الجنون بشكل عام عيّ في القلب وفي العقل، وجنون العظمة كما عرّفه علم الطب:حالة تصيب المريض فيعتقد عادة بشكل قاطع امتلاكه صفات غير واقعية ووهمية ولا يقتنع بمخالفة الآخرين له في هذا المضمار،كما يُصاب بأوهام العظمة والتعاظم،ومن ثم التكبّر والغطرسة،والعجرفة , وشواهدها الفردية عديدة،وعلم السياسة يُعرّف الوهم بأنه خطأ في إدراك المعطيات يؤدي إلى خطأ في الاستنتاج مما يُوصل إلى أخطاء تكبر أحياناً لتصبح كوارثا ، وهناك ما يُسمى بالوهم المُكتسب فشرائح من المجتمع تسهم في بناء ظاهرة وهم العظمة عند بعض الأشخاص،فالإطناب والمديح المُبالغ فيهما لفرد أو لمجموعة قد تدفعهم للوهم المُكتسب،والاعتقاد بقدرات غير اعتيادية تجعلهم ينزلقون في هوّتها .
ولنتفحص هذه الأسس،وهل لها من انعكاسات على السياسات الأمريكية،ولنعد للماضي فلقد حدَدَ ووضع ضوابط لعدم الوصول إلى مثل هذه الحالة الرئيس الأمريكي توماس جيفرسون1743-1826م قال:" أتمنى أن تنمو حكمتنا بقدر ما تنمو قوتنا،وأن تعلمنا هذه الحكمة درساً مَفاده أن القوة ستزداد عظمة كلما قلّ استخدامها" وجيفرسون هو الرئيس الثالث الواضع لمسودة إعلان الاستقلال عام1776وقد حَكم بين عاميّ1801-1809،ويعتبره المؤرخون من قياديّ عصر التنوير.
وعن الحكمة قال الله تعالى في قرآنه الكريم:"يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً وما يذكر إلا أولو الألباب"سورة البقرة-الآية269،والسيد المسيح عيسى بن مريم عليه السلام قال للحواريين:"لا تضعوا الحكمة في غير أهلها فتظلمون،ولا تمنعوا أهلها فتظلموهم"والرسول العربي محمد عليه الصلاة والسلام قال:"الحكمة ضالة المؤمن،فحيث وجدها فهو أحق ".
وعن قول الحق والتمسك بالحكمة قالت الأعراب:"كيف تبصر القذاة في عين أخيك،وتدع الجذع المعترض في حلقك"...من كتاب (الأمثال) لأبي عبيد بن سلام.
وفي التعريفات الحديثة فالحكمة علم حقائق الأشياء،وعلم الحكمة يغسل النفوس من وسخ الطبيعة،وفي أجمل تعريف لها قيل"عمل ما ينبغي كما ينبغي في الوقت الذي ينبغي"وطالما أنها عَنت غسل النفوس من وسخ الحياة،وهكذا ففي قلة أو عدم استخدام القوة ذروة العقلية والإنسانية،والصمت عن نقيضها وهو الأذى،والظلم،والتدمير جريمة لا أخلاقية يرتكبها من أغلق فمه عن قول الحقيقة والحق.
وللتاريخ دورات تتناوب فيها الشرور بفعل المصالح،كما تمّر أحياناً ظلال قيمية تستمتع البشرية بوارفها ، ومن هذا المنطلق حذر الرئيس الأمريكي أيزنهاور بتاريخ17/1/1961من أخطار المجمع الصناعي العسكري فقال في خطابه الوداعيّ: "لم يعد بإمكاننا المجازفة عبر الارتجال في الدفاع الوطني ووضعه في حالة طوارئ. لقد أرغمنا على إنشاء صناعة تسليح دائمة ذات أحجام ضخمة يُضاف إليها ثلاثة ملايين،وخمس مائة ألف رجل وامرأة يعملون مباشرة في مؤسسة الدفاع،ويتخطى الإنفاق السنوي على الأمن العسكري الدخل الصافي لشركات الولايات المتحدة الأمريكية مجتمعة،ونشعر بتأثيره على الأصعدة السياسية،والاقتصادية،وحتى الروحية،وفي المداولات الحكومية , يجب أن نحاذر من اكتساب المجتمع العسكري نفوذاً غير مبرر".
لكن التبدلات حدثت و نحت في الاتجاه الذي حذر منه الرئيس إيزنهاور ،فلقد ازداد الإنفاق العسكري في الولايات المتحدة بحيث أصبحت حصة الفرد في ا لسنة 1604دولارا بينما نصيب الفرد الصيني31,2دولارا،والهندي18,5دولارا، وبلغت النفقات العسكرية العالمية في سنة 2005 حوالي 1204 مليار دولار،وتُعدّ الولايات المتحدة المُنفق الأكبر إذ يعادل إنفاقها48% من الإنفاق العالمي، و شركات الأسلحة العالمية المائة الكبرى باعت في عام2004كميات من إنتاجها بمبلغ368مليار دولار بزيادة15% عما كانت عليه في سنة2003،وقد استأثرت41شركة أمريكية بــ 64% من هذه المبيعات،وكان الشرق الأوسط المنطقة ذات الزيادة الأعلى نسبياً في الإنفاق العسكري لعام2005.
المصدر:من دراسة لمعهد ستوكهولم لأبحاث السلام العالمي.
لقد تمادى الخلل في هذا المجال،فوُلدت مؤسسات ضخمة تُعنى بالفكر الاستراتيجي،وتحويله إلى خطط وخرائط،وبرامج،وأولويات تُعبّر عن التحالف بين الفكر والسلاح،وبالتالي فخمس من الشركات الأمريكية المُصَنعة للأسلحة العملاقة يتجاوز ناتجها القوّمي182دولة في العالم،وحتى أن شركة"اكسون"يفوق دخلها دخل دول الأوبك،وشركة جنرال موتورز يساوي دخلها دخل الدانمرك،والتطور الهائل في تقنيات الأسلحة،وفي زيادة مبيعاتها وتصاعد أرقامها بفعل الأزمات والحروب حيث أصبحت قوة فاعلة ومؤثرة ، تُقدّم هذه الشركات مبالغ طائلة للأحزاب السياسية المتنافسة على قيادة البيت الأبيض،وكل شركة تدفع بمرشحها ليفتح الأسواق أمامها في حال فوزه،ويساعد على تسهيل تصريف مبيعاتها، ومدراؤها يتقاضون رواتب سنوية خيالية،وعلى سبيل المثال فمدير شركة"لوكهيد مارتن"يحصل على26مليون دولار،وقد دفعت هذه الشركات باتجاه الحروب لاستفادة من المآسي والمجازر التي تتكبدها البشرية،فكانت الشعارات المُغطية لجرائمها مقاومة الشيوعية....محاربة الإرهاب....الدفاع عن مصالح أمريكا وضرب الحركات المُتطرفة، كما ابتكرت فكرة الحروب البديلة والتي جَرت أثناء فترة الحرب الباردة بين القطبين الأمريكي والسوفيتي قامت بها دول ضد أخرى نيابة عنهما ناهيك عن الحروب التحريضية المُفتعلة دائماً.لقد تدخلت أمريكا عسكرياً في أزمات دولية230مرّة خلال الثمانينيات من القرن الماضي، وارتفع العدد إلى280مرّة في التسعينات.
لقد كثرت الآثام التي ارتكبت بحق الإنسانية في جميع أصقاع الأرض،وتعددت أنواعها،وعلى سبيل العدّ لا الحصر سنلقي ضوءاً على جرائم بعض الحروب التي خاضتها أمريكا في القرن الماضي والحالي،فالحرب الكورية استمرت بين عاميّ1950-1953وأدت إلى تقسيم كوريا إلى قسمين شمالي وجنوبي،وإجمالي خسائرها البشرية ما بين قتيل،وجريح،ومفقود نحو أربعة ملايين نسمة كانت ضحايا المدنيين ضعف ضحايا العسكر،بينما بلغ عدد الذين خسرتهم أمريكا157,530مات منهم22,300في المعارك،كما خَسر حلفاؤها16536قتيلا ً،والحرب الفيتنامية بدأت في ايلول1959،وانتهت في حزيران1975 حيث خسر الفيتناميون مليونا قتيل،و3ملايين جريح،وما يُناهز عن12مليون لاجئ يقابلها57ألف قتيل أمريكي،و152,306جريحاً.
وعن العراق ومآسيه فحرب الخليج الثانية،أو عاصفة الصحراء وقعت ما بين12آب1990-حتى28شباط1991 زمن الرئيس بوش الأب بلغ عدد الجنود المُشاركين فيها959,500جندياً شكلت الولايات المتحدة74% من إجمالهم،وبنتيجتها كانت الخسائر العراقية من 70 ألف الى100,000ودعوا الحياة إضافة إلى30ألف أسير،وتدمير4آلاف دبابة و240طائرة،وفي المُقابل خسرت أمريكا393قتيلاً،و467جريحاً،والمملكة المتحدة47قتيلا ً،كما وقدرت تكاليف الحرب بمبلغ61,1مليار دولار دفعتها أقطار عربية مع اليابان،وعند توقفها أقرت مناطق حظر الطيران العراقي في الشمال والجنوب،وفُرض الحصار الاقتصادي مما رفع نسبة التضخم المالي إلى2400%في عام1994،وهاجر من العراق أكثر من23ألف باحث،وطبيب،ومهندس،وتعرّض أكثر من4500طفل شهرياً للوفاة نتيجة سوء التغذية والأمراض - وفق تقرير اليونسكو - ،وقد أسهمت الأسلحة الممنوعة دولياً-اليورانيوم المنضب-والأسلحة الكيميائية في انتشار التشوهات لدى الأطفال أثناء ولادتهم،وانتشار مرض السرطان،ووزارة الصحة العراقية أعلنت عن وجود140ألف عراقي مصاب بالسرطان عام2004،يُضاف إليهم 7500 يصابونً سنوياً،وسرطان الدم يتزايد بنسبة60%بعد عام1991،وتنظيف العراق من مُخلفات الحروب والتلوث يحتاج إلى إمكانات تتعدى إمكانات العراق لمدة20-30عاماً.
واحتلال العراق في الحرب الأخيرة ذهب ضحيته 655ألفا دفعوا حياتهم وفق دراسة قام بها مركز الدراسات الدولية في معهد ماساشوتس للتكنولوجيا،إضافة للدمار الذي لحق بالأرض والاقتصاد،ونزوح أكثر من مليوني عراقي إلى الأقطار المُجاورة...والدخل القومي الحالي لا يتجاوز30-40%مقارنة بعام1979 , إذ كان دخل الفرد السنوي يتراوح ما بين4000-5000دولارا خلال عقد الثمانينات،وحالياً وصل إلى أقل من800دولار،وبلغ عدد العاطلين عن العمل عشرة ملايين مواطن منهم400000ضابط،وجندي سُرّحوا من الجيش.
وعن الحرب الأفغانية،فأرقام القتلى والجرحى ما زالت غير دقيقة،ومتفاوتة إنما إجمالي الإنفاق العسكري كلف أمريكا223مليار دولار بين عاميّ2001-2009،وأحد الخبراء العسكريين يحدد أن محاربة المقاومة الأفغانية يتطلب جهداً من5-10سنوات لتحويل الدفة لصالح الجيش الأمريكي،ومع الزيادة في أعداد قواته فالكلفة السنوية تصل إلى تريليون و50مليار دولار فقط للتدريب،والتجهيز،والرواتب،وفي10سنوات على أقصى تقدير سيصل الرقم النهائي إلى10تريليون،و500مليار دولار، كل هذا الإنفاق العسكري الهائل والإنفاق الهدري أوصلا الاقتصاد الأمريكي إلى حالة التدهور , وَضح ذلك في الأزمة المالية التي عمّت وأثرت على أغلب دول العالم،،ففي عام2006ارتفع مجموع الدّين الفيدرالي إلى8تريليون،و198مليار دولار،وبلغ مجموع الفوائد المترتبة على هذه الديون7تريليون دولار وهي كافية لتغطية الضمان الاجتماعي لمدة10سنوات،والضمان الصحي لمدة20سنة،والرقم الأخير الذي أعلن عنه المترتب على الموازنة الاتحادية وصل إلى15تريليون دولار، كما وأن العجز في الميزان التجاري في زيادة مستمرة إذ باتت أمريكا تستورد أكثر مما تصدر .
إنها التكتيكات المطبقة لاستراتيجيات مقرة , والبيت الأبيض وفي الحادي والعشرين من أيلول2003أصدر وثيقة - إستراتيجية الأمن القومي - تضمنت الأسس للسياسة الخارجية منطلقة من معيار المصلحة القومية،وقسّمت العالم إلى أخيار وأشرار،ويشرح"توماس بارنت"في كتابه(خريطة البنتاغون الجديدة)وهو أستاذ العلوم السياسية في كلية أركان حرب البحرية الأمريكية ذلك مقسماً العالم إلى مجموعتين:
1- مجموعة الدول المتماسكة والمتواصلة في الثقافة والاقتصاد.
2- مجموعة الدول المفككة والمتخلفة الفقيرة، ويسميها دول"الفجوة".
ويرى أن على الفئة الأولى مواجهة العنف المتأصل في جماعات وأفراد دول الفجوة،وهذه الدول موجودة في الحوض الكاريبي،أفريقيا،البلقان،القوقاز،آسيا الوسطى،الشرق الأوسط،جنوب غرب آسيا،والكثير من جنوب شرق آسيا.
ولنلق نظرة على الواقع القائم حيث نجد مرتسمات هذه الاستراتيجية جلية واضحة،وخاصة في العالمين العربي والإسلامي . العراق،الصومال السودان،باكستان،أفغانستان،وفلسطين،وأضيف مؤخرا اليمن إلى القائمة ،فمن يتابع الأحداث اليومية لهذه البلدان يجد أن"مسالخ"وهو تعبير عامي عن مكان ذبح الماشية قد أقيمت بشكل دائم في هذه البلدان حيث يُقتل يومياً المئات تحت مسميات عدّة بفعل استغلال عوامل مختلفة..طائفية،وإثنية حَركّتها وأججتها"دول الصفوة".
إنه غيض من فيض،ومن أراد المزيد فلن يتكلف مشقة البحث والتنقيب فأجهزة الإعلام بتنوعاتها تنقل وفي اليوم الواحد أحداث مؤلمة جمّة خلفتها أمريكا وحلفاؤها.
والجديد فقد تطورت الأساليب،وتنوعت فلم يعد القتل الوسيلة الوحيدة لتحقيق المصالح،بل كان ردفها وتابعها الحرب على الثقافة والفكر،وكل المعتقدات الإنسانية، إمعانا في محاولات محو الشخصية الوطنية فقد طُلب و تغيرت المناهج المدرسية لخلق جيل مستكين،حتى أنهم وزعوا " قرآنا " مبتكرا أُلف من جديد،وبشكل مغاير تماماً لكتاب الله وقيمه،وتصاعدت الإجراءات مؤخراً فلقد قرر الكونغرس الأمريكي معاقبة الفضائيات والأقمار الصناعية،والطلب بمنع بث قنوات عربية معينة بأغلبية كبيرة، لقد صوّت مع القرار395عضواً بينما رفض فقط ثلاثة منهم القرار بحجة دعم"الإرهاب"وفي ذلك مخالفة كبرى لكل الشرائع الدينية،والسماوية،والأرضية،وحتى قرارات الأمم المتحدة وميثاقها.
وكالعادة،قال الرئيس أوباما الداعم للقرار أثناء وجوده في القاهرة وفي خطابه الشهير:"إن قمع الأفكار لا ينجح أبداً في القضاء عليها.إن أمريكا تحترم حق جميع من يرفعون آراءهم بأسلوب سلمي يراعي القانون،حتى لو كانت آراؤهم مخالفة لآرائنا،وسوف نرحب بجميع الحكومات السلمية المُنتخبة شرط أن تخدم جميع أفراد الشعب في ممارستها للحكم".
أين كل ذلك من الواقع؟!....لقد قُصفت مباني قناة الجزيرة في العراق، وأفغانستان، واستشهد بعض مراسليها كما قصفت قناة المنار أثناء العدوان الصهيوني على لبنان،كان ذلك زمن الرئيس السابق بوش , لكن في هذه الأيام فدوائر الاتهام تحوم حولهما وحول قناة الأقصى إذ ضبطت جميعها وهي تطلق رصاص كلمة الحق، وفي ذلك دعم " للإرهاب " ومخالفة بينة للقانون الجديد فلابد من معاقبتها و قمعها.
وسؤال....أين الحكمة التي تحدث عنها الرئيس"جيفرسون"؟!....
لقد ضاعت، وستضيع دائماً في التأثير المُباشر لاحتكارات السلاح، والنفط، وأسواق المال.
ويجب أن لا نستغرب مستقبلا ً، ولن يطول الزمن إن صدرت قرارات برلمانية جديدة تعتبر دمعة العين التي تُذرف على شهيد يدافع عن عرضه وأرضه وكرامته دعماً للإرهاب، ويجب أن نتوقع أن تُوزع علينا قطرات تجفف الدموع في أعيننا.
ألم تَمنع أقطار عربية إقامة بيوت عزاء لشهداء الأمة؟!....
وبعد.....من يُحدد لي موقع العقل في هذه السياسات المدمرة لكل شيء، أم أنها فقدته ودخلت في مراحل جنون العظمة؟!!..... والجنون بكل تفرعاته وأسمائه يوصل بشكل أكيد الى النهاية لكل من تلبسه .
محمد علي الحلبي
|