في البداية لا بد من شكر خاص لمركز دراسات الشرق الاوسط وعلى رأسه الصديق العزيز الاستاذ جواد الحمد على هذا الجهد المميز في تنظيم مؤتمرات فكرية وبحثية حول قضايا بالغة الأهمية بالنسبة لامتنا، ماضياًَ وحاضراً ومستقبلاً، كما على اتاحتها الفرصة لي للمشاركة اليوم مع هذه الصفوة الكريمة من رجال الفكر والعلم والسياسة في بلادنا.
استدراك
وقبل ان ابدأ في استعراض الافكار التي تتضمنها مساهمتي في هذا المؤتمر، أتوقف امام استدراكات ثلاث:
الاستدراك الاول: انني سأتناول مجموعة قضايا تتصل بالمشروع العربي القومي لأعرض وجهة نظري في موقف هذا المشروع منها وفي انجازاته واشكالياته وإخفاقاته.
الاستدراك الثاني: انني سأتجنب قدر الامكان الاشارة الى اسم أي حركة او قيادة او شخصية تنتمي الى هذا المشروع، وذلك تجنباً مني – خصوصاً في مجال لا يتسع – لتحويل النقاش من نقاش حول افكار الى نقاش حول اشخاص او قادة او حركات ما زال لهم تأثيرهم، الايجابي او السلبي في حياتنا حتى الساعة.
الاستدراك الثالث: هو التذكير الدائم بأنه من الصعب الحديث عن مشروع عربي قومي واحد، او عن جيل محّدد حمل هذا المشروع، بل لا بد من التأكيد الدائم على وجود اكثر من نظرة داخل هذا المشروع واكثر من تجربة له، واكثر من جيل.
تعريف
المشروع العربي القومي هو ببساطة ذلك المشروع الذي ينطلق من وجود هوية قومية واحدة للعرب كأمة، ويسعى الى ترجمتها من خلال شكل من اشكال الوحدة العربية في اطار مشروع نهضوي شامل، فالعروبة هي هنا هوية تنطوي على دعوة للوحدة والنهضة معاً.
في هذا المشروع قد تبرز افكار ونظريات تركز على العناصر المكونة لهذه الهوية، فتركز على بعض هذه العناصر دون غيرها، فيما تركز أفكار أخرى على عناصر أخرى.
وفي هذا المشروع ايضا قد تتباين الرؤى الى أشكال الوحدة العربية المطروحة فيرى البعض في التضامن والتنسيق شكلاً مناسباً، فيما يدعو البعض الى الاتحاد الكونفدرالي او الفيدرالي وصولاً الى الوحدة الاندماجية التي لم يعد لها انصار كثر بين العروبيين والقوميين.
ولعل اختيار المركز لمصطلح "العربي القومي" بدلاً من "القومي العربي" يحتاج الى وقفة خاصة لانه يبدو متقاطعاً مع تعريف موسع بدا معتمداً الاونة الاخيرة "للقومي العربي" بحيث بات يشمل كل مؤمن بالمشروع النهضوي الحضاري العربي بغض النظر عن خلفيته وقناعاته الايديولوجية سواء كانت اسلامية ام يسارية ام ليبرالية، وهو تعريف يخرج العمل القومي العربي من أسر الشعارات والايديولوجيات إلى رحاب المشاريع والبرامج.
ومن ايجابيات هذا الاختيار أيضاً انه ينطلق من أنه إذا كان القوميون، بكل ألوانهم، تياراً داخل الامة، فان العروبة او الهوية القومية هي جامعة لكل التيارات، وهذا ما اتفق معه تماماً، لانني كثيرا ما أجد، وأنا العربي القومي، بين التيارات الأخرى من هو أقرب إليّ في بعض المواقف والمنعطفات ممن يحسب نفسه على التيار القومي .
I. المشروع القومي والاستقلال الوطني
لعب القوميون العرب الأوائل من خلال احزابهم الاستقلالية وكتلهم الوطنية وحركاتهم التحريرية دوراً هاماً في تحقيق الاستقلال الوطني للعديد من اقطارهم سواء عبر المقاومة المسلحة او النضال الشعبي والسياسي أو الاثنين معاً، وكان الامتحان الاول أمامهم حينذاك هو في الانتقال من مرحلة الاستقلال الوطني إلى التكامل القومي، من الانجاز القطري إلى الانجاز الوحدوي.
ما عدا بعض الاستثناءات القليلة، ذات الظروف البالغة الخصوصية، لم يتجه الاستقلال الوطني نحو التكامل القومي، بل على العكس من ذلك تحول هذا "الاستقلال" في قطر ما إلى اطار للتناحر والتصادم مع الاقطار الأخرى، خصوصاً المجاورة منها والمؤهلة لأن تقوم بينها علاقات وحدوية.
لا بل أن الاطار القطري للاستقلال قد تحوّل إلى اطار لتعميق الثقافة القطرية، والترويج للخصوصيات المحلية، واقامة الحواجز بين اقطار شقيقة متجاورة، واستبدال العلاقة بين جارين اخوين بانفتاح غير متكافئ على دول بعيدة لا سيمّا تلك التي كانت تستعمر منطقتنا أو تدعم عدو أمتنا أي الكيان الصهيوني، وبات العديد من الانظمة يعتمد على الدعم الاجنبي له بدلاً من دعم ابناء بلده وشعبه.
وبدا واضحاً حجم سقوط هذه الاستقلالات الوطنية ( وان كانت كلمة استقلال هنا باتت بحاجة الى نقاش مع غياب معظم العناصر الحقيقية للارادة المستقلة) مع تجربة جامعة الدول العربية ذاتها أو مع كل المنظمات والاتفاقات والاجهزة المتفرعة عنها والتي يمكن تسميتها الاجمالية بالنظام الرسمي العربي....
فاذا تذكرنا ان "جامعة الدول العربية" كانت في الاساس ثمرة محادثات عقدتها سبع دول عربية مستقلة حديثاً في اواسط الاربعينات من القرن الماضي تحت اسم "مشاورات الوحدة العربية" واذا نظرنا إلى الواقع الراهن لهذه الجامعة ومدى فعالياتها، لاكتشفنا ان تلك الجامعة التي توسم بها البعض خيراً في اطلاق ديناميات التكامل العربي قد تحولت إلى سجينة للانقسامات والعجز العربي بكل اشكاله، واتضحت مفارقة مذهلة بين مسار هذه الجامعة وقد أسستها دول وحكومات، وبين مسار الوحدة الاوروبية التي بدأتها جماعة اهلية هي "جماعة الحديد والصلب" برئاسة جون مونيه بعد الحرب العالمية الثانية. فاذا باتفاقات الوحدة الاقتصادية العربية التي اقرت عام 1953، أي قبل السوق الاوروبية المشتركة، ما زالت معّطلة، فيما تحولت السوق الاوروبية إلى اتحاد يضم دولاً متنوعة اللغات والثقافات والمصالح وأمماً شهدت فيما بينها حروباً أودت بحياة عشرات الملايين من أبنائها...
واذا كان الفكر الوحدوي العربي في الثمانينات قد حاول ان يتقدم خطوة باتجاه الواقع القطري معترفاً بالدولة القطرية محاولاً حمايتها من محاولات تفتيتها أو اغراقها بحروب اهلية علنية أو كامنة، فان القيمين على الواقع القطري العربي، وبعضهم من اصحاب الخطاب القومي، لم يتقدموا خطوة مقابلة باتجاه التنسيق والتكامل فيما بين دولهم.
واذا درسنا مصير تجارب التجمعات الاقليمية التي قامت في الثمانينات (اتحاد المغرب العربي، مجلس التعاون العربي، مجلس دول التعاون الخليجي، والعلاقة السورية – اللبنانية) نرى انها إما سقطت أو تجمّدت أو ما زالت حية في غرف عناية فائقة تتنفس من انابيب الاوكسيجين النفطي.
اما التجارب الوحدوية الجّدية التي قامت، أو كادت ان تقوم، في القرن الماضي على يد قيادات واحزاب ملتزمة بالمشروع القومي العربي، فهي لم تتمكن من العيش طويلاً، وأحياناً حتى من الولادة، في اعلان صريح عن مدى تغلغل المصالح القطرية الانعزالية في بنى وسياسيات اصحاب الرؤى والمشاريع العربية القومية.
الانجاز هنا يتلخص اذن في نجاح العروبيين في مقارعة الاستعمار وانجاز مهام الاستقلال، واحياناً في استيلاد حالات من وحدة النضال العربي ساهمت في مساندة عدد من حركات التحرر الوطنية في البلاد العربية والعالم ثالثية.
الاخفاق تلخص في عجز العروبيين الأوائل، ومن جاء بعدهم، في الانتقال ببلادهم من مرحلة الاستقلال الوطني إلى التكامل القومي، فبدت استقلالاتهم نفسها مهددة، وبدا مشروع الوحدة العربية بعيد المنال، اذا لم يكن مستحيلاً في نظر الكثيرين، ولست منهم بالطبع والحمد لله.
اما الاشكالية الكبرى التي واجهت، وتواجه، المشروع العربي القومي فتكمن في كيفية حّل التعارض بين المصالح والنزعات الانكفائية التي تطلقها الكيانات القطرية والقوى المستفيدة منها، وبين المتطلبات المتعددة المستويات والتضحيات المتنوعة، التي يتطلبها انجاز المشروع العربي القومي، لا سيّما وان هذا المشروع يواجه ايضاً قوى دولية ضخمة، ومشروعاً صهيونياً توسعياً ارهابياً، ترى جميعها في الوحدة العربية خطراً كبيراً على وجودها، ولا تمانع في استمرار أو بروز أي قوى حاكمة أو فاعلة شرط ابتعادها عن أي خطوة وحدوية مع أقطار اخرى.
فسلامة الأنظمة وضمان مصالح الطبقات الحاكمة مرهون بأبتعادها عن العروبة العملية الجامعة، والخطوات الوحدوية الجادة....
II. المشروع العربي القومي والديمقراطية
لم تنل الديمقراطية ما تستحقه من اهتمام لدى اصحاب المشروع العربي القومي في معظم مدارسهم واتجاهاتهم وان كان بعض هؤلاء قد أوردها في صلب دساتيره وبرامجه وخاض معارك شرسة ضد انظمة اتهمها بالديكتاتورية والاستبداد، وسجل تمايزه عن الحركة الشيوعية من خلال اعتراضه على الحقبة الستالينية بسبب عدم احترامها للحريات العامة والخاصة ولحقوق الانسان، وحاول ان يربط الديمقراطية السياسية بالديمقراطية الاجتماعية، بل وخاض بعضهم معارك انتخابية، نيابية وبلدية، في اطار الممارسة الديمقراطية.
لكن موقع الديمقراطية بقي متراجعاً بالنسبة لأهداف أخرى بالنسبة لاصحاب هذا المشروع كالاستقلال والوحدة والتحويل الاشتراكي، وتراجع موقع الديمقراطية اكثر مع وصول بعض حاملي المشروع العربي القومي إلى السلطة على نحو سمح لاعداء المشروع بربط الحركة القومية العربية بالاستبداد والديكتاتورية مستغليّن بشكل خاص بعض الممارسات غير الديمقراطية والعنيفة التي أنزلق اليها بعض العروبيين بعد وصولهم إلى السلطة.
ان تسجيل هذه الملاحظة الاساسية لا يعني بالمقابل ان عدداً كبيراً من العروبيين لم يقف متصدياً من خلال احزابهم أو انظمتهم لهذه الممارسات غير الديمقراطية، بل ودفعوا ثمناً غالياً لتصديهم هذا إما بالتصفية الجسدية (اغتيالات، اعدامات) أو بالتصفية السياسية (اقصاء، فصل من الاحزاب، نفي الخ..)، مما يشير إلى ان مسألة تغييب الديمقراطية ليست مرتبطة بالضرورة بالمشروع العربي القومي بقدر ما هي مرتبطة باجتهادات أو رؤى أو ممارسات لبعض حملة هذا المشروع خصوصاً بعد الوصول إلى السلطة.
ولقد كانت المسألة الديمقراطية واحدة من اهم المراجعات التي قامت بها الأجيال المعاصرة من العروبيين الوحدويين الذين واصلوا نضالهم من خارج السلطة، فكان انشاء المنظمة العربية لحقوق الانسان على يدهم إثر ندوة دعا اليها مركز دراسات الوحدة العربية وانعقدت في قبرص ( أي خارج الوطن العربي) عام 1982 تحت عنوان "ازمة الديمقراطية في الوطن العربي" تماماً كما كانت الديمقراطية وحقوق الانسان واحداً من ستة اهداف شكلت عناصر المشروع النهضوي الحضاري العربي الذي تتلاقى حوله اليوم مؤسسات وأطر قومية جامعة ابرزها المؤتمر القومي العربي ، والمؤتمر القومي/الاسلامي، والمؤتمر العام للاحزاب العربية.
وجاء التأكيد في هذا المشروع دائماً على رفض المقايضة بين الأهداف، فلا تغييب لهدف لمصلحة اخر، ولا اقصاء لعنصر من عناصر المشروع لصالح عنصر آخر...
ولاحظ المشروع العربي القومي في مراحله المعاصرة أن كل خطوة تخطوها الأمة باتجاه الديمقراطية انما تفتح الآفاق واسعة أمام الأهداف النهضوية الأخرى، فالديمقراطية هي طريق الأمة لتحقيق وحدتها بمعزل عن قيود الأنظمة والمصالح الكيانية، وهي الطريق للمشاركة الأوسع في مقاومة الاحتلال والهيمنة، كما كأنه بتعزيز المشاركة الشعبية يمكن تحقيق تنمية مستدامة وصون العدالة الاجتماعية وتحقيق الرقابة على الفساد والهدر والتسلط البيروقراطي، كما ان الديمقراطية باحترامها لارداة الشعب تضمن احترام عقيدته وتراثه الروحي والحضاري.
ومن هنا يمكن تلخيص نجاحات المشروع العربي القومي في قضية الديمقراطية بأنه من الناحية النظرية ربط بينها وبين اهدافه الاخرى، وان بعض حملته كانوا، وما زالوا، رواداً في حمل لواء الحريات العامة وحقوق الانسان رغم وقوع البعض الآخر في منزلقات التسلط والاستبداد.
ومن النجاحات أيضاً عودة الديمقراطية إلى الصدارة بين حملة المشروع العربي القومي المعاصر الذين يدافعون عنها بوجه الاستبداد من جهة، كما يدافعون عنها بوجه قوى الهيمنة الاستعمارية التي تحاول النفاذ من ثغرات في البنى الديمقراطية لبعض الأنظمة لكي تضع يدها على دولنا ومقدراتها ومواردها وتسعى إلى تفتيتها.
أما الأخفاقات فلقد تجلّت بشكل خاص على مستوى الممارسة، وأحياناً على مستوى "التنظير" للممارسات الاستبدادية والتبرير لقمع غير مبرر، مما ألحق أذى بالغاً بالمشروع العربي القومي برمته.
تبقى الإشكالية الأبرز هنا هو في إيجاد آليات الترابط بين الديمقراطية، كهدف وكآلية، وبين الأهداف والآليات الأخرى التي يتشكل منها المشروع العربي القومي الذي يضطر حملته احياناً إلى خوض معارك وجوديه دفاعاً عن استقلال الوطن ووحدته وحقوق ابنائه فيضطرون إلى التساهل والقفز فوق المسألة الديمقراطية ومتطلباتها بحجة الخوف من ان استغلال الاعداء رحابة آلياتها وشفافيتها.
III. المشروع العربي والقومي والمسألة الدينية وتحديداً الاسلام
لم يقع أي فريق من افرقاء المشروع العربي القومي في خطيئة العداء للدين عموماً، وللاسلام خصوصاً، وان تفاوتت تعبيراتهم الفكرية والعملية عن ادراك اهمية الدين عموماً، والاسلام خصوصاً، في حياة الأمم والافراد.
لقد تراوحت هذه التعبيرات بين علمانية لا تنكر الدين ولكنها تحرص على فصله عن قضايا الوطن والدولة تحت شعار "الدين لله والوطن للجميع" وبين واقعية ترى ضرورة احترام حرية المعتقد الديني وأنظمة الاحوال الشخصية مع التأكيد على الشريعة الاسلامية كمصدر رئيسي من مصادر التشريع في الدستور والقوانين، وبين نظرة أعمق ترى علاقة خاصة بين العروبة والإسلام، حيث الإسلام "روح لجسد هو العروبة"، وترى في العروبة "الفضاء الذي تجلّت فيه فضائل الإسلام المثلى"، وتؤكد على ان العلاقة بين العروبة والإسلام ليست كالعلاقة بين أي قومية وأي دين، بل أعتبرت الإسلام ثقافة وحضارة وتاريخاً للعرب غير المسلمين، لا سيّما المسيحيون منهم، حين تستيقظ فيهم عروبتهم.
وعلى الرغم من محاولة إضفاء طابع أيديولوجي على الصراعات السياسية والدموية التي شهدها أكثر من قطر عربي بين القوى القومية والقوى الإسلامية، أو حتى الحروب التي وقعت بين قطر عربي وقطر إسلامي غير عربي، إلا ان التدقيق في طبيعة هذه الصراعات والحروب يظهر إنها مرتبطة بوضوح بمسألة الصراع على السلطة، واننا قد شهدنا مثل هذه الصراعات، واحياناً على نحو اكثر حدة، بين أبناء التيار العربي القومي نفسه، كما داخل التيار الإسلامي، وهو ما تنّبه له منذ بداية التسعينات طليعيون في التيارين فأطلقوا حوارات وآليات عمل مشتركة أبرزها المؤتمر القومي/ الإسلامي من اجل تطوير العلاقة بين التيارين على قواسم مشتركة أبرزها مقاومة الاحتلال والهيمنة والاستبداد والسعي لتحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية المستقلة والتجدد الحضاري.
ولقد تجلى هذا التقارب بين ابرز التيارات القومية والإسلامية في صياغتها المشتركة للمشروع النهضوي العربي وتبني عناصره. كما في معارك نضالية عدة حيث بات من الصعب أحياناً التمييز بين من هو قومي أو إسلامي من خلال خطابه أو نبرته أو أولويات عمله. لا بل بات القوميون العرب المعاصرون ميالين، كما أشرنا سابقاً، إلى تعريف جديد للقومي العربي يتسع ليشمل كل مؤمن بالمشروع النهضوي العربي أياً كانت خلفيته العقائدية، إسلامياً أم يسارياً أم ليبرالياً، فأصبحت الأولوية للمشاريع والبرامج لا للشعارات والخلفيات العقائدية.
طبعاً لا يعني هذا التفاعل زوال كل التعارضات القائمة، ولكنه يعني تجميدها لصالح نقاط التلاقي، ومن ثم العبور لحلها من مواقع العمل المشترك، لا الدخول إلى العمل المشترك من نقاط الاختلاف والتعارض، لا سيّما إذا علمنا إن عناصر الاختلاف والتعارض موجودة، واحياناً بقوة، داخل التيار الفكري الواحد، واحياناً داخل الحزب الواحد.
يتبين مما تقدم أن ابرز نجاحات المشروع العربي المقاوم في نظرته للدين هو فهمه بكل مدارسه لأهمية الدين عموماً للإنسان كعقيدة أخروية تتصل بالنظرة إلى الكون والوجود والمصير، وصولاً إلى العلاقة التكاملية بين العروبة كهوية قومية وبين الإسلام كعقيدة توحيد وكتراث ثقافي وحضاري عميق للأمة بكل أديانها.
في التكامل بين العروبة والإسلام نجد رابطة تجمع من خلال العروبة أبناء الوطن الكبير، مسلمين وغير مسلمين، كما نجد فيها أيضاً عقيدة تجمع عبر الإسلام المسلمين، عرباً وغير عرب، وتجعل من الجميع أبناء حضارة عربية إسلامية ساهم في صنعها عرب مسلمون وغير مسلمين، ومسلمون عرب وغير عرب.
لا بل إن العلاقة الخاصة بين العروبة والإسلام تحّرر العروبة من شوائب العنصرية والشوفينية والعداء للقوميات الأخرى وتعطيها بعداً إنسانياً شاملاً لارتباطها برسالة سماوية موجهة للبشر جميعاً.
من الاخفاقات التي واجهها المشروع العربي القومي في هذه المسألة بالذات هي مواجهات قاسية ودموية حصلت بين بعض حامليه وبعض حاملي المشروع الإسلامي تركت ظلالاً قاتمة على العلاقة بينهما، خصوصاً مع تأثر بعض العروبيين بمدارس فكرية أوروبية، يمينية ويسارية، ركزت على الدور السلبي لبعض الاكليروس في مجتمعاتها فأصدرت أحكاماً مستعجلة بحق الدين، متجاهلة حاجة الأفراد له، كما المجتمعات، ومتجاهلة، في امتداداتها العربية، موقع الإسلام المحوري في حياة العرب وعقيدتهم وحضارتهم وثقافتهم.
أما الإشكالية الكبرى في العلاقة بين المشروع العربي والقومي والدين فتبقى في القدرة على صياغة اجتهادات فقهية ودستورية وقانونية تبقى على روح الدين عموماً، والإسلام خصوصاً، دون أن تنزلق إلى تفسيرات ضيقة لا تليق برحابة الإسلام ذاته ولا بسعة روحه وصدره ولا يقبل بها الكثير من المسلمين أنفسهم.
ان صياغة مثل هذه الاجتهادات، وترجمتها في برامج عملية، يحتاج إلى حوارات معمّقة ومتجردة تنطلق من إدراك الموقع المحوري للإسلام في صوغ الهوية القومية للعرب، ومن احترام التنوع الديني والمذهبي الذي تتشكل منه الأمة العربية، ومن التذكير دائماً ان الإسلام دين يسر وليس دين عسر، وانه إذا كان في القرآن والسّنة ما يلزم المسلمين بطابعهما الاستثنائي فان كل تفسير بشري أو اجتهاد من جهة أخرى يبقى خاضعاّ للنقاش والجدل والمناقشة والتطوير.
IV. المشروع العربي القومي والقضية الفلسطينية
شكلت نكبة فلسطين في أواسط القرن الماضي، بتجلياتها وتداعياتها، مهمازاً رئيسياً للمشروع العربي القومي لأنها كشفت للمواطن العربي ببساطة متناهية العلاقة بين اغتصاب فلسطين، بكل ما تمثله وتعنيه في حياة الامة، وبين تردي الواقع العربي، وغياب الوحدة في الموقف والعمل العربي، لذلك تبنّى اصحاب هذا المشروع، على تنوعهم، مقولة ترى في فلسطين طريقاً للوحدة، خصوصاً مع اتضاح الترابط بين قيام الكيان الصهيوني على ارضها وبين المشروع الاستعماري الهادف إلى شطر الوطن العربي الكبير وتقسيمه من خلال اقامة هذا الكيان – الحاجز - في قلبه.
ولقد توزع ابناء فلسطين التواقون لتحرير بلدهم على الحركات العربية القومية، واحتشدوا خلف كل زعامة عربية قومية تجسّد الرغبة والقدرة على مواجهة العدو الصهيوني، وبلغت ذروة املهم مع قيام الوحدة المصرية – السورية عام 1958 التي رأوا فيها الكماشة التي تطبق على الكيان الصهيوني من الجنوب والشمال معاً.
لكن هذا الأمل سرعان ما تبدد مع الانفصال المشؤوم في 28 أيلول 1961، وسرت بين الفلسطينيين قناعات جديدة ترى في التوجه الفلسطيني المباشر نحو التحرير، وفي الاعتماد على الذات وبلورة اداة كفاحية وطنية فلسطينية نجحت في اطلاق رصاصات الثورة الفلسطينية الاولى في اوائل عام 1965، وأُستبدل شعار "الوحدة طريق فلسطين" بشعار "فلسطين طريق الوحدة" فيبقى الفلسطينيون بذلك أمناء على توجههم القومي الوحدوي، مع تركيزهم على نضالهم الخاص بتحرير فلسطين.
وظن مطلقو هذا الشعار انهم قادرون على تحييد مشروعهم الوطني الفلسطيني عن صراعات الانظمة والاحزاب والتيارات التي كانت تعصف بالواقع العربي، واردفوا ذاك الشعار بشعار آخر هو "القرار الوطني المستقل" الذي ارتاح له النظام الرسمي العربي في البداية لأنه رأى فيه اعفاءً له من مسؤولية النضال لتحرير فلسطين ورفع اركان هذا النظام بالمقابل شعار يقول "نقبل بما يقبل به الفلسطينيون".
ولقد اثبتت التطورات المتلاحقة ان هذه الشعارات التي ولدت من رحم انكفاء العمل الوحدوي العربي، وتعثر المشروع العربي القومي، لم تكن واقعية ايضاً، فالقضية الفلسطينية هي قضية داخلية في كل بلد عربي، وان شعار"نقبل بما يقبل به الفلسطينيون" كان شعاراً خادعاً، لأن الأيام اثبتت ان تفسير النظام الرسمي العربي الحقيقي لهذا الشعار هو "اننا نقبل بما يقبل به الفلسطينيون اذا قبلوا بما نريده لهم ان يقبلوا به" ليتطور في العقود الاخيرة ليصبح " اذا قبلوا بما يريده منهم المجتمع الدولي، وتحديداً الادارة الامريكية، الحليف الاستراتيجي والثابت للكيان الصهيوني".
وهنا برزت اشكاليتان في آن معاً، اشكالية لدى المشروع العربي القومي الذي يقّر نظرياً بأن فلسطين هي القضية المركزية للأمة لكنه لم يستطع ترجمة هذا الاقرار النظري إلى استراتيجيات عملية، وبقي المخلصون له مكتفين باعلان الاعتراض على سياسات التسوية والتصفية، فيما انخرط بعضهم، لا سيما من وصل إلى السلطة أو كان طامحاً بالوصول اليها، في سراب تسويات اثبتت انها تسير في طريق مسدود.
اما الاشكالية الاخرى لدى المشروع الوطني الفلسطيني، بكل فصائله، فبرزت بين سلامة الاتجاه الذي يؤكد على ضرورة ان يتولى الفلسطينيون بأنفسهم زمام قضيتهم، وبين حاجة النضال الوطني الفلسطيني إلى عمق استراتيجي عربي يشكل ظهيراً حقيقياً لمقاومتهم.
هنا لا بد من ان نسجل للمشروع العربي القومي، واستطرادا ً للمشروع الاسلامي، نجاحاً على المستوى النظري حين ادرك الطبيعة القومية الواسعة والاسلامية الآوسع للصراع مشدداً تارة مع العروبيين على قومية المعركة وطوراً على اسلاميتها مع الاسلاميين، فساهم قوميون واسلاميون، افراداً وتنظيمات، وحتى انظمة، في معارك ومواجهات، وحتى حروب، منذ عام 1948، فكانوا يحققون نجاحات احياناً واخفاقات احياناً أخرى، بل كانوا اذا حققوا نصراً ميدانياً أحياناً خسروه سياسياً مع غياب الرؤية الواضحة والعميقة لطبيعة الصراع.
وبرز الاحباط الاكبر للمشروع العربي في عجزه – حتى الساعة- عن صياغة استراتيجية عربية متكاملة لمواجهة الصراع، وعن بلورة ادواته، وعن القدرة في تحقيق التكامل بين حركات المقاومة سواء داخل فلسطين أو على مستوى الامة، كما في تحقيق التفاعل بين الواقع الرسمي العربي والحركة الشعبية العربية، فبات لكل فريق مساره واستراتيجيته الخاصة وتكوينه المحدود، فيما حافظ العدو الصهيوني عمقه الاستراتيجي العالمي وما يحمله من تأثيرات مباشرة وغير مباشرة في الواقع العربي فترى هذه التأثيرات تنجح في ابعاد قطر بحجم مصر ودورها الكبير عن الصراع من خلال اتفاقيات كمب ديفيد، وفي ابعاد العراق بكل ما يمتلكه من قدرات وموارد عبر الاحتلال الامريكي الذي تتضح يوماً بعد يوم تأثيرات الموساد الصهيوني، واللوبيات والمصالح المواكبة له داخل الولايات المتحدة، في دفع واشنطن إلى حربها العدوانية على العراق.
اما الاشكالية الأبرز في مجال علاقة المشروع العربي القومي بقضية فلسطين فتكمن في عدم قدرة هذا المشروع بقواه المتعددة على ترجمة نظرته السليمة إلى الطبيعة الشاملة للصراع إلى استراتيجيات وتكتيكات وآليات تحدد للمقاومة الفلسطينية دورها، وللنظام الرسمي العربي مسؤولياته، وللحركة الشعبية العربية مهامها وواجباتها.
وعلى الرغم من انعقاد ندوات وحوارات عديدة حول هذه الاستراتيجية، لكنها بقيت من جهة أسيرة ضبابية الرؤى، ومن جهة أخرى عاجزة عن الترجمة العملية لهذه الحوارات، وهكذا تحولت القضية الفلسطينية من حافز لنهوض المشروع العربي القومي، كمشروع للوحدة والتحرر والنهوض، إلى دليل على عجز هذا المشروع وقواه، خصوصاً مع بروز مقاومات متعددة، بخلفيات عقائدية متعددة، وبأقطار قريبة أو بعيدة عن الصراع، لم تستطع حتى الان من تجاوز العوائق التي تحول دون تكاملها، ولم يستطع المشروع العربي القومي حتى الآن ايجاد الفضاء الضروري لهذا التكامل.
V. قضايا أخرى
من الصعب تناول كل القضايا التي تعامل معها المشروع القومي العربي، حيث نجح حيناً واخفق احياناً وبقي اسير اشكاليات لم يتمكن من حلها حتى الآن، ولكن لا بد من اشارة سريعة إلى بعضها.
فالوحدة الوطنية التي باتت مهددة في كثير من اقطار الامة بسبب تفاقم النزعات العرقية والعنصرية والطائفية والمذهبية وحتى القبلية والجهوية، لم تحتل موقعها الضروري من الاهتمام من أصحاب المشروع العربي القومي لا على الصعيد النظري، ولا على الصعيد العملي خصوصاً، بل نجد في كثير من الاحيان عروبيين، حاكمين أو معارضين، ينزلقون إلى ممارسات ومواقف تضر بهذه الوحدة الوطنية رغم اعلانهم المستمر عن اهمية الوحدة الوطنية ورغم امتلاكهم للادوات النظرية والعملية التي تسمح لهم بمعالجة أي خلل في هذا المضمار.
وعلى الرغم من ان تصدع الوحدات الوطنية، في غير قطر عربي، جاء كاشفاً لفشل الدولة القطرية في صون الوحدة الوطنية، وحماية الأمن الوطني والقومي، ولعجزها، فقيرة كانت أم غنية، عن تحقيق تنمية بشرية مستدامة، لكن ارباب المشروع العربي القومي عموماً لم يستفيدوا من انكشاف الدولة القطرية وعجزها كما يجب لتطوير العقل الوحدوي العربي، ولم ينجحوا في دراسة خصوصية العلاقات والبنى والعصبيات داخل كل قطر، وليستخرجوا منها برامج وآليات عملية تحول التنوع إلى تكامل، والتعددية إلى ثراء.
والعدالة الاجتماعية التي نجح بعض اصحاب المشروع القومي العربي في تحويلها إلى قضية حيّة في مجتمعاتهم، وقدموا انجازات ملموسة لصالح الطبقات الوسطى الشعبية، تجري اليوم محاولات حثيثة للاجهاز عليها، لكن اصحاب هذا المشروع لم يوفروا الادوات والآليات الكفيلة بصون مكتسباتها حيث تحققت، وبتحقيق هذه المكتسبات حيث يجب ان تقوم.
ولعل الاشكالية الكبرى التي برزت في هذا المجال هو كيف يستطيع المشروع القومي العربي ان يربط نفسه بحاجات الناس ومصالحهم في آن معاً، دون ان يكون ذلك في اطار حروب طبقية تعزز الانقسامات داخل المجتمع، وتحرم التنمية من موارد ضرورية للاستثمار.
انها اشكالية العلاقة بين الوحدة الاشتراكية من جهة، وكلاهما هدفان ثابتان في المشروع العربي القومي، وبين التنمية المستقلة والعدالة الاجتماعية وكلاهما ركنان في هذا المشروع.
ان القدرة النظرية على حل هاتين الاشكاليتين، والقدرة العملية على انجاز هذا الحل، هي اليوم من ابرز التحديات التي تواجه المشروع العربي القومي الذي لا ينهض إلاّ بكل عناصره، والذي يحتاج التكامل بين عناصره إلى ما هو أكثر من رفع الشعارات واعلان المواقف.
المشروع العربي القومي: الآليات والممارسات
رغم معرفتنا بحجم النقد الموضوعي احياناً وغير الموضوعي في أغلب الاحيان، الموجه للمشروع العربي القومي في ممارساته وآلياته، إلا انه لا يمكننا ابداً انكار دور حملة هذا المشروع من قادة وانظمة وحركات في خوض معارك كبرى في حياة الامة في العقود الأخيرة، سواء على مستوى التحرر من الهيمنة الأجنبية، أو في مجال التنمية الاقتصادية ، أو في اطار تحقيق مكاسب ملموسة لابناء الطبقات الشعبية والوسطى لا سيّما في مجالات الصحة والتعليم ومكافحة الأمية ومواجهة الاحتكار والاقطاع وبناء قاعدة علمية حقيقية كانت هدفاً لحروب واعتداءات.
ورغم اننا نشارك الكثيرين في اشارتهم إلى ثغرات وسلبيات وقعت بها جهات وانظمة واحزاب تحمل المشروع العربي القومي لكننا في الوقت نفسه نذكر الجميع بأن أياً من حملة هذا المشروع لم يتهاون في ثوابت الأمة، أو يفرّط في حقوقها، أو يتعامل مع اعدائها، أو يساوم أو يتنازل في المبادئ القومية، بل ان الكثير منهم قد دفع ،الكثير الكثير، وما زال نتيجة مواقفه هذه، وان نقطة البداية في ارتداد البعض عن هذه الثوابت تجلّت في تراجعه عن المشروع القومي اولاً وتركيزه على المصلحة القطرية أولاً... فإذ به يخسر الأفق القومي ولا يحمي الوجود القطري....
على ان هذا الاستدراك الضروري لانصاف اصحاب المشروع العربي القومي من حركات وقيادات انظمة لا يعفينا من طرح اشكاليات تتصل بآليات تجسيد هذا المشروع وممارساته، خصوصاً ان المشروع ليس مجرد افكار يطرحها مؤمنون، بل هو معالم الطريق إلى تحقيق هذا الافكار، فالمشروع أي مشروع هو الاهداف والآليات معاً، فالاهداف دون آليات تصبح دعوات طوبوية تبدأ بالتبشير وتنتهي به، والآليات اذا لم تخدم اهدافها تصبح مراوحة في المكان اياه واحيانا تنطوي على تراجعات خطرة.
في مجال الممارسة والآليات تبرز اشكاليات ثلاث امام المشروع القومي العربي، في تجاربه السابقة ودوره المستقبلي:
أول الاشكاليات هي في التوفيق بين متطلبات المعركة القومية الأوسع وظروف العمل القطري الأضيق، وهي اشكالية تشتد وطأتها مع وصول العروبيين إلى السلطة حيث يصبح المطلوب منهم اكبر، وحيث تصبح قدرتهم على الحركة أقل وأكثر صعوبة.
لقد مرّت جماعات العمل القومي، لا سيّما بعد الوصول إلى السلطة، بتجارب عدة في هذا المجال، فركزت حيناً على وحدة الهدف حيث لا تلاقى إلا مع الأنظمة والقوى المتماثلة في الهدف، لتعود وتركز على وحدة الصف وتجاوز الخلافات والتباينات الفكرية والعقائدية لمصلحة العمل العربي المشترك، وركزت حيناً على دعم مشاريع التغيير الثوري في بلدان عربية أخرى لتركز حيناً آخر على اسقاط هذه المشاريع على حساب تنظيماتها وقيام التضامن على حساب قوى التغيير نفسها.
انها اشكالية حقيقية، تشكل نتاجاً طبيعياً لواقع التجزئة الذي يتجذر كل يوم ويمد نفسه بعصبيات وغرائز ما دون القطرية، وهو أمر يحتاج إلى حوار ودراسة عميقين للوصول إلى استراتيجية مركبة ومتشعبة ومتعددة المستويات لحلها.
انها بأختصار اشكالية العلاقة بين القطري والقومي.
اما الاشكالية الثانية، وهي متفرعة عن الأولى، وهي المتصّلة بالعلاقة بين الرسمي والشعبي في العمل القومي العربي، حيث للرسمي من الانظمة القومية اعتباراته في السياسة اليومية والعلاقات العملية المباشرة، وحيث للشعبي رؤاه وتطلعاته المبدئية التي قد لا تتطابق احياناً مع ظروف الواقع الرسمي.
هل ينبغي هنا ان يخضع العمل الشعبي العربي لموجبات النظام الرسمي، ذي الأبعاد القومية، فيفقد استقلاليته وبالتالي يفقد قدرته على الاستقطاب والتعبئة، أم على النظام الرسمي، ذي التوجهات القومية، ان يلتزم باملاءات التنظيمات الشعبية وتطلعاتها ورؤاها الواسعة فيجد نفسه مرتطماً باعتبارات واقعية محلية واقليمية ودولية تحول دون تحقيق تطلعاته، بل دون صموده واستمراره بالذات.
انها اشكالية التوازن بين التطلعات الشعبية والظروف الموضوعية.
الاشكالية الثالثة هي اشكالية الخروج من البنى القطرية الضيقة إلى رحاب العمل الوحدوي الاوسع، وهي اشكالية تشتد وطأتها مع ظاهرة التعّمق في المشاعر الاقليمية والنزعات القطرية والعصبيات والغرائز العرقية والطائفية والمذهبية وحتى القبلية والجهوية، بل مع ظاهرة تجذر المصالح القطرية والكيانية التي تحول الدولة وأجهزتها إلى حارس لها مستعد لقمع أي تهديد لها.
واذا كانت محاولات وحدوية عدة لم يكتب لها النجاح في العقود الماضية، فان المشروع العربي القومي مدعو الى ابتكار صيغ ومبادرات عملية تضع الأمة على طريق الوحدة، وتعبئ لصالح فئات وشرائح اجتماعية واسعة خصوصاً ان في ادراج جامعة الدول العربية واجهزتها ومنظماتها المئات من القرارات والتوصيات والاتفاقيات التي تنتظر التنفيذ.
لقد طرحت شخصياً في نهاية سبتمبر/ايلول الماضي في الذكرى 39 للانفصال المشؤوم للوحدة المصرية – السورية، ثلاثة أفكار أو مبادرات في هذا الاتجاه، قد تصلح نموذجاً لمواجهة هذه الاشكالية.
اول المبادرات ضغط شعبي لانجاز سكة حديد تصل مشرق الوطن بمغربه وشماله بجنوبه وطولها 36 الف كلم انجز منها حالياً 18 الف كلم، وخصوصاً ان مثل هذا المشروع قد جرى اقراره في قمة الكويت الأخيرة في مطلع هذا العام. فلماذا لا تقوم في كل قطر عربي "لجان مبادرة وحدوية" لانجاز هذا المشروع.
وثاني المبادرات هو الغاء تأشيرات الدخول بين الاقطار العربية وهو أمر طالب به مؤتمر المستثمرين العرب المنعقد في الجزائر عام 2006، وله انعكاسات ايجابية على الحركة الاقتصادية البنية العربية، وهو معتمد عن دول اوروبا مثلاً، كما بين دول عربية وغير عربية كما هو الحال مؤخراً بين تركيا وسوريا.
وثالث المبادرات اقامة مرصد للعمل العربي المشترك، على غرار مراصد متخصصة لمتابعة قضايا محددة، وتكون مهمته تسجيل أي تقدم أو تلكؤ أو خرق لقرارات العمل العربي المشترك التي تم انجازها، والتي لو تم تنفيذها لكانت اوضاعنا الاقتصادية والسياسية والامنية والدفاعية والثقافية والتربوية في وضع ممتاز بدلاً من حال التردي التي نعيشها.
طبعاً هذه نماذج من مبادرات يمكن اطلاقها في غير مجال، وفي غير مستوى، ونشكل لها آليات متابعة ولجان مبادرة في كل قطر عربي، وذلك لتشكيل ثقافة وحدوية، واطلاق ممارسات وحدوية، وابتكار صيغ للعمل الوحدوي.
VI. خاتمة
في ضوء هذه العجالة التقييمية للمشروع العربي القومي، بنجاحاته واخفاقاته واشكالياته، يمكن ان نسعى لتطوير هذا المشروع بتعميق ايجابياته، وتجاوز سلبياته، ومعالجة اشكالياته، خصوصاً ان هذا المشروع بادراكه لموقع الإسلام في حياة العرب، وبانفتاحه على قوى اليسار العروبي والليبرالية الوطنية، قادر على ان يشكل حالة استنهاض في مواجهة واقع التشرذم، بل حال التشظي الذي تعيشه الأمة.
· ورقة قدمت إلى "مؤتمر مشاريع التغيير في المنطقة العربية ومسقبلها" الذي عقد خــلال الفــترة 19-21/10/ 2009 بدعوة من مركز دراسات الشرق الأوسط في عمان – الاردن
|