من الناحية الرسمية كانت تعلن
تعاونها وموقفها ضد الإرهاب(11)، إلا أنها
كانت تشعر بالحرج من مسالة الموافقة علنا
على استخدام قاعدة الخرج وكذلك من التوجهات
الشعبية الداخلية المعادية للولايات
المتحدة وخاصة بعد بداية العمليات الحربية
ضد أفغانستان وحكومة طالبان مما جعلها، وتحت
ضغط إعلامي أمريكي متزايد، إلى إن تقوم
بالطلب من أئمة المساجد بوقف دعاء القنوت
فجرا ومغربا ضد الولايات المتحدة والمساند
لحركة طالبان بالنصر(12).
في
المقابل، كانت التوجهات الشعبية تزداد حدة
وعداء للولايات المتحدة الأمريكية منذ
بداية الإحداث (11سبتمبر2001) حيث كان الملاحظ
أن هناك نوع من الابتهاج (13) بما حدث في
أمريكا وضدها وذلك تشفيا بما تراه للعناصر
والفئات الشعبية وشرائحها المتنوعة في
السعودية بان ذلك يشكل ردا على أمريكا
وسياساتها المناهضة للعرب والمسلمين وخاصة
في فلسطين والعراق وأماكن أخرى. تلك المواقف
الشعبية أخذت بالزيادة المطردة ضد الولايات
المتحدة من اغلب الفئات الشعبية بما في ذلك
الشرائح اللبرالية وخاصة مع بداية العمليات
الحربية ضد أفغانستان وأحداثها المتعاقبة
وكذلك في سياق الحملة الأمريكية على
السعودية وأيضا في سياق التوجهات الأمريكية
– الداعمة لحكومة وسياسات الكيان الصهيوني
في عملياتها التدميرية ضد الشعب الفلسطيني
ومقدرا ته وممتلكاته ومقدسا ته– والتي أخذت
بالتزايد إلي درجة إدراج حركات المقاومة
الفلسطينية وخاصة حركة حماس والجهاد ضمن
قائمة الإرهاب الأمريكي عندما بدا لها (أمريكا)
أنها تتجه إلي حسم الأمور في أفغانستان
مكافأة للعدو وإذلالا للعرب على وجه الخصوص.
الموقف الرسمي السعودي بدى يستفيد من الحملة
الأمريكية المتزايدة علي السعودية وذلك
بتوظيفها وذلك للاحاطة بالمسالة الداخلية
وفي محاولة لردم الفجوة بينها وبين التوجه
الشعبي والذي بدى ولأول مرة بأنه بالفعل
يتخذ مواقف متعارضة مع التوجهات الرسمية
وخاصة فيما يتعلق بالموقف من إحداث سبتمبر
والتعاون مع أمريكا في مسالة مكافحة ما سمي
"بالحملة علي الإرهاب"وكذلك في سياقها"
المسألة الأفغانية" بما هي حرب علي بلد
مسلم خاصة في سياق التوجه الإسلامي المدعوم
من بعض القيادات العلمية الإسلامية المحلية
والعربية المناهضة للتعاون مع الأجنبي
والتحالف مع الكفار والمشركين ضد العرب
والمسلمين(14). القيادة السعودية وخاصة
توجهات الأمير عبد الله (ولي العهد)، بدأت
تتعامل مع الحملة الأمريكية على أنها حملة
ضد المسلمين وعقيدتهم (15)، وكذلك مرتبطة
بحملة صهيونية ذات صلة بالجماعات الصهيونية
الضاغطة (اللوبي الصهيوني) في واشنطن
والبلاد الغربية ضد مواقف المملكة من القضية
الفلسطينية والإشارة إلى إن السعودية قد
وصلت إلي طريق مسدود مع الإدارة الأمريكية
في مسالة موقفها من وتحيزها مع الكيان
الصهيوني في معالجة القضية الفلسطينية. وفي
محاولة للإحاطة بالمسالة الداخلية عن طريق
بوابة الحملة الأمريكية والبعد الصهيوني
فيها، قام الأمير عبدا لله بالاجتماع، وعلي
مراحل، بعدد من الفئات والشرائح وبعض القوى
السعودية من أساتذة الجامعات والمعلمين
والتجار والمشايخ والعسكريين وذلك في
محاولة لكسب تلك المجموعات من الحملة
السعودية المناهضة للحملة الأمريكية وفي
محاولة للتأكيد علي الوحدة الوطنية
وأهميتها للتعامل مع انعكاسات تلك الأزمة
وتوابعها علي الأوضاع الداخلية(16).
وبتوافق
ولربما تناغم مع تلك الحملة السعودية
المناهضة للحملة الأمريكية عليها، بدى أن
السلطات السعودية تتيح لعناصر من الشعب
السعودي ذات توجهات متباينة وبعضها غير متسق
مع الخط الرسمي للدولة للتحدث علنا في إطار
ألازمة ورؤيتها لها وخاصة من خلال الأدوات
والقنوات الإعلامية العربية وبالذات
الفضائية منها وبدرجة اكبر قناة الجزيرة
الفضائية (قطر)(17). في المقابل، بدا أن
السلطات السعودية وهي تواجه التحدي
الأمريكي وخاصة مع حسم الأمور في أفغانستان
لصالح أمريكا –تتجه إلى محاولة التخفيف من
الضغط الأمريكي عليها وذلك من خلال التناغم
معها، وذلك بقبول المزاعم الأمريكية بتورط
سعوديين في الهجمات السبتمبرية علي أمريكا(18)،
وكذلك بالتعامل مع الساحة الأمريكية مباشرة
من خلال الأقلام الأمريكية الزائرة أو
المستكتبة من خلال شركتي الاتصالات
والعلاقات العامة داخل الولايات المتحدة
الأمريكية(19). وكذلك من خلال العناصر
القيادية السعودية في سياق الوفد السعودي
الكبير لاجتماعات "منتدى دافوس" في
أوائل فبراير 2002 حيث راس الوفد رئيس
الاستخبارات السعودية (الأمير نواف بن عبد
العزيز) ورافقه عدد من الأمراء والذين أدلى
بعضهم بتصريحات وأجروا مقابلات تلفزيونية
داخل أمريكا محاولين على ما يبدو التأكيد
علي الدور التعاوني للسعودية في الماضي وفي
الحاضر المستمر وفي القادم المحتمل (20).
ويلاحظ مع ذلك كله، أن تلك الردود السعودية
علي الحملة الأمريكية انتهت إلى الدفاع عن
علاقات السعودية مع أمريكا والتعامل مع تلك
العناصر الإعلامية الأمريكية الموصوفة
بالمعادية للمملكة ( مثلا، نيويورك تايمز
والـ واشنطن بوست تحديدا) والمتحيّزة
للصهيونية، وصولا إلى تقديم مبادرة "التطبيع
الكامل مقابل الانسحاب الشامل لإسرائيل من
الأراضي العربية المحتلة منذ 1967" رغم ما
جرى عليها لاحقا من تعديلات باتجاه "السلام
الشامل مقابل الانسحاب الكامل "نتيجة
للردود العربية تجاهها، ثم إقرارها على صيغة
أكثر توازنا عربيا بالإجماع في مؤتمر القمة
العربية في بيروت 27-28-مارس-2002م(21).
تلك
المعالجة السعودية الرسمية اللازمة علي
الصعيد الداخلي لا يبدو أنها طرقت العناصر
الأساسية للأزمة وجل ما فعلته أنها لامست
بعض منها ملامسة غلب عليها الشكلية
والمعالجة الآنية(Add-hoc)
وغلبت البعد الخارجي (الأمريكي والغربي
وتوابعه) علي البعد الداخلي المجتمعي المتصل
بمسالة العلاقة بين الدولة والمجتمع. وبينما
بدى إن السلطات السعودية تشعر بالارتياح إلى
عدم تطور أحداث داخلية تتسم بالعنف وبالحدية-
باستثناء إحداث بدى أنها عارضة ( مثل التفجير
الذي وقع في الخبر، وكذلك محاولة التعرض
لبعض الأجانب في الرياض) وكذلك الأدعية (القنوت)
في صلوات الفجر والمغرب ضد الكفار والمشركين
وتلك أوقفتها السلطات السعودية عنوة لمن لم
يتوقف طوعا، وكذلك بالارتياح الرسمي
السعودي إلى ما بدى انه نهاية للمسالة
الأفغانية بإنهاء حركة طالبان وتدمير
القاعدة وعناصرها بدرجة كبيرة –وان كانت
هذه وتلك مسألتين لا زالتا فيهما نظر (22)، مما
خفف من الغليان الداخلي الذي ترافق مع
العمليات الحربية الأمريكية ضد أفغانستان
والذي انعكس بدرجة واضحة على أحاديث
ومناقشات كثير من الفئات والشرائح الشعبية
وما اتصل بتقلقل الرأي العام المحلي بما في
ذلك التوجه نحو الدعاء غير المحدد (الدعاء
بالنصر للمجاهدين من كل مكان دون تحديد
أفغانستان) عندما أصبح الدعاء الصريح ممنوعا.
وبالقدر الذي بدى للسلطات السعودية أنها
تحسم أمرها بمزيد من التعاون والاتساق مع
الغرب وأمريكا تحديدا بما في ذلك ما يبدو إن
له صلة بطرح المبادرة "التطبيع الكامل
مقابل الانسحاب الكامل" رغم ما جرى عليه
من تعديل أقرته قمة وبيان بيروت لاحقا،
مضطرة أو مقتنعة بذلك، فقد بدى للمجتمع
وفئاته أن ذلك الخيار تم علي حساب مشاعره
وتوجهاته ودون أن يكون له الصوت المسموع في
تلك السياسات والتوجهات مما زاد في سعة
الفجوة بين الدولة والمجتمع وعكس بدوره
تراكم جذور أزمة في العلاقة كانت تتشكل منذ
عقد ونيف ولكن تلك الأحداث أفصحت عن مظاهرها.
وبالقدر الذي أخطأت فيه الولايات المتحدة
الأمريكية في معالجتها لإحداث 11 سبتمبر
بإتباع استراتيجية "إرهابية" خارجية
ودون الالتفاف(مراجعة) حول سياساتها
الخارجية والداخلية التي ولدتها، فان
السعودية هي الأخرى، وبمراهنتها علي الخارج
وعلى الوقت لتجاوز المسالة الداخلية، جازفت
في عدم التنبه إلى مسالة ألازمة الداخلية
وجذورها ومعالجتها معالجة حقيقية تنطلق من
رؤية صحيحة للخلل في العلاقة بين الدولة
والمجتمع ومن ثم تصويبها بشكل صلب يؤسس
لمرحلة قادمة.
رغم
أن تفاعلات الدولة والمجتمع في السعودية وفي
سياق ألازمة، من حيث كونها تفاعلات كانت
تميل إلى أن تكون غير متسقة وغير متوازنة
ومتوازية وإنما بدرجة واضحة تبدو أكثر
متعارضة أو متفارقة، بدأت تخف مع مرور الوقت
وما بدى أنه يتوافق مع حسم الأمور عسكريا في
أفغانستان، إلا أن الأزمة الداخلية
والعلاقة بين الدولة والمجتمع لا يبدو أنها
طرقت علي الإطلاق، وما تم فيها كان معالجة
وقتية ظرفية ذات اتجاه واحد يركز علي
التعبئة الإعلامية الرسمية، ولكن بالنهاية
التوافق مع الخارج. ليس هناك على، ما يبدو،
رغبة أو رؤية في النظر بان تلك الأحداث
وتوابعها ذات " منبع ومكّون داخلي" بحيث
تحل على مستوى العلاقة بين الدولة والمجتمع
وبالبحث مع القوى الاجتماعية على حلول لها.
وكما كانت أزمة الخليج الثانية، فان
المعالجة للأزمة الداخلية المتصلة بأحداث 11سبتمبر
كانت المراهنة على الوقف مرة أخرى، وان
الداخل ليس هو المشكلة وإنما الخارج والخارج
فقط.
وحيث
أن سرالأزمة يكمن في العلاقة بين الدولة
والمجتمع، وكونها لم تعالج البتة، فإن
المسألة لازالت مفتوحة الاحتمالات
والبدائل، وقد تحمل معها نذر غير محمودة.
ويبدو أن المشكلة في التحليل النهائي ترتبط
بدرجة أكثر تحديدا بان هناك أولا سوء تقدير
أو تصور خاطئ لأهداف الحملة الأمريكية على
السعودية وحصرها ببعدها الصهيوني –أو هكذا
قيل– والمسألة الدينية أو التعليمية.
وثانيا أن هناك تجاوزا للمسالة الداخلية
ذاتها والتركيز علي البعد الخارجي لها وذلك
في سياق التصور الخاطئ وعدم معالجة الشأن
الداخلي معالجة تبدو فعلية وجدية وذات جرأة
بما يعني ويتضمن الملائمة مع متطلبات
التكيّف للنظام السياسي في إطار المحافظة
على استمراره واستقراره ولكن بصيغ أخرى
مستحدثة.
الدولة
والمجتمع والغرب: في البدائل والاحتمالات
في
الحملة الأمريكية علي السعودية ومشروع
التقسيم
بداية
يمكن التساؤل هل يمكن حصر الحملة الأمريكية
علي السعودية في مسالة اللوبي الصهيوني
والموقف العدائي من المواقف السعودية تجاه
المسالة الفلسطينية؟ للإجابة على ذلك، يمكن
القول بداية، إن ذلك قد يكون جزئيا صحيحا
ولكنه ليس الأهم والأبرز في الرؤية
الأمريكية من وراء تلك الحملة وعناصرها. ما
هو مطلوب أمريكيا هو أولا، أن الدولة
والسلطة السعودية علي مستوى القرار السياسي
يجب أن لا تتردد بل ويجب أن لا تفكر بذلك
طالما أن الولايات المتحدة ترى أنها هي التي
توفر الحماية والأمن للدولة والنظام
وبالتالي فان التردد أو الحرج بذاته لم يكن
مقبولا على الإطلاق خاصة وان ذلك قد يعني أن
التحالف في الحرب ضد
"الإرهاب" سيتعرض للتشكيك
والاهتزاز وهو ما لم تكن الإدارة الأمريكية
ترغب فيه ولا العناصر التي تقود تلك الحملة
– ومن هنا كان التردد الظاهري للسعودية يمثل
جرأة غير مقبولة من دولة– هي مدينة، في
الرؤية الأمريكية، في وضعها الأمني تحديدا
(23) وتوابعه بما في ذلك الاقتصادي والنفطي
للدولة والقوة الأمريكية. وثانيا وهذه تمثل
النقطة الأهم والأبرز، أن المخطط الأمريكي
أصلا في الحرب التي أعلنتها ضد أفغانستان
وفي سياق ما اسمتة الحرب ضد "الإرهاب"
يتجاوز أفغانستان إلى الإحاطة الكونية
وبنقاط مركزية منها ذات صلة بالإبعاد
الاستراتيجية للنفط والغاز في دائرة محورها
يمتد من أسيا الوسطي شرقا وحتى منطقة الخليج
العربي غربا. ومن هنا فان الحاجة ستكون لاحقة
باتجاه إعادة صياغة الخرائط للمنطقة
العربية تحديدا وبالتالي فان العودة لها
ستكون أمرا قائما تتطلبه تلك المهمة خاصة
وان المشروع الأمريكي هذا للمنطقة وبتوافق
مع المشروع الصهيوني لها لم يتم بعد. وإضافة
إلى ذلك ثالثا، فان صورة الشعب السعودي
وفئاته بدأت تتهاوى في الرؤية الأمريكية
وخاصة في سياق ما سمي بالتفريخ "للإرهاب
" بشرا وعقيدة (الوهابية) وتمويلا خاصة إذا
ما قبلنا فكرة إن الذين قاموا بعمليات
الحادي عشر من سبتمبر عام 2001م هم في غالبيتهم
من السعوديين. إضافة إلى ذلك وفي صلبه، فان
النظام السياسي السعودي بما هو الحاضن لتلك
التوجهات أصبح هو الأخر يمثل، في الرؤية
الأمريكية، عبئا لا رصيدا، وبالتالي فإن
السعودية (دولة ومجتمعا) أصبحت مستهدفة في
إطار المشروع الأمريكي للإحاطة الكونية
والمتلاقي مع المشروع الصهيوني بالمنطقة
والذي لم ينجز بعد، وبالتالي يحتاج إلى
تعويم ضمن إتمام المشروع الأمريكي ذاته. هذا
الاستهداف للمنطقة العربية وبما هو تلاق بين
المشروعين الأمريكي والصهيوني يؤكده وزير
الخارجية الأمريكي كولن باول إذ، يقول، في
خطابه أمام جامعة لويزفيل في 19-11-2001م، أن "الرؤية
الأمريكية لمنطقة الشرق الأوسط ستكون بعيدة
المنال ما لم تكن إسرائيل وجيرانها في حالة
سلام..." (24).
إن
الوصول إلى هذه النقطة من تعويم المشروع
الصهيوني في المنطقة بإقامة المشروع الشرق
الأوسطي في إطاره الاقتصادي والمتداخل مع
المشروع الأمريكي للسيطرة علي منطقة الغاز
والنفط (السيطرة هنا قد تكون للاحتياج
الذاتي أو للتحكم بالعالم من خلال التحكم
بالموارد النفطية) والممتدة من شرق
أفغانستان وبحر قزوين وحتى منطقة الخليج
العربي (25) يتطلب بشكل أساسي أن تتواصل الحرب
الأمريكية علي "الإرهاب" بما في ذلك
إزالة المعوقات القائمة في المنطقة وهي
الحالة العراقية ومن ثم السورية. ولكن قبل
الوصول إلى هذه الغاية لا بد من البدء من "الحلقات
الأضعف" في المنطقة العربية ( والتي قبلها
أو معها قد تكون الادراة الأمريكية مشغولة
في احتواء أو تصفية ما تسميه "الإرهاب"
و"إرهاب القاعدة " في حلقاته الأضعف على
المستوى العالمي من الفلبين الى جو رجيا
وهكذا...) لتنفيذ المخطط الاستراتيجي للمنطقة
والعالم. وبالتالي ستكون البداية الصومال
واليمن بدرجة احتمالية كبيرة (والتي بدأت
بوادرها بالفعل في الصومال حيث تضيق الخناق
على السواحل الصومالية بالأساطيل الغربية
الأمريكية والألمانية تحديدا بحجة منع
عناصر القاعدة وكذلك محاصرة المؤسسات
الاتصالية والمصرفية لشركة البركات بحجة
علاقتها بالتحويلات المالية للقاعدة، وكذلك
ما يجري في اليمن منذ يناير2002م حيث القوات
اليمنية وبدعم أمريكي تطارد ما تسمية عناصر
ذات صلة بالقاعدة مع تأكيد أمريكي بلسان بوش
بان أمريكا تعمل على منع أن يتحول اليمن إلى
أفغانستان أخرى للقاعدة وهو ما رحبت به
القيادة اليمنية (26) وذلك كله للإحاطة
الجيوبوليتكية بالصومال و/ أو بالنفط اليمني
في تلك المعادلة الأمريكية الكونية وان
تشكلا (الصومال واليمن) خلفية لمنطقة
الجزيرة العربية --بما فيها وبدرجة أساسية
منها منطقة الخليج العربي- وكذلك لمحورها في
أسيا الوسطي (بحر قزوين وأفغانستان حاليا).
ومع
إخضاع تلك الحلقات الأضعف، فعندها ولربما
معها أو بعدها سيكون العراق هو المستهدف
لإلحاقه هو الآخر بالمنظومة الأمريكية في
إطار مشروعها الكوني وذلك من خلال إقامة
نظام حكم موالي لها كما هي الحالة الأفغانية
وتحت ذرائع ومسوغات تتراوح بين التفتيش عن
أسلحة الدمار الشامل وحقوق الإنسان...الخ. إن
الدائرة النفطية وعناصر الطاقة الممتدة من
روسيا ومرورا ببحر قزوين وأفغانستان وإيران
والخليج العربي بما في ذلك العراق تمثل
الدائرة الأكبر والاهم للحياة الاقتصادية
العالمية المستقبلية. والعراق، إضافة إلى
كونه مع الحالة السورية والفلسطينية يمثل
عائقا للمشروع الصهيوني أصلا، يمتلك بذاته
احتياطيا هائلا من تلك الموارد، لذلك يبدو
إن الهدف الأمريكي، هو اختطاف هذا البلد
ووضع اليد على موارده النفطية وإلحاقه تماما
بالدائرة النفطية للنفوذ الأمريكي (27). عليه،
فإن الولايات الأمريكية كانت منذ البداية
ومع مرور الوقت تخطط للوصول إلى استهداف
العراق تحت ذرائع "محور الشر" و"أسلحة
الدمار الشامل" وبتنسيق متناغم بين كل من
" بوش " و"بلير" ورغم ما يتعرض له
الأخير من ضغوط داخلية، بما في ذلك عناصر
متزايدة من حزبه- بعدم الانسياق التلقائي
وراء المخطط الأول لضرب العراق (28).
من
هنا فان المطلوب أن تكون السعودية وقرارها
السياسي في نفس الاتجاه، بداية، وكذلك فان
الخوف كل الخوف هو أن الحملة الأمريكية على
السعودية ليست فقط حملة صهيونية كما تراها
السعودية وقياداتها وبعض من عناصرها
الإعلامية، وإنما هي أيضا وبدرجة اكبر وأخطر
الضغط على السعودية لكي تحصل منها أمريكا
على ما يمكن تسميته "الاسترضاء" Appeasement
السعودي تجاه العملية القادمة بضرب العراق.
تلك المسألة "مسألة استرضاء" السعودية
نحو المسألة العراقية بدى أنها في مراحلها
التحضيرية الأولى تقترب من تحقيق بعض من
ثمارها حيث؛ أولا إن تصريحات رئيس
الاستخبارات السعودي السابق (الأمير تركي
الفيصل) ومقابلته مع وسائل الأعلام الأمريكي
تشير الى إن السعودية سوف تتعاون مع أمريكا
تجاه إسقاط النظام العراقي وان شدد علي إن
يكون ذلك من الداخل (29). وثانيا إن طرح
المبادرة السعودية في إطار "التطبيع
الكامل مقابل الانسحاب الكامل" ورغم ما
جري عليها من ردود فعل واتجاهات بتعديلها
وهو حدث بالفعل في مؤتمر القمة العربية في
بيروت (27-28-مارس 2002، بيروت) وكذلك رغم احتمال
ربطها بالمسالة السياسية الداخلية من حيث
محاولة التأكيد على تراتب السلطة والنفوذ –
في هذا الوقت وعلى مابدات أول مرة عليه فأنها
تمثل لربما محاولة من قبل بعض القوي والتي قد
تقف وراء الدفع بها إلى التعامل مع البعد
الخارجي في سياق الحملة الأمريكية أو
الصهيونية أو أنها تمهد للتطبيع القادم
المحتمل. ومهما يكن من أمر حول مستهدفات
ونوايا تلك المبادرة وضر وفها ومنابعها
الداخلية أو الخارجية، فان قبول ضرب العراق-
أو إي بلد عربي أخر- والمساهمة في تغيير
النظام بغض النظر عن طبيعة النظام و الموقف
منه، سيكون بزاته سابقة خطيرة وورقة ترفعها
الدول الغربية وبالذات الأمريكية في وجهة إي
نظام عربي بما في ذلك حلفاءها في المستقبل
ومنهم السعودية تحديدا. ومن هنا فان
المصالحة العربية التي تمت في إثناء مؤتمر
القمة العربية في بيروت (27-28-مارس-2002م) وخاصة
بين السعودية والعراق والي حد ما بين العراق
والكويت والإجماع العربي في القمة وقراراته
على الرفض القاطع لضرب العراق أو أي بلد عربي
أخر، يشكل احد المداخل الأساسية لسد تلك
الثغرة (ضرب العراق والملف العراقي والحالة
العراقية الكويتية) في وجه المخطط الأمريكي
المحتمل للمشرق العربي ومنه ما يتصل باحتمال
التعرض للسعودية لاحقا. ولذلك فان الخطوة
التي أقدم عليها كل من الأمير عبد الله وعزت
إبراهيم تستحق الإشادة، إذ أنها تمثل الخطوة
الأهم والأساس في الطريق الصحيح والذي يحتاج
إلى مزيد من تلك الخطوات للبناء عليها
للوصول إلى تطبيع العلاقات العربية–
العربية ومنها وبدرجة أساسية السعودية-
العراقية وكذلك الكويتية العراقية.
إذا
تمت تلك عملية ضرب العراق- (وهو ما نتمنى إن
تكون القمة العربية وقراراتها في بيان بيروت
وفي إطارها المصالحة السعودية– العراقية
وكذلك الكويتية، قد أسست لأرضية
تحول دون حدوثه وان لازال هناك بعض
المخاطر وكذلك البدائل التي قد تستغلها
أمريكا لتنفيذ العملية مستقبلا) وفي سياقه
أو (معه أو قبله الصومال والذي لا يبدو يثير
شجون وهموم العرب على نحو كاف) وإسقاط النظام
العراقي تحت أية حجة وهي ستكون سابقة خطيرة،
كما اشرنا أنفا، وقد تكون السلاح الذي يشهر
بوجه الحلفاء الحاليين مستقبلا ، فان النقطة
القادمة والأبرز في إتمام المشروع الأمريكي
من الهيمنة على المنطقة وبما يتضمن تعويم
المشروع الصهيوني ثم العودة إلى استهداف
الخليج والسعودية تحديدا ستكون سوريا هي
المستهدفة ثانيا (بعد العراق)إذ ستكون
محاصرة من جميع الجهات بقوى إما معادية كما
هي إسرائيل وتركيا أو أنها تقع في النفوذ
الأمريكي كما هي الأردن والعراق –البديل
إذا تم أو ضعيفة وهي الحالة اللبنانية. عندها
سيمكن إخضاع سوريا طوعا أو كرها؛ إما طوعا
فيتم الضغط عليها بتوقيع اتفاقية تسوية مع
إسرائيل كما هي اتفاقيات التسوية مع الأردن
1994ومصر 1979. وإما كرها فان الأمر ليس هو الأخر
مستبعدا وما لائحة الخيار النووي إلا تمهيدا
لذلك الخيار واحتمالاته رغم إن الأمر سيكون
أسهل من ذلك بكثير إذا ما تم تحييد المسالة
العراقية أصلا (في حالة ضرب العراق وتغيير
النظام وإقامة نظام موالي). إن خيار اللائحة
النووية الأمريكية والذي سربته صحيفة "لوس
انجلوس تايمز" قبل فترة و رغم انه فيما ورد
أصلا في التقرير يستهدف سبعة دول هي الصين
وروسيا وكوريا الشمالية والعراق وسوريا
وإيران وليبيا إلا انه من الواضح فان
استهداف الصين وروسيا بقنابل نووية صغيرة
أمر لا يمكن القبول أو التصديق به ذلك إن
اللعب بنار نووية وان كانت صغيرة مع دولة
نووية أمر لا يمكن التحكم به وبالتالي فانه
خيارا لا يمكن إلا إن يكون لدول غير نووية
أصلا وخاصة الدول العربية المعنية ومنها
تحديدا سوريا كما هي العراق ولربنا ليبيا ثم
لاحقا المسالة الإيرانية وحتى باكستان
والتي عدم أدراجها اسمها في تلك القائمة
يثير علامات استفهام واستغراب في الوقت ذاته
(30). فوق هذا وذاك فان ذلك التلويح باللائحة
النووية والخيار النووي المحدود وهو يستهدف
دول عربية (سوريا العراق ليبيا)، قد يراد به
دول عربية أخرى كما هي مصر والسعودية تحديدا
للحصول على الاسترضاء لكي يتم إخضاع تلك
الدول العربية ومنها سوريا –هنا- عنوة إن لم
يكن طوعا.
وإذا
ما تم إخضاع سوريا عنوة أو طوعا وفي إطار
الاحاطة الكونية الأمريكية والمشروع
الأمريكي الصهيوني للمنطقة فان تسوية
القضية الفلسطينية أو تصفية لها سيكون أمرا
ممكنا وان كان لا يخلو من صعوبات ليست بالأمر
السهل. وفي سياق محاولة تصفية القضية
الفلسطينية يلاحظ أن الإدارة الأمريكية وفي
ضوء عدم رضاها علي نتائج القمة العربية
وبيان بيروت وخاصة فيما يخص الإجماع العربي،
بما فيه الموقف السعودي والكويتي، الرافض
لضرب العراق وبدرجة اكبر المصالحة السعودية
والكويتية مع العراق جعلها (الإدارة
الأمريكية) تتآمر مع شار ون للإطاحة بعرفات
وتدمير السلطة الفلسطينية بعدوانها الهمجي
منذ صباح اليوم التالي لانتهاء مؤتمر القمة
العربية في بيروت وذلك للحصول منه على
تنازلات تحت الضغط وكذلك معاقبة للعرب
الآخرين وتعويضا لربما لتلك الخسارة
الأمريكية في المسالة العراقية. لذلك ليس
مستغربا إن توجه الإدارة الأمريكية وعلى
لسان وزير خارجيتها "كولن باول" في
تصريحاته الصحفية (29-3-2002م)، وبشكل أكثر وضوحا
وفجاجة على لسان الرئيس الأمريكي "بوش"
نفسه، في تصريحاته (31-3-2002م )، لاتهام لعرفات
وتحميله مسؤولية العدوان الصهيوني الذي
يجري منذ 29-3-2002م، وتبدي في المقابل تعاطفها
مع شار ون وإسرائيل وان من حقها الدفاع عن
نفسها.
غير
إن النقطة الأهم انه وفي سياق ذلك المشهد
ألإخضاعي (إذا تم إخضاع سوريا بعد إخضاع
العراق وهي حالات وأوضاع نتمنى إن تكون
القمة العربية الأخيرة في بيروت،
مارس 2002م، وقياداتها قد وضعت قيدا قويا
ومسافة بعيدة للوصول إليها وتحقيقها) أو في
ثناياه ستكون المهمة الأمريكية التالية هي
إعادة إدماج العناصر مع بعضها البعض وخاصة
إدماج منطقة الخليج العربي ودولة بما فيه
السعودية تحديدا في ذلك التوجه وتلك الصياغة.
وإذا ما تمت تلك المشاهد اعتمادا على فكرة
تكسير "الحلقات الأضعف" أولا،
فعندها ستكون مصر والأردن ولربنا لبنان
وكذلك العراق خارج المعادلة وبالتالي ستكون
السعودية هي المستهدفة وفي وضع لا تستطيع
فيه إن تقاوم ذلك الإدماج. إن ذلك الاستهداف
الأمريكي للسعودية وبتناغم مع الرؤية
الصهيونية يعني ببساطة شديدة إن تقبل دول
الخليج العربي وعلى رأسها وفي المقدمة منها
السعودية مسالة التطبيع مع الكيان الصهيوني
(والذي يبدو إن السعودية في طرحها مبادرتها
الأخيرة تحاول لربنا إما التمهيد له إن لم
تكن تحاول التخفيف من الحملة الأمريكية "استرضاء
" والنتيجة النهائية في الحالتين في حالة
عدم التحصين الداخلي والعربي على أية حال
واحدة) وإحياء فكرة الشرق أوسطية وبالتالي
تعويم المشروع الصهيوني مندمجا مع المشروع
الأمريكي. إننا إمام عودة إلى الأصول
والأساسيات للحملة الأمريكية على "الإرهاب"
والسعودية باعتبار إن الأخيرة (السعودية في
الرؤية الغربية والأمريكية تحديدا) هي "المركز
للإرهاب" وهي "المشكلة" وهي "الخطر"
على الغرب عموما وعلي الولايات المتحدة
خصوصا وبالتالي فان إعادة هيكلة السعودية أو
تفكيكها هي المهمة الأساس المؤجلة في بداية
الحملة لضرورات إتمام المشروع الأمريكي في
سياق الإحاطة الكونية وضمن تكتيك أنجاز
المهام مرحليا طبقا "للحلقات الأضعف"
ولكنها المهمة الأساس الناجز في نهاية مطاف
"الحلقات الأضعف".
في
حالة ممانعة السعودية لذلك التوجه في حلقاته
النهائية وهو التطبيع، فان الأمر سيكون
بالتلويح بأمر أخر اكبر وأكثر خطورة مما
يتوقعه الكثيرون؛ انه مشهد التقسيم
والتفتيت للدولة والمجتمع في السعودية
ولربنا في منطقة الجزيرة العربية كلها
وإعادة رسم خرائطها على نحو أخر.
إن
فكرة مشهد التقسيم والتي لا تبدو في عناصرها
جديدة (31)، تقوم في توجهاتها ومرتكزاتها
الجديدة، والتي حاولنا منذ عدة سنوات خلت
الإشارة لها ولفت أنظار المعنيين من صناع
قرار ومثقفين في البلاد العربية (32)، على
إمكانية استغلال معطيين أساسيين هما: النفط
والإسلام (ألاماكن المقدسة).إن النفط موجود
بدرجة أساسية بالمشرق العربي من العراق
شمالا و مرورا بالسعودية ومنطقة الخليج
العربي جنوبا. وأما الأماكن المقدسة (الإسلام)
فانه في الجزء الغربي من المشرق العربي من
الحجاز (المنطقة الغربية) في غرب السعودية
بدرجة كبيرة وحتى فلسطين (القدس) شمالا.
وبقدر ما يتعلق الأمر بالخليج العربي عموما
والسعودية بدرجة اكبر خصوصا، فان مشروع
التقسيم سيكون في مشهده الاحتمالي على النحو
التالي: إقامة مناطق أو دويلات عازلة أولا:
في المنطقة الشرقية وما يتصل بها من مناطق
بترولية خاصة بامتداد الربع الخالي (ولربما
تربط بالشرق العربي من جنوب شرق الجزيرة
وحتى العراق شمالا في مرحلة من المراحل) وحتى
مشارف وادي الدواسر. ثانيا: في الحجاز دولة
إسلامية مفتوحة للجميع لأداء المشاعر
الإسلامية وهذا الخيار الأخير و بما قد
تفعله أمريكا لإقناع أو إكراه بعض من
المسلمين و/ أو دولهم لربما يجد صدي عند بعض
المسلمين من الناحية الإسلامية ولربما
سيكون مرحب به من قبل بعض الدول على الأقل. و
قد تسند تلك التوجهات بمدينة " القدس"
مدّولة لكل الأديان بما في ذلك الإسلام
وبحلول مفروضة على العرب والفلسطينيين إن
أمكن ذلك. ثالثا: أما المناطق الشمالية
والوسطي والجنوبية فإنها تترك لقدرها
تتطاير أو تتذرذر وبالشكل الذي تريده أو
يراد لها أما علي شكل إمارات أو محميات أو
على شكل ملاحق لكيانات أخرى. عندها سيكون
الجميع خاسر دولة ومجتمع ومناطق بما في ذلك
الوضعية العربية وتلك حالة لا احد يرغب
بحدوثها ولكن الرغبة شيء والعمل على تفعيلها
بممانعة جادة شيء آخر.
ولعل
السؤال الأكثر أهمية في ذلك السياق، هو هل
هذا المشهد التقسيمي واحتمال حدوثه أمر ممكن
أم لا؟ إن الإجابة عليه باليقين أمرا ليس
ممكنا ولكن الاقتراب منه قد لا يكون عسيرا.
إن ذلك احتمال قد يحدث وقد لا يحدث ولكن كل
المؤشرات والدلائل تشدد على أن الولايات
المتحدة الأمريكية لن تترك السعودية في
مرحلة ما قادمة على ا كانت عليه وان إعادة
هيكلة السعودية سيكون أمرا قادما لا محالة
وان كان مؤجلا للمرحلة الآنية حتى الانتهاء
من "الحلقات الأضعف". وبينما كان هناك
من يصرح بان هناك توافق امني استخباراتي
أمريكي– روسي للتخلص من الحالة العراقية
والإيرانية أولا ثم التفرغ للمهمة الأهم في
النهاية بالجزيرة العربية وتحديدا في
السعودية و"الإرهاب السعودي" حتى وان
تطلب ذلك التخلص من أنظمة الحكم القائمة وهو
ما أشير إلى ضرورته في النهاية، فان هناك من
طرح فكرة إقامة سياج حول المنطقة الشرقية من
السعوديةFencing
Eastern Province (33).
وفي
سياق تلك الإمكانية وذلك المشهد على أية
حال، ليتركز الأمر على بعض من تصورها في سياق
مشروطياتها: انطلاقا من تلك التلميحات
والتصريحات، ماذا لو قررت الولايات المتحدة
وأعلنت خطوط الطول وأجزاء من العرض- (بدلا من
خطوط العرض كما هي الحالة العراقية)- لشرق
الدهناء وغرب الحجاز، فمن الذي سيمنع
الولايات المتحدة الأمريكية من تنفيذ ذلك؟
هناك من لا يصدق أو لربما لا يريد أن يصدق بان
ذلك قد يكون ممكنا باعتبار إن ذلك وفي سياق
المسالة النفطية السعودية والاستقرار
السياسي في المنطقة لن يكون في مصلحة هذا
الخيار. ولكن في المقابل يمكن القول انه ورغم
إن مصلحة الولايات المتحدة الأمريكية هي في
الاستقرار السياسي للمنطقة في إطار المسالة
البترولية وهي ما تراهن عليها عناصر وأطرافا
عربية وغربية واهمة أو متوهمة إن أمريكا سوف
تتركها وشانها على ما كانت عليه، فان هناك
أيضا من يري ومن عناصر متنفذة في الغرب وفي
الولايات المتحدة الأمريكية تحديدا- (وخاصة
في سياق الفكرة المهيمنة بان ترك "الحالة
السعودية "على ما كانت عليه أمر لا يمكن
القبول به ويجب معالجتها معالجة جذرية وإلى
الأبد)- انه من الممكن وفي المصلحة الأمريكية
تنفيذ ذلك المشروع التقسيمي وان ذلك أمر
ممكنا وفي إطار صياغة التقسيمات الصغيرة
والضامنة للمسالة البترولية. أو ليست
الولايات المتحدة الأمريكية هي القوة- على
الأرض الضامنة حاليا لتلك المسالة
البترولية؟
يجب
أن نقول إن المسالة ليست في تهويلها ولا في
تضخيمها ولا في القول بان تلك الإمكانيات لن
تلقي مقاومة أو ممانعة محلية أو إقليمية أو
حتى دولية ولكن أيضا نشدد على أن القول بان
ذلك أولا:احتمال ومشهد مستقبلي ويمكن إذا ما
تمت لحظة الحسم باتجاه السعودية والخليج
العربي وفي سياق الإدماج في المشروع
الأمريكي والمتناغم مع المشروع الصهيوني
عندها لن تكون المسالة تخيّلية وعند هذه
اللحظة لربما تلتقي الرؤية الصهيونية
بالحملة الأمريكية على السعودية تحديدا كما
يتصورها الرسميون السعوديون حاليا. أما
لماذا الإمكانية لتحقيق مشروع التقسيم
فالأمر يرتبط أساسا بعدة عناصر منها ما هو
خارجي مرتبط بدوافع القوي الكبرى وحلفاءها
بالسيطرة على المنطقة وكذلك بالقوى
الإقليمية وخاصة في سياق العلاقات العربية
العربية و طبيعة عناصر ومكونات القوة
العربية وفاعليتها وعدم متانتها أو
تمتينها، ومنها ما هو داخلي يرتبط بالأوضاع
الداخلية تحديدا.
ورغم
أهمية العناصر الخارجية والتي قد نتعرض لبعض
منها لاحقا، فان ما يهمنا هو البعد والعناصر
الداخلية في إمكانية تحقيق مشروع التقسيم.
ونود التأكيد بداية على أن ذلك المشهد
وعوامله العربية والداخلية تحديدا بالقدر
الذي يمس ويفسر
الحالة السعودية
ومستقبلها فانه
لربما يقترب زيادة أو نقصا من ذلك القدر
الذي يمس ويفسر الحالة العربية
لمعظم الدول العربية إن لم يكن كلها
وخاصة تلك الدول التي تتعرض
لتحديات داخلية مترافقة مع ضغوطا خارجية.
بناء
عليه فان ما هو داخلي يتصل ويمس مسا جوهريا
مسالة أزمة الدولة والمجتمع أو العلاقة بين
الدولة والمجتمع على ضوء عدم قدرة أو رغبة
تكيّف النظام السياسي أو القائمين عليه وما
يرتبط بذلك من مقومات لا نجاح المشروع
التقسيمي وخاصة في سياق ضعف أو هشاشة ما يتصل
بمسالة "الاندماج" وغموض فكرة المواطنة
وغياب الشعور بالمسؤوليات لدي الأفراد
والجماعات في البلد وذلك لان سياسات الدولة
اتسمت بعدم التوازن من حيث التنمية وتوزيع
مخرجاتها وذلك لغياب أصلا الإشراك المتوازن
في المسؤوليات في إنتاج تلك السياسات
المتوازنة المطلوبة. وتتداخل تلك الأمور مع
تزايد تلك المشاكل الاقتصادية والفساد
المالي والإداري في سياق استشراء المصلحة
الخاصة وعلى حساب المصلحة العامة أو
بفقدانها أصلا، وكذلك مترافقة والبطالة
وتزايد السكان مع عدم وجود قوانين ومؤسسات
لمواجهة تلك التحديات (34).
إن
كانت تلك تحديات حقيقية، فمن الذي يمنع
الولايات المتحدة إذا ما أعلنت إن شرق
الدهناء من شمال الخليج إلى جنوبه، على سبيل
المثال منطقة محظورة علي التجاوز ؟من الذي
سوف يحارب الولايات المتحدة الأمريكية؟ هل
أبناء تلك الدول لديهم الإحساس بتلك
المسؤولية ويتوافرون على القدرة والتعبئة
المطلوبة؟ إن المواطنين في بلدان الخليج
العربي ومنهم أبناء السعودية، لربما لا
يقلون عن أقرانهم الآخرين في العالم في
رغبتهم في الدفاع عن بلادهم. ولكن لكي يحصل
ذلك فلابد من مقومات وتلك المقومات لا يبدو
متوفرة؛ إذ أن
المواطن العادي لا يعرف بشكل عام استخدام
المسدس فكيف بمقاتلة دولة كبري وتحدي
قرارها؟ الم تستطيع أمريكا أن تفرض مناطق
عازلة في شمال وجنوب العراق وعلى بلد هو
العراق وهو يعتبر اقوي بكثير من السعودية
مثلا ؟ وفوق هذا وذاك إننا إمام مناطق
ومجموعات لم تتولد لديها فكرة " الدمج "
و"المواطنة" وبسبب من سياسات التنموية
غير المتوازنة والقائمين عليها. إنها مناطق
ومجموعات تبدو معزولة أكثر عن بعضها البعض
ولدرجة أن كثيرا من الأهالي، أفرادا وجماعات
لا يعرفون ولم يزوروا تلك المناطق أو مدنها
علي الإطلاق، بل أن هناك من لاحظ وباستغراب
وتساؤل عن أن أبناء البلد يعرفون مدنا عربية
وأجنبية أكثر بكثير من معرفتهم لمدن ومناطق
بلدهم وبالتالي فهو يري الحاجة ماسة إلى
التواصل الاجتماعي والثقافي (35). وإذا ما تم
تواصل بينها فان ذلك لبعض ضرورات العمل أو
المرور. وحتى المدن الرئيسية والتي تستقطب
معظم سكان البلد (وهي الرياض ومكة وجدة
والدمام والخبر)، فأنها ورغم أنها تستقطب
مجموعات من مناطق مختلفة وتبدو ظاهريا أكثر
اندماجا أو دمجا من الناحية الشكلية، إلا أن
واقعها الاجتماعي يشير إلى إنها مجتمعات
مسكونة بتقاسمات مجموعات غير مندمجة. ورغم
إن الموروثات الاجتماعية قد تكون مسئولة إلى
حد ما عن تلك الوضعية إلا أن سياسات التنموية
غير المتوازنة بين المناطق والمجموعات وحتى
في المدن وإطرافها والرؤية الاستراتيجية
للقائمين عليها بما هي منظومة ناظمة ضاغطة
قد تكون بدرجة اكبر مسئولة عن تواصلها
وبالتالي بالتعاضد مع عوامل سالبة لبيئة
وبنية نظام تتسم بالجمود، تقفان وراء تكّون
البنية – التحتية الانقسامية ومن ثم البذرة
التي قد تسهل عملية مشروع التقسيم في حالة
الإصرار على تنفيذه وفي غياب مشروع الإصلاح
واستمرار مشهد الانهيار وهو ما نعالجه ونفصل
فيه تاليا.
في
طبيعة الأزمة الداخلية ومشهد (بديل)
الانهيار
إن
طبيعة الأزمة الداخلية ليست عارضة كما بدأت
وتبدو للوهلة الأولي او إنها متصلة فقط في
سياق الموقف من السياسات الأمريكية ذات
الصلة بالحملة علي الإرهاب والمشكلة
الأفغانية في سياقها. إن تلك الأحداث منذ
الحادي عشر من سبتمبر 2001م وصاعدا وحتى هذه
اللحظة، ولربما
تتصاعد مستقبلا على ضوء التقدم على مسار
المشروع الأمريكي
في إطار "الحلقات الأضعف" وبالذات ما
يخص المنطقة
العربية– هي بعض
منها أو مظاهرها وقواها المحفزة . إن طبيعة
ألازمة تتصل بالعلاقة بين الدولة والمجتمع
على خلفية عدة محاور منها محور "الشرعية
ومصادرها" ومحور "التنمية والعدالة"
و"الإدماج" ومسالة "الفساد"
المالي والإداري ومحور "الأمن والعلاقة
بالأجنبي" ومحور "المشاركة السياسية"
وما يتصل بالتكوينات الجديدة وصناعة القرار
والميدان السياسي ونطاقه عموما. كل هذه
المحاور تتصل أساسا وبدرجة كبيرة بمسالة "بناء
الدولة" وما يتصل بذلك من مسالة قدرة
الدول والأنظمة السياسية ونخبها على التحول
أو التكيّف مع التحديات الداخلية والخارجية.
إن واقع الدولة السعودية من حيث النظام
وقدراته وامكانياتة الحالية هو الذي يقبع
وراء الأزمة الداخلية أو انعكاسات ألازمة
الخارجية (العلاقات السعودية – الغربية
ومنها الأمريكية وحملتها تحديدا).
إن
العلاقة بين الدولة والمجتمع في السعودية
كانت بداية وفي بداية التأسيس علاقة تقوم
على فكرة "المساهمة والمشاركة" بين
الفاعليات والتكوينات الاجتماعية آنذاك
سواء كانت حضرية/ قروية أو قبلية أو مناطقية
من جهة وبين السلطة السياسية ممثلة بالملك
عبد العزيز آنذاك والذي مثل الزعامة
التاريخية ونال شرعيتها. تلك المعادلة
وصياغتها كانت ترتكز على عملية التوازن بين
السلطة وتلك القوي وكأنها عقد اجتماعي غير
مكتوب يترك القرار السياسي وصناعته للملك
والأسرة الحاكمة (المحدودة آنذاك) ولكنة في
نفس الوقت يترك مجالا للتوازن مع تلك القوي
من حيث فكرة "المساهمة والمشاركة" على
الطريقة الخلد ونية(36).
تلك
الصيغة يبدو إنها وخلال العقود الخمسة
الماضية عبرت عن تلك المرحلة وقواها
الاجتماعية، غير أن التحولات في طبيعة القوى
الاجتماعية والمتصلة بالتحولات المادية
والتحديثية ذات الصلة بآثار مدا خيل النفط
بدأت وكأنها تتغير من طرف واحد إلا وهو تشكل
وتّكون قوى جديدة بتطلعاتها ورغباتها (رغم
ما لحقها هي الأخرى من تآكل أو فساد أو
انحرافات نتيجة تعطل قدراتها أو تعطيلها
بسبب جمود الطرف المقابل والأبعاد
الاجتماعية المتداخلة معه)، بينما الطرف
الأخر وهو المجال السياسي ولمن الحق في
المشاركة فيه بقي كما هو دون تغير يذكر عدا
لمسات تجميلية شكلية (النظام السياسي ومجلس
الشوري والمناطق) وهذه الأخيرة لم تكن
تتوافق وتغيرات العلاقة الجديدة المتكّونة.
وخلال تلك الفترة السابقة بدا أن المعالجة
المالية للأمور تأخذ الحيز الأكبر من عملية
تعديل الاختلال في العلاقة علما بان ذلك
أيضا تركز على فكرة الاحتواء التوظيفي وبعض
المشاريع والبني الأساسية غير المتكاملة
أصلا وبشكل عام وغير المتوازنة تحديدا وبشكل
خاص على مستوي أو بين المناطق والمجموعات.
ومع
أزمة الخليج التالية1990/1991 وتوابعها بدأت
الأسئلة المجتمعية في البروز، وخاصة من قبل
القوي والفئات والعناصر الجديدة وسواء كانت
لبرالية أو إسلامية وحتى التقليدية، عن
الأمن والعلاقة مع الأجنبي وكذلك إدارة
موارد الدولة وتوازنها والحاجة إلى مؤسسات
سياسية وقانونية عصرية. ومع أن تلك ألازمة
كانت فرصة ثمينة لتكيّف النظام السياسي
بصياغة أكثر استجابة مع تطلعات القوى
الجديدة واستمرار تقدم المجتمع ككل
واستقراره، إلا إن المراهنة على الوقت كانت
لها الأولوية. ومع تزايد الانكشاف الأمني
المتصل في العلاقة مع الولايات المتحدة وفي
سياق المسالة العراقية وتواصلها وخاصة منذ
1995 فصاعدا، بدا أن هناك توجه لتقلقل من فئات
اجتماعية وصل بها الأمر إلى قضية التفجيرات
في 1995/1996 م. تلك التفجيرات ورغم إعدام بعض
مرتكبيها وخاصة منفذي عملية 1995، بدأت تؤسس
لموقف شعبي معاد للوجود الأمريكي في الخليج
وفي السعودية تحديدا. ورغم أن السلطة
السعودية نفسها بدأت هي الأخرى تتقلقل من
تأثيرات ذلك الوجود ومسالة التدخلات في
الشؤون الداخلية (مسالة التحقيقات في
التفجيرات وخاصة تفجير الخبر1996م و الذي لم
تكن التحقيقات في إطاره قد انتهت حتى أحداث
الحادي عشر من سبتمبر 2001م) وكذلك رغم الاتفاق
الناتج عن تلك التفجيرات بين السعودية
والولايات المتحدة الأمريكية على إعادة نشر
القوات الأمريكية وتجميعها في منطقة الخرج
تحديدا إلا أن تلك المعالجات لم تكن لتكفي
ردم الفجوة الداخلية بين رغبات وتطلعات
الفئات والقوى الشعبية وبين رؤية النظام
وضروراته أو خياراته للتعامل مع تلك القضية.
إن
الحل الأمني لتلك المسائل وخاصة الإعدامات
للعناصر المعارضة والمتصلة بالتفجيرات لم
يحل المشكلة بل أن المسالة أخذت بالتطور
وخاصة بعد1996 ثم لاحقا بعد أحداث 1998 بضرب
العراق والسودان وأفغانستان ثم انفجار
الانتفاضة ضد الاحتلال الصهيوني منذ 28
سبتمبر2000م وما رافق ذلك كله من بعض
التقلقلات على صعيد بعض الأحداث الاجتماعية
كالمظاهرات التي حدثت في الجوف والي حد ما في
جدة والرياض والدمام (وإن كانت الأخيرات
قليلة في حجمها) وكذلك اختطاف الطائرة إلى
بغداد. كل ذلك - مع استمرار الانتفاضة
الفلسطينية ضد الاحتلال والحملة الوحشية
الصهيونية المتواصلة، وصلة ذلك كله
بالسياسات الأمريكية الداعكة للكيان
الصهيوني بدون حدود- أدى، بالتعاضد مع
التراجع الاقتصادي و قلة فرص العمل وتزايد
البطالة وصلة ذلك بموارد الدولة وإدارتها،
إلى تكوّن وتعزز بيئة تنمو فيها أسئلة
مجتمعية مفتوحة عن تلك الأوضاع وكذلك إلى
تزايد العناصر المعارضة للوجود الأمريكي
ولسياساتها في المنطقة والمنحازة للكيان
الصهيوني. ثم وفي أعقاب أحداث الحادي عشر من
سبتمبر واتهام السعوديين بالهجمات، بدا أن
الأمر يتعلق بمسالة أساسية لم يفكر فيها
كثيرا ألا وهي أن هناك مجموعات سعودية
تجاوزت مجموعة ال1995 عددا وعدة وتخطيطا
ومتجاوزة، فوق ذلك الدولة السعودية من حيث
إعطاء الانتماء والولاء السياسي لمجموعة
ومركز غير الدولة وهذه الأخيرة لا تعترف بها
بل وتناصبها العداء. وإذا فترضنا أن هؤلاء
الخمسة عشر مهاجما بالفعل سعوديون – كما
يبدو أن السلطات السعودية أقرت به مؤخرا كما
سبق الإشارة إليه – وكذلك ما بدا من تفاقم
ألازمة الأفغانية وما بعدها من أعداد
متزايدة متعاطفة مع تلك المجموعة من تنظيم
القاعدة وزعيمها أسامة بن لادن فإن الأمر
يعني فيما يعنيه، ولا يقتصر فقط عليه، إن
الدولة السعودية من حيث هي "سلطة ومركز"
سياسي تعاني بالفعل من ما يمكن تسميته بـ"أزمة
الشرعية". إن الافتراق الشعبي مع الحكومة
السعودية في إطار سياساتها الخارجية
والمستند على اختلالات في السياسة الداخلية
خاصة في سياق انغلاق الأفق السياسي
واختلالات في التنمية وعدم توازنها خاصة بين
المناطق إضافة إلى مشاكل اقتصادية عامة ذات
صلة بإدارة الموارد بشكل عام، قد أصبح واضحا
جدا في ثنايا أزمة أحداث سبتمبر 2001ومابعدها.
إن
الشرعية لأي نظام سياسي غالبا ما تأتي من
رضاء وقبول الناس لذلك النظام وسياساته
ومخرجاته. ومصادر الشرعية عادة ما ترتكز إلى
عدة عناصر منها الزعامة التاريخية العقيدة
الدين
(الآيدولوجيا) والهوية وكذلك الإنجازات
التنموية وتوفير الحماية والأمن وبشكل عام
قدرة النظام علي التعامل والتكيّف مع
الاحتياجات الشعبية والتحديات بكافة
تجلياتها. وحيث أن الزعامة التاريخية (الملك
عبد العزيز) للدولة السعودية لم تعد هي
الماثلة والقائمة في المرحلة الحالية وذلك
بانقضاء مهامها أصلا مع بداية تكوين الدولة،
وكذلك مع تغليب المصالح السياسية علي مسألة
العقيدة والدين والهوية وخاصة بالانسياق
وراء العلاقات الدولية وبالذات الغربية
والأمريكية تحديدا، وكذلك حيث أن الدولة منذ1990
فصاعدا بدأت وبشكل مكثف تعتمد على الحماية
الأجنبية والأمريكية تحديدا، وبالتالي عدم
قدرتها، أو لربما رغبتها، في توفير الحماية
الذاتية، ومع تنامي عجز الدولة في أداء
متطلبات التنمية وتوازنها بين كافة المناطق
والمجموعات وعلى أسس تحقق العدالة والكرامة
والرفاهية للجميع وبشكل متوازن، وكذلك مع
تزايد البطالة والتي سوف تتفاقم مع تزايد
السكان، ومع انعدام الشفافية والمكاشفة
تجاه تلك القضايا والمسائل، فان أزمة
الشرعية للدولة السعودية لم تعد منطقة غير
واضحة. وبغياب الأنظمة والقوانين
المؤسساتية والتي توازن بين تلك الحاجات
وتحقق الرضا والتوازن والاستقرار، ومع
سيطرة قوى ونخب مغلقة ذات إمتدادات عائلية (عدد
من العائلات والأسر) ومناطقية بعينها (وعدد
من قرى أو مدن من تلك المناطق وليس بالضرورة
كلها) على صياغة السياسيات التنموية
وتوزيعات مخرجاتها وعلى نحو يأخذ في حسبانها
مصالحها هي بدرجة أساسية أو امتداداتها
المناطقية إلى حد ما، فإن الفساد والمحسوبية
أصبحت هي الأخرى مستشرية في الدولة والمجتمع
على حد سواء. وبموازاة ذلك كله، أصبحت
المصلحة الخاصة والخاصة جدا هي معيار العمل
وعلى حساب المصلحة العامة وخاصة في مرافق
الدولة ومؤسساتها. كل ذلك أدى إلى انحرافات
من قبل فئات اجتماعية متنامية سواء على
مستوى الأفراد أو المجموعات أو المناطق،
وتلك الانحرافات بدأت تأخذ أشكال متعددة بما
في ذلك الانحرافات الأخلاقية والمادية،
وكذلك الانحرافات في اللاءات السياسية
وتجاوز الدولة. وحيث أن الأفراد والمجموعات
الشعبية ليست مشركة في العملية السياسية على
نحو واضح ومحدد، بحيث تدخل في عملية صناعة
القرار وإنتاج السياسات المطلوبة وتتحمل
مسؤولياتها، فإنها لن تكون بمنأى عن تلك
الانحرافات، وبالذات السياسية منها، بما في
ذلك التطرف والنزوع للعنف ضد الدولة وسلطتها
وسياساتها وارتباطاتها الخارجية ومنابعها
الداخلية. وبالتالي فان الأزمة الداخلية، إن
لم يتم تداركها على نحو يقترب مما سوف نفصل
فيه تاليا، سوف تتفاقم مع الوقت ولربما تعجل
بنمو بذرة الانهيار وبروز مشهده.
الإحاطة
بالأزمة الداخلية والخارجية: بديل الإصلاح
ان
جوهر الأزمة بين الدولة والمجتمع يرتبط، كما
أسلفنا، بانغلاق الأفق والنطاق السياسي
للنظام في وجه القوى والفئات الاجتماعية
والشعبية وما ولدته تلك الحالة من افتراق
بين الطرفين. إن معالجة الأزمة الداخلية لا
تتم من خلال المعالجة لبعدها الخارجي مع
الغرب بمزيد من الإتساق معه، وهو ما يعمق ذلك
الافتراق ويزيد أزمة الشرعية للنظام
تعقيدا، وليس عن طريق الحلول الأمنية
والقسرية ومحاولة المراهنة على الوقت
بمعالجات وقتية وظرفية. إن معالجة الأزمة
الخارجية وكذلك الأزمة الداخلية تتجه
جوهريا إلى الإحاطة بمسألة ذلك الافتراق وما
يتطلبه بالفعل من الاتجاه إلى إصلاح الدولة
وإعادة بنائها بصياغة جديدة للأبعاد
السياسية والاقتصادية والاجتماعية
والثقافية والإعلامية.
إن
نظريات التنمية السياسية بكافة تياراتها
وتشعباتها (مدخل بناء الدولة القومية، ومدخل
معضلة الخيارات ومسألة التحديث والاستقرار
السياسي ومدخل قوة وضعف الدولة) تؤكد
جميعها، وبرغم الملاحظات عليها، أن قدرة
النظام السياسي لأي دولة على الاستمرار
والبقاء والارتقاء بالمجتمع ومقدرا ته،
تقوم علي قدرة ذلك النظام والدولة علي
التكيّف مع التحديات الداخلية والخارجية
وضروراتها. كل ذلك مرهون بمرحلة من المراحل
بقدرة ورغبة النخب الحاكمة على المضي في ذلك
الاتجاه وليس الوقوف عند فكرة اللحظة
التاريخية لتولد ذلك النظام باعتبار أنها
وصياغاتها فكرة خالدة أو يجب أن تستمر كذلك.
إن
إدارة البلد وعلى الطريقة التقليدية حتى وان
استندت إلى تكنوقراطية وبيروقراطية تبدو
حديثة- لم تعد تتناسب والتغيرات المجتمعية
المحلية والمعطيات الدولية والإقليمية
المحيطة. كانت تلك الإدارة مناسبة لربما
لفترة ما قبل نهاية الثمانينيات من القرن
الماضي، أما منذ العقد الأخير للقرن الماضي
وبدرجة اكبر منذ دخولنا الألفية الثالثة فإن
تلك الإدارة ليست فقط غير مناسبة بل أن
استمرارها يشكل عبئا وتكلفة باهظة، ليس على
القائمين عليها فقط، وإنما على البلد دولة
ومجتمع. ورغم ما يقال عن ديموقراطية الصحراء
لتلك الإدارة ومجالسها، فان تلك لم تعد تمثل
الإطار المناسب، وكذلك فان مرتادوها هم في
الغالب من كبار السن وليسوا من الأجيال
الجديدة والذين قد لا يجدون فيها الخلاص.
ورغم الجانب الإنساني في تلك المجالس بان
يقابل أعلى قيادي في البلد مواطنيه (وبعض
منهم بشكل دوري كما هو الحال مع سمو ولي
العهد الأمير عبد الله) فإن الأمر لا يخلو من
أثار سلبية في الوقت ذاته، ذلك أن عددا من
الذين يرتادون تلك المجالس غالبا هم من كبار
السن والشيوخ، والذين يأتون من أماكن بعيدة
للبحث عن حلول لمشاكلهم والتي لو وجدت
الآليات والإجراءات والمؤسسات المركزية
والمحلية ذات الصلاحيات والأطر القانونية،
لما كان لهذه المعاناة أن تحدث وتستمر. أضف
إلى ذلك حقيقة بشرية، وهي عدم إمكانية وقدرة
أن تستطيع القيادة، أي قيادة مهما أوتيت من
قدرات ورغبات في ذلك الاتجاه (رغم احتمال
وجود مستوى عال من الرغبة في ذلك) أن تحل
مشاكل أفراد المجتمع وفئاته بهذه الطريقة
والتي أيضا، إن وجدت، قد تبقى أسيرة للحاجب
والوسيط والذي يتحكم بمن يدخل ومن لا يدخل،
ثم بعد ذلك للشارح والمنفذ والمتابع، وكلها
حلقات يصعب التحكم بكفاءاتها، وبالتالي
إضعاف تلك الأخيرة عموما لدرجة أنها تولد
نقيضها من حيث عدم قدرتها علي الاستجابة
لتلك الحاجة الاجتماعية العامة وبالتالي
تصبح فعليا غير ملائمة.
ولحل
ألازمة الداخلية في السعودية- ولربما في
البلدان العربية الأخرى المماثلة قياسا-
وبما هي علاقة بين الدولة والمجتمع، فان
المخرج هو بديل الإصلاح والذي يتطلب التفهم
وإمعان النظر فيه من قبل المعنيين ببقاء
الدولة والمجتمع علي حد سواء. وحيث أن بديل
الإصلاح يتطلب إصلاح بنية الدولة وإعادة
صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع على أساس
تكيّف قدرات النظام في المجال السياسي
والاقتصادي والاجتماعي، فان الآليات تحتاج
إلى تحديد الخطوط العامة للإصلاحات
المطلوبة في تلك المجالات.
في
المجال السياسي
يجب
الانطلاق من فكرة جوهرية، وهي الانطلاق من
المواطن نفسه، وإعادة الاعتبار إليه والثقة
فيه بحيث يكون الأساس، والجوهر هو إشراك
المواطن في الحكم بمعنى إدخال المواطن إلى
دائرة الحكم وصناعة القرار بدلا من يكون
خارجها كما هو حاليا. تلك تقتضي معالجة مسألة
المشاركة السياسية وهذا يتطلب إيجاد صياغة
حقيقية لفصل السلطات (التشريعية،
والتنفيذية، والقضائية) منطلقة من قيام نظام
دولة ملكية دستورية بحكومة رئاسية، وهذا
يعني وبما يضمن بقاء واستمرار الملك علي قمة
هرم الدولة وهو ما يعني أو لربما التأكيد على
بقاء الأسرة السعودية باعتبارها القوة
الأعلى في هرم قيادة وإدارة هذه الدولة. وهذا
يعني إمكانية كون الملك ستكون له سلطات
سياسية أصيلة واضحة تعطيه الحق الدستوري عن
طريق"الإرادة الملكية"في تكليف تشكيل
الحكومة أو إقالتها إذا لم تنسجم مع السلطة
التشريعية والقيام بمهامها "إي برنامجها
الحكومي" بحيث تكون الحكومة أصلا مسؤولة
أمام السلطة التشريعية، بحيث يمكن للأخيرة
التصويت على الحكومة بالثقة من عدمها،
ومحاسبة الوزراء وكذلك المساءلة القانونية
ومناقشة الميزانية والمصادقة عليها أنها
رفضها. وإما من يكون الملك وهو رئيس هذه
الدولة فهذا أمر يترك " للأسرة السعودية"
وقد يكون من المناسب أن يقوم"مجلس الأسرة"-
والذي يفترض أن يتشكل بّالية ترضي الأغلبية
منها أو إنها تتوافق عليها- بعملية اختيار
الملك. وتلك العناصر السابقة واللاحقة يجب
أن ينص عليها دستور محدد النصوص وبموافقة
شعبية عليه"استفتاء شعبي" ثم يربط ذلك
الدستور للمراجعة سواء بالتعديل أو الإضافة
أو الحذف فيه بالسلطة التشريعية باعتبارها
صاحبة الصلاحية في تلك الأمور.
وتلك
السلطة التشريعية والتي تأتي عن طريق آلية
الانتخابات هي المؤسسة التي يتم من خلالها
إشراك المواطن في الحكم وصناعة القرار.
والسلطة التشريعية تلك، يمكن إن تتكون من
مجلسين بحيث يمكن إدخال القوي الاجتماعية
الجديدة والشعبية، وكذلك إيجاد التوازن مع
القوى الاجتماعية التقليدية والأعيان
والمشايخ وبعض الأقليات والعلماء. ولإتمام
تلك العملية فان مجلس الشورى الحالي يتطلب
التطوير إلي سلطة تشريعية أصيلة وتحويله إلى
مجلسين؛ مجلس شوري منتخب للشعب وآخر للأعيان.
ويمكن للأخير إن يتم اختيار أعضاءه بالتعيين
بحيث يضمن دخول تلك القوى التقليدية ومن في
حكمها من أجل الموازنة وكذلك للإحاطة
بالمسالة الاجتماعية.
وفي
سياق تطوير مجلس شوري منتخب، لربما هناك من
يثير مسالة التخوف او التخويف من الأبعاد
القبلية والطائفية وكذلك الإشارة إلى عدم
وعي الشعب في تلك الاتجاهات. وتلك حجة ليست
قوية، إذ أن بعض البلدان العربية (لبنان –
الأردن- الكويت- اليمن) وكذلك الأفريقية وحتى
في الهند ومناطق أخرى أتاحت المجال
للانتخابات رغم التنوع القبلي او الطائفي
والعرقي ولم تتعطل العملية السياسية. فوق
هذا، فإننا نزعم أن القبيلة، كمؤسسة منظمة
مهيمنة على، ومحركة لمن ينتمون إليها، في
السعودية، قد تضعضت وضعفت بدرجة كبيرة.
وهذه الوضعية تنسحب على كافة القبائل في
السعودية، وان كانت بنسب متفاوتة، إذ هي
بالشمال أضعف منها في الجنوب والوسطي. وبغض
النظر عن الفوارق تلك وأسبابها (ولعل هذه
النقطة الأخيرة بما هي ظاهرة تحتاج إلى
إعمال النظر والدراسة المعمقة لها) فإن
فاعلية القبيلة في السعودية لم تعد واضحة
إلا في مسالة الانتساب الاجتماعي، وحل بعض
المشاكل مثل الديات، وتلك الأخيرة ليست
أساسا مسألة سلبية بل أنها قد تكون إضافة في
إطار بعض التكوينات للمجتمع الأهلي.
ومهما
يكن من أمر، فإن فاعلية القبيلة من حيث
حركتها السياسية ومدى تحكم شيخها في تلك
الحركة لم تعد محسوسة تماما. كذلك فان
القبيلة من حيث هي بنية ذات نظام سياسي
واجتماعي وقانوني "عرف" وديناميكية في
إطار الحمي "الإقليم" والغزو باعتبار
الأخير أحد وسائل الحياة والعيش، لم تعد
قائمة أبدا، ذلك أن الدولة أصبحت ليست فقط
المنافسة، بل المهيمنة خاصة وان الأخيرة هي
المتحكمة بالموارد بكافة عناصرها. إضافة إلى
ذلك، فان الانتخابات ومسألة البعد
الاجتماعي منها إنما تحتاج إلى مزيد من
الولوج باعتبار أن تلك تجربة تحتاج الى
المساهمة في إنضاجها. إن ذلك يتطلب البدء
فيها وليس الانتظار، لأنه ليس هناك نقطة
نهائية للقول بالوصول عندها. أضف إلى ذلك
كله، إن تلك المخاوف يمكن تحييدها عن طريق
آلية إيجاد المجلسين، لكي تعطى الفرص
المتوازنة لتلك القوى التقليدية مع القوى
الأخرى، وذلك من خلال مجلس "شوري"
الأعيان وعن طريق التعيين لنسبة ما من
الأعضاء، إن كان ذلك ضروريا وخاصة في
المراحل الأولى من العملية السياسية
بصيغتها الإصلاحية. إضافة إلى ذلك كله، فان
هناك من يرى، وبناء على ملاحظة التجارب
العالمية تاريخيا وحاضرا، بان التركيب
القبلي أو الطائفي لم يكن عائقا تجاه التحول
إلى المشاركة السياسية الانتخابية، ذلك أن
التوازنات القبلية بحد ذاتها، وهي في سياق
الندية والمساواة، ستعمل على موازنة بعضها
البعض، وبالتالي قد تكون دعامة قوية ضد
الطغيان والاستبداد ذاته (37).
إضافة
إلى السلطة التشريعية بشقيها (شوري الشعب
والآخر للأعيان)، فإن الحكومة (السلطة
التنفيذية) يجب أن تشكل دائما بناء على
اتجاهات الانتخابات في السلطة التشريعية،
ويكلف الملك الشخصية سواء أحد الأمراء أو
أحد أبناء الشعب، ويفضل الأخير وذلك بما
يعفي الأسرة من مسؤوليات وتبعات إخفاق
الحكومة وأدائها التي تشكل الحكومة من
المجموعات أو القوى أو الكتل الأكثر وزنا (عدد
المقاعد) داخل السلطة التشريعية لمجلس
الشورى المنتخب. ويغض النظر عمن يرأس
الحكومة فإن تشكيل الحكومة يجب أن يربط
ببرنامج محدد ومسؤولية قانونية أمام مجلس
شورى الشعب والأعيان، بحيث يمكن التصويت على
الحكومة وبرنامجها بالثقة أو سحبها ومساءلة
الوزراء ومحاسبتهم وكذلك مناقشة الميزانية
والموافقة عليها أو رفضها. وفي حالة تشكيل أي
حكومة سواء في أعقاب الانتخابات التشريعية
أو في حالة إحلال حكومة بدل أخرى نتيجة
التصويت، والأخيرة يجب أن تقدم استقالتها
أمام الملك فان ذلك يستند إلى صدور إرادة
ملكية وبخطوط عامة للبرنامج الحكومي، والذي
يتحدد لاحقا بشكل تفصيلي لإقراره من السلطة
التشريعية. ويمكن التأكيد على أن يحتل بعض
المناصب الوزارية عدد من أفراد الأسرة
السعودية وخاصة بعض الوزارات السيادية (مثل
الداخلية والدفاع والخارجية) وعلى نحو
متعارف عليه والى فترة تشعر فيها الأسرة
بنوع من الاطمئنان بان الإصلاح لا يستهدف
الإقصاء وإنما يستهدف التطوير وتمتين
العلاقة بين الدولة والمجتمع بحيث يكون
الأخير جزء ومركب أساسي من أساسيات النطاق
السياسي واتخاذ القرارات ومصدر مشروعيتها.
وفي حالة التوجه إلى هذا البديل الإصلاحي،
فإنه علي مستوى برنامج الحكومة، فإن مكافحة
الفساد بكافة أشكاله وتجليا ته، باعتبار أن
الفساد أصبح سرطانا يشمل الجميع،
ولا يستثني أحدا تقريبا، وخاصة في
الأبعاد المالية والإدارية والمحسوبية،
وكذلك التأكيد على تغليب المصلحة العامة على
المصلحة الخاصة، يجب أن تحظى بأولوية قصوى
لأي حكومة بهذا الاتجاه.
ارتباطا
ببديل الإصلاح في بعده السياسي، والذي يرتكز
على فكرة قيام نظام ملكي دستوري رئاسي، وهو
ما يعني تنمية سياسية مطلوبة للتكيّف مع
التحديات الخارجية والداخلية فان قيام نظام
وسلطة قضائية مستقلة يعتبر من مكونات ذلك
البديل وأركانه الأساسية.
إن
هذا يعني فيما يعنيه قيام وإيجاد نظام
قانوني دستوري يحدد تلك السلطات
والاختصاصات وعلاقاتها، وبما يؤكد على
سيادة القانون، والذي يجب أن يتمحور حول
الإنسان وكرامته وحقوق الأفراد وحرياتهم
الأساسية في مقابل الواجبات الملقاة عليهم.
ولكي يصار إلى هذا النظام القضائي، فيمكن
الدمج بين المصادر التشريعية الإسلامية
باعتبارها المصادر الأساسية، ولها
الأولوية، وبين المصادر القانونية
الإنسانية، وتلك الأخيرة أصبحت ضرورات
الحياة تحتاجها ولا تقوم بدونها ولا تتعارض
بالمطلق مع الأولى.
وفي
سياق تلك المسألة وتحقيقها، فإن هناك حاجة
ماسة لإعادة هيكلة وتأهيل الطاقم القضائي
كاملا، بحيث يجمع بين متطلبات الشريعة
وضرورات القوانين العالمية، وأن يكون لدى
القاضي إلمام قانوني فقهي إسلامي وعالمي
مقارن. وفي هذا السياق، يؤكد على مساهمة كافة
العلماء والمشايخ، من كافة المدارس
والمذاهب الإسلامية في تلك المؤسسات
القضائية، وبما يعني الانفتاح على المذاهب
الفقهية الأخرى، وأن لا يكون ذلك حكرا على
فئة أو مدرسة فقهية بعينها.
وينطبق
هذا على التوجهـ بالانفتاح الديني علي كافة
الاتجاهات العامة، بحيث يمكن للمواطنين من
مختلف المدارس والمذاهب الفقهية المساهمة
في المسألة الدينية وشعائرها، بما في ذلك
مهام الدعوة والإرشاد والأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر، وكذلك في إمامة الصلوات
وخاصة في قائمة أئمة وخطباء المساجد وبالذات
الجمع. إن تلك الإصلاحات القضائية والدينية
ذات الصلة في سياق بديل الإصلاح، وخاصة وجود
نظام قضائي دستوري متطور ومنفتح هو أيضا
أصبح من متطلبات التوجهات العالمية وخاصة
فيما يتعلق بتسهيل انضمام المملكة إلى منظمة
التجارة العالمية، والتي تشترط أساسا حدوث
إصلاحات جوهرية في تلك الأبعاد، وبما يضمن
الحقوق والممتلكات للمستثمرين ويسهل من
مهمتهم، قبل قبول الانضمام.
في
المجال الاقتصادي
ورغم
أن هذا مرهون بعمل الحكومة وبرنامجها
الحكومي لفترة عملها، فان التأكيد هنا يكون
على التشديد على مسألة التعامل مع قضية
التنمية الاقتصادية وأبعادها كافة، بما
يحقق العدالة الاجتماعية والرفاهية والتقدم
والكرامة للجميع أفرادا وجماعات ومناطق،
وهذا يتطلب أن تعاد صياغة اولويات التنمية
والخدمات المتصلة بها(تعليميا-اجتماعيا-صحيا-مائيا-زراعيا...)
بحيث يكون هناك توزيع عادل ومتوازن للموارد
وان تتاح الفرصة الكاملة والمتساوية لأبناء
البلد ومناطقها للحصول على تلك الخدمات
والحاجات من خلال؛ أولا، توزيعها على
المناطق وليس حصرها في مناطق أو مدن منها
بعينها والذي يعني، في حالة استمراره
انحرافها كما هي عليه الآن، هو مزيد من
التشوهات الاقتصادية والاجتماعية وبما يزيد
من الهجرات من مدن ومناطق بعينها وبما يراكم
مشاكل ومتطلبات لا تستطيع معها تلك المدن
أصلا ولا أجهزتها سواء خدماتية أو أمنية علي
السيطرة عليها. وثانيا إشراك المواطن على
مستوى الدولة المركزية وعلى مستوى المناطق
والمحافظات والمراكز بعملية صياغة السياسات
التنموية ومخرجاتها وتقويمها. وفي هذا
السياق، فإن وجود لا مركزية في مسائل
المالية والصلاحيات في اتخاذ القرارات علي
مستوى المناطق قد يكون هو الخيار الأفضل، مع
توفير قدر كاف من الموارد المالية للمناطق
حسب احتياجاتها التنموية حتى تصل إلى درجة
معقولة من التوازن مع المناطق الأخرى، ثم
تصبح المسالة لاحقا حسب الاحتياجات النسبية
لكل منطقة.
إن
الاختلالات التنموية بين المناطق وخاصة
التدني في مستوياتها في المناطق الجنوبية
والشمالية هو الذي يفسر، إلى حد ما، نزوع بعض
الأفراد والجماعات من تلك المناطق إلى العنف
أو تجاوز الدولة وهذا الربط بدأت تلحظه حتى
المصادر الغربية. ورغم أن الدولة وقياداتها،
وخاصة بتوجيهات الأمير عبد الله، تحاول منذ
أكثر من سنتين توجيه الاهتمام إلى تلك
المناطق، وبالذات الجنوبية، على اثر انتشار
حمي الوادي المتصدع(38)، وبدرجة اقل
الشمالية، فإن الأمور لازالت تسير ببطء. إن
حالة نزوع الأفراد إلى العنف، نتيجة الفقر
والإفقار والاختلالات الاقتصادية لا يجب أن
ينظر إليها في بعد التظلم الفردي للفقر
والإفقار، وتلك حالة وان كانت عامة(39)، إلا
أنها وفي سياق الربط بالتظلم الجماعي أو
المناطقي –قد تكون هي المحرك لذلك النزوع
العنفي، حتى وان كان بعض الأفراد المنخرطين
فيه من موسوري الحال. وفي سياق المعالجة
الاقتصادية، فان معالجة البطالة والتوظيف
والديون وتطوير إدارة موارد الدولة يجب أن
تحظى بأولوية قصوى لحكومة الإصلاح.
في
المجال الاجتماعي
وفي
المجال الاجتماعي هناك حاجة ماسة لتطوير قوى
ومكونات المجتمع الأهلي في كافة الفضاءات
والإشغالات الاجتماعية وان لا ترتبط
بتشكيلات رسمية أو قيود وبما يعني ويضمن
إنهاء الوصاية الفوقية على تلك التكوينات (الجمعيات)
الاجتماعية، بحيث يمكنها القيام بمهام
وأدوار أصبحت الحاجة إليها في هذا العصر،
وفي سياق تقديم خدماتها في كافة المجالات
التنموية المعنوية والمادية لكثير من
الأفراد والمجموعات –ضرورة من ضرورات
الحياة والعيش المشترك خاصة مع تراجع قدرات
الدولة في تقديم تلك الخدمات، ومع تزايد
الأدوار والمهام للقطاعات الخاصة الأهلية
في كافة الدول، وبما يتماشى واتجاهات
العولمة وتحدياتها. إن ذلك التطوير والتفعيل
لمكونات المجتمع الأهلي في كافة الفضاءات
والإشغالات الاجتماعية يعني فيما يعنيه
وبدرجة جوهرية تفعيل جمعيات أهلية مستقلة
للإنسان في مجال الحقوق والحريات، وكذلك
البيئة والصحة والاستهلاك، إلى جانب وجود
جمعيات رسمية أو حكومية. إن إعلان الحكومة
السعودية منذ أكثر من سنتين عن تشكيل جمعيات
حقوق إنسان أهلية ورسمية خطوة في الطريق
الصحيح، ويجب أن يؤكد عليها مرة أخرى، ولكن
بشكل يتطلب فكرة اكتساب المشروعية الأهلية
والقانونية، وذلك بان يشرع لها، من قبل "السلطة
التشريعية" المتكونة في سياق بديل
الإصلاح، وبما يحدد مهامها أو ضوابط عملها
انطلاقا من صدور "تشريع" أو قانون لتلك
الجمعيات وقوى المجتمع الأهلي. وفي سياق
الإصلاح الاجتماعي، يجب التأكيد على مراجعة
جدية وحقيقية لا وضاع وأدوار المرآة في
العملية التنموية بكافة أبعادها، وكذلك في
الأبعاد الاخرى ذات الصلة من العملية
الإصلاحية.
في
المجال التعليمي والثقافي والإعلامي
إضافة
إلى ما تقدم من عناصر "إعلان بديل"، فان
على الحكومة وبرنامجها الحكومي، إعادة
هيكلة التعليم والانفتاح علي التعليم
الحديث ووسائطه وتقنياته والأطر الفكرية،
من الإسلامية إلى العالمية ذات الوجوه
الإنسانية، مع التأكيد على الهوية العربية
الإسلامية في هذا التوجه. وفي سبيل المضي
قدما في تحقيق هذا التوجه، فإن الأمر يتطلب
أيضا، ويحتاج إلى إعادة تأهيل شبه شامل
لكافة الكوادر التعليمية، وخاصة في مستويات
التعليم ما دون الجامعي وحتى الابتدائي،
بحيث تكون الكفاءة والالتزام بأخلاقيات
العمل والعلم، هي الأساس للعمل في المجال
التعليمي والتربوي. أن على الحكومة في سياق
برنامجها الحكومي المتصل بالعملية
الإصلاحية التربوية العمل على تفعيل كافة
القطاعات الإنتاجية، بما يتوافق مع أن تكون
الدورة التعليمية ذات مخرجات متنوعة وعصرية
تدخل في كافة العمليات الإنتاجية، وليس كما
هي الآن دورة مقفلة، يعاد إنتاجها لامتصاص
بعض من البطالة، والتي تدور في حلقة مفرغة،
بتركيزها على استيعاب مخرجات الدورة
التعليمية في القطاع التعليمي نفسه (العمل
كمدرسين أو مدرسات) أو في الوظائف الحكومية،
والتي يبدو أنها تجاوزت درجة التشبع إلى
التخمة المفرطة، ووصلت إلي عدم القدرة علي
المضي في تلك العملية الاستيعابية، بما سوف
ينعكس سلبا بإعادة إنتاج البطالة مرة أخرى.
طبعا هناك مخرجات متنوعة بعض الشيء في
الدورة التعليمية في حلقاتها العليا، ولكن
يلاحظ انه، وباستثناء بعض من التخصصات، خاصة
العلوم الطبية، فان معظم الخريجين
والخريجات من كافة التخصصات من الجامعات
يبحثون عن عمل في القطاع التعليمي (التدريس)
أوفي الأجهزة الحكومية. إضافة إلى ذلك، هناك
حاجة ماسة للتوسع في القطاع التعليمي
الجامعي والتطبيقي الرسمي والإصلاح، مع
التأكيد علي رفع القيود عللى مثل تلك
التوجهات والتركيز بدرجة أكبر على المناطق
الأخرى، والتي لازالت تعاني من نقص في
المجال التعليمي وخاصة الجامعي منه.
ولعل
الخطوة الأخيرة (الأمر الملكي في 24-3-2002م)
التي أقدمت عليها القيادة السعودية بدمج
الرئاسة العامة لتعليم البنات بوزارة
المعارف خطوة تمثل محاولة للتعامل مع معضلة
التعليم وإعادة هيكلته في سياق معالجة
الانفصام الذي كان قائما بين المؤسسات
التعليمية للبنين وللبنات، وما يتصل
بالازدواجية غير المبررة في المجالات
الإدارية والمالية والمنهجية. إن كانت تلك
الخطوة تستهدف إعادة هيكلة التعليم، بحيث
يحقق قدرا عاليا من تمتين مستويات التعليم
وجودة عالية لإدارة الموارد في تلك
المجالات، فإنها تعتبر خطوة في الطريق
الصحيح لكنها تحتاج إلى التعزيز في السياقات
التعليمية الإصلاحية الأخرى. وإن كانت تلك
الخطوة تستهدف التمهيد لتعديلات في
المنهجيات للتعامل مع الضغوط الخارجية
الغربية والأمريكية تحديدا، فان ذلك لا يبدو
هادفا إلى إعادة هيكلة التعليم باعتبارها
أحد متطلبات بديل الإصلاح لمعالجة ألازمة
الداخلية.
وفي
السياق الثقافي العام، يجب أن يكون هناك
انفتاح ومكاشفة وشفافية مع النخب الفكرية
والمثقفة والمتعلمة في البلد، بحيث تكون
الأخيرة قادرة على المساهمة في بناء الدولة
والمجتمع والأمة، وان تتجاوز القيود
المفروضة عليها في سبيل تلك المساهمات، سواء
على مستوى الداخل أم الخارج، وفي درجة هامة
النطاق العربي. وفي سياق المسألة الثقافية
ومساهمة المثقفين فإنه، من المثير للملاحظة
أن هناك شبة انعدام للمؤتمرات والندوات عن
القضايا الملحة داخليا(40). وإذا وجدت فإنها
وفي سياقها الرسمي، غالبا ما تفتقر إلى
الهامش المطلوب للرأي الأخر. وأما بالنسبة
لمشاركات المثقفين والمفكرين في النشاطات
الخارجية، وخاصة في المنطقة العربية فإنها
تخضع لقيود صارمةـ وتتطلب الحصول على
موافقات رسمية والتي غالبا ما تتأخر أو تأتي
بالرفض. ولعل من المفارقات العجيبة أن هذا
البلد يحتضن طاقات وكوادر متعلمة مثقفة ربما
قل نظيرها في كثير من البلدان العربية، وذلك
في كافة التخصصات، ولكنها ولعدم قيامها
بمهامها وتعطيل فاعلتها أدى بها إلى غيابها،
بل إلى تراجع في إمكاناتها ومخزونها المعرفي
والثقافي مع مرور الوقت. ولعله من المثير
للملاحظة وغريب الأمور أن تجد عناصر في
البلد ممن يشيرون إلى مواقف المثقفين
والمفكرين الآخرين وهم عادة من العرب أو
الأجانب باعتبارها مواقف سلبية تجاه
السعودية، وان تلك المواقف تمثل نوع من
الحسد أو الحقد... إن تلك المسالة وإن صحت
جزئياـ ليست صحيحة على الجملة وان ما فيها من
صحة مردها، أيضا، عدم إتاحة الفرصة للمثقفين
من البلد للقيام بمسؤولياتهم من حيث
المساهمة والمشاركة والحوار مع أولئك
المثقفين، وبالتالي تبديد الصورة النمطية
عن الإنسان والدولة والمجتمع في السعودية إن
وجدت.
ولذلك
يجب أن تكون هناك مكاشفة وشفافية تجاه الرأي
العام وبالتالي انفتاح الصحافة وتوسيع
أدوارها، إن لم يكن إطلاق هامش الحرية لديها
بحيث تتسع للرأي والرأي الأخر، وان تكون احد
وسائل وأدوات اطر إتاحة المعلومات، وطرح
ومناقشة القضايا الملحة محليا وعربيا
ودوليا في كافة المجالات، خاصة وان الأمر لم
يعد يحتمل في ضوء وجود بدائل وقنوات ومساحات
وساحات للمناقشات والحوار وتبادل المعلومات
وإيصالها للمواطنين من الأعلام العالمي
والإقليمي والعربي ووسائل الاتصال الحديث
المتصل بشبكة المعلومات العالمية الانترنت
وفضائياتها غير المحدودة وكذلك القنوات
الفضائية...الخ.
إن
إلقاء نظرة علي الإعلام المحلي سواء المرئي
أو المكتوب وخاصة واقع الصحافة السعودية،
يبين أنها تعيد إنتاج نفسها في كل منطقة،
بحيث انك لا تجد من الفوارق إلا ما تعلق
بمحليات المناطق تحديدا، أما الخطوط العامة
السياسية والاقتصادية والاجتماعية
والثقافية والمتصلة بالشأن العام المحلي
فإن قراءة صحيفة واحدة تكفيك عناء الإطلاع
علي البقية.
ولعل
الأكثر وضوحا في كل ذلك هو انعدام الرأي
الأخر انعداما يكاد يكون كاملا – رغم وجود
أقلام ومواهب وكوادر تمتلك مقومات التحليل
والنقد والتقويم والتعامل مع الأفكار
الجديدة والمستجدة – وذلك بسبب من معوقات
العمل وخاصة انعدام أو الضيق الشديد لهامش
الحريات. إن ذلك
يؤدي إلى حجب أو تغييب تلك الإمكانات
والعناصر الثقافية والمعرفية وأصحابها
ويضطر بعض منها إلى النفاق السياسي والرؤية
الأحادية الشديدة – الانغلاق، وبالتالي
يفسح المجال فقط للكتاب الذين لا يرون غضاضة
في التماهي مع تلك التوجهات والمساهمة في
استدامتها على نحو قد يساهم جهلا أو عمدا في
تواصل إمكانية بروز مشهد الانهيار.
أن
الرأي الأخر سواء علي مستوى الثقافة
والمثقفين والمفكرين في نطاق الندوات
والمؤتمرات والمساهمة فيها، أم على مستوى
الإعلام المقروء والمكتوب وفي المسموع، يجب
أن يعطي الفرصة والضمانات المشروعة بان يؤدي
دوره منظورا إليه، ليس على انه فكر هدام، أو
معارضه هدامة، كما هو شائع في عقول من
ينتسبون إلى الحقول والقوالب والحقب
الماضية، وإنما يجب أن ينظر إليه على انه رأي
مختلف، يقدم قراءة مختلفة ولربما يشكل على
هذا النحو، وحسب مقولة وليم زارتمان دعامة
للحكم(41) أكثر من أولئك الذين لا يستطيعون
إلا أن يقدموا القالب والرؤية الأحادية
والواحدة، والتي تتماشي مع ما يعتقدون أنه
الخط العام المقبول. إن الاختلاف في الرأي
والنقد هو الذي يبين السلبيات ويطرح
الخيارات؛ وأما الرأي الواحد المماشي (الذي
لا يستطيع طرح مناقشة الا قضايا ومشاكل
الخارج بما فيها مشاكل البلدان العربية من
حيث حقوق الإنسان ومشاكل الأقليات
والاستبداد السياسي والإخفاق الاقتصادي،
ولكنه لا يريد أو لا يقدر أن يتعامل مع تلك
القضايا علي مستوى الداخل)، فإنه وإن كان يرى
بأم عينيه المخاطر والحفر والمزالق، فإنه
إما لا يستطيع أو لا يريد أن يقول ذلك، إنه
دائما راكبا للسفينة العمومية، وزاعما
الولاء لها محرضا علي استعداء الرأي الآخر
على طريقة كسب مزيد من الود والترقي.
لعل
من المثير للملاحظة والاستغراب إن الرأي
الآخر في مستواه الأقصى محارب كما تمثلها
بشكل صارخ حالة ما تعرض له مؤخرا الشاعر عبد
المحسن المسلم من مساءلة واعتقال بسبب قصيدة
"المفسدون في الأرض" والتي ينتقد فيها
بعض القضاة ونشرها في صحيفة "المدينة"
في 10-3-2002م، وكذلك إقالة رئيس تحرير الصحيفة
نفسها (محمد مختار الفال) بسبب نشره لتك
القصيدة(42). ان تلك المعالجات القاسية للرأي
الآخر، وهي ليست حالات معزولة على أية حال،
تعيد دوامة السياسات الأمنية والتي لا تزيد
الأمور إلا تعقيدا، بل إنها تساهم بإنتاج
دوامة التطرف، وتزيد من اتساع دائرة
المعترضين على الدولة وسياساتها، وبما
ينعكس سلبا علي علاقة الدولة بالمجتمع
وتفاقم من أزمتها بدلا من حلها. إن مثل تلك
الحادثة والتي لا تبدو معزولة ومحدودة، تثير
الاستغراب حقا، ذلك أن هناك عناصر في أجهزة
الدولة تساهم بجهل أم بوعي في خلق الأعداء
للدولة، وتلك مفارقة يجب أن يعاد النظر فيها
لأنها تزيد الأزمة الداخلية تفاقما.
ولعل
الأكثر غرابة وإثارة للملاحظة في سياق
التعامل مع الرأي الآخر، أنه ليس فقط محارب
ومغيب بل وإنما فوق هذا وذاك منكر عليه صمته
وابتعاده عن الساحة الإعلامية والثقافية في
إطار قياساتها وقوالبها وحدودها القائمة،
وقد يصل الأمر إلى أبعد من ذلك، بان يثار
صراحة أو تلميحا إلى فكرة تخوين أولئك
الصامتين، وإثارة الشكوك حول وطنيتهم. إن
تلك الحالة والوضعية الثقافية سواء علي
مستوى الثقافة العامة أم على مستوى الإعلام،
وبما هي وضعية متدنية او مفقرة وشديدة الضيق
بالرأي الآخر، عكست هي الأخرى جانب من أزمة
الدولة والمجتمع في السعودية علي محور
الثقافة والمثقفين.
وتتسع
تلك ألازمة الثقافية بانسداد الأفق الثقافي
أمام المثقفين والمفكرين – ( إذ لا ندوات ولا
مناقشات ولا حوارات، وقليل جدا من معارض
الكتب والفعاليات الثقافية حتى في الجامعات
ومؤسسات التعليم العالي، والتي وصلت إلى
حالة يمكن توصيفها بأنها تمثل مدارس ثانوية
كبيرة لا أكثر ولا أقل) فقد أفضى ذلك كله إلى
أن تري أعدادا متزايدة من المثقفين
والمفكرين من السعودية يطرقون الساحات
العربية ( بيروت والقاهرة والبحرين، ودبي
والدار البيضاء) بحثا عن الفكرة والكتاب
ومعارضها وندواتها والكتابة في وسائلها
الثقافية والإعلامية وحتى العيش فيها لما
تتيحه بعض منها من بيئة اجتماعية وثقافية
وسياسية ذات هوامش للحريات أوسع وأرحب من
تلك البيئة التي ترعرعوا فيها، والتي بدءوا
يشعرون بالاغتراب معها. ومع تلك البيئة
الطاردة، فانك أمام موسم دائم "لهجرة
الطيب صالح للشمال" ونضيف عليها بعض من
حلقاتها الجديدة الخليجية والمغربية.
وحتى
تلك الهجرة وطرق ساحاتها الثقافية العربية
محفوفة ببعض المخاطر، اذ لا تخلو من توترات
أزمة الدولة والمجتمع في سياقها الثقافي،
ذلك أن أعدادا من المثقفين يتعرضون بين
الحين والآخر لمضايقات لا تخلو من غرابة
ومفارقة في نفس الوقت. فإما الغرابة فيها فإن
من يمارسها هم عناصر وأطر لا علاقة لهم
بالثقافة، ولربما يتجاوزون بها حتى الأنظمة
وأطرها وأصحاب الشأن بها؛ وأما المفارقة
فيها، فإن تلك المضايقات بما هي تجاوزات
تصادر الحقوق والإبداع تساهم بقصد أو بجهالة
بتعميق ألازمة بين الدولة والمثقفين، وذلك
من خلال ممارسة الكبت والحرمان والقهر، وبما
يعني التفنن بخلق وتزايد العناصر المعادية
والمعارضة للدولة.
ان
استمرار تلك الوضعية الجامدة والمجمدة على
ما يبدو في وجه أصحاب القلم والزاي في سياق
المعلومة والإعلام والثقافة والرأي الآخر
داخليا من جهة، و بين انفتاح آفاق غير محدودة
للمعلومة وأطرها من إطراف خارجية، من جهة
أخرى لا يؤدي إلا إلى مزيد من ابتعاد كثير من
المواطنين، وخاصة المثقفين والمفكرين
وأصحاب الرأي والقلم، عن الدولة وأطرها
وسياساتها، باعتبارها متفارقة معهم على نحو
يخلق ويعمق ويعزز الفصام والقطيعة بلا رجعة
بين الطرفين. إن تفعيل الأطر الثقافية
ومكوناتها سواء على مستوى الثقافة العامة
والمنتديات والجامعات أم على مستوى
الإعلام، وبما يضمن هامش قانوني واسع لتفاعل
الآراء دون مضايقة على بعض منها ودونما
تجريم أو منع سيكون أحد الدعامات الأساسية
لمشروع بديل للإصلاح.
بديل
الإصلاح والمجال
الخارجي
ان
السياسات في المجال الخارجي وخاصة في إطار
المجالات الأمنية العسكرية والعلاقات مع
الخارج الغربي منها والعربي، تحتاج إلى
مراجعة وإعادة نظر. وفي السياق الدفاعي
والأمني والعسكري للدولة، فإن المسألة
ببساطة تحتاج إلى الاعتماد على القوة
الذاتية من أبناء البلد، والذين لا تنقصهم
الرغبة في القيام بمهام حفظ الدولة
والمجتمع، إذا ما اتيحت لهم الأرضية
الملائمة.
وتأسيسا
على ذلك، فإن الحاجة أصبحت ماسة إلى إعادة
النظر بتواجد القوات الأجنبية الغربية،
والأمريكية تحديدا، ويجب أن يكون الهدف هو
التخلص منها وإن بشكل تدريجي ومرحلي. إن إحدى
أزمات الدولة– المجتمع هي أزمة الشرعية
المتصلة بالاعتماد على الحماية الأجنبية
وتلك مسائل تقلق أبناء البلد إذ يشعرون
بفقدان الكرامة الإنسانية، إضافة إلى فقدان
سيادة الدولة أو تقييدها بدرجة كبيرة. وفي
هذا السياق، فإنه وفي سبيل الوصول إلى نهاية
لتلك الحماية الأجنبية الأمريكية، يجب
التنبيه إلى ان ذلك لا يتطلب بالضرورة
المواجهة مع الغرب وأمريكا تحديدا، وإنما
إيجاد آليات وصيّغ للوصول النهائي إليها
وخلال فترة تتراوح بين خمس إلي سبع سنوات كحد
أقصي.
ويتطلب
ذلك، العمل الجاد على تقوية علاقات الدولة
مع كافة الدول الأخرى شرقية كانت أم غربية
وعلى نحو متنوع ومتوازن بما يحقق أيضا تنويع
العلاقات الاقتصادية وكذلك تنويع مصادر
الأسلحة، وكذلك العمل على تطوير صناعة أسلحة
محلية أو عربية في هذا الاتجاه للخروج من
مسألة الاعتماد على السلاح والمصدر الواحد.
وقد يكون من المناسب أيضا تطوير قوة عربية
خليجية للاعتماد عليها.
ولضمان
هذا التوجه، فإن مرتكز العلاقات الخارجية
سيكون إعطاء أهمية حاسمة للدائرة العربية،
والخروج من ملف ألازمات العربية وبدون عقد،
أو الانتظار حتى يقرر الآخر (الغرب). لذلك فان
الحاجة ماسة لإعادة النظر بالمسألة والحالة
العراقية الكويتية على نحو يقفل هذا الباب
نهائيا وبما ينقذ كافة البلدان العربية
وشعوبها من التورط في عمليات لا تستهدف في
النهاية سوى العرب بمن فيهم الذات. إن ضرب
العراق واستهداف النظام فيه وإسقاطه، وبغض
النظر عن الاتفاق أو الاختلاف معه، قد يكون
البوابة الواسعة التي يدخل منها الغرب
والولايات المتحدة تحديدا والورقة السابقة
-- التاريخية التي ترفقها ضد الدول العربية
الواحدة تلو الأخرى، كما حاولنا أن نبين
مخاطر ذلك سابقا. إن على السعودية ومصر
وسوريا العمل على إقناع الدول العربية
الأخرى، من خلال القمة العربية القادمة، أو
الاتفاق فيما بينها على الأقل، على عدم
التعاون مع الولايات المتحدة في ذلك التوجه،
والعمل على إنهاء الملف العراقي والحالة
العراقية الكويتية بشكل نهائي، ولمصلحة كل
الأطراف والأمة العربية عموماـ وذلك
بالانطلاق من حكم شرعي إسلامي طبقا وتطبيقا
للآية الكريمة: ((وان طائفتان من
المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت
أحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى
تفيء إلى أمر الله، فإن
فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل واقسطوا إن الله
يحب المقسطين <9> إنما المؤمنون إخوة
فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم
ترحمون <10> سورة الحجرات)). إن المصالحات
التي تمت في أثناء مؤتمر القمة العربية في
بيروت وقراراتها التي صدرت، وهي تتصل
بالاتجاه نحو إغلاق الملف العراقي، تعتبر
أمورا مهمة ومشجعة وتستحق الثناء والتقدير.
إن الحاجة أصبحت ماسة الآن إلى البناء على
تلك الاتجاهات بخطوات تعزيزية أكبر وأهم
للوصول إلى تطبيع كامل للعلاقات العربية
العربية، وكذلك التنبه إلى بعض المنافذ
العالقة، والتي قد تستغلها أمريكا في توتير
الأجواء العربية من جديد، واستخدام بعض
المواقع والقواعد العسكرية العربية الأخرى،
والتي تعمل أمريكا على ما يبدو تجهيزها (حيث
التوجه الأمريكي بنقل أجهزة الكترونية
وحاسبات لسلاح الجو الأمريكي إلى قطر، وهو
ما يعني نقل مقر سلاح الجو وقيادة العمليات
التشغيلية هناك) كمنطلق لشن الضربة على
العراق. لذلك، فإن على الدول العربية
الرئيسية، ومنها السعودية مصر وسوريا،
مساعدة الدول العربية الصغيرة والوقوف
معها، مثل قطر، والتي قد تتعرض مستقبلا
للضغط عليها لإتمام المشروع الأمريكي بضرب
العراق، وبالتالي فتح مشاريع التفتيت
والتقسيم، وخاصة في الشرق العربي ومنه
الخليج والسعودية في مقدمته.
وفي
السياق العربيـ فإن الحاجة تدعو إلى تطوير
الأطر العربية وتفعيلها، بما في ذلك مجلس
التعاون الخليجي باتجاه كيان فيدرالي وكذلك
مؤسسة القمة العربية والجامعة العربية
للوصول إلى ميثاق ومبادئ يمكن ان تؤطر
بفعالية للعمل العربي المشترك والخروج من
ملف الأزمات، بما في ذلك إيجاد آلية للتصويت
في مؤسسة القمة العربية تأخذ بالأغلبية
المطلقة أو أغلبية الثلثين في اتخاذ
القرارات بحيث تكون ملزمة للجميع بمن فيهم
المعارضون طالما هم اقلية. وفي هذا السياق،
يجب التركيز على تفعيل المحاور الاقتصادية
والثقافية ومناطق التجارة الحرة والمساهمة
في قيام مؤسساتها ودعم وتفعيل ما هو قائم
منها. ان تلك التوجهات بما فيها التوافق
والاتفاق مع العناصر والأطراف العربية
المعنية في إدارة الصراع العربي الصهيوني
إدارة تكفل الحقوق الشرعية والمشروعة للشعب
الفلسطيني، بما في ذلك الوصول إلى إقامة
دولة مستقلة عاصمتها القدس مع التأكيد على
حق العودة للاجئين، وبما تتضمنه تلك الإدارة
من دعم شامل للانتفاضة وحمايتها حتى الوصول
الي تلك الغايات – سيكسب الدولة شرعية محلية
وعربية وإسلامية.
معوقات
بديل الإصلاح
ومحفزاته
ان
تلك العناصر والتي فصلنا في بعضها، تشكل في
شموليتها مشروعا يبدو هائلا وثقيلا،
ولربما من الصعب تحقيقه في كلياته وفي آن
واحد. ومع ذلك، فإننا وإن كنا لا نقلل من
أهمية المصاعب التي قد تواجهه، وبالتأكيد
ستواجهه، فإننا نرى في الوقت ذاته أن تنفيذ
العناصر الأساسية من بديل الإصلاح أمر
جوهري، لإنقاذ البلد سلطة ومجتمعا، وألا فإن
مشهد الانهيار سيكون البديل –الإمكانية.
ومشهد الانهيار هو استمرار الأوضاع كما هي
عليه، اعتقادا من القائمين على اتخاذ القرار
بان ألازمة تم تجاوزها من خلال المعالجات
الظرفية والمؤقتة ذات الصبغة المهدئة
والمسكنة، والتي ترافقت لربما بحالة سكون
ظاهرية، لكنها قد تكون حالة خادعة، ذلك لأن
تلك المعالجة لم تكن معالجة شكلية فقط،
وإنما لأنها وأصحابها لا يريدون أن يعترفون
بوجود أزمة بالفعل في العلاقة بين الدولة
والمجتمع، والتي وصلت إلى حالة يمكن وصفها
بأنها شجرة وصلت إلي شيخوختها قبل أوانها
بفعل النخر الذي بدا يسري فيها من الفروع إلى
الجذع، والعكس صحيح، وإنها فقط مرحلة أخرى
ربما لن تطول لكي تأتي بعض من الرياح (أزمة
أخرى) لتودي بها لكي يتأكد مشهد الانهيار.
إن
مشهد الانهيار يمكن تجاوزه فعليا ببديل
الإصلاح، وكذلك قطع مشهد التقسيم أو التفتيت
إذا وصل الأمر إليه قبل مشهد الانهيار، وهذا
الأخير سيكون الحافز والعامل الحاسم في
مسألة التسريع والتسهيل بتنفيذ مشهد
التقسيم. ويجب التشديد هنا أن طرح ومناقشة
بديل الإصلاح إنما يعكس توجهات ونقاشات عامة
وخاصة ودعوات فردية ضمن مقابلات ومنابر أطر
إعلامية متنوعة(43). في هذا الصدد ولربما حتى
بين أفراد الأسرة السعودية المالكة وخاصة
دعوات الأمير الوليد بن طلال، الذي دعا إلى
إيجاد نوع من الانتخابات لمجلس الشورى وإن
قصرت في مراحلها الاولي على الرجال دون
النساء، قياسا بالتجربة الكويتية، وكذلك
دعوات والده الأمير طلال بن عبد العزيز،
والذي كان ولا يزال في كثير من مقابلاته
وتصريحاته يدعو إلى تطوير وإصلاح المؤسسات
السياسية في السعودية. ومما قاله الوليد بن
طلال، في دعوته للديمقراطية في السعودية
30/11/2001م في حوار مع صحيفة "نيويورك تايمز"
أنه لمعالجة عدم الرضي الداخلى خصوصا بعد
التطورات الأخيرة فإنه "إذا سمح للناس
الحديث بحرية ومشاركة بقدر أكبر في العملية
السياسية فسيكون بالإمكان احتواءهم وجعلهم
جزء من العملية" وقال إنه كلما تمت عملية
انتخابات مجلس الشورى بسرعة كلما كان أفضل
للمملكة. وقال إنه يفضل إلغاء المخصصات
الملكية السنوية والتي قال أنها تصل إلى 180000
دولار أمريكي، وذكر بأنه وهو يطرح تلك
الأفكار فإنه يساهم في النقاشات داخل الأسرة
حول فكرة الانتقال إلى ديمقراطية محدودة،
والتي تطرح علنا فيما بين أفرادها وإن لم
تطرح علنا إعلاميا. وذكر في النهاية، إن
الأسرة لا زالت بصدد دراسة أن تقول (نعم)أهمية
(لا)(44).
ورغم
أن الوليد لم يكشف مواقف أفراد الأسرة
المالكة تجاه تلك الديمقراطية المحدودة،
إلا أنه يبدو أن هناك عناصر من الأسرة
المالكة، وإن لم يكن بالإمكان حصرها، أما
أنها تشاطر هذا التوجه، أو أنها لا تمانع من
سلوكه. ويبدو أن تلك العناصر، والتي يصعب
حصرها أو تحديد أعدادها تنطلق في مواقفها
هذه من فكرة أن توسيع دائرة المشاركة
السياسية في صنع القرار لا يمس فقط الأبعاد
الشعبية وإنما يمسها هي كذلك؛ إذ أنها
وعناصر أخرى داخل الأسرة تشكل حلقات بعيدة
الأهمية، مبعدة عن مراكز القرار، وبالتالي
عن دائرة ومقتسمات والثروة وأهمية النفوذ.
وكذلك يبدو أن لهذه العناصر مصلحة في توسيع
دائرة المشاركة انطلاقا من مصالح (المصالح
ليست بالضرورة مادية وقد تكون معنوية أهمية
ذات صلة بالمكانة والنفوذ) لها
تبدو غير محققة في ظل الوضع الراهن حتى
وإن حصلت على بعض الإمتيازات الهامشية،
بالمقارنة بالامتيازات الضخمة للحلقات
ومراكز القوة الأساسية. والبعض الآخر منها
ينطلق من إدراك ووعي بأن الأمور أخذت بالفعل
بالتغيير في إطار علاقة الدولة بالمجتمع
ومكونات الأخير وقواه، وأن أفضل طريقة
لتماسك البلد بما هو دولة ومجتمع هي التنازل
عن بعض الأشياء مقابل الاحتفاظ بالأشياء
الأخرى أو ببعضها على الأقل.
ومع
ذلك فإن هذه العناصر المنفتحة على التغيير
وولوج الإصلاح، لا يبدو أنها مسموعة في
صوتها أو أنها كما هي العناصر الشعبية
مغيّبة، أو غير قادرة على البوح والمخاطبة
والدفع بهذا التوجه، ولربما تشعر بالضغوط
والقوة الممارسة عليها ضد هذا التوجه. في هذا
السياق، يلاحظ أن الأمير طلال، والذي يبدو
أكثر الأصوات داخل الأسرة ارتفاعا في إطار
التوجه الإصلاحي، هو الأخر يشعر بتلك القيود
ولربما بعض من معاناتها عندما يقول في حلقة
ضمن برنامج بلا حدود (قناة الجزيرة الفضائية/
قطر) والتي خصصت لردود الفعل على حلقات
شهادته على العصر، وذلك في 6/12/2000م انه بعد
هذا اللقاء، فإنه لا يريد أن يتكلم عن الشأن
العام وذلك لأنه: الآن عرف...؟ أن هناك ثلاثة
أشخاص مصرح لهم بمثل هذا الحديث وهم الملك
فهد والأمير عبد الله والأمير سلطان(45). ورغم
أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م
وتوابعها، وصلة ذلك بما سمي الحملة
الأمريكية على الإرهاب وعلى السعودية، قد
أتاحت حديثا آخر للأمير طلال، إلا أنه وفي
مقابلة في برنامج بلا حدود – مرة أخرى (قناة
الجزيرة الفضائية/ قطر) (في 23/1/ 2002م) لم يشأ
الخوض بالشأن العام الداخلي وركز جل همه على
معالجة الأزمة من طرفيها الخارجي (الأمريكي
تحديدا) عارضا فكرة استخدام ضغط المجمع
المدني العربي ومن خلال شركة للعلاقات
العامة تؤمن الدخول إلى الساحة الأمريكية،
علما بأن الأمير طلال يعلم بأن مؤسسات
المجتمع المدني العربي ليست موجودة في عدد
من البلدان العربيةـ ومنها بالذات
السعودية، وبالتالي فإن الإصلاح لا يكون من
الخارج بل من الداخل، بما في ذلك تفعيل ذلك
التوجه(تنشيط عمل مؤسسات المجتمع المدني أو
الأهلي، كما نفضل تسميته) داخليا وأولا وقبل
كل شيء(46).
وحيث
أن تلك هي التوجهات داخل الأسرة، وخاصة في
إطار عدم الإفصاح عن مدى حجم وعدد الأصوات
تجاه دعوات الإصلاح، وكذلك عدم خروجها إلى
العلن من أصوات عناصر واضحة، إضافة إلى أن
المسألة كانت لا تزال تدور في إطار دراسة هل
نقول "نعم" أم" لا لفكرة"الديموقراطية
المحدودة" وخاصة الوصول إلى سلطة تشريعية
منتخبة، وكذلك مع حالة السكون وما تعكسه من
شعور بهدوء الأوضاع، فإن ذلك كله يشير إلى أن
هنالك ما يبدو أنه معوّق بنبوي ضد الإصلاح
والديموقراطية المحدودة في ثنايا اطر
العائلة المالكة وحلقاتها.
وعليه،
فإن الأمر يبدو انه وفي ثنايا تلك الحلقات من
العائلة، فإن معوق كبير للإصلاح
والديموقراطية يبدو مرتبط بعناصر من
الأسرة، والتي تسودها وتطغي عليها رؤية
وعقلية مغرقة بالماضوية؛
تلك هي "عقلية ملكية الجميع"، بمعني
أن البلد ومن فيه بشر وأرض وموارد ومؤسسات
ومخرجات هي ملك خاص في قبضة اليد والتي لها
الحق دون غيرها بالتصرف بما تشاء و كيفما
تشاء ومتي تشاء. تلك العقلية بالملكية
الخاصة للجميع تستند إلى، وتنطلق من مقولة
أخرى أكثر ضيقا في رؤيتها، ألا وهي أن إقامة
الكيان والدولة السعودية إنما تمت (بالقوة
وبحد السيف) وأن من يريد أخذ شيء فليستخدم
نفس الأسلوب والأداء، إن كان يستطيع طبعا.
وتلك مقولة خطيرة، إن من حيث التلويح بالقوة
واستعداء الآخرين بالولوج لها باعتبار أن
الإصلاح باب مقفل. فوق
هذا وذاك، فإن تلك العقلية تنسى أو تتناسى أن
تلك القوة التي كانت وراء تكوين الدولة
السعودية (في السياق الداخلي فقط مع عدم
إغفال أهمية العامل والقوي الخارجية في ذلك)
لم تكن إلا من القوى المجتمعية والشعبية
آنذاك سواء الحضرية منها "القروية
والفلاحية" في بداية النواة الأولى
للتكوين أم من القوى القبلية (رغم التصادم مع
بعضها لاحقا عندما قويت شوكة الدولة) وكذلك
دور بعض العائلات في المدن والأرياف والتي
تحالفت مع الملك عبد العزيز وسهلت تلك
المهمة بدرجة كبيرة، في القصيم وحائل
والأحساء والحجاز وعسير والجوف في مرحلة
التمدد والتوحيد. لذلك تميزت المرحلة الأولى
لقيام الدولة السعودية "بالمشاركة
والمساهمة" لتلك القوى أو من يمثلونها في
مقابل الاستقرار وإنهاء حالة الصراع
الأهلية البينية المتعددة والمتواصلة قبل
ذلك.
وفي
إطار ذلك التوازن كانت تلك "العقلية
بالملكية" التي ربما كانت مقبولة قي
الفترة الماضية، فترة التكوين وحتى نهاية
السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن
العشرين، فإنها في المرحلة الحالية وخاصة
منذ أزمة الخليج الثانية1990 فصاعدا، ومع
التحولات في تركيبة المجتمع وقواه -
والمتصلة بحركة التحديث منذ نهاية عقد
الخمسينيات من القرن العشرين فصاعدا، وكذلك
مع التطورات المحلية والإقليمية والدولية،
بما في ذلك ثورة المعلومات والاتصالات، فإن
تلك العقلية ورؤيتها، ليست فقط غير صالحة
للمرحلة، بل إنها ستكون عبئا علي الجميع "دولة
ومجتمعا" بمن فيهم أصحاب وعناصر تلك
الرؤية والعقلية.
إضافة
إلى تلك العقلية المهيمنة والمنتمية إلى
الماضي، ولكنها فاعلة في الحاضر ولو إلى
حين، فان هناك عقبة بنيوية أخرى، ربما تصل
إلى أن تكون متساوية، مع أنها لم تكن اكبر من
عقبة"عقلية الملكية" وبالتالي ستكون
الأكثر فاعلية ضد بديل الإصلاح. تتمثل تلك
العقبة الأخرى بالقوى المتنفذة في أجهزة
الدولة ومؤسساتها "البيروقراطية"
وخاصة في مستوياتها العليا، وأيضا حول عدد
من العناصر القيادية في الدولة. هذه القوى
المتنفذه هي ذات امتدادات مناطقية محددة
وترتبط بعائلات بعينها من مدن أو قرى محددة
من تلك المناطق المحددة رغم إنها ليست
بالضرورة ممثلة لها أو لأهلها على الجملة.
تلك العائلات وأبنائها وامتداداتها بدأت
تسيطر على المناصب الرئيسية في القطاعات
المهمة من الدولة، وتستحوذ بالتالي على نفوذ
ربما يتجاوز كثير من أفراد الأسرة المالكة،
بل إن أعداد من الأخيرة ربما لا يجدون مفرا
من التعامل مع تلك الأسر وعن طريقها للوصول
إلى دائرة القرار في مدخلا ته أو مخرجاته.
تلك القوي المتنفذة والمرتبطة بعائلات
بعينها وذات امتدادات بقرى أو مدن من مناطق
بعينها، وان كانت لا تمثلها بالضرورة، أخذت
تستحوذ علي لنفوذ ورسم السياسات وتوزيع
المناصب داخل الهياكل الحكومية وبالتالي
أصبحت وبشكل متعاضد هي التي تعد وترسم وتنفذ
سياسات الدولة وخاصة الداخلية منها. من هنا
يمكن ملاحظة أن السياسات التنموية لم تكن
متوازنة بين المناطق وإشغالاتها
الاجتماعية، لذلك فان ما يتضح من تلك
الاتجاهات هو انه رغم أن "الأسرة السعودية"
لا زالت بيدها القرار النهائي لتلك
السياسات، إلا أن من يقوم بالفعل بإدارة
البلد هي تلك القوي من العائلات المتنفذة.
إن
تلك القوي المتنفذة هي ما يمكن أن يطلق عليه"
الحرس القديم-الجديد". أما كونه قديما
فليس المقصود به هو انه من القوي القديمة من
الناحية الزمنية وإنما لأنه يمثل الاعتراض
علي الجديد "الإصلاح"؛ وإما كونه جديدا
فالمقصود به ليس لأنه يمثل التكوينات
الاجتماعية الجديدة بالضرورة، وإنما لأنه
في مرحلة ما، وهي السبعينيات من القرن
العشرين كان قد اخذ يحل وبشكل تدريجي محل
النخبة السابقة، والتي كانت تنتمي إلى
عائلات من منطقة أخري بعينها والتي كانت لها
الهيمنة في بيروقراطية الدولة آنذاك. تلك
القوي المتنفذة هي التي تنعم بمكتسبات
الدولة وخدماتها من مالية وخدماتية
ومعنوية، بما في ذلك، وبدرجة مهمة، مسألة
النفوذ والمكانة، باعتبار أن النفوذ ذاته
جالب للخيرات والملذات، كما يقول ابن خلدون
(47). إنهاا تحصل علي مرتبات ومخصصات عالية،
وتحصل علي تعليم عال، وربما خاص، وتحصل على
خدمات صحية عالية حكومية وخاصة و ربما على
حساب الدولة ونفقاتها، وكذلك تحصل في مناطق
سكنها على خدمات بلدية لا يمكن تواجدها في أي
من الأحياء الأخرى غيرا لمشغولة بتلك الفئات
وعناصرها. لذلك فان تلك الفئات والعائلات
وقواها المتصلة بها لن تكون مع الإصلاح، بل
يمكن أن تكون العائق الأكبر في هذا الاتجاه.
من
هنا، فإن استمرار تلك العقبة ذات الصلة
بالقوي المتنفذه والمتعاضدة والمتحالفة مع
العقبة الأولى عمدا أو جهلا منهما أوكلاهما،
سيشكل العامل الحاسم والمحوري في تواصل
عملية النخر في ظل تواصل عقبة أخرى، هي
الفساد بكافة تجليا ته وبالذات المالية
والإدارية والمحسوبية واستشراء المصلحة
الخاصة علي حساب المصلحة العامة، وفي غياب
القانون والمحاسبة. وبالتالي ستكون تلك
العقبات وخاصة الأولى والثانية المسؤولة عن
تعويم بديل الانهيار و/ أو الوصول بالبلد إلى
مشروع التقسيم والتفتيت.
والأكثر
كذلك، فان بديل الإصلاح المطروح ينبه إلى
ضرورة الإلتفات إلى خطورة تلك العقبات
وبالتالي معالجتها معالجة تفضي إلى إيقاف
مخاطرها تلك. وعليه في هذا السياق، فان
الحاجة ماسة إلى معالجه المعضلة المتمثلة
بتلك القوي المتنفذة ووقوفها ضد العملية
الإصلاحية وما تمثله تلك العقبات ومواقفها
من بقاء الأوضاع كما هي. وتلك الأخيرة تمثل
البيئة التي تترعرع وتنمو فيها بذرة
الانهيار، ولربما تمهد في تنامي فرص مشهد
التفتيت خاصة وأن الغرب وتحديدا الولايات
المتحدة، عازمة وجازمة هذه المرة على أن لا
تترك السعودية على ما كانت عليه، وان ذلك فقط
يحتاج إلى الانتهاء من الأولويات في سياق
مشروعها الكوني وتسلسل حلقاته.
والمعالجة
تلك وأمرها لا يجب أن يفهم منهما بان ما هو
مطلوب هو استبدال تلك العناصر بعناصر أكثر
طيبة ونظافة ونزاهة لتقويم الأداء الحكومي
والذي بدا أن القيادة بدأت تلحظ قصورا واضحا
فيه وتحذر من أثاره على المواطنين، وذلك أمر
محمود بذاته، كما فعل و نبه إليه الأمير عبد
الله ولي العهد وخاصة مؤخرا(48)، وإنما الأكثر
أهمية في المعالجة يتركز على الإحاطة بجوهر
المشكلة. إن المعالجة لها والوصول إليها لا
يتم فقط بالرجال الأكفاء، وان كان ذلك مهما،
ولا يقلل من شانه في ذاته، وإنما بوجود
مؤسسات وآليات ذات صلة بالتكيّف السياسي
للنظام وأبعاده الأخرى، بحيث تتكون آليات
ومؤسسات تستطيع القيام بمهام المسؤولية
والمحاسبة القانونية تجاه تلك العناصر
والممارسات أي كان مصدرها، وبغض النظر عن
أصاحبها، وذلك ضمن إطار قانوني ودستوري
يعتمد على إشراك المواطن في دائرة الحكم ولا
يقصيه أو يستثنيه كما هو قائم حاليا. إن
الثقة في المواطن وإعادة الاعتبار له في
كل تلك الحلقات، هو الذي يؤسس لإقامة
علاقة متوازنة بين الدولة والمجتمع، والتي
تستطيع بالتكيّف للنظام طبقا للاتجاهات
وظروفها أن تصمد أمام التحديات داخلية كانت
أم خارجية، خاصة وأن القادم منها وبالذات
الأمريكي على وجه التحديد- وفي سياق
توجهاتها المستقبلية للمنطقة وهي تشدد علي
أن الحالة السعودية يجب لا تبقى كما كانت حتى
ولو تطلب ذلك تفكيكا لها أو إعادة هيكلتها
على نحو ما- هو أكبر مما يتصوره البعض. إن
الخوف كل الخوف أن تستمر عقلية التوهم بأن
الخطر زال وأن ألأزمة انقشعت وان الأوضاع
وأطرافها ساكنة هادئة وبالتالي لا ضرورة
لمعالجة أو إصلاح.
إن
الانتظار مطولا عند فكرة الإصلاح أو التردد
تجاهها قد يكلف البلد (الدولة والمجتمع) ثمنا
باهضا قد يصل إلى فناءه، وبالتالي يجب عدم
الانتظار حتى تفرض الأمور من الخارج بهذا
الاتجاه أو ذاك. أليس الأجدى والأكثر كرامة
ولربما استحقاقا للتقدير أن تأتي الإصلاحات
من وعي ورغبة وقدرة وجرأة من النخب الحاكمة؟
إن الأمل معقود على وجود عناصر من النخب
المسؤولة ممن لديهم بالفعل من العقلانية
والحكمة والرشاد ما يؤسس لمثل هذه التوجهات
الإصلاحية. إن الأمر بدرجة كبيرة يرتبط
بوجود رؤية لمشروع دولة بحيث أنها لا تقصي
ولا تستثني، وإنما تقوم علي فكرة "المساهمة
والمشاركة" للجميع أفرادا و جماعات
ومناطق وبصيّغ وآليات ومؤسسات عصرية تصون
الحقوق وتحفظ الكرامة وتحقق العدالة
والرخاء والتقدم.
في
النهاية نقول، إن هذه الورقة، وبما تضمنته
من أفكار انطلقت من تصورات ومتابعات
أكاديمية موضوعية وإيمانا بالمكاشفة
والمصارحة للمساهمة في إنقاذ البلد والأمة،
لا تدعي أن صيغة الإصلاح المقدمة، هي الصيغة
الوحيدة أو الكاملة. إن هناك بالتأكيد طاقات
وقدرات في أبناء هذا البلد وأبناء البلاد
العربية عموما، والذين إذا ما أتيحت لهم
الفرصة فإنهم بلا شك سيعملون على صياغة
مشروع وعقد (ميثاق إجماعي جديد) لبلدانهم
وأمتهم. إن كل ما تسعى إليه الورقة هو أنها
تريد أن تلفت إلى المخاطر والتحديات ومنها
الداخلية بدرجة اكبر وكذلك الخارجية ذات
الصلة ببنيان وتماسك الدولة والمجتمع
والأمة في الحاضر والمستقبل. وثانيا فإنها
وبتلك الأفكار تفتح المشروع والأسئلة ذات
الصلة بالدولة والمجتمع في السعودية تحديدا
ولربما في لبلاد العربية الأخرى قياسا على
الآخرين المناصرين والمناهضين، وسواء من
أهل الثقافة أو الفكر أو أهل القرار وقواه
وذلك للتعامل معها بالطريقة التي قد تصل بهم
إلى
الأجوبة وأبوابها التطبيقية أو لربما لفتح
مزيد من الأسئلة والبحث في النماذج
الإصلاحية.