ستصلك هذه الرسالة بأية وسيلة كان، فلن يستطيع أحد أن يمنع عني الروح الطارق l’esprit frappeur الذي تمثله أو يمنعك ممن وضعته بين الصحب المقّرب، لا السجن ولا السجان ولا كرب الزمان.
من المضحك أن أكتب فيك خبرا صحفيا تقليديا، أو أن تكون مقالة عادية تتحدث عن شخص غير عادي. كم كان المشرق بحاجة لتوفيق ليدرك المعاني العميقة للفكاهة السوداء وأدبها، كم هو بحاجة لك لتصفع الممنوع الإعلامي الذي لم يحتمل منذ 45 عاما صحيفة كاريكاتير بقوة "المضحك المبكي" الدمشقية أو "الكانار أنشينيه" الفرنسية. كنت لوحدك صحافة نقدية، تصديت لكل ممنوع بقلمٍ أحيا الفكرة الناقدة في كل صدر دافء ورحب.
بالأمس جلستُ في صالة الدائرة الثانية في باريس، كل القوى السياسية والمدنية وشخصيات السلطة الرابعة التي قلما جلست تحت سقف ندوة أو سهرة واحدة كانت حاضرة، بما فيهم من أصر عدة مرات على التنويه والتنبيه على نقاط اختلافه معك، كان حضورك أقوى من ملاحظته الصغيرة هذه. شعرت بأن الحضور على اختلاف مشاربهم ومهنهم وطاقاتهم يحتاجون لك، باعتبارك الوحيد القادر على أن توقع الألم النفسي الضروري بجبن الدكتاتورية. من أجل هذا كانت معاركك وانتقاداتك مباشرة وشفافة دون مواربة، سواء وجهتها لسلطة مستبدة أو معارضة مسلولة أو بيروقراطية حقوق الإنسان أو لمجرمي السلم (المثقفون).
لقد اعتدت، حتى لا أقول أزمنت، الرد على الاعتقال التعسفي بإجراءات عاجلة شبه معروفة: فريق العمل الخاص بالاعتقال التعسفي، منظمات حقوق الإنسان غير الحكومية وبين الحكومية، شبكة من الإعلاميين، ندوات تضامن إلخ. حتى صديقي هيثم المالح لم أستطع كسر هذا العمل الهام والضروري من أجل إطلاق سراحه بلفتة إنسانية أو شاعرية خاصة، فسعيت وأسعى بكل الوسائل المعروفة.. لكن هل يحق لفريق العمل الأممي تقييم الطبيعة التعسفية لملاحقة الشاعر المصري جورج حنين أو إعطاء رأي إذا اعتقل رائد السريالية أندريه بروتون؟ هل يحق لنا أن نكون تقليديين معك وقد تواطأت معنا في أصعب اللحظات في معركة كسر الصمت واغتيال الفراغ ؟
اقترب مني بالأمس عضو في الحزب الحاكم ليعطيني خبرا عن ملاحقة قضائية لك في فرنسا وليس فقط في تونس، بقضايا الحق العام، فقلت له: من يعتقل شاعرا عاجز عن المبارزة، سلمية كانت أو بالسيف. كان من الأجدر بالحاكم أن يعتقل كاتب مقالة حولت حفلة تنصيبه إلى كابوس، لا أن يرسل من عونه امرأة تعتدي عليه.
توفيق، كما كان إضرابك عن الطعام هزة أرضية للسلطة والمعارضة، سيعيد اعتقالك قطاعات من الشبيبة إلى فكرة التمرد والرفض، وسيقزّم صمت "المثقف المدجن" عن نيف وستين ألف معتقل في السجون من حولنا، ويقزم كل الشعراء الذين يتعيشون من صحف الرمال الصفراء التي تمارس على الإبداع وظيفة المنع الذاتي، عبر تكرار قافية الكلمات المقيتة والمملة، عند دويلات مديونة مرهونة..
إذا متّ يوما بيننا، ولن تموت أبدا، لن نقرأ الفاتحة وياسين كما طلبت منا، وسنتركهما لمن يترزق منهما، ولن نذر على قبرك حبوب التين لأن الأحياء بها أولى، ولن نمنع خفافيش الليل من التبويل على ضريحك وقد اعتادت التبويل على جدار بيتك..
أما إذا داهمني الموت قبلك، فاستعجلني يا صديقي بقصيدة هجاء، تريحني من طقس تقديس الميت، وتعلم من لم يتعلم بعد، أن التنوير صنو النقد الصارم، وأن من الصعب على كل مصوري السلطة الرابعة أن يجدو صورة مبتسمة لطاغية أو دكتاتور.
باريس في 19/11/2009 المخلص هيثم مناع
|