كثيرة للأسف هي المخالفات الإجرائية وخروقات حقوق الإنسان التي تقوم بها مؤسسات في الأمم المتحدة تعنى بموضوعة حقوق الإنسان. وكثيرة هي أيضاً الانتهاكات وأحياناً الجسيمة التي تتغاضى عنها، في وقت تجد الشعوب بأسرها نفسها محتاجة، وفي هذا الوقت أكثر من ذي قبل، لوقوف هذه المنظمة الأممية مع المظلومين ومن يدافع عنهم. ففي عالم بات مرتعاً للمجرمين النظاميين عبر سياسات تقصي وتهمش، تميز وتفاضل بين الشعوب والأمم، يفترض بهذا الكيان بين الحكومي أن لا ينحسر استعماله من دول كبرى أو صغرى للقيام بدور مناقض للرسالة التي وجد من أجلها وكانت مبعثاً وأساساً لنشأته.
كان لنا في اللجنة العربية لحقوق الإنسان أن نكون طرفاً في قضية حبكت زوراً وبهتاناً ضد منظمتنا لتحييدها من أروقة الأمم المتحدة. وقد أريد لهذه الملهاة أن تطال دفعة واحدة عصفورين بحجر: من جهة تجميد عضويتها في المجلس الاقتصادي والاجتماعي لمدة سنة بدءا من 27-06-2009، ومن جهة أخرى التطاول على سمعة ممثلنا السابق في جنيف المحامي رشيد مسلي بتهمة الانتماء لمنظمة إرهابية، (وهو للصدفة كان حين فتح الملف قد توقف قبل مدة عن تمثيل جمعيتنا لأسباب خارجة عن إطار الموضوع، وكان فعلياً يشغل منصب المدير القانوني لجمعية الكرامة التي تعنى بحقوق الإنسان).
لقد اكتشفنا صدفة، ودون أن تكلف لجنة الجمعيات غير الحكومية التابعة للمجلس الاقتصادي الاجتماعي نفسها بابلاغنا بما يدور في أروقة الأمم المتحدة بخصوص عضويتنا، أن قضية رفعت من طرف الوفد الجزائري في الأمم المتحدة ضد اللجنة العربية لحقوق الإنسان. والهدف هو فصلها بسبب أنها تتعامل مع "ارهابي" يمثلها في الأمم المتحدة في جنيف، (تساءلنا حينها إن كان من قبيل الصدف أن يتزامن الأمر مع قرب انتهاء عمل السيدة حنيفة مزوي التي شغلت منصب مقررة للجنة المنظمات غير الحكومية في نيويورك، وهي من أصل جزائري، كان رشيد مسلي قد تواجه معها في قضية طلاق عندما توكل للدفاع عن زوجها السابق في المحكمة). أثيرت القضية في21 يناير 2009، أي تقريباً بعد ستة أشهر من تدخل السيد مسلي باسم جمعية الكرامة واللجنة العربية خلال مناقشة تقرير الجزائر. وذلك في الفحص الدوري لتقارير الدول في جلسة مجلس حقوق الإنسان في جنيف يوم 10 حزيران/ يونيو 2008، والتي لم يطلب ممثل الجزائر خلالها حق الرد أو يعترض على شخص ممثل اللجنة العربية أو على محتوى مداخلته.
كان رشيد مسلي محامياً في بلده قبل أن ينتقل لسويسرا إذ رافع في ملفات هامة، منها دفاعه بداية التسعينات عن قادة وأعضاء من الجبهة الإسلامية للإنقاذ المحظورة. وذلك قبل أن يحكم بثلاث سنوات سجن في 1996 وتتحرك اللجنة العربية من أجله لدى وزارة الداخلية وتتناول تعرضه للتعذيب في معتقله في كتاب صدر لها في 1998عن التعذيب وسلامة النفس والجسد في العالم العربي (حيث تنشر له شهادة من السجن أرسلها للجنة)، معتبرة كما العفو الدولية وغيرها من منظمات حقوقية أن اعتقاله تعسفي ومحاكمته، التي جرت في ظروف غير عادية، جائرة. وبعد أن أطلق سراحه، توجه لسويسرا طلباً للعلاج، تقدم بعده بطلب اللجوء السياسي وحصل عليه في 2000. وكانت الحكومة الجزائرية قد اتهمته أيضاً بأعمال ارهابية ترقى لشهر حزيران من سنة 1999، في حين أنه كان ما زال معتقلاً في تلك الأثناء. علاوة على أن اللجوء السياسي لا تمنحه الدول الغربية لهاربين من العدالة أو لإرهابيين.
بالتأكيد ليس من قبيل الصدفة أن تفبرك هذه القضية للمحامي الجزائري الذي انتقد من داخل الأمم المتحدة، انتهاكات حقوق الإنسان وخصوصاً الاختطاف والتعذيب أثناء مناقشة تقرير الجزائر. أو للجنة العربية التي تحدث باسمها والتي كانت قد أصدرت قبل أشهر تقريراً عن التعذيب في أقبية السجون الجزائرية، حيث ذكرت أسماء بعض المعتقلين الذين تعرضوا له وسجلت شهادات ووقائع بخصوصهم. من هؤلاء المدعو علالو حميدة الذي لوحق وسجن وعذب، كما وطلب إليه بتاريخ 24 أيار/مايو 2006 للمرة الثانية وتحت تهديد عزله عن العالم أن يتهم بالإسم المحامي رشيد مسلي بالقول أنه المسؤول والممول الأساسي لشراء الأسلحة.
ما يبدو غريباً في الأمر أن يتهم المحامي بالارهاب في حين، حسب سليمان بوصوفة، أن "مدني مزراق أمير الجيش الإسلامي للإنقاذ سابقا، وعبد الحق العيادة مؤسس الجماعة الإسلامية المسلحة التي تبنت أغلب المجازر ضد المدنيين في الجزائر، وحسان حطاب أبرز قادة الجماعة السلفية للدعوة والقتال، جميعهم قَتلوا أبرياء واعترفوا بجرائمهم وبتضليل الشباب الجزائري الذي التحق بهم، لكنهم يعيشون في فيلاتهم تحت رعاية وحراسة الأجهزة الأمنية الرسمية ويتلقون رواتب شهرية وإعانات." ويضيف بوصوفة: "عندما اعتقلت السلطات الهندية نجل عباسي مدني (الرجل الأول في الجبهة المنحلة) السيد أسامة (سليم بالأحرى) مدني في أحد مطاراتها امتثالا لمذكرة الاعتقال الصادرة بحقّه من السلطات الجزائرية عبر الأنتربول، تم إطلاق سراحه في وقت قياسي وادعت السلطات الجزائرية بأن المذكّرة قديمة وأن الظروف تغيرت والبلد قد دخل في مرحلة المصالحة. كما أن النظام ادعى بأن احتضان الإرهابيين جزء من هذه المصالحة التي تتطلب تنازلات مؤلمة من جميع المتضررين من الأزمة".
فهل أن من يعمل على كشف خروقات حقوق الإنسان هو أخطر على هذه الأنظمة من الذين تورطوا بعمليات عنف حقيقية ؟ يبدو ذلك !
في التقرير المذكور عن التعذيب في السجون الجزائرية وردت حالة الضابط السابق أنور مالك أيضاً والتعذيب الذي تعرض له في السجن بمشاركة الوزير أبوجرة سلطاني. وللقصة تتمة على ما يبدو، إذ أن السلطات الجزائرية لم تكتف بتعليق عضوية اللجنة العربية، بل تعمل على تصفية حسابها معها عبر أبواب أخرى. نقرأ في يومية الحوار الجزائرية بتاريخ 28-10-2009 أن "وكالة قدس براس أفادت نقلا عمن سمته بـ ''مصدر سياسي جزائري'' أنّ الضجّة التي أثيرت بحق زعيم الحزب الإسلامي في التحالف الرئاسي، ما هي إلاّ جزء من مسلسل جديد لتلك الدعاوى القضائية التي رفعها بعض الجزائريين الذين يسمون أنفسهم بالمعارضة، ويقيمون في الخارج. والجهات التي حاولت اتهام الجزائر بالمشاركة في محاولة قتل مسيلي عن طريق اللجنة العربية لحقوق الإنسان في مجلس حقوق الإنسان هي نفسها التي تحاول أن تورط أبو جرة، مذكرا بأن هذه الجهات قد أخفقت سابقا عندما تمكنت الجزائر من استصدار حكم بتجميد عضوية اللجنة العربية لحقوق الإنسان في مجلس حقوق الإنسان لمدة عام.."
علينا التنويه بأنه عندما انتهز أنور مالك فرصة زيارة أبو جرة سلطاني لسويسرا بعد أشهر من انتهاء عهدته كوزير لتقديم دعوى ضده ومقاضاته على مشاركته في تعذيبه في السجن، لم تكن اللجنة العربية تعلم بالأمر وإنما سمعت به. وذلك بعدما اثيرت الضجة إثر مغادرة أو تهريب رئيس حركة مجتمع السلم من سويسرا والدعوى التي رفعها بإسم مالك فرانسوا مومبارز، محامي جمعية تريال السويسرية المختصة في تعقب المجرمين الدوليين.
يجدر بالذكر أنه بعد نشر تقرير اللجنة المذكور في 10-12-2007 (والذي جاء في توصياته: طلب تشكيل لجنة دولية من منظمات حقوقية وقضائية لزيارة السجناء المذكورين بالإسم والإستماع لشهاداتهم، وضمانات من السلطات الجزائرية لحمايتهم وعدم التعرض لهم لقاء تصريحاتهم عن الجرائم التي ارتكبت بحقهم، وزيارة السجون الجزائرية بما فيها السرية التي تخفي سجناء منذ سنوات دون علم أحد، ومعاقبة كل من ثبت ارتكابه لهذه الأفعال أو من سهّل لها بغض النظر عن مكانته في النظام الحاكم)، نقلت وسائل الإعلام الجزائرية بتاريخ 18/12/2007 خبر وفاة مدير سجن الحراش الذي تواجد فيه أغلب المساجين الذين ذكروا في التقرير.
إثر التطورات والأخبار التي تداولها الاعلام الجزائري، أصدرت اللجنة العربية بياناً بتاريخ 04 يناير 2008 بعنوان "تداعيات نشر التقرير عن التعذيب في السجون الجزائرية"، ذكرت فيه وقوع تجاوزات من طرف الإدارة الوصية، ووفاة مدير سجن الحراش التي هي "مدعاة للشك والتساؤل"، وطالبت السلطات الجزائرية بالتحقيق لمعرفة أسباب الوفاة ومحاكمة من تسبب بها. وذلك للوقوف على ما أشيع في وسائل الإعلام عن الضغوطات التي تعرض لها مدير السجن من طرف الأجهزة الأمنية ومصالح وزارة العدل، إثر الإحتجاجات التي إستمرت أسبوعاً وقام بها أكثر من 200 سجين. وجاء في البيان: "بالرغم من تعليق الإضراب بفعل الوفاة وتوقف التحرش بالسجناء من طرف إدارة السجن، إلا أن إجراءات عقابية اتخذت بحق مساجين ذكرناهم بتقريرنا، اعتقاداً بتورطهم في تسريب المعلومات. وقد حولت وزارة العدل 35 سجيناً، أغلبهم من سجن الحراش، الى أماكن مختلفة وعزلتهم في زنزانات انفرادية وابعدتهم عن أهاليهم مئات الكلومترات". العزل التام كان من نصيب السجين علالو حميدة، الذي تعرض للضرب من طرف عناصر من المخابرات الذين أرادوا معرفة طريقة تسريب المعلومات للجنة العربية. ويؤكد البيان على أن تداعيات تقرير التعذيب في السجون الجزائرية دفع ثمنها المساجين وعائلاتهم غالياً جداً، في حين أنه لا ناقة لهم ولا جمل في توفير المعلومات التي احتواها. وعليه جددت اللجنة العربية مطالباتها للسلطات السياسية بوقف تعذيب المساجين واحالتهم لمحاكمة عادلة، ورفع الظلم الاضافي عن الذين اتخذت بحقهم اجراءات عقابية.
بالطبع لم تتحرك أي جهة رسمية للرد على المعلومات التي أوردها التقرير، والتي جاءت بناء على شهادات مباشرة من المساجين، سوى تصريح صحفي تداوله الاعلام ورد على لسان فاروق قسنطيني، رئيس ما يسمى بلجنة ترقية حقوق الانسان الرسمية، والذي ذهب فيه، دون الإشارة للجنة العربية بالإسم، إلى أن التقارير التي نشرت حول التعذيب في السجون مصدرها من أطلق عليهم اسم المعارضين الجزائريين في الخارج. وهذه التقارير يراد منها فقط حسب قسنطيني ضرب مؤسسات الدولة.
على خلفية هذه الوقائع تبقى نظرية المؤامرة هي العملة المضمونة عند السياسيين، كونهم يعتبرون أنفسهم معصومين عن كل خطيئة وفوق كل محاسبة. فيعملوا دون وجل أو خجل على توجيه سهامهم في كل الاتجاهات علها تصيب أحداً في مقتل، وتمنحهم بالمقابل صك براءة يدفع عنهم الشبهات. وهذه هي تقريباً الروحية التي كلمني بها ممثل الجزائر في الأمم المتحدة في جنيف السيد ادريس الجزائري عندما حاولت في إحدى المرات التحدث معه لأتبين منه أسباب هذه الحملة وأبين له وجهة نظرنا في اللجنة العربية. فرفض النزول عند طلبي بتحديد موعد أو حتى بالاسترسال بالحديث معي، مدعياً أن جمعيتنا تروّج لمآرب الدول الغربية باستهداف الجزائر وسمعته. طبعاً قيل لي أنه لا هو ولا أي أحد آخر يستطيع التدخل وتغيير هذا القرار ممن هم دون الرئيس بوتفليقة. وقد طلب لبرلمانية أوربية تدخلت من أجل اللجنة العربية أن تقوم اللجنة بتقديم اعتذار عما فعلت. لكن منذ متى يعتبر التعاون مع مناضل حقوق إنسان معارض لحكومة بلده خطيئة ويطلب الصفح عنها ؟
لقد تعودنا، وكغيرنا ممن يعيشون بالغرب من العرب المهاجرين، أنه من السهل توزيع المسؤولين في حكومات بلداننا الأصل الاتهامات جزافاً ضد معارضاتها في الخارج طالما أن لا أحد يطالبهم بتقديم الأدلة على مزاعمهم أو يرفع شكاوى ضدهم. فإذا كان هذا هو سقف هذه الحكومات وممثليها ومن يدور في فلكها، فهل تتعظ المؤسسات الأممية من أخطائها المتكررة لحفظ ماء وجهها على الأقل والتوقف عن هدر حقوق الأفراد والشعوب تحت مسميات براقة وعبر دهاء الدبلوماسية التي ذهبت بعيداً في الدفاع عن تجمعات المصالح في ما يسمى أنظمة الحكم هذه والتي تبقى أحياناً ما دون الأنظمة حتى؟
من المؤسف في هذه القضية هو أن يعتمد المجلس الاقتصادي والاجتماعي قرار اللجنة المعنية بالمنظمات غير الحكومية التابعة له دون أن يجري نقاشاً أو فحصاً للمعلومات المضللة التي قدمتها الحكومة الجزائرية إلى اللجنة المعنية. كما أن لا يطلب الاستماع للجنة العربية لحقوق الإنسان، أي الضحية في القضية، أو يأخذ بعين الاعتبار الدفاع عن نفسها الذي قدمته من خلال رسالتين (وجهت الأولى منها في 28 يناير للجنة المجلس الاقتصادي الاجتماعي المعنية بالجمعيات التي كانت ستعقد جلستها بعد عدة ساعات، حيث جرى الرد على الاتهامات بعد علمنا بمحتوى النقاشات من خلال الاطلاع عليها على الموقع الالكتروني للمجلس الاقتصادي الاجتماعي. ثم في 1 فبراير/شباط ارسلت رسالة ثانية لأعضاء المجلس الاقتصادي-الاجتماعي، وأعضاء لجنة الجمعيات، ومفوضة حقوق الإنسان ورئيس وسكرتارية مجلس حقوق الإنسان لتفنيد بعض النقاط الواردة في قرار التجميد. ويمكن الاطلاع على محتوى الرسالتين باللغة الفرنسية على موقعنا). وبهذا يكون المجلس الاقتصادي الاجتماعي قد أضاف خرقاً لخرق آخر عندما لم يطلب كذلك من الحكومة الجزائرية التي تقدمت بالشكوى عبر ممثليها في نيويورك أن تبين أدلة تدعم بها شكواها التي حظيت رغم ذلك بدعم منه.
وحيث عبّر ممثلنا في جنيف عبد الوهاب الهاني إثر التصويت "بأن رغبة الجزائر في الانتقام الأعمى، ورياء التضامن العربي والإسلامي والعربي، وجبن الدول الغربية، سيحرم الأمم المتحدة لمدة عام من الاستفادة من العلاقات الاستشارية للجنة العربية لحقوق الإنسان"، نقول أنه لو توقف الأمر فقط على هذا الحد لما أسفنا لفقدان تمثيليتنا لمدة عام، كون معظم نشاطات اللجنة العربية تتم خارج اطار الأمم المتحدة، كما وأن الجمعيات الحقوقية الصديقة والعضوة بالمجلس الاقتصادي والاجتماعي لن تتوانى عن منحنا مقاعداً كلما احتاج الأمر لذلك كما اعربت في اتصالاتها ورسائل تضامنها.
برأينا إن الأخطر من كل هذا هو عدم الأخذ بعين الاعتبار لتأثير هكذا قرار على مصداقية المجلس الاقتصادي والاجتماعي نفسه الذي منح الصفة الاستشارية لأكثر من مائة جمعية غير حكومية، كما على لجنته المعنية بالمنظمات غير الحكومية. فما حدث يشكل بكل معنى الكلمة سابقة خطيرة تطال المنظمات غير الحكومية والمدافعين عن حقوق الإنسان، بحيث سيكون بوسع الحكومات القمعية أن تطوقها عبر مؤسسات الأمم المتحدة كلما وجدت لذلك سبيلاً. ونحن لم نكن أول من تم تجميده ولن نكن للأسف آخرهم إن بقي الوضع على هذا المنوال في مؤسسات الأمم المتحدة (جرى في السنوات الماضية التصويت على تجميد "منظمة العفو الدولية" لسنة، و"المنظمة العالمية لمناهضة التعذيب" لسنة أيضاً ثلاث مرات، و"مراسلون بلا حدود" لسنة مرة واحدة).
هذا الأمر بالتحديد هو ما أثار مخاوف بعض الممثلين الأوروبيين داخل المجلس الاقتصادي والاجتماعي نفسه. وأكدوا قبل الجلسة المذكورة بأنهم لن يدعوا هكذا قرار يمر لما سيشكله من سابقة تهدد عمل الجمعيات غير الحكومية. لكن القرار اتخذ بجنيف بالتوافق ودون فتح باب النقاش، وبعد أن كان قد حاز في لجنة المنظمات غير الحكومية في نيويورك على 18 صوتاً من أصل 19 بتقديم توصية لتعليق العضوية مدة سنة. في هذا المضمار يجدر بالذكر أن الوفد الجزائري في نيويورك كان قد طالب بسحب عضوية اللجنة وليس تجميدها فقط، ثم تراجع بعد نقاشات مطولة ليطلب تجميدها ثلاث سنوات، وتم الاتفاق في نهاية المطاف وبعد خمس جلسات متتالية كما بلغنا (19 و23 و26 و28 يناير و2 فبراير 2009) على رفع توصية لجلسة المجلس الاقتصادي الاجتماعي التي ستنعقد في تموز 2009 بتجميد عضوية اللجنة العربية لسنة واحدة. لم يكتف الوفد الجزائري بذلك، بل حاول أن تصبح التوصية سارية المفعول على الفور بدلاً من انتظار عقد دورة المجلس الاقتصادي والاجتماعي العادية في شهر يوليو للبت بالأمر.
وكنا في توضيح سابق قد ذكرنا أن "بعض الوفود وخاصة الغربية منها وجدت أن الأمر لا يمكن أن يمرر بالضغط، وأنه سيشكل سابقة ضد جمعيات حقوق الإنسان، خاصة وأنه ليس من خطورة في التهمة، إضافة إلى أن ما قدمه وفد الجزائر ضد اللجنة العربية لحقوق الإنسان اعتراه حسب بعض الوفود "الغموض" و"نقص المعلومات" و"عدم الموضوعية"، وكان وحده مصدر المعلومات كون السكريتارية الدائمة للجنة الدول لم ترسل طلباً للاستفسار من اللجنة العربية عن الأمر كما هي العادة، وعلماً أن اللجنة العربية لم تعلم بما يدور من شكوى مقدمة ضدها إلا ليلة النقاش في 28 يناير2009 حيث اعتمد الوفد الجزائري على عنصر المفاجأة لمنع تحضير الرد."
الممثل الكندي اعترض أيضاً على الاجراء بعد جلسة تموز في جنيف وطعن بشفافيته. والممثل السويدي الذي تكلم باسم الاتحاد الأوروبي، أعلن بصريح العبارة عن "ازدياد حدة معارضة بعض الدول إزاء منح الصفة الاستشارية للمنظمات التي تميزت بانتقادها لسجل تلك الدول في مجال حقوق الإنسان، أو التي لم توافق دول معينة على وجهات نظرها". في نفس السياق تحدث ممثل الولايات المتحدة إذ قال: "أن الولايات المتحدة توصلت إلى نتيجة مؤسفة مفادها أن بعض الوفود داخل هذه اللجنة تحاول استخدامها لكتم أصوات المنظمات غير الحكومية التي تعمل في إطار منظومة الأمم المتحدة ممن لا ترضى عن توجهاتها". وكان الممثل الأمريكي في الأمم المتحدة في نيويورك الذي امتنع عن التصويت قد سبق وأعلن خلال جلسات نقاش لجنة المنظمات غير الحكومية عن عدم شفافية الادعاءات. كما وأسف على عدم منح أعضاء اللجنة الوقت الكافي لدراسة صحة المزاعم بتورط السيد مسلي الذي يحوز على صفة لاجئ سياسي من سويسرا بأعمال ارهابية في المنظمة المذكورة، والتأكد من أن هذه المنظمة موجودة في اللائحة رقم 1267 لمجلس الأمن.
لقد شهد شاهد من أهله، بما يبرز أن اللجنة المعنية بالمنظمات غير الحكومية تقوم بعملها بتسيسه وتخضع لابتزاز وتسخير دورها بناء على مزاعم الأطراف المعروفة بسجلها الحافل بالانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان. ومعروف أن الحكومة الجزائرية لا تعير انتباهاً للملاحظات المنشورة حولها أو تقيم وزناً للطلبات التي تتقدم بها آليات حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة. مثال على ذلك الطلبات المتكررة لزيارة البلد من طرف المقرر الخاص بالتعذيب والاختفاء القسري والإعدام خارج اطار القضاء وبدون محاكمة.
وقوف ممثلي الدول العربية الأخرى العضو في لجنة المنظمات غير الحكومية مع هذا القرار، وهي مصر والسودان وقطر وبدعم من اسرائيل، هو نوع من تأكيد الجواب على السؤال: لماذا الاستشراس بحق اللجنة العربية. فهي تنشط على كل المحاور والجبهات لاعلاء شأن حقوق الإنسان فكرياً وعملياً، ومنها تشكيل تحالف لمحاكمة مجرمي الحرب الإسرائيليين. وكانت قد قدمت مع التحالف الدولي الذي هي من مؤسسيه، بتاريخ 26 كانون الثاني/يناير 2009 إلى المدعي العام بالمحكمة الجنائية الدولية في لاهاي ملفاً يشتمل على مواد قانونية وصور ووثائق من أجل محاكمة مجرمي الحرب العسكريين والسياسيين الإسرائيليين في حربهم على غزة نهاية 2008 وبداية 2009. وهي المعروف عنها أيضاً عدم المساومة على استقلاليتها في القرار وعدم ارتهانها للتمويل أو اقتناصها الفرص لأغراض شخصية أو التعاطي مع طرف داعم يمكن أن يكبل حركيتها أو أن يضع شروطاً عليها. فنشاطيتها لا تعتمد إلا على المعايير الدولية للقانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، في رصدها لكل ما يصل اليه متطوعوها من خروقات الأنظمة العربية لحقوق الإنسان في الدول العربية بنوع خاص، وبغض النظر عما يكلف ذلك من ثمن معنوي أو مادي. وهذا بالتاكيد من شأنه أن يشكل مصدر أرق لهذه الأنظمة، عبّر عنه مندوب جمهورية مصر العربية، بالتزامن مع التصويت على قرار نزع الصفة الاستشارية، عندما قال: "يجب أن نؤدب المنظمات الحقوقية التي توحشت ضد نظمنا".
يتأكد هذا الأمر في كل مرة تستهدف فيها الجمعيات الحقوقية حينما تشجب ممارسات الأنظمة القمعية وتفضح خروقاتها لحقوق الإنسان. وإن كان من تقصير يعتري عمل هذه الجمعيات فعلى رأس القائمة هو أنها لم تنتقل بعد لمعركة محاسبة ومحاكمة من يرتكب انتهاكات ضد مواطنيه. وذلك من موقع امساكه بزمام السلطة والقرار وتدثره بالحصانة التي تجعله يلجأ تحت عباءتها لكل الموبقات ويتصرف كما يحلو له دون رادع أو حسيب. إلا فيما ندر وعندما تكون تصفية الحسابات بين أقطاب السلطة أنفسهم هي ما يستدعي فتح ملف أحدهم بتهمة فساد أو ارتكاب جريمة. وما دمنا على هذه الحال فمن المحال أن نأمل بالتغيير الموعود. لأن القفز للأمام يتطلب أرضية ملائمة وذهنية مطاطية وضميراً ما زال حياً وظروفاً موضوعية وترسانة قانونية لم تتوفر شروطها بعد.
------------
* رئيسة اللجنة العربية لحقوق الإنسان
|