بعيدا عن المساق المسيحي لمفهوم التقديس الذي يعتبره تحسينا تدريجيا للطبيعة البشرية للارتقاء بها من الحالة الإنسانية الساقطة إلى أوج الطهر العملي، في "لسان العرب" يسوق ابن منظور حول التقديس"إنه "تنزيه الله تعالى" و إنه "التطهير و التبريك" و إنه في صيغة جمع المتكلم "نظهر أنفسنا لك. و كذلك نفعل بمن أطاعك نقدسه أي نطهره"، و عن ابن الأعرابي ينقل ما مفاده أن "المقدس هو المبارك و الأرض المقدسة: الطاهرة". و في المعجم الوسيط جاء أن المقدس هو المبارك، كما جاء في المعجم الوجيز أن التقديس "قدس الله تقديسا: طهر نفسه له"،،، و هكذا، ففي اللغة العربية بعد اسلمتها باعتمادها لغة للقرآن، إن التقديس لا يكون إلا لله وحده و ما أنزله و إن العصمة من الكبائر و كذا من الصغائر غير المقصودة أو من دون الإصرار عليها لا تكون إلا للأنبياء و الرسل. بل إن القرآن يأمر النبي محمد بـ"قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي"، و بـ"قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا". و النبي نفسه يوصي الناس قائلا:"لا تعظموني كما عظمت النصارى ابن مريم"، و "أحثوا في وجوه المداحين التراب".
غير أنه، في الحياة العادية، غالبا ما يدل التقديس على الرفع بقيمة الموضوع المعني به (كالأم، الوطن، المحبوب، الشريف، القائد، شيخ الطريقة أو الزاوية، الحزب، المنظمة، الإيديوجيا،،،) إلى مثابة المثال الأعلى غير القايل للطعن فيه أو خيانته،، مع الاستماتة في الدفاع عنه. و في ذلك، إنه شتان بين أن يعلن شخص أو مجموعة أو جماعة، بمحض "الإرادة" و "الوعي"، تقديس فكرة أو مبدإ أو شيء أو إنسان أو أسرة أو غير ذلك،،، و بين الاضطرار قسرا، دون الإرادة الحرة و ضدا على الوعي بإلغائه أو حظره، إلى تقديس تلك الفكرة أو المبدإ أو الشيئ أو الإنسان أو الأسرة أو،،، و هكذا، فالمقدس بالنسبة للمؤمن الممارس أو غير الممارس للشعائر الدينية هو الله و كتبه و ملائكته و رسله
و أنبياؤه، و هو بالنسبة للوثني مجمل أو بعض معتقداته، و هو بالنسبة للعلماني مخالفة للعقل و التفكير الواقعي و تقييد لحرية الاختيار.
حصر كلمتي الإرادة و الوعي أعلاه بين مزدوجتين إنما للزعم بأنهما، في حالة غير مقاصد اللباقة و الاحترام، تعبير عن تفكير غير منطقي قد يعود مرده إلى حالة ذهنية ترتبط بتراكم العوائق و بالعجز الذاتي عن مجابهتها و بالإستسلام لتعويض وهمي عن تلك العوئق و ذلك العجز. و هي حالة غالبا ما تتماهى، في العقول و الأفئدة، مع ترسخ جذور عنقودية لثقافة يندمج فيها القلق و الخيبة و الخوف مع التبجيل و الإطراء و الخنوع ، ثقافة تنتشر أكثر في المجتمعات حيث تسود الأنطمة الإطلاقية.
هل حقا إن "المغلوب مولع بتقليد الغالب" كما يقول ابن خلدون في "المقدمة"؟ الواقع أن الأنظمة الإطلاقية، ومن ضمنها إن لم يكن في مقدمتها رموزها السياسية في شمال إفريقيا و الشرق الأوسط، لا تضع هكذا حكما موضع ثقة،
و إلا أصبح غير منطقي أو دون مبررات خوفها الشديد و المتواصل من التغيير و من مواقف المعارضة و نشاطاتها و من حقوق الإنسان و المدافعين عن هذه الحقوق و على رأسها الحق في حرية التعبير و إبداء الرأي و الوصول إلى المعلومة، و الحق في عدم إفلات الجناة من ذوي السلطة، هم أيضا، مهما كانت مراتبهم أو مناصبهم من المساءلة
و المحاسبة و الخضوع للعقاب في حالة ثبوث جرمهم أمام قضاء مستقل السلطة و نزيهها.
لنقرأ نماذج من نصوص أسمى القوانين العربية لنكتشف كم هو مثير جدا أنها في معظمها دساتير تصرح في الباب الخاص بالأحكام العامة بأن الإسلام هو دين الدولة و مرجعها الأساسي أو الأوحد في التشريع ثم و دون أية غضاضة تعمد في باب آخر إلى مشاركة الله في صفة القدسية و مشاركة أنبيائه في صفة العصمةإ فالمادة 41 من النظام الأساسي لسلطنة عمان تقضي بأن "السلطان رئيس الدولة والقائد الاعلى للقوات المسلحة، ذاته مصونة لا تمس، واحترامه واجب، وامره مطاع،،،" و المادة 30 من دستور المملكة الأردنية الهاشمية تنص على أن "الملك هو رأس الدولة وهو مصون من كل تبعة ومسؤولية"، و الفصل 23 من الدستور المغربي ينص على أن "شخص الملك مقدس لا تنتهك حرمته"، و الفصل 28 منه يردف إنه "للملك أن يخاطب الأمة والبرلمان ويتلى خطابه أمام كلا المجلسين، ولا يمكن أن يكون مضمونه موضوع أي نقاش"، و المادة 91 من دستور الجمهورية العربية السورية تنص على أنه "لا يكون رئيس الجمهورية مسؤولا عن الأعمال التي يقوم بها في مباشرة مهامه إلا في حالة الخيانة العظمى،،،"، و المادة 54 من دستور دولة الكويت تنص على أن "الأمير رئيس الدولة، وذاته مصونة لا تمس"... إلخ. أما القوانين الجنائية
و قوانين الصحافة فتشرك آخرين، من أفراد العائلة أو المجلس، في تلك القدسية و العصمة.
في المملكة المغربية، يصل هكذا رهاب(فوبيا) ليس فقط إلى حد سجن و تغريم مدافعين عن حقوق الإنسان أو محتجين سلميا أو صحافيين أو جعلهم في وضعية الرهائن و إغلاق مقرات جرائد و حظر توزيع صحف بدعوى المس بالمقدسات، بل يتعدى ذلك إلى انبراء آخرين يقاسمونهم نفس الاهتمام فيقدمون تصريحات أو يحررون مقالات يحرصون على أن تبدو أمام الرأي العام متوازنة و موضوعية، حيث بدل، في مثل أول، ان يؤكدوا أو ينفوا مدى وجود ملائكة أو رسل أو أنبياء بين أهل هذا الوطن العزيز، و بدل، في مثل ثاني، أن يؤكدوا أو ينفوا ما إذا كانت تهمة المس بالمقدسات هي في جانب منها مس بالدين الإسلامي نفسه أم لا،،، يسرفون في وصف زملائهم، المدعى عليهم، بالمتهورين و المبالغين
و العاقين لأخلاق المهنة و الجاحدين لرغد ما يسمونه اتساع مجال الحريات في البلد. و في حين، كمثل ثالث، كتب نقيب المحامين الأستاذ عبد الرحيم الجامعي و عمم نشر أن من أهم معيبات محاكمة إحدى اليوميات أن شكاية المدعي باعتبارها جاءت تحمل هويته مسبوقة بعبارة "سمو الأمير...." لا تترك للقاضي أي مجال لأن يكون منصفا، فإن الجميع قد التمس الصمت تجاه ذلك و آثر إهماله بدل حتى مجرد التعليق عليه.
لعلاج هذا الرهاب السياسي، هل تنفع معه مختلف التداريب التي يقترحها الطب النفسي؟ بعبارة أخرى، هل يقبل رجل السياسة، المتحصن، في دولنا من البحر إلى البحر، وراء درع الدين بأن يمرس نفسه على الاعتراف بأنه غير معصوم عن الخطإ؟ و أن صفة "الشريف"، أي الشريفي لا تحيل إلا على الانحدار من سلالة البيت النبوي الشريف و ليس على حسن الأخلاق؟ و أن ادعاء امتلاك الشرعية التاريخية في احتكار السلطة لا تعني سوى شرعية الغلبة؟ و أن الشرعية الدستورية تقتضي أكثر من استضافة ثلة فقهاء في القانون الدستوري و خبرائه من الخارج، بعيدا عن المواطنين،
و البذخ في ضمان راحتهم لحبك نصوص أقصى ما تخلص إليه هو أن تمنح باليد اليمنى ما تنزعه حالا باليد اليسرى؟
و أن مهمة التحكيم بين فرقاء الإطار الحضاري للمجتمع لا تستقيم إلا إذا كانت مشروطة بالحياد و النزاهة و عدم التحيز او التمييز، و هو ما يتطلب ألا يكون الحكم طرفا رئيسيا في منازعات سياسية أو اقتصادية أو مالية أو مجتمعية أو فكرية من المفروض أنها دائمة الحدوث بين هؤلاء الفؤقاء؟
*كاتب و باحث من المملكة المغرية
El Mostafa Soulaih
|