جاء الإسلام بمفهوم الأمة-الجماعة المؤمنة في مقابل القبيلة ورابطة القربى، وبدا في المرحلة المكية العديد من معالم الصراع بين الانتماءين. وفي المدينة، تصاعد دور الإسلام في الحياة المعيشة، إلا أن هذا التصاعد لم يلغ تماما وجود التعبيرات السلطوية ما قبل الإسلامية (دور سيد الأوس وسيد الخزرج أو اعتماد الصحيفة مبدأ العصبات مثلا).
بدأ دور هذه التعبيرات في التراجع أمام تعدد طبيعة الاعتناق الإسلامي والانتشار الأفقي للدين الجديد. لكن الانتشار الأفقي هذا لم يترافق بتغييرات فعلية في صفوف الأطراف الجديدة المنضمة سواء عبر الوفود أو إثر الغزوات. الأمر الذي سيظهر للعيان يوم وفاة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) في حدثين تاريخيين في غاية الأهمية:
الأول، بيعة السقيفة التي كان أفضل من تناولها، من وجهة نظر متقدمة، أبو حيان التوحيدي في رسالة السقيفة المنسوبة لعمر وأبي بكر. هذه الرسالة تؤسس لرفض منطق ولاية العهد القائمة على عصبة القرابة: من جهة الإصرار على لسان الشيخين برفض الملكية أولا: "لسنا في كسروية (من نظام كسرى) ولا في قيصرية (من أنموذج القيصر)". ونسبة قول عمر لعلي ثانيا: "ولعمري إنك أقرب منه (يعني أبا بكر) إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قرابة، ولكنه أقرب منك قربة، والقرابة لحم ودم، والقربة روح ونفس، هذا فارق عرفه المؤمنون، ولذلك صاروا إليه أجمعون".
أما الثاني، فهو حروب الردة التي شملت تقريبا ثلاثة أرباع من شملتهم سلطة الدولة بشكل أو بآخر. لقد تعاملت معظم القبائل العربية مع الدولة الناشئة على أساس الولاء أكثر مما كان تعاملها على أساس الانتماء. الولاء بالمعنى القبلي كعلاقة متبادلة غير متكافئة، كإعادة إنتاج "فرضي" لعلاقات القربى تضطر أن تلجأ لها القبيلة عندما تكون في وضع غير متكافئ مع الآخر.
هنا تكمن الأهمية الاجتماعية السياسية لنتائج حروب الردة التي أعادت من عاد من المرتدين ليس فقط لدفع الزكاة، بل لأخذ أربعة أخماس الغنائم بانضمام قطاع واسع منهم مباشرة إلى صفوف الجيش الإسلامي. أي أنها شكلت بالنسبة للقبائل انضماما إلى الأمة، كقبائل، بما يعنيه الانضمام من مساواة في الانتماء إلى الجماعة بصيرورتهم طليعة الأمة المقاتلة. في وفودها وبيعتها، ردتها وعودتها، حافظت القبائل الأعرابية ومعظم القبائل الحضرية الريفية باستمرار على تكويناتها السلطوية على حالها.
وفي انطلاقة الجيوش العربية خارج الجزيرة خرجت القبائل المحاربة إلى الأمصار بنسائها وأبنائها لتبني معسكراتها وسكناها وفق تقسيمها القبلي، حيث تم تنظيم عطائها وقتالها في ديوان الجند مع النسابة. وكان سيد القبيلة وسيط الخلافة عند قبيلته، والي أمور قومه والمسؤول عما يبدر منهم. وفي معظم جيوش الفتوح الأولى كانت رايات القبائل ترافق راية قيادة الجيش التي تشمل قائدا عاما وقيادات محلية لكل جماعة قربى مقاتلة. بحيث يبدو الجيش وكأنه تحالف بين قبلي-بين إقليمي ذو قيادة واحدة تعينها الخلافة وقيادات لجماعاته تحددها موازين القوى في هذه الجماعات.
يعتبر النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) رمز القطيعة مع أنموذج الوراثة السياسية والدينية. ويعزز رأينا أحاديث تنفي أية صيغة للتوريث والإرث عند الأنبياء عامة ورسول الإسلام بشكل خاص. وقد أكد القرآن الكريم على تفريد المسؤولية والولاية السياسية والجنائية. فينسب للنبي محمد (صلى الله عليه وسلم) قوله: "يا معشر بني هاشم! لا يأتيني الناس بالأعمال وتأتونني بالأنساب". روى أبو داود عن النبي قوله: "ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية". وله في نقد النصرة العمياء ما رواه البيهقي وأبو داود: "من نصر قومه على غير الحق فهو كالبعير الذي ردي، فهو ينزع بذنبه".
كانت الفترة الأشد خصبا وتنوعا في الانتقال السياسي بين خليفتين تلك التي شهدها الإسلام الأول من خلافة أبي بكر إلى وفاة معاوية بن أبي سفيان، ويمكن تكثيفها كالتالي:
1- تكوين رئاسي للأمة (بجملة صلاحيات سيد القبيلة)، حصر الخلافة في قريش، مساواة القبائل والعصبات في القتال (أبو بكر الصديق: 632-634م).
2- تكوين رئاسي، تخليف أبي بكر لعمر تحديدا، ظهور المراتبية في البنية المقاتلة، الخلافة وجهاز العاصمة من قريش المهاجرين والأنصار، الولايات موزعة (عمر بن الخطاب: 634-644م).
3- تكوين رئاسي في خيار بين ستة أشخاص حددهم عمر، تأكيد المراتبية في البنية المقاتلة، الخلافة وجهاز العاصمة والولايات في بني أمية وبني أبي معيط من قريش مكة (عثمان بن عفان: 644-656م).
4- تكوين رئاسي، مبايعة من المنتفضين على خلافة عثمان، استمرارية في البنية المقاتلة، الخلافة وجهازها بشكل أساسي في بني هاشم والأنصار (علي بن أبي طالب: 656-661م)
5- تكوين وراثي حصرا في بني أمية، ضبط جهاز الدولة عبر هيمنة أموية، تحالف مع قبائل يمنية، ولاءات شخصية..".
من المتفق عليه لدى علماء التاريخ الاجتماعي أن السمة الأساسية لبناء الدولة في أنموذجها هذا قامت على اعتبار صلاحيات الحاكم (النبي ثم الخلفاء) هي التي ستخلق للدولة جهازها الذي تبع استلام الحاكم.
بكل الأحوال، أصّلت هذه النماذج أسس الصراع على النظرية السياسية في الثقافة العربية الإسلامية، وكانت باستمرار المرجعية المركزية للعلاقة بين الخليفة وجهازه والحاكم ومن يأتي بعده. وقد تناوب التياران الرئيسان في معركة صفين في عام 36 للهجرة على نقد ورفض عصبية القربى والوراثة في الحكم إلى حين تأصلت الوراثة في دولة معاوية وفي المدرسة الشيعية لاحقا كقيمة إيجابية في الدولة والدين.
ولكن مهما كانت النزعة لتصوير الوراثة جزءا من التراث الأول، فإن هناك ما يزعزع ذلك في رهط من الأحاديث والأقوال والحوادث نروي منها على سبيل المثل لا الحصر محاولات العديد من القبائل العربية مساومة النبي على خلافته مقابل مبايعته.
ومعروف لأهل السنة والشيعة ما حدث مع النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) عندما عرض نفسه على بني عامر بن صعصعة فيما ينقله ابن هشام في السيرة قال: "قال له رجل: "أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: الأمر لله يضعه حيث يشاء". وهناك أحاديث كثيرة عند المدرسة الجعفرية والمدارس السنية الأربعة ناهيكم عن المعتزلة والخوارج والإسماعيلية تؤكد مبدأ استعمال ولاية الأصلح بالشورى إن كان إماما أو في التعيين من الإمام. وبعضها يصل لتخوين من يفعل ذلك "من ولي من أمر المسلمين شيئا، فولى رجلا وهو يجد من هو أصلح للمسلمين منه فقد خان الله ورسوله".
ويروي ابن تيمية عن عمر بن الخطاب قوله: "من ولي من أمر المسلمين شيئا فولى رجلا لمودة أو قرابة بينهما، فقد خان الله ورسوله والمسلمين". ويعتبر العديد من المؤرخين ما نسبه أبو بكر للرسول (صلى الله عليه وسلم) عشية السقيفة من أن الإمامة في قريش وليد الدافع السياسي لتعارضه مع روح القرآن الذي يعطي الوراثة مطلقا للمستضعفين في الأرض عامة.
وبالإمكان القول إن الميراث الشيعي الذي دافع عن الولاية والوراثة في أهل البيت لا يخلو من إشكاليات على صعيد الإقرار بالشورى والقربى كلاهما. فمن جهة، يقر كبار الأئمة بمبدأ أولوية العدل على القرابة الذي نص عليه القرآن "وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى" (الأنعام 152).
يروي أهل الأخبار عن عمر بن الخطاب قوله لعثمان بن عفان: "لا تجعلن بني أبي معيط على رقاب الناس". ويتفق مؤرخو الحقبة الراشدية على أن الانتفاض على عثمان إنما كان على قريش وبشكل أدق بطون بني أمية وبني أبي معيط.
لقد كان رفض المنطق العائلي والوراثي في الحكم متأصلا عند الثوار المسلمين الأوائل باعتباره في صلب الإسلام، في حين أن الوراثة والعائلية من جاهلية العرب والعجم. وحتى الإمام علي بن أبي طالب لم ينج من النقد عند تعيين ثلاثة من أبناء العباس حيث قال له صاحبه الأشتر بن مالك النخعي: "ففيم قتلنا الشيخ إذن؟" في إشارة لمقتل عثمان لتسليمه أبناء عصبته الولايات الأساسية.
لعل البيعة الجماهيرية للحسن بن علي، كذلك للعديد من رموز الخوارج كانت الرد على منطق وراثة الحكم بصلات الدم والقربى. وفي حين اتفقت فرق الخوارج على اعتبار اختيار المسلمين للخليفة والعدل واجتناب الجور بعد تولي الخلافة من مقومات الإمامة الكبرى في الإسلام، أصلت الخلافة الأموية وراثة الخلافة العائلية باعتماد سياسة القوة أولا وقوة الطابع العصبي للسياسة من جهة ثانية.
"نجح" معاوية بن أبي سفيان، بعد الوفاة المشكوك في أسبابها لولي العهد المتفق عليه (الحسن بن علي) في توريث الخلافة لابنه. الأمر الذي زرع قواعد الاستبداد الوراثي في التاريخ العربي الإسلامي. ولكنه، لحسن الحظ، لم ينجح في إدخال التوريث في النظرية السياسية في الإسلام. لهذا أصر أهل العلم على رفض الخلافة عبر ولاية العهد الملكية، وميزوا دائما بين الخليفة والملك، باعتبار أكثر المشابهات بين الخلافة والملكية هي تلك المتعلقة بالحكم مدى الحياة وفيما عدا ذلك ثمة افتراق كامل بينهما.
ظهر التشدد في رفض ولاية العهد، كما يشير الهادي العلوي في تولي عمر بن عبد العزيز الخلافة. فبعض الفرق أيدت سياسة عمر بعد أن اتضح أنها تجري في خط مغاير لأسلافه، في حين ذكر البعض الآخر بأن عمر جاء عن طريق ولاية العهد، إذ أوصى به سليمان بن عبد الملك واستخلف بناء على هذه الوصية. وبالتالي فالطريقة التي وصل بها عمر إلى الخلافة باطلة.
للتخلص من هذا الإحراج لجأت المعتزلة إلى المغالطة، فادعت أن عمر استحق الخلافة لا لأجل العقد المتقدم من سليمان وإنما لأجل رضا أهل الحل والعقد (ابن المرتضى). وينسب لسفيان الثوري رأي مختلف يقول: "أخذ عمر الخلافة بغير حق ثم استحقها بالعدل". وفي الأثر واقعة هامة في التاريخ العربي الإسلامي تتعلق بولاية العهد: "لما مات يزيد بن معاوية أراد بنو معاوية مبايعة ابنه معاوية الثاني وارثا لأبيه وفقا للتقليد الذي وضعه جده معاوية الأول. استشار معاوية الثاني أستاذه عمر المقصوص صاحب المذهب القدري المناهض للحكم الأموي فقال له: إما أن تعدل وإما أن تعتزل، فنظر في أمره كيف يختار، وكيف يمكن أن يكون عادلا إذا اختار البقاء في منصب الخلافة. فما كان منه إلا أن اعتلى منبر المسجد وخاطب أهل دمشق قائلا: "أنا قد بليت بكم وابتليتم بنا، لا أحب أن ألقى الله بتبعاتكم. فشأنكم وأمري (أي أترك لكم الخلافة). فتصرفوا فيه كما تريدون. ولّوه من شئتم. فوالله لئن كانت الخلافة مغنما لقد أصبنا منها حقنا وإن كانت شرا فحسب آل أبي سفيان ما أصابوا منها".
كما أن كتب المدينة الفاضلة ومنطلقات النظرية السياسية الإسلامية بعد التراجم من اليونانية لم تعط الوراثة أي حق شرعي بقدر ما ربطت موضوع الخلافة بالكفاءة والخلق والتفقه في الدين والدنيا. بل على العكس من ذلك، انتقلت فكرة الشورى إلى الفقه، فاعتبر الخلافة غير شرعية إذا استندت إلى القهر والغلبة واشترط لصحة الاستخلاف استناده للشورى التي أصبح تعريفها "حق مجموع المسلمين في اختيار الخليفة".
أدخل الأنموذج الليبرالي الاستعماري المؤسسات الغربية ولو بشكل مشوه وإيديولوجي وناقص. أما تعبيرات المقاومة السياسية والمسلحة فقد أصلت التحدي الأكبر للتثاقف البنّاء، تحدي اكتشاف الذات واكتشاف الآخر والبحث عن سبل الانتصار على الآخر لدخول التاريخ طرفا شريكا لا خانعا مستعبدا.
ومع تسلم الضباط الوطنيين في مصر والعراق وسورية والسودان والجزائر.. وضع مفهوم المواطنة على قربان الوطن وتمت التضحية باستقلال القضاء باسم قضاء الثوار، وصودر حق الخلاف باسم الوحدة الوطنية. وبذلك ضرب التسلط العربي المقومات الجنينية للمجتمع المدني التي نشأت في ظل الأنموذج الليبرالي الاستعماري والمقاومة الوطنية. ولا ضير بعد هذا أن نشهد نماذج لا تعرف معنى مذكرة التوقيف ويختفي فيها الأفراد دون حسيب ولا متتبع ولا مطالب، ويسجن رواد المعارضة السلمية لربع قرن دون محاكمة، ثم يجري الحديث عن ثورة وجمهورية واشتراكية وتحرر إلى ما هنالك من شعارات مفرغة من كل معنى.
مع سقوط النظم السياسية لحلف وارسو، لم تعد إيديولوجية العسف باسم الوطنية والتقدم تقنع حتى أصحابها. إلا أن العقود المستديمة للتسلط تركت المجتمع جريحا منهك القوى مشّوه الوعي. ولا يمكن الحديث، في رأينا، عن اغتيال الجمهورية واغتيال مبدأ الديمقراطية لصالح ولاية العهد فقط منذ أشهر أو سنة أو سنوات.
فالمسألة أعمق من ذلك: لقد فشل الأنموذج التسلطي العربي في بناء الجمهورية وفشل في بناء دولة قانون ودستور. واغتال عن سابق إصرار وتصميم حق المواطنة ومقومات المجتمع المدني باعتباره يفتقد للشرعية بكل المعايير السياسية الحديثة. لم يكن بوسعه الاستمرار إلا بـ"شرعية الأمر الواقع"، أي بالعسف الصلف والتوظيف السيئ للسلطة على أسس عصبية ما قبل المدنية.
فمع اختلاف أشكال وصولها للسلطة واحتفاظها بها، تلاقت السلطات التسلطية العربية على ضرورة إلغاء المواطن المشارك المسؤول، المواطن المدرك لحقوقه والواعي لدوره كمقرر لبنية الدولة وطبيعتها وشكلها ومؤسساتها، بكلمة، الشعب يقرر مصير الدولة. إلا أن علاقة الهيمنة الغربية وضعف المؤسسات الديمقراطية أنجب دولة عصبية أمنية لا تتقاطع مع الدولة الحديثة إلا في تحديث وسائل القمع وأدوات تدنيس الوعي.
في حين أنها استحضرت في تجمعات المصالح العسكرية والمدنية، السياسية والاقتصادية للسلطة الجديدة، العلاقات العضوية التاريخية كنقطة ارتكاز لاحتفاظها بالسلطان واغتيال مبدأ التداول. وهكذا شهدنا في النظام العربي المعاصر جمهورية غير تعاقدية وملكية غير دستورية الأمر الذي سهل تحول مؤسسة الدولة إلى مزرعة عائلية مع التهميش المتصاعد لمبدأ تقسيم السلطات والمشاركة في المسؤولية الوطنية والمواطنية في الكيان السياسي الواحد.
وفي هذا السياق، يمكن اعتبار مصر الانتكاسة الرمزية الكبرى لأنها تحمل مواصفات أساسية للدولة وليست حكومتها مجرد سلطة كما هو الحال في تونس وسورية وليبيا والسودان واليمن.
هل يمكن الخروج من حالة الاستعصاء التي تفرضها التكوينة الأمنية-العصبية على الدولة والمجتمع بالطرق السلمية والانتقال المحدود الخسائر؟ لا شك في أن الإجابة عن هذا السؤال ستحدد المدى الزمني لعودة العرب إلى التاريخ الإنساني، بتعبير آخر، خروجهم من أنماط الحكم العربية القديمة.
|