احداث 11 ايلول الامريكية خلعت قلب الاعلام العربي والدفاع عن المضطهدين وحقوق الانسان كان من ضحاياها: البرنامج الممنوع: عشر سنوات على ايقاف 'مقص الرقيب'
منذ عشرسنوات بالتمام والكمال، ظهر في المشهد الإعلامي العربي أول برنامج تليفزيوني يخصص ساعة كل أسبوع للدفاع عن أصحاب الرأي الذين ترهبهم الأنظمة ويخرسهم 'مقص الرقيب'، برنامج يتحدى الحكومات وأجهزتها الأمنية والرقابية لصالح الكلمة الحرة، إذا ما وقفت أمامها البندقية أو دُفع بها إلى ظلام السجون.
البرنامج ـ الذي نلت شرف إعداده وتقديمه على قناة أبو ظبي ـ صمد لنحو عامين.. تباهى خلالهما بدعم مموليه، الذين حملوا عنه عبء الرد على المنتقدين من وزراء الإعلام ورجالهم، حتى قرع الأسماعَ شهيقُ الغضب الأمريكي، فأغلقت المسارح الإعلامية أبوابها، ولاذ الجميع بالجحور، وعندما ظن البرنامج أن تلك هي لحظته التاريخية في زمن الجبن والنفاق، وظل واقفاً يواصل كشف الممارسات الرقابية في بلد عربي.. إذا بيد الرقيب تطاله، وتمنعه بنفس الذرائع التي بررت وجوده من قبل.. خمسون قضية رأي دافع عنها البرنامج لم تشفع له، بل تحولت إلى خمسين سبباً للقضاء عليه.. وارتاحت الأنظمة، فلم يعد هناك من يقض مضجعها مساء كل أحد بكلمة حرة ورأي جريء.. لم تعد أشباح المضطهدين تسكن كوابيس الوزراء والغفراء بعد كل حلقة، ولم يعد محمد سعيد يعيد على أسماعهم مرات ومرات ما شطبوه من مقالات وما حذفوه من كتب.
قصة وقف هذا البرنامج تؤرخ للصدمة التي خلعت قلب الإعلام العربي مع أحداث الحادي عشر من ايلول (سبتمبر)، كنت حينئذ في باريس أستمع إلى شهادات بعض المعارضين العرب على انتهاكات حقوق الإنسان في بلادهم.. لم تمض ساعات على هجمات نيويورك حتى تلقيت اتصالاً من مدير مركز الأخبار في تليفزيون أبوظبي يطلب مني إلغاء موعدي مع أحد المعارضين، ويرجوني بنبرة مضطربة أن 'أقدر الموقف'..! لم يسبق لأي من مسؤولي القناة قبل هذا اليوم البائس أن يسألني حتى عن عنوان الحلقة المقبلة.. فعلها مرة واحدة الشيخ عبد الله بن زايد عندما كان وزيراً للإعلام، كنت أنتظر السائق بعد احتفال جوائز الصحافة بدبي عام ألفين، وتوقف أمامي الوزير بسيارته التي كان يقودها بنفسه، سألني مدفوعاً بالفضول عن 'معركتي القادمة'، فأجبته بعد لحظة تفكير: ستكون حول فكرة إلغاء وزارات الإعلام في العالم العربي! انتفض أحد مستشاريه الصحافيين على مقعده بالسيارة، وصاح مندداً بالفكرة.. فقاطعه الوزير مبتسماً، وقال لي بثقة: فكرة جيدة، سأكون أول المؤيدين لها.
كان مفتاح البرنامج بيدي، فما الذي حدث؟ كيف عرف المسؤول بموعدي مع المعارض؟ هل كنت مراقباً؟ وممن؟ هل علمت استخبارات البلد العربي موضوع الحلقة ـ مثلاً ـ بخطتي وأبلغتها لحكومتها، التي اتصلت بدورها بتليفزيون أبو ظبي عبر قنوات رسمية أو غير رسمية؟ أغلقت السماعة وضربت كفاً بكف، وصرت أنظر حولي وأنا أسير في شوارع باريس، قضيت الأمسية مع هيثم مناع المتحدث باسم اللجنة العربية لحقوق الإنسان نشاهد بذهول عرضاً متكرراً لانهيار البرجين الأمريكيين.. لكن كلمات مدير الأخبار كانت تعلو في أذني على صوت الانهيار: 'أرجو أن تقدر الموقف'..!
ألغت أوروبا رحلاتها إلى الإمارات، وقضيت ليليتين إضافيتين في باريس، وعندما عدت إلى أبوظبي كان وجه القناة قد تغير.. كل النشرات والبرامج صارت تحلل وتنظّر للحدث الجلل، الذهول الذي اكتست به ملامح المسؤولين انعكس على شكل الشاشة، أحسست بأن شعار القناة يرتجف.. قلبت بين القنوات العربية الأخرى فلم أجد فرقاً.. فيصل القاسم اختفى من على شاشة 'الجزيرة'..الإعلام العربي كله انكمش وانطوى على ذاته، وحتى المشاهد ـ فيما هيىء لي ـ لم يعد يفهم شيئاً مما يجري!
في هذا الخضم، سلمت نص الإعلان الترويجي لحلقتي المقبلة إلى قسم التسويق.. تضمن النص سؤالاً بارزاً عمن ينتهك حقوق الإنسان 'في ذلك البلد الشمال افريقي'. كانت فتاة من ذلك البلد تقول إنها اغتصبت في زنزانتها تنتظر أن يصل صوتها للعالم من خلال هذه الحلقة، وكانت هذه الفتاة أهم عندي من جورج بوش شخصياً، وبالتالي فلم أجد ما يبررتأجيل الحلقة.. فتأجيلها كان يعني مزيداً من الانتهاكات ـ إن صحت ـ في ذلك البلد.
وبينما انهكمت في مونتاج الحلقة، كان الإعلان الترويجي يأخذ طريقه إلى الشاشة بعد تهيئة الصور المناسبة.. لم أخرج من غرفة المونتاج لمدة يومين متتاليين لتجهيز الحلقة في موعدها، ومن ثم لم تتسن لي مشاهدة الإعلان قبل بثه.. ولا أتصور أن أحداً من مسؤولي القناة شاهده في حينها، وعندما أذيع الإعلان قامت الدنيا ولم تقعد.. فلم يكن المعادل البصري للسؤال المطروح سوى لقطات لرئيس عربي، كان مشغولاً في ذلك الوقت بالإعداد لحملة رئاسية.. وصار الأمر كما لو كنا نقول إن هذه هي الإجابة، وإن الرئيس هو من ينتهك حقوق الإنسان في بلاده.
وفي صباح السادس عشر من ايلول (سبتمبر)، أيقظني زميلي الحبيب الغريبي ـ الذي صار فيما بعد وجهاً محبباً على قناة 'الجزيرة ' وسألني عبر الهاتف عما ستتضمنه حلقتي بالضبط، وشعرت من حذره أن أمراً ما يدور، قلت له إن ممارسات الرقابة واحدة في كل الدول العربية، ويمكن لأي أحد أن يتوقع ما سيدور في أي حلقة قبل إذاعتها، الجديد فقط هو الأسماء والوجوه.. لم يرض كلامي فضول الحبيب، فصرح لي بأن السفارة ـ كما علم بطريقة ما ـ قلقة، ولم يزد على ذلك.. لكنني طمأنته، فقد أهداني الكثير من وزراء الإعلام والسفراء ومستشاري الرؤساء العديد من خطابات الاحتجاج واللوم بل والتهديد أحياناً.. ولم يفت ذلك في عضد البرنامج، ولا إدارة القناة.
عندما ذهبت إلى مقر التليفزيون، كان مزدحماً كعادته منذ وقعت هجمات نيويورك، لم يكن من حديث في الكافيتريا سوى عن مقاصد الخطاب الأمريكي والضالعين المحتملين.. لم أكمل قهوتي حتى اتصل بي مدير عام المؤسسة، كانت هذه هي المرة الأولى التي يتصل بي فيها منذ التحقت بالتليفزيون في العام 1999.. أخبرني بمنتهى الود أنه شاهد نسخة من الحلقة، وأنها لا تختلف كثيراً عن أي حلقة سابقة.. كان حكيماً بحيث لم يصرح برأيه ولا قراره.. لكن المكالمة أضافت لدهشتي مما يدور في الكواليس.
كنت أنتظر كعادتي أمام شاشة التليفزيون قبل موعد بث الحلقة بدقائق.. كان برنامج 'أسواق' يناقش على الهواء الآثار الاقتصادية لأحداث البرجين، انقضت الساعة، وحان الموعد المقدس لمقص الرقيب، الموعد الذي لم يخلفه البرنامج طيلة الأشهر الثمانية عشر الفائتة.. قال لي ذات مرة طبيب فلسطيني ـ زوج مراسلتنا في ذلك الوقت ليلى عودة ـ إن مريضه رفض استكمال خلع ضرسه ليلحق بموعد البرنامج.. وقال لي مهندس في دبي إنه يتجشم عناء الهبوط من الجبل الذي يقيم ويعمل به كل أسبوع ليشاهد 'مقص الرقيب'.. وقالت لي فتاة من رام الله أنها كانت تتحمم وتغير ملابسها لتشاهد البرنامج في كامل أناقتها!
حان الموعد، لكن البرنامج لم يظهر.. عاد برنامج 'أسواق' بعد الفاصل الإعلاني من دون التنويه عن إلغاء حلقة 'مقص الرقيب' أو تأجيلها.. اتصلت بمدير التليفزيون، الذي قال معتذراً إن الأولوية الآن لتغطية أحداث نيويورك وآثارها، أما 'مقص الرقيب' فسيذاع الأسبوع المقبل.. عدت لمنزلي حائراً، وأمام المصعد رن هاتفي، كان مدير التليفزيون مرة أخرى، يطلب مني أن أعود لمكتبه على الفور..
بنظرات زائغة، أبلغني المدير بالقرار الحاسم الذي اتخذته المؤسسة بعد مداولات واسعة، وهو وقف برنامج 'مقص الرقيب' نهائياً.. 'لقد صنع البرنامج تاريخاً يشعر ـ هو قبل أي شخص آخر ـ بالفخر لأنه ينتسب لعهده وإدارته'، هكذا أضاف مواسياً.. سألته بعد لحظات صمت: لماذا؟ وما الذي تغير؟ لم أكن في هذه الحلقة أشد قسوة على السلطات من الحلقات التي سبقتها؟ فأجاب كمن يبحث عن الكلمات: إن الإعلام العربي يعيد حساباته، لن يعلو صوت بعد الآن، الكل يترقب، سياسة إعلامية جديدة على الأبواب.. فيصل القاسم نفسه اختفى من 'الجزيرة'، وإذا عاد فلن يعود بوجهه القديم، هل ستكون أفضل من فيصل القاسم؟ سألني فلم أجب.. وانصرفت!
في الطريق إلى المنزل ساعدتني ظلمة منتصف الليل على استعادة أبرز معارك البرنامج، تذكرت لقائي بالرئيس اليمني علي عبد الله صالح الذي ألغى بعده حكماً بمنع الصحافي جمال عامر من الكتابة، وتذكرت اشتباكي أثناء التصوير مع المستوطنين اليهود والجنود الإسرائيليين في مدينة الخليل الفلسطينية، ثم صدور قرار من الخارجية الإسرائيلية والشاباك بوضعي على لائحتهما السوداوين، وتذكرت حواري الساخن مع وزير الإعلام الإماراتي الذي توقع الجميع أن يفصلني بعده، لكنه لم يفعل.. وتذكرت القائم بأعمال السفير العراقي في لندن عندما استبقاني في السفارة للاستيلاء على شرائط التصوير، لعدم بث أسئلتي الحافلة بالاتهامات للنظام العراقي، وتذكرت البلطجية الذين أرسلهم لي رجل أعمال في مصر بعد مساءلته حول ابتزازه للصحافيين، وتذكرت مقابلاتي مع أبو حمزة وأبو قتادة وعمر بكري في لندن، ودفاعي عن طارق أيوب مراسل 'الجزيرة' ـ الذي استشهد فيما بعد ـ بعد اعتقاله أثناء تغطية ذكرى النكبة.. عشرات الصحف والكتب والقصائد والمسرحيات والأفلام كانت تتحصن بهذا البرنامج، مجدي أحمد حسين رئيس تحرير صحيفة 'الشعب' المحظورة قال لي عام ألفين إن صحيفته منعت في مصر، لكنها كانت تصدر كل أسبوع على قناة أبوظبي.. أحد النقاد كتب في 'الحياة' يقترح أن تضاف حلقة البرنامج عن معتقل الخيام إلى ملف محاكمة شارون.. لم يكن 'مقص الرقيب' برنامجاً، لقد كان جيشاً عنيداً في معركة أبدية، لكنه خرج منها مهزوماً بخيبة أمل..
لم يكن شعور الإمارات في تلك الأيام أفضل حالاً، فقد كان الغرب يظن فيها الظنون بعد أن حامت الشبهات حول المواطن الإماراتي مروان الشحي في دوره بتفجيرات نيويورك، وكانت الحكومة الإماراتية بحاجة إلى دعم العرب في تلك الورطة، وبخاصة تلك الدولة العربية التي تحظى بثقة الولايات المتحدة منذ لعبت دوراً فاصلاً في الاتصالات السرية التي مهدت لتوقيع اتفاقية أوسلو في العام 1993.. كيف لمجرد برنامج تليفزيوني ـ أياً كانت رسالته ـ أن يفسد خطة الحشد السياسي تلك، التي ستقوم بها كل أجهزة الدولة، بما فيها الإعلام؟
فيما بعد، علمت أن تلك الدولة احتجت بالفعل فور بث الإعلان الترويجي لدى جهات عليا في الإمارات، وهددت بقطع العلاقات الديبلوماسية إذا تمت إذاعة الحلقة.. كان طلب عدم بث الحلقة في الواقع متواضعاً، لكن قرار منع البرنامج كان كريماً.
الرهان الذي فاز فيه البرنامج أنه عاش ثمانية عشر شهراً في عرين قناة حكومية، قال ما قال في ظل إعلام رسمي، ولولا فاجعة ايلول (سبتمبر) لربما عاش أكثر.. أذكر أنه في ايار ( مايو) من العام ألفين اتصل بي مدير الأخبار بـ'الجزيرة'، ودعاني لزيارة قطر، وهناك استقبلني هو ومحمد جاسم العلي مدير عام 'الجزيرة'، ليقترحا انتقال البرنامج كما هو إلى قناة 'الجزيرة'.. قالا إن المكان الطبيعي لمثل هذه الفكرة هو قناة مستقلة وليست حكومية.. لكن قناة أبو ظبي بذلت كل المساعي للحفاظ على برنامجها وإقناعي بالبقاء.
اليوم ذكرى مولد برنامج، مات غدراً وهو يدافع عن الحرية، وفي ظل غياب الحرية عن عالمنا، وأمام العشرات من برامج التنفيس غير الصادقة وغير المهنية.. لا نملك جميعاً إلا أن نقرأ على روحه الفاتحة!
إعلامي مصري مقيم في بريطانيا
القدس العربي 30/1/2010
m.said.mahfouz@googlemail.com
|