/ 19-11-2009
في يوم خريفي اختطفت المنية من بين اهله ومحبيه الصديق محمد السيد سعيد، لتطوى مع رحيله صفحة من نضال لم يتوقف من اجل عالم أمثل. ربح المرض المعركة وانتصر على رهاناتنا وآمالنا بكسب أشهر اضافية في هذه الدنيا. عاد محمد من فرنسا ليملأ عينيه من وطنه ومن أحبتِه بعدما سأم البعاد، وقبل أن ينتقل لمحطة أخرى في نيويورك لمتابعة علاج جديد يستهدف الخلايا المصابة دون تدمير جهاز المناعة.
على مدى أشهر طويلة من عراكه المرير، لا أذكر أنا أو هيثم أو منصف أننا سمعنا شكواه أو أنينه كما يشكو أو يئن مريض يصارع مرضاً عضالاً. وذلك رغم الأوجاع الشديدة التي لم تترك خلية من جسده الا وفتكت بها بعنف. كان محمد كبيراً في تلك التجربة، مثلما كان في سائر لحظات حياته.. ابى أن يضعف. لا بل كان يوآخذ نفسه عندما يأتيه أحد منا ليشاطره بعضاً من وقته. فهو أولاً يهتم بالآخر قبل أن يفكر بنفسه وبما يهوى ويحتاج .
لقد كانت نور الهدى زوجته، النور والهدى والحب الذي ملأ حياته في حقبتها الأخيرة. كانت ملاكه الحارس الذي رافقه على درب الجلجلة، بازلة كل ما استطاعت بكل جوارحها. عندما كنت أدعوها لأخذ قسط من الراحة والترويح عن نفسها كانت ترفض وتأبى فراقه. تخشى الابتعاد عنه وكأنها تريد أن تمنحه كل ما أوتيت من قوة ودفء لمساعدته على مواجهة الصعاب، ومقاومة الاحباط، ودفع القنوط، وتحمل الأوجاع. الحمل كان كبير جداً على نور. فهي اختزلت بشخصها العائلة، والوطن، والحلم بالعودة المظفرة على المرض، والأمل بفجر جديد يطل عليهما بعد أن فاجأهما القدر بمظلمته من بداية الطريق التي مشياها سوياً.
قبل مغادرة الفقيد مشفى بول بروس في الضاحية الباريسية تجمعنا حوله في الساعة الأخيرة شلة اصدقائه ومعارفه لنودعه. فكان وداعه لنا وصية خاصة بكل واحد منا. أنا، طلب مني أن أهتم بنفسي وأبحث عن سعادتي. أخفيت دمعتين وراء بسمة عريضة، فقد خشيت أن لا أراه أو أسمعه بعدها، وكأني به كان ينطق بوصيته الأخيرة.
لم يكن بامكاني ان أعقّب على جملته. ولو استطعت لسألته: من أين لنا بالسعادة نحن معشر من يتنطح لينير الطريق في زمن الهزائم والنكبات، من يناضل للمساواة والحرية والعدالة في زمن الإنكسار والقهر والهيمنة؟
هل مرضك وملاقاة ربك يا محمد هي الدليل على أن من يحمل على كتفيه هموم وطنه وامته وآلام شعبه لا يمكن الا ان ينوء من ثقل حمله؟ كان الفقيد مناضلاً ومفكراً، خاض معارك عديدة من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان عبر الصحافة والكتابة ومؤسسات حقوق الإنسان ومراكز الدراسات والأهرام وكفاية والبديل وغيرها. لقد شهر قلمه وكلمته في وجه العسف والظلم، مغلباً الشأن العام على المصلحة الخاصة، ولم يتورع عن الانخراط في كل ما ينسجم مع تطلعاته لعالم مختلف. أذكر يوم طلبت اليه ان ينضم لنا في اللجنة العربية لحقوق الإنسان، لم يتردد حينها لحظة واحدة بقبول مناشدتنا. برحيلك يا محمد ألقيتَ على كاهلنا نحن جميعاً هنا وهناك مهمات اضافية. وديعة متابعة ما لم يسعفك عمرك القصير من تحقيقه.
في رسالة وُجهَت للفقيد على عنواني قبل أيام من مركز بحثي للعلاج البديل، كُتب فيها ما مفاده ان المرض ليس وليد الصدفة، بل يأخذ مكانه يوماً بعد يوم من خلال طبيعة المشاعر وطريقة العيش والتعامل مع الحياة. بالتأكيد، الأمراض هي من طرق التعبير عن آلام النفس وعما لا يعَبر عنه بالكلام. وكبيرة هي نسبة الوفيات التي تعود للأوضاع المأزومة التي يعيشها أبناء أوطاننا العربية، خاصة اولئك الذين يحلمون بالتغيير فيقدمون حياتهم قرباناً له على حساب حياتهم الشخصية ورفاههم الفردي.
محمد السيد سعيد، هذا الإنسان الذي كان معطاءاً ومخلصاً وحساساً لآلام البشر، اختزن في داخله الكثير من مشاعر الظُّـلم واليَـأس والإحْـباط من غِـياب العدالة الاجتماعية وانسداد المعابر بين الحاكم والمحكوم. وإن كانت الكلمة المكتوبة التعبير الأرقى له ككاتب وصحفي لما اعتمل في صدره، كان الظرف والأدب والكياسة التي تحلى بها حائلاً أحياناً كثيرة دون اخراج المرارة التي سكنته. فالحبر أيها السيدات والسادة لا يكفي للتعبير عن تطلعات كبرى في زمن الرهانات الصعبة والآمال المهزومة. يبقى المرض والموت بالمرصاد لمن كتب له أن يشهد أفول الأحلام وأن يعيش في سنوات الضياع.
|