هل انتهى المشروع الديمقراطي العربي ؟
د منصف المرزوقي
لا يستطيع كل من يتابع صيرورة المشروع الديمقراطي العربي الذي انطلق في
السبعينات أن يقاوم انطباعا بأن هناك لعنة تصاحب هذا المشروع كأن كل قوى السماء
والأرض تضافرت لإجهاضه . حقا تواصل فكرة
التقدّم تسميم فكرنا حيث يعتقد الديمقراطيون- مثلما اعتقد يوما القوميون والاشتراكيون
واليوم الإسلاميون(تتغير أشكال الإيمان والحاجة واحدة) أن ما يترجون وما يسعون إليه قدرنا "الحتمي".
إلا مثل هذا التفاؤل لا يمكن أن يخفي أن الرياح تجري بما لا تشتهيه السفن وأن المشروع العربي انطلق وتواصل بسوء طالع متين.
ففي أوروبا الشرقية وأمريكا الجنوبية وبعض بلدان آسيا،
التي كانت هي اٍلأخرى ترزح تحت أنظمة استبدادية كالتي تعاني منها أمتنا، تقدمت
الديمقراطية بسهولة لأنها كانت البديل
الوحيد. فلم يكن فيها حركات تتوجه لأحشاء الجماهير لدعوتها إلى الأرثوذكسية
أو للكاثوليكية أو البوذية السياسية. أما الحركة الديمقراطية العربية فقد وجدت
نفسها من البداية في تنافس مع غريم قوي
وموجود على الساحة قبلها ويعتبر نفسه هو البديل الوحيد المؤهّل لوراثة الاستبداد،
جاهلا أو متجاهلا أن سبب فشل الوطنية والقومية والاشتراكية لم يكن نتيجة نقص في
نبل الأهداف وإنما نتيجة تدنيس
كل هذه الأهداف بالاستبداد.....وأن هذا بالضبط ما ينتظر أي حلّ ولو كان الإسلامي لأن نفس الأسباب تؤدي دوما لنفس
النتائج.
وعلى امتداد الوطن العربي لم يوجد نظام واحد له من سعة
الأفق ومن الوطنية ما يجعله يبادر بإصلاح نظام سياسي أصبح واضحا أنه عبء ثقيل على
الشعب. على العكس من هذا واجهت كل الأنظمة مطالب الإصلاح الديمقراطي بمزيد من
التصلّب والقمع أو بالتسويف والمماطلة أو التزييف المفضوح.
ومما زاد الطين بلّة أن كبرى الدول الغربية التي كانت
حليفة للمشروع الديمقراطي في أوروبا
الشرقية وأمريكا الجنوبية وآسيا، لعبت ولا
تزال على العكس دورا بالغ السلبية في ضرب المشروع
العربي عبر آليتين مختلفتين.
فطوال السبعينات كانت السياسة الأوربية والأمريكية
تتعامل دون عقد مع كل الدكتاتوريات العربية بدءا بدكتاتورية صدّام غير عابئة
بولادة وتطور المجتمعات المدنية وتطلعاتها . لقد سكتت الإدارة
الأمريكية عن تطلعات المجتمعات المدنية العربية دهرا ثم نطقت كفرا. فهي حين انتبهت
لصحة ما قلناه دوما أن الاستبداد هو أب
الإرهاب تصرفت بكيفية خرقاء دعمت كليهما .
إن كل تقييم موضوعي نزيه لاحتلال العراق على دمقرطة حقيقية في العالم العربي لا يمكن إلا أن
يلخّص في المثل العامي " جاء يطببها ( العين) فعماها".
لقد شكّل التدخل الأمريكي، سواء عبر هذا الاحتلال أو عبر
إرادة فرض الحل الشرق الأوسطي الكبير، أكبر ضربة للخيار الديمقراطي وأكبر دعم للخيار الإسلامي والإرهابي. إن احتلال عاصمة عربية لها مكان خاص في المخيال
العربي وما تقدمه شاشات التلفزيون كل مساء
من صور الخراب والدمار والفوضى و الفساد والطائفية،
كل هذا باسم فرض الديمقراطية، إضافة لملفات
أبو غريب وغوانتنامو ومشروع ضرب الجزيرة وصكّ البراءة للقذافي.... جملة الأسباب التي أدت إلى الصورة المشبوهة للديمقراطية في قلوب وعقول عامة الناس، لأنه يصعب في السياسة أن تفصل
الأفكار والقيم عن الممارسات وخاصة عمنّ نصبوا أنفسهم حماة لهذه القيم.
لا شكّ أن انهيار صورة الديمقراطية من بين الأسباب التي تعطي للإسلاميين أينما توفّر الحد الأدنى من الحرية الانتخابية
القدرة على احتلال المواقع وتهميش القوى
التي ناضلت من أجلها.
وبالطبع يزيد أمر كهذا من قلق قطاعات واسعة من هذا المجتمع
المدني وكم من مجموعات داخله لا تجاهر بالأمر لكنها بصدد مراجعة حساباتها حول جدوى ديمقراطية تحمل
لسدة السلطة الإسلاميين مفضلة بقاء دار لقمان على حالها .
لكن أخطر ما في مأساة مشروعنا ما فضحته الانتخابات المصرية الأخيرة من تصرفات كانت إلى حدّ الآن مجهولة العمق
والانتشار.
إن الديمقراطية في جوهرها قبول بالتعددية وبحقّ المخالف
في الرأي في الوجود. هي حرب سلمية تستبدل فيها الأسلحة بالكلمات وتصطف الجيوش
المتحاربة عشية الانتخاب لتحصي قواها فينصرف المهزوم ورأسه فوق كتفيه ويتولى
المنتصر دون أن يكلفه النصر قطرة واحدة من الدم . لكن أن نرى في مصر – وبصفة أفظع
في العراق- السكاكين والسيوف والهراوات كأداة انتخابية فمعناه أن جوهر الديمقراطية
غائب وأن هذه الانتخابات لا علاقة لها بها أصلا. أضف إلى هذا المهازل التي رأيناها
في الانتخابات المغربية واللبنانية حيث يشكّل المال والإشهار والديماغوجية وسائل
شبه طبيعية للفوز بالمقاعد البرلمانية وكأنها كعكة يجب دفع جزء من ثمنها للناخب
لاستردادها يوما قريبا من نفس الناخب عبر وسائل أخرى. إن البرلمانات التي تنتجها
مثل هذه المهرجانات الاستعراضية التي يكذب فيها كل واحد على كل واحد، هي من دون
شكّ أقل تنظيمات الدولة تمثيلية وفعالية. إنها بحكم تركيبتها وغلبة السياسوية على السياسة
والحزبية على الصالح العام ، غير قادرة إلا على بسط عجزها وتعفين صورة السياسة والسياسيين والنظام
الديمقراطي التي تدعي به صلة.
السؤال هل يجب أن نعلن جميعا توبتنا عن الجري وراء السراب وفي ما يخصني أن اسحب كل
كتبي عن الديمقراطية وحقوق الإنسان معتذرا
للقرّاء ومعترفا بأنني كتبتها تحت تأثير
أحلام يقظة آن الأوان للخروج منها والعودة للواقع المرير.
*
أنه موقف متشائم في عالم تسفّّه فيه قوى الخلق والتجدّد
كل تشاؤم دائم بنفس الكيفية التي تسفّه
فيه قوى الدمار والخراب كل تفاؤل مزمن.
فهذا عالم لا ينفع في فهمه والتعامل معه إلا الموقف المزاجي والفكري الذي وصفه إميل حبيبي بالتشاؤل . كيف يظهر المشروع
الديمقراطي بمثل هذه العقلية أي إن نحن نظرنا أيضا للنصف الملآن من الكوب؟
لقد اختزل الرأي العام الديمقراطية في الانتخابات وهو
بهذا كما لو اختزل الإسلام في الصوم. لكن الديمقراطية – بما هي قواعد لعبة وآليات سياسية-
مثل طاولة لا تجد توازنها إلا إذا ارتكزت
على أربعة قوائم هي الحريات الفردية والحريات الجماعية واستقلال القضاء والتداول
السلمي على السلطة. ولو تأملنا المشروع الديمقراطي بمقياس مدى نجاح الركن
الانتخابي لاكتشفنا فعلا مدى بعدنا عن الحدّ الأدنى المطلوب. لكن لو نظرنا إليه بمقياس
حرية الرأي وحرية التنظم بما هما أهم مؤشرات الحريات الفردية والعامة لاكتشفنا
مشهدا جدّ مختلف.
لقد سقطت عندنا أيضا ايديولوجيا الحزب الواحد المؤطر للجماهير وعلى
أنقاضها تبنى مجتمعاتنا أشكال التنظم المستقل وهي حركية مؤهلة لمزيد من التعمق والتوسع والديناميكية.
كذلك الأمر عن حرية الرأي. انظر لدكتاتوريات ذليلة منخرطة
في حرب المواقع الخلفية أو الربع ساعة الأخيرة
وكم هي خرساء، هي التي كانت تتمتع
باحتكار الكلمة .فلا أحد يهتم بإعلامها ولا أحد يصدق ما تقول، في الوقت الذي يحتدم
فيه الجدل السياسي على أوسع نطاق وفوق رأسها، خاصة عبر الفضائيات وشبكة الانترنت. شيئا
فشيئا يستبطن العرب كأمور عادية الجلوس مع الخصم لنفس الطاولة و
مقارعة الحجة بالحجة على مشهد ومسمع من
الملايين... مما يؤكّد أننا ندين بتقدم حرية الرأي للتكنولوجيا
أكثر مما ندين به للايدولوجيا.
أضف لهذا أهم نتيجة إيجابية أظهرتها الانتخابات المصرية الأخيرة وهي بروز القضاء
كقوّة متصاعدة الاستقلال. هذه
الظاهرة مؤهلة طال الزمان أو قصر لتتوسّع
داخل مصر مشكلة القدوة والمثال للأجهزة القضائية العربية التي ما زالت تتصرّف كأنها جزء من الجهاز التنفيذي.
معنى هذا أن الأمة قطعت شوطا هاما على درب الديمقراطية
وهي لا تزال تعتقد نفسها مكبلة بالاستبداد المقيت، كل هذا لأن رؤيتنا للعالم
مطبوعة بالثنائيات الساذجة : الأبيض والأسود ، الموجود وغير الموجود، الخير والشر.
لكن حياة المجتمعات أعقد من أن تصفها أو تستنفذها
الثنائيات. هذا ما يجعل موقعنا من الديمقراطية كهدف أسمى بالغ التعقيد
حيث نحن - وحسب الأقطار- جد قريبون منه بمقاييس حرية الرأي وحرية التنظم وجد بعيدون منه
بمقاييس الانتخابات واستقلال القضاء .
وفي كل الحالات نحن لا نتحرك في أي اتجاه بصفة آلية
وحتمية حتى ولو كانت القوة الدافعة هي تكنولوجيا الانترنت والفضائيات. فالعامل
الإرادي لا زال له دور حيث يمكن أن تتجنّد إرادة مجموعات لسلبنا القليل
الذي تحصّلنا عليه ويمكن لأرادتنا إن تجنّدت هي الأخرى أن تسرع بإيصالنا برّ
الأمان.
إن أول شرط لإعطاء مشروعنا مزيدا من الحظوظ هو التمفصل مع المشروع السياسي للثلاثي
الجهنمي بوش-شيني –رامسفيلد وإدانته بكل
وضوح . فواجب رفض هذه السياسة لا ينبع فقط من باب الوفاء للوطن الكبير والوطن
الصغير وإنما من باب الوفاء للديمقراطية وحقوق الإنسان التي تستعملها الإدارة
الأمريكية الحالية كقميص عثمان . إن فكّ
الارتباط في قلوب وعقول العرب بين الديمقراطية والسياسة الأمريكية ضرورة ماسة. أما
إذا وقع الخلط بين قوى المجتمعات المدنية
التي تناضل منذ ربع قرن على الساحة وبين الذين عادوا على ظهور الدبابات، وبين
أهداف نناضل لتحقيقها من الداخل وأهداف
ركبت عليها سياسة ظرفية لإدارة عابرة، فإن
العرب سيفرغون الرضيع الديمقراطي مع المياه القذرة للتدخل الأجنبي وعجرفته.
وثاني شرط للتوغل عميقا داخل العقول والقلوب هو أن يبعث
الديمقراطيون العرب برسائل واضحة لمجتمعاتهم أن عدوهم الداخلي ليس الإسلاميين
وإنما الاستبداديين أيا كان غطائهم الإيديولوجي .
إن الكسب الحقيقي للديمقراطيين في تغلغل أفكار وقيم
وممارسات الديمقراطية داخل كل الأحزاب
والتيارات العقائدية لا في تكوين نحلة سياسية إضافية.
إن معيار تقدم ونجاح المشروح ليس انتصار الديمقراطيين على
الإسلاميين وإنما في تجاوز مثل هذا التقسيم الساذج ليمرّ الخط الفاصل في الساحة السياسية العربية بين
علمانيين وعروبيين واشتراكيين وإسلاميين ديمقراطيين وبين
علمانيين وإسلاميين واشتراكيين
وعروبيين استبداديين.
وفي الواقع فإن مثل هذه الحركية هي التي تعيد يوما بعد
يوم رسم الخارطة السياسية والمتخلفون من كل التيارات ثابتون على التقسيمات والرؤى القديمة تحركها ثنائيات
السذاجة أو سوء النية.
إلا أن على الديمقراطيين، مهما اختلفت مراجعهم
العقائدية، مواجهة تحدّ بالغ الأهمية على
الصعيد الفكري والسياسي يتعلق بمراجعة ما نستورد والتجديد فيه اعتبارا لتجربة أكثر
من قرن في أكثر من مائة بلد . إنه لا يعقل
تصور ديمقراطية دون انتخابات مثل ما لا يعقل تصور إسلام بلا حج. فحق تقييم من يحكم
واختيار الأكفأ في إطار تداول سلمي على السلطة هو من جوهر النظام
الديمقراطي. لكن من يستطيع أن يقنع نفسه والغير أن تجنيد جزء ضئيل من القوائم الانتخابية
بالإشهار الرخيص وشراء ذمة الناخب والوعود الكاذبة، ناهيك عن استعمال وسائل العنف،
هو الطريقة السوية والوحيدة لبلورة سيادة الشعب. أن الخلط بين أهداف لا جدل
فيها وآليات تظهر في كل العالم قصورها هو خطر داهم على بقية أركان النظام
الديمقراطي. أن الركن الانتخابي كما هو حاليا مثل وجود تعفّن في طرف مريض يؤدي في آخر الأمر لبتر الأطراف الأربعة بحجة
إنقاذ الجسم.
أما إذا لم يحدث التحديث في الفكر والممارسة فإنه من
الممكن ألا تكون الديمقراطية أينما انتصرت مهما عاضدتها التكنولوجيا ، إلا مجرّد
استراحة بين دكتاتوريتين لأن مثل هذه
البرلمانات لا تفعل سوى فرش الطريق بالورود للمخلّص و المطهّر أي للنسخة الجديدة
من المستبدّ الأزلي وأول ما يلغيه هو
الحريات الفردية والعامة واستقلال القضاء.
***
اللجنة العربية لحقوق
الإنسان
C.A. DROITS HUMAINS -5
Rue Gambetta - 92240 Malakoff - France
Phone: (33-1)
Email: achr@noos.fr
http://www.achr.nu